-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الحادى والثلاثون

أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل الحادى والثلاثون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا  تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.

رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الحادى والثلاثون

حمل تطبيق قصص وروايات عربية من جوجل بلاي
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى

رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الحادى والثلاثون

حدق فيها للحظات غير مصدق.
همس في اضطراب:
أَعيدي علي ما قلت؟
كنت أقول,,. ما رأيك في أن نتزوج الشهر المقبل؟
أظنك قد انتهيت من تجهيز الشقة، وكل شيء على ما يرام.
اليس كذلك؟
أخذ حسان نفسا عميقا وهو يسألها مجددا :
هل أنت واثقة من قرارك؟، أقصد... الظروف الحالية مختلفة.
كل ما حصل في الفترة الماضية وا
قاطعته وقد التمعت عيناها ببريق الإصرار:
كل ذلك لا يغير شيئا بشأن زواجنا, وأنا مستعدة للزواج في أقرب وقت ممكن.
تنهد حسان وهو يستند على جانب السيارة، ويرفع رأسه إلى السماء في ارتياح.
لم يحاول مقاومة عبرات الفرح التي تلألأت في عينيه وهو يهتف في امتنان:
ندى... لا تعلمين مدى سعادتي بقرارك هذا... أنا أسعد رجل في الدنيا
ابتسمت كالعادة، تحاول أن تشاركه سعادته، التي تحسب فيها سعادتها أيضا، لكن نبضات قلبها المضطربة كانت تشي بأشياء أخرى
هل اتخذت القرار الصواب؟

دخل إلى البيت مُصَفِّرا في نشوة وانشراح.
ألقى السلام على والديه وبادر بتقبيل ايديهما ورأسيهما في حب.
ثم اتخذ مجلسا إلى جوارهما وابتسامة عريضة تشرق وجهه.
نظرت إليه والدته في فرح وهتفت:
-أدام الله هذه الابتسامة على وجهك يا ولدي. أراك منذ ايام مهموما مشغول البال... عسى أن يكون ضيقك قد انزاح بلا رجعة.
ضحك حسان وهو يربت كفها في حنان:
الحمد لله... الحمد لله. أبشري يا ام حسان...
قريبا ستفرحين بزواج ابنك الذي طال انتظاره...
رفعت والدته حاجبا في عجب، واتخذت لهجة حادة وهي تحدجه بنظرة جانبية:
هل وا فقت الأميرة أخيرا على تحديد موعد الزفاف؟، ابتسم مخففا وهو يقول:
لا تظلميها يا أماه...
كانت لديها ظروفها، والآن أصبح بإمكاننا تحديد الموعد دون تأخير، بل سيكون ذلك أقرب مما تتصورين---
تدخل والده الذي التزم الصمت إلى تلك اللحظة قائلا في حَذَر:
وماذا عن صديقك أحمد
امتقع وجه حسان وهو يرد في ارتباك مشوب بعصبية زائدة:
لا علاقة لأحمد بزواجنا.
كل شيء تغير في غيابه، وزواجي بِنَدَى أصبح أمرا واقعا، ولا يمكن لأحد غيرنا تقرير مصير علاقتنا , تنهد والده وهو يقول في تسليم:
- حسنا إذن... على بركة الله...
قبل حسان والديه مجددا، مستدرا مباركتهما، لكن لم يخفى عليه قلقهما من هذه الزيجة.
حين قرر الارتباط بِنَدى، كانت والدته سعيدة لأنه بدء يفكر في الاستقرار وبناء عائلة.
لكن انتظارها طال مع تردد ندى وتأجيلها المستمر للارتباط الرسمي حتى تستقر ظروفها...
ورويدا رويدا، أصاب والديه الملل والفتور، وأخذا يبحثان له عن زوجة أخرى... لم يكونا يدركان أنه يريد ندى لذاتها، ولا يريد زوجة غيرها.
انتظرها بكل صبر وسعة صدر، وساندها في كل مراحل جهادها لتستعيد حياتها وتقر عينها بإسلام أفراد عائلتها.
والآن، الا يستحق أن يحقق حلمه ببناء بيت سعيد هو الآخر؟
دخل غرفته وتمدد على السرير. فليحاوال أن يستمتع باللحظة الراهنة وايترك أية وساوس تفسد عليه فرحة اليوم.
سيقوم بتحديد موعد الزفاف، ويعد للعرس الذي تخيله وخطط له مرارا وتكرارا على مدى السنوات الماضية.
ستكون ندى اجمل عروس كما تخيلها منذ زمن بعيد. بعيد جدا...
اغمض عينيه ورحلت أفكاره إلى تلك الأيام القصية...
كم تمنى ان يكون إسلامها على يديه وبفضله، لما كان عرف الخوف والقلق وهو يرى الامتنان يملأ خلجاتها كل ما تحدثت عن أحمد.
كم تمنى أن يكون من يتخذ الخطوة الأولى في اتجاهها
لكن احمد سبقه وفعل كل ما لم يقدر هو على فعله.
لشدما كان يحسده على شجاعته وصلابة موقفه
كيف واجه نظرات عائلته وأصدقائه وكل معارفه المستنكرة وهو يقدم على خطبة فتاة يهودية
أما هو فقد كان ممن حاولو إثناءه عن عزمه، رغم إعجابه بها... ورغم رغبته في أن يكون مكانه.
كان هو أول من تحدث إليها، شدته جرأتها وقوة شخصيتها.
لكنه توقف عند ذلك الحد.
لم يكن يملك إيمان احمد وعزيمته.
فتركه يشق طريقه إليها، يأخذ بيدها، ويقودها إلى الضفة الأخرى.
لكن احمد لم يكن هناك ليقطف ثمار ما زرعه في قلبها...
ولم يكن بإمكانه هو أن يفرط في الفرصة مرة أخرى، وقد أصبحت الثمرة ناضجة جذابة أمام عينيه.
لا يمكنه أن يتركها الآن.
نهض من مرقده وفتح درج مكتبه السفلي. كانت هناك محفظة قديمة يحتفظ بها منذ سنوات.
كانت لا تزال تحوي بطاقاته القديمة، منذ أيام الجامعة، وبعض قصاصات الجرائد التي كان يجمعها.
تنقلت أصابعه بينها، ثم أخرج من بين طياتها صورة قديمة مهترئة، لكنها كانت أغلى ما يملك في ذلك الوقت.
صورة طريفة لبعض إخوانه المقربين.
كان يقف مبتسما برفقة ايهم وأحمد وهم يتعانقون في حماس وَوُد.
هي الأخرى تحمل آثار التعذيب الذي ترك بصماته في أنحاء جسده.
تمزق جزء منها في أثناء عملية التفتيش القاسية... الجزء الذي يحمل وجه ندى.

كان أحمد يذرع الغرفة جيئة وذهابا في نفاد صبر.
كان لقاؤه يوم أمس بِنَدى عجيبا
انفرد بنفسه بعد مغادرتها، وأخذ يسترجع كل كلمة من كلماتها، ويربطها بصور رسمتها في ذهنه رسائلها.
كان سعيدا لأنه وجدها... رغم أنه لا يذكرها بعد، إلا أن وجودها في حياته اسبغ عليها ألوانا إضافية.
هي تلك الألوان التي يراها بين عينيه الآن وهو يفكر فيها.
إنها خطيبته. أليس من حقه أن يفكر فيها؟، لكن تأقلمه كان سريعا بصفة مدهشة.
لم تكن موجودة بالأمس.
كانت مجرد فكرة، صوَّرتها في عقله تلك الرسائل.
لكنها سرعان ما اتخذت شَكْلا حقيقيا ملموسا، وأصبحت واقعا بالنسبة إليه.
رغم حداثة هذا الواقع، إلا أنه يجده مألوفا... ومريحا
تأفف في ملل وهو يلقي بجسده على السرير.
لماذا لم تصل بعد؟، قالت إنها ستعود بعد جلسة البارحة.
قالت إنها ستحدثه عن كل شيء بالتفصيل الممل.
قضى معها ساعتين كاملتين، حاولت خلالهما أن تسرد على مسامعه مختلف المواقف التي جمعتهما في الماضي.
أنْصت إليها بانتباه واهتمام. لكن اهتمامه كان منصبا على شخصها أكثر من أية تفاصيل أخرى تَرِدُه.
يريد وبشدة أن يسترجع ماضيهما المشترك...
لم يكن ينقصه غير ذلك حتى يستعيد نفسه بالكامل.
لا شك أنها تحمل كل مفاتيح ذاكرته المفقودة.
كان يطالع الساعة بين الفينة والأخرى، ثم يحاول أن يُلهي نفسه بأي شيء.
فتح كُتُبَا عديدة، ثم أغلق كُلُا منها دون أن يفقه حرفا واحدا مما قرأ.
ليس في مزاج يسمح له بالقراءة، تَأَخُرها يجعله يفقد السيطرة على أعصابه دون وعي منه.
الن تأتي؟، ماذا لو غيرت رأيها؟
لا يدري لماذا تلح عليه هذه الهواجس.
لقد جاءت خصيصا من تونس لِلِقائه.
قطعت المسافة كلها حتى قانا لتراه... فما الذي يجعلها تختفي فجأة؟
هدأته هذه الأفكار. لا شك أنها سَتَصِل قريبا... لا داعي لكل هذا القلق.
لماذا يدق قلبه بسرعة جنونية؟، لماذا يخشى فقدانها لهذه الدرجة؟، ما الذي يدور في رأسك بالضبط يا أحمد؟
تعالت طرقات خفيفة على باب غرفته، فهب مسرعا وعلى وجهه علامات التحفز.
كانت سماح تحمل إليه كأسا من الشاي.
فوجئت وهي تراه بتلك العصبية.
تراجع خطوات إلى الوراء لِيُفسح لها المجال، فتقدمت لتضع الطبق على المكتب، ثم بادرته في تساؤل:
-ما بك يا احمد؟، لا تبدو طبيعيا...
تنهد وهو يجلس على طرف السرير محاولا الاسترخاء:
- لا شيء... لا شيء... فقط بعض الضغط النفسي...
ثم واصل مبتسما:
- جاء الشاي في الوقت المناسب.
عقدت سماح ذراعيها أمام صدرها وهي تقول في عتاب:
رأيت أنك لا ترغب في مشاركتنا السمر في غرفة الجلوس، فأحضرت كأسك إلى غرفتك.
ابتسم مترفقا وهو يقول:
ليس الأمر كذلك... لكنني أردت أن أنفرد بنفسي لبعض الوقت
أحتاج للتفكير في بعض الأمور، قبل أن أستعيد نشاطي بالكامل...
تناهى إلى مسامعهما صوت إغلاق الباب الخارجي، فتنبهت حواس احمد ولبث للحظات مترقبا
لكن طال انتظاره دون أن يسمع أصوات بعض الزوار في الممر.
علقت سماح موضحة:
هذا أبي قد انصرف إلى جلسته الأسبوعية في مقهى الحي... ألا تذكر؟، هز رأسه في خيبة:
آه، نعم... صحيح...
تأملته سماح في قلق. بوسعها أن تخمن سبب خيبته وترقُّبه.
طالعت الساعة بدورها. هل تراها تعود اليوم؟، تنهدت بصوت مسموع، ثم اتجهت إلى باب الغرفة:
صوت الآمومة يناديني، علي أن أهتم بصغيرتي بعض الشيء.
فلست وحدك من يحتاج الرعاية...
قالت ذلك مُتَصَنِعَة المرح، ثم ابتسمت متابعة:
- سأكون في الجوار إن احتجتَني...
تابعها بابتسامة ممتنة. ثم استلقى مجددا على السرير... يقتله الملل.

هل كان عليها أن تذهب إليه اليوم؟، جلست على عتبة الباب الداخلي تطالع الممر المفروش بالحصى الذي يفصلها عن بوابة الحديقة.
منذ ست سنوات، رأته هناك عند بابها، للمرة الأولى...
ثم ودعته وهي لا ترجو لقاءا جديدا.
كانت تعيش تلك اللحظات من جديد وهي تُحَدِثُه بكل تفاصيلها طوال جلسة الأمس.
كانت تعيشها حقا...
خَفَقات قلبها، العبرات في عينيها، الحمرة في وجنتيها، إرتجاف أناملها، كلها كانت تنطق بحياة تلك الذكريات فيها,
حلقت معه عبر أحداث الماضي لمدة ساعتين. لمدة ساعتين نسيت نفسها، نسيت حاضرها، نسيت كل شيء يرتبط بواقعها
لكن ريحا قوية صفعتها وهزتها من الأعماق، حين رأت حسان يقف في الخارج... ينتظرها.
انتظرها طويلا، وما زال.
ألم يئن لانتظاره أن ينتهي؟

كانت قد وعدت أحمد بالعودة اليوم، لتواصل معه الرحلة عبر محطات ماضيهما المشترك.
لكنها مذ غادرت منزله البارحة وهي في صراع نفسي مستمر, ما كانت تلك الأحاسيس التي غمرتها وهي تحدث أحمد؟
الم تكن خيانة؟، آلمتها الكلمة مجددا.
أحمد وكل الذكريات التي جمعتها به يجب أن تبقى جزءا من الماضي.
سيكون كل شيء على ما يرام طالما تحبسها في ركن بعيد، بعيدا عن الشرايين التي تضخ الدماء لقلبها.
لكن أن تعيش نفس الأحاسيس من جديد، فذلك الخطء بعينه.
حاولت بعض الأفكار أن تسيطر على عقلها الواعي:
إنها تقوم بعمل نبيل، تحاول مساعدته على استرجاع ذاكرته
حين قررت السفر إليه، كانت تظنه فاقدا لللذاكرة تماما.
لكنها اكتشفت حال وصولها أن وضعه تطور واسترجع قسما كبيرا من ذكرياته.
كل ما يفقده الآن هو الذكريات التي تخصها هي... لسبب تجهله.
لكن أليس من الأفضل أن ينساها تماما وإلى الأبد؟، ماذا يفيده تذكرها ؟
اليس من الأولى أن تساعده على بناء حياة جديدة لا وجود لِندى فيها... لأنها ببساطة لم تعد فيها.
تنهدت في حرقة. يكفي إلى هذا الحد. عليها أن تتراجع قبل أن تسقط في هُّوة لا قرار لها، وتفقد أغلى ما تملك...
احترامها لنفسها.
كانت الشمس قد مالت للمغيب منذ دقائق، واكتست السماء حمرة خفيفة تمهيدا للسواد القادم.
ياه، أخذتها أفكارها وسهت عن صلاة المغرب.
توقفت من مجلسها وسارت بخطوات وإيدة باتجاه غرفتها المظلمة.
بدا المنزل كئيبا في غياب ساكنيه.
من الغد ستتصل بوالدتها تعلمها بقرارها بتعجيل الزواج. ثم ستهتم بكل الترتيبات اللازمة...
ستشغل نفسها بالتخطيط لحياتها المستقبلية، ولن تفكر مجددا في احمد.
قاطع أفكارها رنين الهاتف في الصالة. من يكون المتصل في مثل هذا الوقت؟
ربما كانت سونيا تريد الاطمئنان لحالها في وحدتها.
فوجئت حين وصلها صوت سماح المتردد:
-كيف حالك؟
كان عليها ان تتوقع اتصالها. غيابها دون تبرير سيجعلهم يقلقون بالتأكيد-
كان علي أن اتصل وأعتذر...
لا بأس، المهم انك بخير...
حاولت أن تكون أكثر وضوحا:
اعتذاري لا يخص زيارة اليوم فقط... لم يعد بإمكاني ان التقي أخاك مجددا.
لم تستطع أن تنطق اسمه. بادرت سماح بسرعة:
هل انزعج حسان من زيارتك البارحة؟، لمحت سيارته في شارعنا.
قاطعتها ندى مؤكدة:
لا علاقة لحسان بالأمر، القرار نابع مني أنا
لقد فكرت كثيرا، ووجدت أنه لا فائدة من المحاولة...
قالت سماح بسرعة:
-بالعكس! أحمد استجاب بصفة كبيرة لجلسة البارحة، ولبث ينتظرك طوال النهار...
عصرت عينيها بقوة لتمنع العبرات من التسلل. هذا ما كانت تخشاه.
سماح، ما قصدته هو أنه لا فائدة من استرجاعه للذكريات التي تخصني، لا حاجة له لي بعد الآن.
من الأفضل لكلينا أن ننسى الماضي الذي جمعنا ، لأن علينا تخطيه بعد شهر واحد من الآن!
ساد الصمت لبضع ثوان، ريثما استوعبت سماح كلماتها .
تمتمت في عدم تصديق:
ستتزوجين؟
لم يكن الخبر جديدا عليها . خطبتها طالت، والزواج كان واردا بين لحظة وأخرى.
لكنها كانت تأمل في انقلاب الموازين.
لطالما رأتها كخطيبة أخيها، حتى بعد اختفائه.
كانت من شجعها على قبول الارتباط بحسان، وساندتها حتى تتجاوز ألم فقدان أحمد وتبدأ مشوارا جديدا.
وليست نادمة على ذلك.
لكن وهي ترى اليوم اللهفة والترقب على وجه أخيها، وهي تلمس التأثر في صوت ندى، راودها أمل بأن تعود الأمور مثل السابق... بأن تعود ندى إلى احمد وأحمد إلى ندى.
نعم، قررنا إتمام الزواج الشهر المقبل...
همست في محاولة يائسة:
ماذا أقول لأحمد؟، إنه لا يزال ينتظرك...
أجابت في صرامة مصطنعة:
- قولي إنني سافرت... على أية حال، سأعود بعد يومين إلى تونس.
قررت السفر فجأة. خافت إن هي بقيت هناك، قريبة منه، أن تضعف وتنهدم كل ما بنته من حدود بينهما
وضعت السماعة وتنهدت بقوة.
الصلاة، الصلاة قبل ان تفوت.
حثت الخطى إلى غرفتها وكل خلاياها تهتف بصوت واحد، ضعيف مختنق :
ياااارب

ماذا بعد لقائك بها؟، هل تذكرت شيئا؟
لست أدري يا دكتور... بعد أن رأيت صورها ، ثم بعد أن التقيتها، أصبحت أرى صورا لها في ذهني.
لست أدري إن كانت ذكريات أو مزيجا من خيالات ناتجة عما قرأته من رسائلها، وما روَته لي من أحداث جمعتنا
هل من شيء يميز هذه الصور؟، هل تجد لها صدى معينا في نفسك؟
ركز أحمد للحظات محاولا التذكر، وبعد صمت قصير تكلم ببطء، كأنه يصف مشهدا يراه أمام عينيه:
في الصور التي أراها، شكلها يختلف عن صور حفل الخطبة، وهي الصور الوحيدة التي رأيتها لها
ترتدي ملابس عادية، تختلف عن الملابس التي ترتديها اليوم.
أقصد إنها ملابس تخص اليهود أكثر من المسلمين، مع أنها تغطي رأسها أيضا...
تردد قبل أن يستطرد
هناك صورة محددة، أجدها تعاودني بكثرة...
أراها مبتسمة... وأرى خلفية مخْضََرة، كأنها تقف في الضيعة... قرب المنزل الريفي...
ربما ترى تلك الخلفية لأن ظهورها في حياتك ارتبط بالضيعة... رسائلها كانت هناك...
لكن احمد تابع في إصرار:
الغريب في الأمر هو أن الصورة تظهر في ذهني ثابتة. ليست ذكريات بالمعنى الصحيح، ولا تهيؤات...
فكلها في الغالب ترتبط بأحداث، حركات، أصوات.
لكن هذه الصورة، لا حياة فيها... كأنها صورة شمسية !
رفع الطبيب رأسه إليه في اهتمام، بعد أن دون كل كلمة قالها :
ماذا أيضا؟، هل ترى أي شيء آخر؟
بقية الصور متداخلة وغير واضحة الملامح...
من العجيب أنني لا أجد صعوبة في وصف هذه الصورة بمنتهى الدقة
ما رأيك يا دكتور؟
ابتسم الطبيب مطمئنا:
لا يمكننا الجزم بعد... لكن التطور يبشر بكل خير.
والآن، هلا استرحت قليلا ريثما أتحدث إلى والديك؟
نهض أحمد متثاقلا، وتمدد على السرير كالعادة.
لم يكن مزاجه جيدا اليوم. مستاء وعصبي.
لَوْلَا حاجته لاسترجاع ذكرياته المفقودة لما كلف نفسه عناء المجيء إلى جلسة العلاج هذه...
ربما يمكن للطبيب أن يساعده في ظل غياب ندى المفاجئ.
لماذا لم تأت؟، لماذا لم تأت؟ سؤال يلح عليه منذ البارحة.
لماذا أخلفت بوعدها وتركته ينتظر؟، هل غيرت رأيها لأنه لم يتمكن من تذكرها؟، هل تراجعت بمثل هذه السهولة؟
ربما لم تجده كما توقعت... ربما تغير في نظرها بعد طول الغياب.
ربما لم تجد في نفسها المشاعر القديمة فَآثرت الانسحاب.
ربما، ربما، ربما...
لا يملك إلا تعديد الاحتمالات وتخيل الخيارات.
لم ينجح في إيقاف أفكاره تلك وصنع الفراغ التام في رأسه كما طلب منه الطبيب.
حاول تنفيذ خطة التنفس المحكم، لكنه كان يخطئ في العد بسهولة، ويشرد نحو آفاق أخرى

في الغرفة المجاورة، طلب الطبيب دخول والديه ليحادثهما على انفراد.
بادره أبو أحمد بسرعة:
طمإنا، كيف حاله يا دكتور
ابتسم الطبيب وهو يقول في ارتياح:
صحته العقلية والنفسية على أحسن ما يرام، فقد تأكد لدي أنه استرجع هويته وكل مداركه ولا خوفا عليه بعد الآن...
حتى القسم المفقود من ذكرياته، فيمكنه أن يعيش حياة طبيعية دون أن يشكل ذلك خللا في نشاطاته وعلاقاته بصفة عامة...
عدا الأشخاص القليلين الذين سقطوا من ذاكرته.
سألته الخالة سعاد:
وماذا عن الصدمة النفسية التي تعرض لها؟
تنهد الطبيب وهو يضيف شارحا:
سأكون صريحا معكم... اكتشاف أسباب الصدمة وملابساتها قد يكون مصدر ألم كبير بالنسبة إليه.
لكنه في نفس الوقت سيمكنه من تجاوزها تدريجيا بِوَعْي كامل، ومن التعامل بصفة مناسبة مع كل العوامل المرتبطة بها...
لذلك فمن المهم أن ينكشف الحجاب عن هذه الحادثة، وأرى أنه متشبث بتذكر كل شيء، ومجيئه الي^ هو دليل قاطع على رغبته هذه...
تدخل أبو أحمد في قلق:
وماذا لو صدم مرة أخرى حين يتذكر ما حصل معه مهما كان؟، هل سيفقد الذاكرة مجددا؟
قال الطبيب مطمئنا:
- سبق لأحمد أن فقد الذاكرة جراء حادثة معينة...
بمعنى أن عقله اللا واعي سبق له وأن تعامل معها، فجعلها تختفي من وعيه وامتص معها كل التأسيرات
لذلك فإن الكشف عن هذه الحادثة لن يؤثر في لا وعيه هذه المرة، بل سيتم إيصالها مباشرة إلى العقل الواعي...
وَنَتَائجها، مَهما بلغت من الألم، لن تصل إلى فقدان الذاكرة مرة أخرى.
اردف بعد صمت قصير:
- والآن، أخبراني... هل سبق لخطيبته أن ذهبت إلى الضيعة؟
أجابت الخالة سعاد:
نعم، عدة مَرَّات...
كنا نجتمع هناك بضع مرات في السنة، مع عدد من أفراد العائلة والأصدقاء...
وكانت ندى وعائلتها من المدعوين في كل مرة...
طيب، وهل كنتم تلتقطون صورا في هذه اللقاءات؟، هل تحتفظون ببعض التذكارات عنها؟
فكرت للحظات في شك:
-لا أعتقد. ليس على حد علمي...
قاطعها أبو أحمد مذكرا:
نعم، في إحدى المرات، أحضر صديق أحمد، حسان، ألة تصوير قديمة... والتقط بعض الصور مع الأولاد...
شجعه الطبيب في اهتمام:
هل كانت ندى تظهر في إحدى هذه الصور؟، هل تحتفظون ببعضها؟
لا أعتقد. لم أرى أيا منها على أية حال.
بعد ذلك بفترة وجيزة وقع حسان في الأسر. ولم أسمع أحدا يذكر تلك الصور منذ ذلك الحين...
حسنا، إن توصلتم إلى شيء بشأنها فلا تترددوا في إعلامي...

كانت تجمع حاجياتها في ملل وتثاقل.
لم تدم إقامتها في قانا سوى يومين اثنين، وها هي ستسافر مرة أخرى.
اتصل بها حسان منذ قليل وأعلمته بما عزمت عليه.
بدا متفاجئا من رغبتها في السفر كان يريد الحديث في تفاصيل الاستعدادات للحفل، لكنها طلبت منه أن يؤجل كل التحضيرات ريثما تعود من تونس برفقة والدتها.
لم يكن لديها الكثير من الأغراض لتجمعها ، فشغلت نفسها بمسح الغبار عن أثاث البيت وترتيب المفارش... تفعل أي شيء حتى لا تنفرد بها افكارها المتمردة.
لم تجد حجزا اليوم، لذلك عليها انتظار رحلة الغد. ولشد ما يرهقها الانتظار,
ارتفع رنين الهاتف مرة أخرى.
سارت إليه بلا رغبة وتناولت السماعة.
لكن ما إن جاءها الصوت المليء بالحيوية من الطرف الآخر، حتى هتفت في سعادة:
سارا غير معقول!
كم كانت سعيدة بسماع صوت تلك الفتاة التي غَدَت من أحب الأشخاص إلى قلبها.
كيف حياتك في أمريكا؟، حدثيني بكل التفاصيل...
استمعت إليها وهي تقص عليها طرائف متنوعة عن حياتها الجديدة. كانت في حاجة لاستعارة بعض حماسها لتقوى الفتور الذي غلب عليها في الأيام الماضية.
بادرتها سارا في فضول:
وأنت؟ ما جديدك؟
ابتسمت وحاولت أن تبث الخبر بشيء من الفرح:
سأتزوج الشهر المقبل!
تعالى صراخ سارا من الجانب الآخر وهي تقول في سعادة:
مبارك عزيزتي... تهانيَّ القلبية
-شكرا لك...
تمنت لو تسري إليها عدوى السعادة، لكن البرود الذي أحسته جعلها تختنق، فخرجت عبارات شكرها فاترة بلا روح
ساد صمت قصير قبل أن تسألها سارا في قلق:
- ما الأمر يا ندى؟، لا تبدين سعيدة بزواجك؟
هل اختلفت مع عائلة حسان بشأن تفاصيل الحفل؟
لم يعد بإمكانها ان تتوارى خلف ابتسامة مصطنعة وسعادة مختلقة.
ترددت قليلا.
هل تحدثها بكل شيء؟، ربما كانت بحاجة إلى مشورة شخص ما.
إلى نصيحة قد تساعدها على اتخاذ قرارها. لكن سارا فتاة صغيرة
صغيرة السن ربما، لكنها ناضجة بما فيه الكفاية لتستمع إليها.
قد لا تفيدها كثيرا، لكنها بفضفضتها ستخفف من الحمل الذي يرزح تحت غصتها
قالت بصوت مرتجف
تذكرين الشخص الذي حدثتك عنه؟، الشاب الذي اختفى خلال أحداث التحرير سنة ألفين,,.
خطيبك السابق؟، نعم...
ثم اضافت في توتر:
-لقد عاد ...
شهقت سارا من الدهشة، لكنها لم تعلق.
تركتها تواصل حتى يكتمل فهمها لما يحصل.
لكنه عاد فاقدا للذاكرة. أقصد كان فاقدا للذاكرة كليا، لكنه الآن استرجع جل ذكرياته... ما عدا تلك التي تخصني
أصغت إليها سارا في اهتمام وَدَهْشَة متزايدين، ثم همست في تفهم:
-لا شك أن ذلك آلمك...
اعترفت ندى دون مواربة:
- كثيرا... ورغم ذلك فإنني أفكر فيه كثيرا هؤخرا.
لا أستطيع تناسي وجوده، حتى إن كان لا يَذْكُرُني...
تركت تنهيدة طويلة تخرج من صدرها، وتحمل معها أكواما من الآهات.
قالت سارا في حزم:
ندى عزيزتي... إن كنت قد قررت الزواج، فيجب ان تكوني سعيدة بقرارك.
هذا مستقبلك، وهذا مشروع حياتك. لا تتهاوني بشأنه.
إن كنت ترين من الأفضل نسيان خطيبك السابق والمواصلة مع حسان، فكوني سعيدة بذلك.
إن لم تجدي السعادة في هذا القرار، فذلك يعني أنه القرار الخطأ!
ربما ليس قرارا خاطئا بالكلية، لكنه ليس مناسبا لك في الوقت الحالي.
أعطي نفسك المزيد من الوقت، حتى تتأكدي من الطريق التي فيها سعادتك.
لا تتسرعي في القرار لمجرد الهرب... قاطعتها في اضطراب:
لكن حسان ينتظرني منذ زمن طويل.
ليس من العدل أن أتركه ينتظر أكثر، بدعوى أنني لم أعُد متأكدة من قرار الارتباط!
لو رأيت مدى سعادته حين وافقت على طلبه...
صدقيني، سيشكرك اكثر إن رحمتيه من هذا الزواج المبنَيّ على مشاعر المسؤولية والواجب أكثر منها على الاقتناع والحب.
هل سيكون سعيدا بعد شهر او شهرين من الزواج، حين يجد أنَكي لا تزالين تنظُرين إلى الخلف، وتتحسرين على قرار تسرعت في اتخاذه؟
لن يكون أحدكما سعيدا بذلك!
صمتت ندى متفكرة.
سارا ، أنت على حق.
لَكنني لا استطيع اتخاذ مثل هذا القرار.
لا يمكنني ان اخذل الشخص الذي وقف معي كل هذا الوقت, كيف سأواجهه وأواجه نفسي؟
واصلت سارا محاولة إقناعها :
لا تفكري في النتائج الفورية...
انظري إلى المدى البعيد, إنه مستقبل حياة، ولا مكان فيه لقرار وليد اللحظة.
اهتمي أكثر بالتخطيط لسعادتك.
تمتمت في تلعثم:
لكن...
لكن أحمد لا يذكرني حتى؛
أنا لم أقُل تزوجي أحمد.
قلت تريثي. إنتظري استقرار حالتك وحالته.
ربما تذكرك بعد أيام قليلة... وربما وجدت نفسك مع مرور الأيام أكثر اقتناعا بحسان
فأحمد قد يكون تغير أيضا في السنوات الماضية ولم يعد الشخص الذي يناسبك...
ألست أنت مَن علمنِي الاستخارة؟، استخيري الله في أمرك،
وسييسر لكي أمرك إن شاء الله...
احست بارتياح غريب وهي تنهي المكالمة.
تلك الفتاة الصغيرة تدهشها بحكمتها في كل مرة.
كيف سهت عن صلاة الاستخارة؟
صلت ركعتين، ودعت بقلب خاشع. سألت الله أن يبين لها الطريق الصواب.
ثم غَفَت على سجادتها، وفي نفسها أمل وليد.

جلس أحمد إلى مكتبه، وقد وضع أمامه كل البومات الصور التي وجدها في البيت, حديثه مع الطبيب جعله يميل إلى فرضية الصورة الشمسية.
أخذ يبحث بتأن في كل صور العائلة عن وجهها.
لكنه كان واثقا من غيابها فيها حين ألقى نظرة في المرة الأولى.
الصور الوحيدة لها كانت صور حفل الخطبة. فأين رأى تلك الصورة التي تظهر في رأسه، أين؟ توقف_، عند صورة جمعته بعدد من أصدقاء الجامعة.
أصبح بإمكانه الآن ان يذكر اسماءهم واحدا واحدا بسهولة ويسر, حاول أن يرسم حدنأ أو مشهدا على كل وجه، ليتأكد من أنه يذكره جيدا.
كان يتمهل وهو يمر بوجه مألوف.
حاول ان يتذكر موقفا جمعه به، لكن الموقفا الأقدم الذي يتبادر إلى ذهنه هو المجلس الذي جمعه بعدد من أصدقئه بعد عودته من الخيام.
عقد حاجبيه في تفكير.
حسان,, كان يتردد عليه كثيرا في الأيام الماضية. تصرفاته توحي بأن العلاقة التي جمعتهما في الماضي كانت متينة.
فلماذا لا يذكر شيئا عنه؟، عقد حاجبيه في تفكير.
لماذا لا يذكر شيئا عن هذين الشخصين الذين كانا حاضرين جدا في ماضيه؟
ندى, وحسان.
راوده إحساس غريب، فوقف من فوره وتوجه إلى غرفة سماح.
كان بابها مفتوحا, رآها منكبة على جمع حقائبها, رمقها باستنكار وتساءل:
-ماذا تفعلين؟
ابتسمت وهي تقطح حركتها لتواجهه:
أعود إلى بيت زوجي.
أم تراك نسيت أنني تزوجت؟، يكفي ما أهملت المسكين لأهتم برعايتك
والآن، بما أنك تعافيت كما يقول الطبيب، فعلي أن أنظر في بقية مسؤولياتي...
ابتسم متفهما.
رأى صور زفافها ضمن صور العائلة.
لم يحضر هذا الحدث السعيد. لكنه لا يلومها لأنها لم تنتظر عودته...
لم تكن أكيدة على أية حال.
قال وقد تذكر ما جاؤ من أجله:
كنت أريد أن أسألك...
قاطعته في ألم:
عن ندى... أليس كذلك؟
بدا أن لديها ما تحدثه به، لذلك تركها تواصل في اهتمام.
كانت قد أجلت حديثها على قدر المستطاع، ريثما تجد الكلمات المناسبة لتفسر بها وضعية ندى الجديدة التي يجهلها.
عزيزي... في غيابك حصلت أشياء كثيرة. وتلك هي سنة الحياة. وندى أيضا تغيرت أشياء كثيرة في حياتها.
لا شك أنك قد قرأت في رسائلها عما عانته من عائلتها بعد إسلامها, عن طردها وعن تشردها، ثم رحيلها إلى تونس عند بعض اقاربها...
كانت فترة صعبة.
كلنا وقفنا إلى جانبها وساندناها، لكننا لم نكن عائلتها...
وهي كانت في حاجة إلى عائلة تحميها...
أنصت إليها في انتباه وترقب، ودقات قلبه تتسارع مع كلماتها.
واصلت: في ذلك الوقت ، تقدم إليها شاب مسلم على خلق,,.
كان يريد أن يحميها ويحتويها حتى لا تضطر إلى الارتداد عن دينها...
قاطعها بصوت مفجوع:
أتزوجت؟
ليس بعد... لكنها ارتبطت بهذا الشاب منذ زمن، وقد تقرر تاريخ زواجهما.
لذلك فإنها ترجو منك ان تنسى ما عرفته عنها، ولا تحاول أن تتذكر علاقتكما الماضية...
فذلك سيكون أفضل لك ولهى
قال بصوت متقطع، ارتجفت منه أوصال سماح:
-من يكون زوجها؟
تمتمت في وجل:
حسان
هل كان يتوقع ذلك الاسم؟، شيء ما بداخله كان يعرف الحقيقة.
ومضت تلك الصورة في رأسه من جديد.
صورة شمسية تحمل وجهها. ورسمه في مخيلته في نفس الوقت.
, حسان. . حسان.
اختلط الصراخ بضحكات غريبة, مكان مقفر، اشخاص يركضون في جميع الاتجاهات. غبار متعال، وشخص يقف أمامه وبيده الصورة.
مزيج غريب من المشاهد المتداخلة.
ندى... وحسان. حسان... وندى. أحس بصداع شديد يداهمه.
أغمض عينيه وهو يحس بدوار مصحوب بغثيان.
ركض إلى دورة المياه ليتقيأ.
كان صوت سماح يتبعه عن قرب.
يسمع هُتَافِها:
- أحمد... أنت بخير؟، أحمد أجبُنَيّ !
ندا
تنفس بعمق بعد أن استفرغ.
يحس بإجهاد بَدني شديد .
متعب. متعب من رحلته الطويلة تلك.

الناس يركضون في جميع الاتجاهات بلا تمييز.
يتدافعون ويتعثر بعضهم ببعض،
ومن حين لآخر يأخذهم الحماس فتعلو الهتافات: الله أكبر الله أكبر...
شق أحمد طريقه عبر الأمواج البشرية المتلاطمة وهو يصرخ بأعلى صوته:
- حسان، حسان، أين أنت؟
كان صوته يضