-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح - الفصل الثامن عشر (الأخير)

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية إجتماعية مصرية مليئة بالأحداث الرومانسية للكاتبة رانيا صلاح والتى سبق أن قدمنا لها رواية أسرار البيوت علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن عشر (الأخير) من رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح.

رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح - الفصل الثامن عشر (الأخير)

اقرأ أيضا: روايات إجتماعية

رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح

رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح - الفصل الثامن عشر (الأخير)

 رد الحقوق

-دائمًا ما نحيا بأمل أن نأخُذ حقوقنا يومًا ما ممن سلوبنا إيها، ولكن في بعض الأحيان نرحل دون حقوقنا ولا نعرف سوى أن هذا هو الأفضل، ولكن ماذا عسنا أن نفعل بدموعنا المسكوبة كُل ليلة على تلك الصفعات، والجواب دائمًا دون تفكير لولا تلك الصفعات ما كُنا بهذا..


بين الفنية والأُخرى تنقلب الدُنيا رأسًا على عقب، فكيف بحال البُساط الأزرق في جُنح الليل، فقد تغير بالكامل مع زوال أخر شِعاع لضوء، ليبقى الظلام بوجهين لا ثالث لهُما إما نجوم مصطفة في احتفالًا لسراج المُنير، أو منطفئ كحال القلوب المظلومة فتُعلن الحداد في الليالي الغير مُقمرة ، ولكن هُناك وجوه أُخري لم تُرى بعد، أو ربما رأينا البعض منها ظلام دامس، تخبُط في السجادة الزرقاء من فوقنا، وبرقٌ خافت سُرعان ما يزداد جنونه، ورعدٌ مُهيب يُلقي في القلوب رجفة، تلك الرجفة المُميتة من الخوف، ظل "حسن" ينظُر لحال السماء، وهي تتقلب بغير هدى، ينظُر لساعة من حين لأخر خاصًا بعد تلك المُكالمة الغير متوقعة من "فدوة"، وها هي تدُق الواحدة صباحًا، ولم تأتي.. ليصدع عقلهُ بجنون قائلًا :-"أجُننت يا أحمق لتقبل طلب حضورها للمكتب بتلك الساعة المُتأخرة!... ليبدأ وسواس النفس الأعظم بالتبرير:-" كان حديثًا عاديًا عن الأحوال، وهي من بدأت بالسؤال، هل تراني غرٌ لما يدور بك من حماقات.. ".. ليتوقف عن الاكمال مع صوت طرقات الباب ورنين الهاتف، ليتحرك مُسرعًا...

قبل نصف ساعة أو يزيد على الجانب الأخر من الحارة، صفقت "فدوة" بسعادة؛ فور قبوله إعطائها عنوان المكتب، لتهرع في ثوان لارتداء ملابسها، وتتسلل بحذر، مُلقية نظرة خائفة أن يرها من بالبيت وهي على وشك الخروج، لتُطلق العنان لقدمها وتتسلل سريعًا، ولم تكد تمضي الساعة الا وهي تطرق باب المكتب، مُنتظرة الجواب...

تحرك سريعًا؛ ليفتح الباب، وبتوتر لم يعلم متى اصابهُ، رحب بها :

-ازيك يا "فدوة" نورتي...

بسمة مرتعشة طفت على وجهها الصبوح، فابرز طابع الحُسن خاصتها، لتُجيب من بين اصطكاك أسنانها :

-الحمد لله، وأنت...

حرك رأسه بإيماء وكأنه يُحارب البوح بما يُريد لسانه أن يتحدث، فسارع بالقول :

-الجو برد، اتفضلي وأنا هعملك حاجة تشربيها....وفر هاربًا مع نقوس الخطر بداخلُه..

تحركت خلفهُ بابتسامة مُغرية، وعينها تومض بالكثير، لتُسرع بالدخول لغُرفة المُضاءة في تخمين أنها لهُ، طافت عينها بالغُرفة سريعاً، وتوقفت على ذاك الإطار النائم على المكتب، لتتحرك لرؤية الصورة، في علم تام أنها ستكُن لغريمتها "ياسمين"، لتنفرج شفتها بحقد مع لهيب أنفاسه المُشتعلة، من رؤية "حسن" يحتضن يدها بدفء يشع من عيناهُ، لتتوقف عن التحديق سريعًا، وتنفرج شفتها بالقول :

-الصورة حلوه أوي...

تعجب من حديثها؛ فهو لم يُصدر صوتًا، أثناء حركتُه، ليُجيب بشرود مُحبب لعاشق ولهان :

-قبل كتب الكِتاب بيوم...وقرن قوله بحركة قدمهُ ليقف قبال المكتب، ليمد يدهُ بالمشروب، والأخرى تضع مشروبه على سطح المكتب، في لهفة تامة لنظر لملامح نُقشت على جدران الروح، مُكملًا الاسترسال :

-بعد وفاة بابها بكام يوم، اعتكفت عن الناس كلها، كانت في صدمة لكن أنا بس الي سمحتلوا أنها تنهار قداموا وهي تعبانة، قررنا نكتب الكِتاب عشان تخرج من الحالة، لكن قبلها بيوم خرجنا وهي كانت منهزمة أوي، عينها كانت ميته، الصدمة والحزن كانوا بينين في نبرة صوتها، حتى الصورة مقدرتش تمحي دموعها، وهي بتطلب مني..... ليتوقف عن الإكمال مع عبارة تترقق بحدقيتيهِ، وبسمة تغزو شفتيهِ في شجن :

-دوشتك...

اشتعلت عينها كالمرجال بنيران الحقد الدفين، وبدأت الأطياف تظهر من العدم لعينها، طيف رفض الحب من "حسن" مُخبرها أنها أُختً لا أكثر.... وطيف ليوم قررت فيه الزواج في ظن منها أنها ستُثير غيرتُه.... وطيف لزوجها البائس أمام أهله.... وطيف لبسمة صادقة من "ياسمين" وهي تعترف بالحب لها.... لتتلاشي الأطياف مع صوته، فتُسارع :

-بالعكس، لكن ليه متجوزتوش؟..

رفع يداهُ في جهل لمعرفة السب، مُكملًا :

-حاولت وموصلتش لحاجة...

حركت رأسها بإيماء خافت، وبسمة ماكرة تتسلل لشفتيها، ويدها ترتفع للقول بمرح مزعوم، ليسقُط المشروب فوق جسده...

اجفل سريعًا من حرارة المشروب، وابتعد سريعًا، ولسانه يتمتم بسخط...

رسمت قناع البؤس والحزن لسقوط المشروب دون قصد، و باعتذار :

-اسفة يا "حسن"... وتحركت لتقطع الخطوتان الفاصلة بينهم، لترتفع يدها بتوتر مدروس :كده هتتحرق، غير القميص... وسارعت بفك بعض الازرار.... لتمر دقائق كالسنوات على كلاهُما...

ولكن بإحداي سيارات الأجرة، كانت عينها تدمع بقهر للبعد عن، تدمع بضيق من نفسها لتصديقها اتصال "فدوة" قبل دقائق بأن "حسن" سيكُن لها، لترتفع نبرتها بانفعال لسائق :

-بسرعة يا اسطى.... وخلال عشر دقائق كانت تقف أمام المكتب وهي تلتقط أنفاسها الضائعة بصعوبة بالغة ، لتُسارع بدخول المكتب صوب مكتبه، ويدها تقبض علي الطارة في بهجة ، لتتوقف أنفاسها عن الخروج، وقلبها عن الخفقان، وتجمد جسدها بالكامل كقطعة جليد، لتشعر بألم حاد ونيران تسقُط من عينها، وبهمس غير مُصدق لما تراهُ :

-"حسن"...

ابتعد كالملسوع عنها، وشد شعرهُ بجنون، وبدأ يهذي بالكثير...

ابتسمت "فدوة" بسفور لها، وكأنها لم تحاول ما عجز القلم عن البوح به، وبنبرة خبيثة :

-اتخرتي ليه؟... وبدأت كمن يظهر عليهِ التفكير، لتتوجه بالقول لـ"حسن" يا حرام مكنتش مصدقة إنك زيوا، وبنبرة قاسية :

-مش أنا الي اترفض وبتهكم صريح امتزج بمط الحروف " يـا أبـو عــلــي"، وتحركت بخيلاء من أمامهم، وبهمس جوار أذن "ياسمين"، كان لازم أخد حقي يا بنت "حلمي"...

مرت دقائق والصمت المُهيب يعلوا في الغرفة، لا يقطعهُ سوي صوت الرعد المدوي لتنفرج شفتها، بانفعال مرير :

-ليييييية؟... وببكاء... لية..

حاول البحث عن كلمة تُسعفه، وبتبرير :

-"ياسمين" افهمني...

بصياح حاد، وانفاس لاهثة:

-افهم ايه؟... افهم أنك كنت... وعجزت شفتها عن البوح، لتُصاب بالغثيان فتُسرع للحمام...

ركض خلفها، و باعتذار :

-خليني اشرحلك...

بمرارة فور صفع وجهها بالماء البارد :

-تشرحيلي الي سمعتوا ول الي شفتو... ولا اشرحلك أسبابي لرفضك، للأسف "فادية هانم"، كان عندها حق، وأنا الغبية الي رفضت أصدق واتعلقت بالوهم، وبارتعاش اقسم بالله لو شفتك تاني لاهقتلك يا "حسن"، ورحلت سريعا، وتوقف لوهلة بجوار الباب تنظر لطارة أرضًا، وبمرارة "الياسمين مات يا أبو علي، والي باقي منوا... لتتوقف عن الإكمال مع رفع قدمها لتُزيق القماش الأبيض، بكُل غضب....

**

اكملت" وداد "صعود الدرج، وقدمها تخذُلها من آن لأخر، ولكن عقلها لم يأبى الانصياع ويتمرد على ألمها ويبدأ بإفراز هرمون الادرينالين، لتفتح الباب وتتنفس الصعداء، وقبل أن تُدير المُفتاح كان صياح "فادية" يصمُ الأذان، لتجد شفتها دون إرادة تُصيح بانفعال :

-أخرسي..

تجمد من الصدمة، وبحنق لا مثيل لهُ :

-بس يا جربوعة، مبقاش غير لمامة الشوارع تتكلم في بيتي...

لم تنتظر "ريتا" لثانية واحدة، فتركت أحضان والدها سريعًا، وركضت لـ"وداد"، وبعتاب طفولي :

-أتأخرتِ ليه؟... الوحش رجع تاني، ومعرفتش احاربوا لوحدي...

رق قلبها أكثر وأكثر، وجثت ركبتيها؛ لتكُن بمُحاذتها، ويدها تُسافر بين خُصلات شعرها، وبهمس صادق، بسطت ذراعيها لتضمها إلى جوار قلبها، حيث يقبع الجزء الخافق منها لزمن ماض :

-الوحش خالص هيمشي، وكمان السرير الأميرة مستنيكي، أنا بحبك يا "ريتا"..

ضمتها بذراعيها الصغيران، وقبلتها بعفوية، وبارتياح لحضور سُلطان النوم :

-وأنا أوي يا مامي.. لتغفو بين ذراعيها، فتسقُط دموعها رغمًا عنها، لم ولن تخشى الموت، فقط ما تخشى عليه قلبها الصغير أن يعود إليه أفة الحُزن، وبهمس امتزج بالرجاء، توجهت بحديثها لأيمن :

-خلي بالك منها، هتحتاجك الفترة الجايه، حاول تلاقي مكان ليها وسط شغلك..

قطرة عابرة فرت من حدقتيهِ تأثُرًا بهمس ابنته لها ، وبصدق :

-"ريتا" مطمنة معاكي..

انفرجت شفتها بمرارة :

-هي محتاجة أبوها أكتر، لترتدي قناع الصلابة، وبنبرة مُميته استرسلت بالقول، ويدها مازالت تضم الصغيرة :

- نقول "فادية" هانم مديرة المدرسة العظيمة، ول نقول لحم رخيص.... راقبت عدم فمهما باستمتاع، مُكملة :

-تؤ...الهانم نسيت تاريخها، ول... بس أنا هريح دماغك من التفكير، فاكره الشيخ "فضل"، مظنش نسيتِ بيتك الي في البلد، ول الناس الي بعتيهم من هناك... وأكملت بلهجة ريفية بحت :- الست "فادية" على قدومها الخير، تجوز الصغيرين للبهوات، والمتجوزين تخليهم يبيعوا عيالهم مكلوش كام يوم للخلق، لكن في باشا كبير رفض يشتري العيل، وقال هتجوز يا "فادية"... والباشا كان جوزك " سالم العطار" عجبوا فلاحة صغيرة، ضحكتي عليها وخلتيها تُهجر جوزها وناس لأجل القرشينات.... توقفت لثوان تُراقب شحوب وجهها، وجحوظ عين ابنها من القول، فالتقطت عدة أنفاس، قبل أن تُضيف :خدت الست من جوزها، وهملت الدار وسابت بت صغيرة يدوبك لحمة حمرة، كل يوم والتاني حد يحن عليها، وفي يوم الشيخ فضل من قهرتو مات، مات وساب بت ست سنين لكلاب الشارع تنهش فيها.... غزى الألم جسدها من جديد، لتأن بوجع عجزت عن تحمُله، لتبتلع وجعها سريعًا :- رجعت تاني وجوزت البت لراجل قد جدها...واشارت " لأيمن" بالحديث :عارف الراجل دا مين يا "أيمن"، والد "ضحى" مراتك، إلي أمك هدتتها أنها هتقتل بنتها لو كملت معاك، صح يا هانم...

بذهول تام، وسؤال صريح لوالدتُه :

-أنتِ عملتِ كدة؟..

تخبطت الحروف بحلقها من واقع الصدمة، وبتبرير :

-"أيمن" افهمني...

صاح بانفعال، و يداهُ تلكم الجدار :

-افهم ايه؟..

لم تُبالي" وداد" بما يجري، لتُكمل بسخرية لاذعة :

-مراتك خافت منها، أصلها عارفة حكاية مرات أبوها من زمان، وبعدت بس القدر كان لو كلمة تانية، رجعت دورت عليا تاني، ما أصل الهانم، رمتها، ومستحملتش بعدها عن بنتها ماتت بحسرتها....

كان واقع كلمة الموت على أُذنيه، مؤلم للغاية، بالحد الذي لا حد لهُ، لينظر لها باستحقار، وقبل أن يسئل عن كُل هذا القُبح....

دخل "حسن" كالعاصفة الهوجاء، وعيناهُ تشتعل بالاستحقار من حالُه، ومن المعرفة، أتى لسؤال عن معنى كلِمات "ياسمين"، لتصفعهُ الحقائق، وبهياج عصبي من غضبه :

-ليه تعملي فينا كده؟..

تفجرت بركين انفعالها، وبمرارة :

-ليه عشان ولادي وخوفت عليكم... خفت مراتك تسيبك عشان الفلوس، الحوجة بتعمل كُل حاجة الأبن بيبيع ابوه، والأم تبيع عيالها، و تقتلهم لو الظروف حكمت....

بمرارة الحنظل في حلقه، أجاب "حسن" :

-ومين سمحلك، الام... خسارة يا أمي، ورحل صافعًا الباب خلفه، يُصارع وحوش عقلة، وأشباح حياته، تلك الحياة الخادعة...

تحركت "فادية" صوب "أيمن"، وبانفعال :

-الحق أخوك..

نظر لها باشمئزاز، وارتدت للخلف سريعًا، قبل أن يتحرك خلف أخيه.....

كانت "وداد" تُراقب الوضع بمشاعر مُختلفة، حُزن لمن صُعِقَ بالواقع والحقيقة، وتشفي بمن دمر حياتها، وحنان لتلك التي بين يديها، قبل أن تضعها جانبًا على الاريكة، وتلثم جبينها بعمق، قُبله أودعت بها ما يُمكن أن يحملهُ قلب أم نحو وليدها، قُبله تحمل مشاعر طفل حُرِم من ذراع الدفء، لتهمس بدعاء خافت، قبل أن تسقُط أرضًا مُستقبله ملك الموت بكُل صدر رحب...

"احذر من المجهول، فأبواب التهلُكة جميعُها خلفُه..."

**

دخلت "ياسمين" البيت، وكُل شيء بها ينتفض من الهلع، الخوف، الحزن، الضيق، أغلقت باب البيت، وظلت مُستنده عليه بكامل ثقل جسدها، وأنفاسُه تشتعل من هول ما مرت بها، لتهمس لنفسها "حمقاء"، لتنظُر لقبضة يدها المُتشبثة بحلقتهُ الذهبية، التي قررت خلعها من رقبتها مع اتصال "فدوة"، ذهبت إليه لتعتذر وتُعيد المياه الراكدة لمجرها الصحيح، لكن صُعِقت من هيئته بين ذراعي غيرها، كادت أن تتحرك لتلوذ بغرفتها، لتتوقف باستغراب، وباندهاش :

-على فين يا" فري"..

وضعت "فريدة" حقيبتها أرضًا، وعينها تحفظ كُل ركن من ذاك البيت، في روحها، لترسم ابتسامتها مع قولها :

-هسافر، عن اذنك...

اتسعت عينها بذهول، وبعدم استيعاب :

-تسافري فين؟.. وفي الساعة دي!..

-"ياسمين" من فضلك ابعدي، الطيارة هتفوتني....

وبالجانب الأخر من البيت، تحركت" فاطمة" مع "ياسين"، ليروا الوضع... لتنفرج شفتي "فاطمة" :

-دلوقتي...

التقطت "فريدة" رئتيها عدة أنفاس باردة؛ لتُطفئ الاشتعال بداخلها، وتُجمد دموعها :

-أنتِ عارفة المسافة للمطار...

وقف" ياسين" كالمصعوق من حديثهم، و بتساؤل :

-هو ايه يا ماما، و"فريدة" رايحة فين؟..

لم تُكلف نفسها عناء الرد، فهي أبعد ما يكون عن البوح عما بداخلها، لتنحني لتحمل حقيبتها، وتفتح الباب، لتقف مع...

زاد انفعال "ياسمين" فوق المعتاد، وبلهجه عصبية :

-ماما أتصرفي..

لم تنفرج شفتي "فاطمة" سوى بقول واحد:

-مش هتودعيني!..

تشبثت يدها بالباب، تمنع جسدها بأكملُه من العودة إليهم، وبنبرة مُتعبة :

-مبحبش الوداع، بخاف منوا، كده أحسن...

-طب خلي "ياسين" يوصلك

-معلش، مرة تانية، واغلقت الباب خلفها تاركة العنان لعينها بالانفجار، فهي تعلم أن ليس هُناك مرة أخرى؛ فقد كُتِبَ على قلبها الرحيل دون ملاذ...

وبالداخل تحركت "فاطمة" لغُرفتها، تاركة خلفها اثنان يكاد الجنون أن يُصيبهم من الذهول، فهي بحاجة ماسة للاختلاء بنفسها، ربما تجد سبيلًا لراحة...

**

تجعدت ملامح "سناء" في خوف، وبدأت كأنها تُحاربُ أحدُهم في نومها، لتفق سريعًا، وتصيح بفزع ، وجبينها تجمعت عليه حبات العرق، وصدرها يرتفع ويهبط سريعًا، وكأن مضخة تضخُ الماء بداخلها، رفعت يدها لتستريح على صدرها، لتهمس:

-أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتنفُض الغِطاء، وتتحرك للخروج من الغرفة، فجدرانها تقبض على روحها، وتُسرع بتفقُد الغُرف، فقلبها يشعُر بوجود خطب ما، لتهمس بتضرع :

-يارب.. بعد مرور عدة دقائق كانت أغلقت غُرفة "رقية" فوجدها نائمة قريرة العين، والبسمة تُزين وجهها، لتدخل باب غُرفة "فدوة"، لتجدها فارغة منها، فظنت أنها بالحمام، لتنقل الجانب الأخر لتُدثر" رحيم"، لتجد بشرتهُ كلوح من الثلج، وبشرتهُ شاحبة، لترفع يدها في حركة سريعة لتكُن أمام أنفاسُه الخارجة من الأنف، فتجد الفراغ... لم تستسلم لهذا الاختبار البسيط، فانحنت بجسدها وأُذنها تستوطن صدره، في التماس تكذيب شعورها، لتجحظ عينها وبهمس غير مُصدق "رحيم"، لتشق صوت صُراخها جدران الصمت في استغاثة عاجلة.... لتمر أقل من دقيقة وكان "منصور" يفرُك عيناهُ بنوم، وبتساؤل:

-في ايه يا اما؟..

حركت رأسها برفض، وعينها تقطُر دمع، وشفتها تهمس :

-"رحيم"..

تحرك سريعًا، ليري ما بها، وينحني ليري ما بهِ "رحيم"، فقد هداهُ عقله ربما أُصيب بحمة أو ما شابه، ووالدتُه تُهول الأمر، ولكن رفض عقلهُ تصديق تلك الهيئة التي عليها "رحيم"، لينحني سريعًا لفعل ما فعلتهُ والدتُه، ليخفق قلبهُ بعنف، وسُرعان ما قال :

-لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم...

كانت تلك الجملة بمثابة مدفع إفطار لصائم، فهرع للماء، لم يختلف حال "سناء" كثيرًا لتهرع حنجرتيها بالنحيب :

-"رحييييييييم"...

دخلت "فدوة" البيت وبسمة تشفي، وانتصار تُزين ثغرها، لتتلاشى البسمة سريعًا مع صُراخ والدتها، فتهرع لمصدر الصوت، لتستقبلها نظرات "رقية" الحانقة، وعين "منصور" السائلة، وعين والدتها الدمعة، فتسارع بالقول :

-هو في ايه؟...لم يُجيب أحد، فقط رنين صوتها بالغرفة، لتُعيد الكرة مرةً أُخري، والقلق قد عصف :

-في ايه يا اما؟..

نظرة مُميتة من عين والدتها، امتزجت مع صوت "رقية" الباكي :

-"رحيم" تيعشي أنتِ...

ضحكة مريرة شقت وجهها المذهول، لتهرع نحو جسد ابنها بين يدي والدتها، وتجثي أرضًا تهزهُ بعنف؛ ليستيقظ، وبهستيرية :

-"رحيم"، "رحيييييم".... ولكن لا جواب، لتنطلق صرخة حادة، لا مثيل لها... "رحييييييييييييم"..

انفطر قلب "منصور" لرؤيها، وتحرك ليبعدها، ويهمس :

-وحدي الله يا "فدوة"، وبدأ يحثها على الابتعاد...

ابتعدت عن يداهُ سريعًا، وبهستيرية أقرب لصُراخ:

-بس..... شششش كلكم،" رحيم" مامتش، وانحنت لتحملهُ من جديد، لتضمهُ إلى قلبها وبرجاء ظلت تُناديه :

-" رحيم"، "رحيم" يا حبيبي،" رحيم" عشان خاطري رد..... ليخفق قلبها بقوة وكأنها إعصار يمرُ به، لتتحرك باستسلام نحو الجدار، وتصيح فيهم :

-اطلعوا برة، يلا محدش هياخد ابني، بررره...

تخللت شهقات "رقية" و "سناء" صوت الصُراخ، وقلب كُلًا منهم يبكي بطريقته... لتنبثق شفتي" سناء" في نداء استغاثة لوليدها بكلمة واحدة :

-"منصور"...

أشواك تنغرسُ بروحة، وعجز عن المواساة فلم يمر بموقف كهذا من قبل، تحرك نحوها، وبنبرة رخيمة :

-خلاص محدش هياخدوا، تعالي غطيه الجو برد، هاتيه يا "فدوة"، يلا...

"لا نشعُر بقيمة ما نملُك الا عندما نُفارق..."

**

"قديمًا أخبرونا إن الحُب قادر على فعل المستحيل، فبهِ تطيبُ الجروح، وتُشفى الندوب، وتزول الهموم، وتبقى القلوب لاهية في من تُحب... "

ظلت عيني "سيد" تُتابع دون كلل أو ملل شحوب روحها، وفقدان بريق عينها، ليقل :

-ادعيلها..

تركت الملعقة من يدها، لتبتلع ما في جوفها من اللاشيء :

-حاضر، وتمتمت باعتذار، وتحركت من أمامه، لتتوقف مع...

لم يعلم ماذا يقول؟.. ولكن انفرجت شفتاهُ رغمًا عنهُ في حديث حَفِظهُ داخل صندوق الروح لسنوات، لينطق اسمها دون تصديق :

-"مريم" ممكن نتكلم شوية...

تمتمت باعتذار قبل أن تهرب من حِصار عينه :

-معلش ممكن وقت تاني، وهرولت نحو غرفتها...

خيبة أمل تجسدت بعينه، ولكنها تلاشت سريعًا، وكأنها لم ولن تكُن، فهي قبلت بجوده، ليُقسم إنه لن يبتعد، وسيزرع نبتتُ عشقه بقلبها رغم انفها...

**

أشرقت الأرض بنور ربها، وبدأت السماء بنثر خيوطها البيضاء هُنا وهُناك، لتعلوا زقزقة العصافير فوق الاغصان وهي تُغرد فرِحه باستقبال بشرى يومٍ جديد.... لم تغمض "سماح" عينها منذُ أمس، وحديثها مع "رامي" يتوهج أمامها شيئًا فشيء كضواء الصباح، لتُلقي نظرة على النائم بجوارها، قبل أن تُسرع بالخروج من الغُرفة، لتبدأ بتجهيز مُخططها، ولكن قبل هذا ستُجهز حالها كعروس لمن هوت، وليحترق الجميع، وابتسامة شيطانية تتجسد على وجهها، مع غلقها الباب... لتمر ساعتين أو أكثر قبل أن تخرُج من جديد، وشفتها تُدندن بلحن قديم لتلك الأغنية الشهيرة (يا خارجة من باب الحمام وكل خد عليه خوخة)....

علي الجانب الأخر بالغرفة المُجاورة استيقظ "رامي" من نومة والصداع يكاد يفتك برأسه، رفع يداهُ سريعًا لنفض الغِطاء، وفتح الباب مُناديًا بصياح :

-"سماح" يا "سماح"... ودارت عيناهُ سريعًا بالبيت فلم يجد شيئًا، تحرك باتجاه المطبخ، ربما يستطع فعل قدح القهوة فيُزيل مطاريق رأسه، لتقع عيناهُ على خيال ما يتحرك بغرفة والده، لتوسوس لهُ نفس لثواني، ويومض البريق الشيطاني في دعوة صريحة لما هو مُحرم، ويصدع صوت النفس" إن كان هذا الجمال لوالدي اليوم، وبعد بضع ساعات سيكُن على طبق من فضة لذاك السيد، فلما لا أنالُ جانب"... لتنفرج شفتاهُ بابتسامة مُقززة، تقشعر لها الأبدان، ويسيل لُعاب فمه ككلب وجد احدي قطع اللحم، فترك العنان لقدماهُ، ودفع الباب سريعًا واضعًا مطاريق الرأس جانبًا....

**

" ما بين الأمس واليوم، ذكرى عابرة بمُرها وحُلوها ستبقى ذكرى، واليوم حان إقلاب الصفحة، والبداء من جديد في دفتر اليوم.."

أغلقت "فريدة" سيارة الأجرة، وطافت عينها سريعًا بالشارع، لتبتسم بحنين لذكرى والدتها، وأيام كانت لا تعرف من الدنيا سوى اللهو، انحنت قليلًا؛ لتحمل حقيبتها وتصعد الشقة، في صمت تام فالساعة لم تتجاوز الثامنة صباحًا، صعدت الدرج ومع كُل درجة تومض عينها بالكثير، لتتوقف أمام شقة بالطابق الثاني، وبسمتها تتسع مع طيف والدتها الباسم، فتحت الباب وزاد وجيب قلبها في تمنى أن تجد عِناقها، ولكن الظلام المُوحش كان هو العِناق، ورائحة الغُبار دقات طبول العودة، أغلقت الباب وتحركت ببطء نحو النافذة، والعديد من الأصوات تتداخل برأسها ما بين ضحكات، صياح تعنيف، وأخر لوم للإخفاق، وأخر مرح لحصد إحدى العلامات، وأخر باكي مع تذكرة السفر.... هربت الأصوات سريعًا مع الضوء المُهاجم للوحش، فتنحي دقات الطبول مع حمليها إلى الفرار من الضوء للخارج.... زفرت بتمهل وكأن رئتيها تقبض على أخر ذرة هواء تحمل عبق والدتها، لتُسرع بخلع نعلها، وتشرع في تنظيف البيت، فبعد عد لديها طلبيه سيتم تسليمها، ولن تقبل أدنى عذر بالتأخير...

**

نفسَ "فرج" دخان الأرجيلة، في محاولة لردع ذاك الصُداع، فقد شرب العديد من أكواب القهوة منذ السادسة صباحًا ولم تُجدي نفعًا، وزوجته لم يجدها بجواره قبل النزول، ليلحق بالحمام الأخر وينزل سريعًا؛ فلديه اليوم استلام بعض البضائع، فقبل أيام كان قد أتفق مع احدي محلات العِطارة بجلب مؤن القهوة كُل أسبوع، زفر بحنق، وعيناهُ تنظر للمارة بشرود قبل أن يعقد العزم، ويصعد للأعلى، فرأسُه يكاد يفتك به، ليرتفع صوتُه بصياح :

-واد خلي بالك من القهوة لحد ما أرجع.... وخرج سريعًا من القهوة...

بعد مرور عشر دقائق ارتفع صوته في نداء "سماح" يا "سماح"، ليُكمل تحرُكه لداخل، وأصوات صراخ تصل لأذُنيه، وهمهمات غير مفهومة، ليهرع لداخل وعقلهُ يرفض تصديق ما فهمهُ، ليقف أمام باب الغُرفة بعدم تصديق، وشيء حارق يمر بأوردتُه، وعيناهُ تجحظ بصدمة من هول ما رأى، وقبل أن تنبثق شفتاهُ بأدني كلِمة، كانت يداهُ تستوطن صدرة في مُحاولة جاهدة منهُ لإزالة تلك الحرارة المنبثقة من داخلة، بنبرة هادرة :

-"رامي"....

دقيقة، اثنان، عشر... لا أحد منهم يعلم كم مر من الوقت، بعينهم المُتضاربة بالمشاعر، لتقطع "سماح" حرب النظرات ويدها ترتفع لتهوى على وجنتيها بلطمة فزع، وبتعلثُم من اشتعال عيني "فرج"، وبتبرير :

-ففففرج...


لم يستطع "رامي" عينه في والده، ليس خوفًا أو تبجيل، ولكن شعور أبعد ما يكون عن هذا، الأ وهو شعور الوحش الراكضة بين أوردتُه وعيناهُ الغائبة فيما كانت تفعل، وقبل أن يخطوا خطوة واحدة، أو يعي شيء كان صوت صراخ ينبعث من حولة يُعيد لهُ الواقع، فوجد والدهُ أرضًا والدماء، تسيل منه، لتنفرج شفتاهُ بصياح هادر :

-أنتِ عملتِ أيه... ليهرع ليأخذ السكين من يدها، ولكن دقيقة كانت كفيلة بوضع السكين بقلبه، ليسقُط أرضًا بجوار والدهُ والدماء تختلط ببعضها في نهاية مُخزية....

تحركت "سماح" بجنون، ولا تعلم كيف تتصرف، لتهرع سريعًا، لارتداء ملابسها وأخذ النقود، فلن تخرُج دون مكسب، لترفع قدمها لتخطوا فوق الجُثث وكأن عينها لا ترى ما هو أسفلُ قدميها...

**

"القدر... – تلك الكلِمة القادرة على قلب الدُنيا رأسًا على عقب في لمح البصر، والسبب الدائم لهذا رياحُ القدر"...

ظلت الكوابيس تغزو عيني "مريم" في نومها، والأصوات تطرُق أذنها، لتحاول جاهدة النوم، ولكن الضجيج يزاد وشعور مُخيف يُداهمها، لتنفض الغِطاء، وتزفر بضجر، لتتضح الأصوات القادمة من خلف الجُدران، لتتحرك للخارج والقلق يعصفُ بها، لتبحث عينها عن" سيد" سريعًا، وتهرول لإيقاظُه، ولا تعرف بماذا تُخبرهُ؟.. حسمت أمرها وبنداء مُتردد :

-"سيد" يا "سيد"..

فزع "سيد" من نومه، وبلهفة :

-أنتِ كويسه...

حركت رأسها بإيماء، وتعلثمت الحروف بجوفها :

-ممكن تشوف في ايه في الشقة الي جنبنا...

نظرة استفهامية كانت الجواب..... لتُكمل :

-مش عارفه قلبي مقبوض، في دوشة في الأوضة..

حرك رأسها بنعم، وتحرك للخروج؛ لطرق الباب، وعقلهُ يبحث عن سبب ما يدفعهُ لطرق حينما يأتيهِ الجواب... دقيقة وكانت يداهُ ترتفع لتطرق الباب ليجد الباب غير مِحكم الغلق، فارتفع صوته بنداء :

-يا معلم... ولكن لا جواب، فتح الباب بحذر وقبل أن يخطوا خطوة كانت "مريم" تتشبث بكتفه، وشعور القلق يزداد حتى عجزت حدقتيها عن التحمُل ففاضت بالدمع، ليُكمل الاثنان تحركهُما نحو الداخل، لتجحظ عينهم أمام باب الغُرفة، صرخة حارة تشق جُدران البيت، من هول صدمتها.....

خفقة سريعة مرت بقلب "سيد"، ليتحرك لإبعادها، و يداهُ تحاول إخفاء عينها عن الدماء، ليعجز عن هذا مع سقوطها بين يديهِ فاقدة للوعي....

شبح الموت يُصيب قلوبنا برجفة إن كان الراحل غريب، ولكن إن كان ما بيننا وبينهُ أعمق من صلة الدم، فكيف لعقولنا الصمود، فنُسلم صاغرين للانهزام.... لم تستطع عينها التصديق، وتشوشت الرؤية أمامها، ومادت الأرض من تحت قدمها، لتُسلم ذمام الأمر وتُرحب بظلام النجدة لعقلها....

مرت دقيقة كالسنوات قبل أن يدق عقلهُ الإنذار ليحملها للبيت، ويبحث عن هاتفهُ لطلب الشُرطة...

**

الخاتـــــــــمـــــة

بعد مرور ثمانية أشهر

تمرُ الأيام بسرعة البرق، فلا تستطع التفرقة بين اليوم والأمس، ولكن يبقي هُناك شِعار أخر يجعلنا لا ننسى مرور الأيام، الأ وهو الحنين.... الحركة تقم على قدم وساق ببيت "حلمي" وعلى وجه التحديد بالشقة المُقابلة لهم "شقة وداد سابقًا"، أغلق "ياسين" باب الشقة دون أن ينقطع عن الحديث مع "رقية"، يتلقى التعليمات منها، ليُجيب بمرح ظهر مؤخرًا بعد عقد القران :

-لازم أعرف الهدية؟.. ولا هروح بنفسي أفتح الشقة...

انطلقت شفتي "رقية" بصرخة غاضبة :

-والله يا "ياسين" هخاصمك...

قهقه بقوة من تصرفاتها، واكمل مُستمتعًا بحنقها :

-خلاص هروح هشوف...

كادت أن تخرج شعرها من منبته، لتزفر بمحايلة، وتحاول استعادت هدوئها، وبنبرة ماكرة :

-ياسو... يلا تعالي وصلني، عشر دقائق والا هغير رأي ومحضرش الفرح...

بمشاغبة، وعبث طفيف :

-أنا بقول بلاش فرح، ونسافر أحسن...

أغلقت الهاتف سريعًا، وهمست :

-وقحة، وتحركت لتحمل فستان عُرسها بحافظتُه، والسعادة تتلألأ في عينها، لتخرج من الغُرفة وبصياح "ماما" يا "ماما".... ولكن لا جواب، الأ من صوت...

ورقة في مهب الريح تنتظر أقل ذرة هواء تعبث بتشبُثها فتسقُط أرضًا، انفرجت شفتي "فدوة" بهمس خافت بالكاد وصل لاُذني "رقية" :

-نزلت تشري حاجة من السوق..

غصة مريرة وقفت بحلقها، وضعت حافظة فستانها جانبًا، وتحركت نحو تلك الاريكة التي اتخذتها "فدوة" ملجًأ بعد وفاة ابنها، جلست بجوارها وبحنان :

-تعالي معايا أنا محتاجكي جنبي..

ابتسامة فاترة، ودمعة عالقة لم ولن تُفارق عينها، حُزنً على ما مر، تتمنى يومًا أن يعود الزمان ولو لبضع ساعات لكانت فعلت الكثير، ولكن تبقى ليت عالقة بالتمني، فاطلقت تنهيده مطولة، تبعتها يدها التي ارتفعت لتربت على كتفها بتخبط ما بين الذنب وصلة الدم :

-أعذريني، يلا أكيد "ياسين" وصل.. وتلحفت برداء الصمت..

لم تسعفها الكلِمات للقول، ففردت ذراعيها سريعًا وضمتها بقوة كطفل وجد والدتهُ بعد يومٍ طويل من البُكاء، وقبلت شعرها بعمق، قُبلة أودعت بها الارتياح والطمأنينة المتشربة بخيط رفيع من القلق، وبهمس :

-لازم أشوفك بليل في الفرح، مش هقبل عذر يا حبيبتي... ورحلت سريعًا تاركة لها حُرية التفكير من جديد، وعقلها يُحدثها، بأخر جملة قالها أخيها قبل أن يتلحف بحِجاب الصمت " فدوة تحتاج أن تشعر بنا بجوارها وليس ندًا لما حدث منها"....

توقف "ياسين" بسيارته أمام العمارة وبجواره "ياسمين" الشاردة، وقبل أن يُكمل جذب انتباهها لحديث أخر ، كانت عيناهُ تلتقط نزول "رقية" والشرود يملأ وجهها، ليُسرع بالنزول، و بتساؤل صريح :

-مالك يا "" روكا ""..

فاقت من شرودها مع صوته، وسُرعان ما طفت بسمة خجولة على وجهها، قبل أن تقول بحنق :

-أوعى يا "ياسين".. وسارعت لركوب السيارة..

ضرب كفً بالأخر وتمتم بالصبر، يكفيهِ اختهُ العابسة، ليتحرك لسيارة مُعتليً المقود، وعيناهُ ترى تبدل ملامح كلاهُما إلى النقيض من الشرود، وكأن كلاهما ستحل احدي المُشكِلات القومية، ليزفر بنفاذ صبر، ويعود النظر إلى الطريق من جديد...

**

نحتاج من حين لأخر رؤية من توارى خلف التُراب، نعلم أننا لن نرى الجسد، ولكن بجوار قبورهم نجد طيفًا ما يربت على قلوبنا، وعبقًا من رائحتهم يتحلل ثنايا الروح المُتعطشة للقائهم، ترجل "أيمن" من سيارته أمام احدي المدافن، وعيناه تتلهف لتقبيل الاسم النقوش على المدفن، دفع الباب برفق فأصدر صريرًا مزعجًا كحال قلبه المُتعب، ليترك لقدماهُ العنان لتقبيل الثري من تحتها، ولكن قدماهُ تتحرك برفق بالغ وكأنها تتحرك فوق زُجاج يأبى تهشيمُه، لتنفرج رئتيهِ بأقصى قدر عن التشبُع بالهواء، ويتوقف أمام ذاك النقش المُخصص لــ "ضحى"، وبأنين خافت فر من شفتاه، بدأ بالهمس بالدعاء، وقبلهُ يقرع كطبول الحرب عند النصر... مرت دقائق أم ساعات لا يعلم، ولكن ظهور الشمس في كبد السماء وازعاج عينه كان الاخبار لعقله بوجوب الرحيل، قبل أن يتحرك خطوتان لليسار، ويبدأ بالدعاء والسلام على "وداد"، تلك السيدة الغريبة التي حلت بعالمه فأعطتهُ أقوى درس لتقدير وقت الأحبة، وصفعة نيران لمن يرى بوجه واحد الحقيقة ، ليهمس بامتنان خالص "شكرًا" وتحرك للخروج بروحة غير متعبة أو على حد صحيح مُتعبة لكنها حظت بقليل بلقاء الراحلين، فأصابها الخدر، توقف أمام الباب للحظات، قبل أن يتحرك لإغلاقه وومضات خافته تعود إليه من ذكرى الشهور المُنصرمة، ذاك اليوم الذي عرِف الحقيقة، فنزل كالمجذوب يبحث عن أخيه، ليتلقى صفعة أخرى أنهُ سيُهاجر فما عاد لهُ حاجه بالبقاء وسط هذا، لتمر الأيام سريعًا ويأتيه احدي المُحامين لزيارته ويسلمهُ أورق ويرحل بسلام، ليشهق بصدمة من تلك الأوراق وما تحتويه من نقود وعقد خاص بالشقة المجاورة لمكتبه، كُتِبَ بالكامل لابنته، وورقة مطوية بداخلها عدة سطور.. "لكَ السلام، اعتذر بالشدة عن كم الخراب الذي حل بكَ ولكن كان علىّ الانتقام لما حل بي ذات يوم، أتمنى أن تفهم ما مررتُ به وأن تدعوا لي بالرحمة إن أمكن، وارجوا منك أن لا تُقصر بحق كنزك، واعفوا عما حل وبدر فالدنيا أبسط من هذا... سلامًا طيبًا يا من رأيت بكَ روح أبيّ بالعشق "...

**

هل جربت أن تختبي من حالك؟... ربما نعم على الأرجح فمع ألم احدي الصفعات المُهشمة لروح تختبئ من رؤية انعكاس وجهك بالمرآه، وضعت" فريدة" الكاب على شعرها في مُحاولة بائسة من الهروب من أن ترى أحدهم، رغم حماقات قلبها والتسلُل لرؤيته من آن لأخر، توقفت أمام المول، وتجبر قدمها على ركوب احدي سيارات الأجرة والذِهاب لبيتها، ولكن انفرجت شفتها في اذعان لطلب قلبها في رؤية قبر والدتها...مرت الدقائق كلمح البصر فلم تشعُر سوى بتوقف السائق، لتترجل وتحرك بين المقابر باحثه عن قبرً بعينه، ليخفق قلبها بقوة مع رؤية أخر شخص تتوقع حضوره وتتمنى رؤيها، وسُرعان ما بادرت شفتها بالنداء :

-"ماما"!..

قبل ساعة أو أكثر حسمت "فاطمة" قرارها بالذهاب لقبر غريمتها، فقد قضت الشهور المُنصرمة تتقلب على نيران الضمير، ول تعرف كيف تتصرف، تُقسم أنها حاولت مرارًا وتكرارًا أن تبوح بما لديها، ولكن في كُل مرة كانت تتجمد الكلمات بحلقها؛ مع رؤية شمس غابات الزيتون، ولكن اليوم لا مفر من الهروب من البوح، اليوم سيدخل أول سرور لقلبها قبل بيتها، عليها أن تُخلص نفسها من أثم الماضي، واليوم تتوقف أمام قبر غريمتها تطلب العفو، لتتوقف الكلِمات مع صوت...

أسرعت "فريدة" في خُطها والدمع بدأ يترقق في عينها، وبلهفة :

-"ماما"...

لم يختلف حال "فاطمة" كثيرًا عنها، وقبل أن تبدى أدنى رد فعل، كان جسد "فريدة" يندسُ بين ذراعيها، ليعلوا وجيب قلبها، وتسقُط دمعة حارة، وبتساؤل :

-أنتِ مسافرتيش؟..

خرجت من أحضانها سريعًا، وحركت رأسها بالنفي، قبل أن تقول :

-مقدرتش..

اخذت عدة أنفاس قبل أن تشرع في حديث طال غيابُه :

-"فريدة" " عاوزه اتكلم معاكي، بس قبل أي حاجه أقسملك أن كان كُل قصدي أحمي بيتي...

تخبطت عينها من عدم الفهم، وبتساؤل صريح :

-بيت أيه؟..

-من زمان أوي، جدك حكم اتجوز أبوكي، لكن بعد فتره من الجواز أبوكي اتغير وبقي ديمًا متعصب، لحد ما راقبتوا في يوم، وعرفت أنوا بيقابل وحدة، وعدى يوم والتاني وكنت هموت من قهرتي ورحت لست دي، واترجتها تسبلي جوزي عشان بيتي ميتخربش، وأهلي مكنوش هيسمحوا أربي أبني لو أطلقت، والست بعدت، وابوكي فضل يدور كتير عنها، لحد ما في يوم عرف انها هاجرت وانقطعت الأخبار، ولما مات عرفنا بوجودك...

ابتسامة ساخرة احتلت وجهها، وابتعدت سريعًا كمن لدغهُ عقرب، وبتهكم :

-عاوزني أسامحك أنك كنتي سبب في قهرتها، ول في حياتي كلها من غير أب، ليه فكرتي في نفسك ومفكرتيش فيها، عارفه أنها حاولت كتير تموت، عارفة أن طفله تعيش حياتها مش عارفه ابوها، وفي نفس الوقت بتراقب أمها لتهرب زي كل مرة في المستشفيات، عارفه يعني ايه تعشي حياتك من أولها لأخرها في غربة، عارفه يعني ايه تهاجري مع شبح محرم عليه يحضنك عشان بتفكري بقهرتوا.. .... وتوقفت تلتقط أنفاسها الضائعة لتُكمل :

-مش عاوزه اشوفك تاني، ورحلت بانهزام اكثر من ذي قبل، وكل شئ بداخلها يأن...

**

حل الليل سريعًا، وتوهجت الأنوار، والجميع يتحرك سعيدًا، عدا من أصاب قلبهُ الهم، ولكن البعض ممن أصاب الهم قلبهُ، رسم أكثر ابتسامة سعيدة، فاليوم ستزف ابنة قلبه لمن أرادت، طافت عيني "منصور" سريعًا بين الحاضرين، وعيناه من آن لأخر تُراقب الوافدين، يتمنى رؤية شخص بعينه، شخص بين ليلة وضحاها هجرهُ، يُقسم أنه كان أحمق ولكن... لتتوقف لكن مع...

جلس "سيد" بضجر بين المدعوين، عيناهُ تنظر من آن لأخر لتك الطاولة الجالس عليها بمفردُه، لا يعلم ماذا حدث، فمنذ الأمس "ومريمته" قررت المبيت في بيت والدها واخبرتهُ عبر احدي الرسائل أن غدًا ستكن لهُ مفاجأة ستُبهج قلبه، زفر بملل، قبل أن يعقد العزم ويتحرك نحو صديقة، وبسخرية مُشفقة :

-مش هتيجي..

بلع غصة في حلقه، يُداري بها ارتباكُه، وببلاهة مُتعمدة :

-مين...

وبضحكة رجولية، قرر التمادي في إثارة حنقهُ، ربما يتحرك لتغير ذاك الوضع :

-أم شعر اصفر عارفه..

أطلت اللهفة من عينه، وبتساؤل عجز عن إخفاءهُ :

-وأنت عرفت منين؟..

وضع يداهُ في جيب بنطاله وبدأ بإطلاق الصفير، وكأنه لم يُسئل لتو عن أحدهما...

اشتعل من الغيظ، وأصدرت أسنانه اصواتًا من التطاحن الناشب بينها، وبنبرة هادرة :

-"سيد"...

قهقه بمرح، قبل أن يُجيب :

-لما أعرف عاوز منها ايه الأول؟..

عجز عن كبت غضبه، وارتفعت يداهُ بحده لتُمسك بمقدمة ملابسه، وبنبرة تحذيرية :

-أنجز بدل ابيتك في المستشفى...

-خلاص الطيب أحسن، ساكنه في شقة امها في ***وكانت بتيجي المحل ليا اجبلها الحاجات الي بتشتغل فيها من ورش الخِراطة...

انفرجت شفتاهُ بسيل عارم من الكلِمات النائية، ورفع يدهُ سريعًا ليِزين وجه الأخر، قبل أن يركُض تاركًا الحفل خلفُه...


ترجلت "مريم" من السيارة ، وعينها تبحث عنه وقلبها يخفق بقوة، وعقلها ينهرها على ما ترتديه، وقبل أن تخطو خطوة واحده...

ارتفعت يداهُ تلقائيًا على موضع اللكمة، ولكن عيناهُ تسمرت عليها، وسقاتهُ قدماهُ كالمجذوب نحوها، ليتوقف أمامها وببلاهة دون أن تحيد عيناهُ عنها :

-دا بجد...

طفي الاحمرار على وجهها، وتعلثمت حروفها، وفي محاولة بائسة لردعهُ عن التحديق بها، وبنبرة زاجرة :

-"سيد"..

-الصبر يا رب، يا بنتي في حد مسلطك عليا... شعر بإحراجها، فسارع بالانحناء في حركة مسرحية، وبسط يداهُ لها...

لم تأخذ جُزءً من الثانية في التفكير، والكثير من اللقطات تتضح أمام عينها، لقطة حينما قررت الاستسلام بعد موت عائلتها، ولقطة عندما امتنعت عن الدراسة، وأخرى عندما إصابتها الحُمي، واخرى حينما ساعدها بكسب الثقة من جديد والرجوع للعمل، وأخري وأخرى، لتتوقف عن التحديق بيديه وترتفع يدها سريعًا لتشبث بيده لتظل منبسطة أمامها، ويدها الأخر تنقش على باطن يده "أُحبك"...

ظل يُحدق بها لفتره، غير مُصدق ما كُتِبَ لتو، وارتفعت حدقتيه لتأكد من وجودها، وانها ليست مُجرد خيال أو حُلم...

خفق قلبها من صدمته، وشعرت انها أخطأت ولكنها شعرت بوجود شرارت الحب بينهم، لتُتمتم باعتذار، وخيبة أمل تُصاحب حروفها:

-اسفة..

بسرعة البرق انفرجت شفتاهُ بوعيد غير قابل لنقاش :

-مين دا الي اسف، وسُرعان ما ارتفعت يداهُ لتحملها وتدور بها...

**

ظلام دامس اطل بروحها، كحال بيتها المُظلم، لم تعلم كم مر من الوقت، ولكنها تشعُر بالخواء من كُل شيء، لتتحرك بتثاقل لترى من يطرُق بابها في حدث فريد من نوعه..

استقل أول سيارة أجرى، وأخبره بالعنوان سريعًا، ليأكل درجات السُلم بقدمه، و قلبهُ يخفق بقوة؛ فقد عاش دون روح في الفترة الأخيرة....

فتحت الباب بإنهاك شديد، وجفون منتفخة من البُكاء والصدمة، لتزداد الصدمة مع رؤيته، وبهمس لم يُفارق شفتيها :

-"منصور"...

خفقة قلبُه كصفير القِطار، وبرقت عيناهُ بقوة كمن وجد أطنان من الحليب، وبلهفة :

-"تتجوزيني"..

صدمة أم خيال!... لا تعرف ربما تتوهم :

-بتقول ايه؟..

ببطء مُتعمد، وبحروف ممطوطة :

-تتجوزيني يا فريدة..

-بتهزر صح..

حرك رأسهُ بالنفي، وجذب يديها بقوة بيدهُ الخشنة، و يداهُ الأخرى تُسافر في جيبه لتُخرج ذاك الهرم، ليضعهُ بيدها، ولكن اضاف صورتها بالجانب الفارغ...

كمضخة رجت بهدير قلبها، فهطلت دموع عينها، وتحركت رأسها رغمًا عنها بالموافقة....

**

وعلى الجانب الأخر بالمكان المُخصص للحفل، تحركت "رقية" بفُستانها الأبيض المُرصع ببعض الكيرستالات، وعينها المُتلألاة بالكحل العربي، في سعادة بالغه تنبثق من عينها، ويدها تقبض بتوتر بالغ على يد "ياسين"، الذي لم يختلف حالهُ كثيرًا عنها، ولكن عيناهُ وقعت على أخته ليجدها منزوية بإحدى الأركان تُراقبهم بشرود وبسمة شاردة تُزين ثغرها، لتنفرج شفتاه بالدعاء لها مع رؤية...

وصل "حسن" من المطار قبل ساعتين أو أكثر، ليتخذ من أحد الأركان ملجأً لهُ، فقد استمع لنصيحة أخيه أن يُحاول مرةً أخرى ربما يُجدي نفعًا، لتلمع عيناهُ بسعادة مع رؤيتها تقف في إحدى الأركان بفُستانها الفضي، ليهرول صوبها وبلهفة :

-"ياسمين"..

لوهلة اهتزت اوصالها من نبرتهُ الرخيمة، ولكن سرعان ما أجادت قِناعها البارد، و بابتسامه مُصطنعة :

-ازيك يا "حسن"..

-تعبان، ما صدقت "ياسين" حددت ميعاد الفرح وجتلك...

بنبرة زاجرة:

-"حسن" من فضلك، إلي بينا أنتهي، وسارعت بإخراج الحقلة الذهبية الخاصة بها من يدها القابضة عليها، ومدتها لهُ... للأسف يا "حسن"، ورحلت سريًعا فهي لن تستطيع أن تغفر لهُ رغم حبها ولكنها تعلم جيدًا أن بعض قصص الحُب تكن داخل أسوار القلب ليس الا....فهي قد حُكِما عليها أن تحيا بنيران الهوي لأجل أحمر الشفاه...


__*تـــمــت*__ 

*********************
إلي هنا تنتهي رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح
تابع من هنا: جميع فصول رواية نيران الهوى بقلم رانيا صلاح
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة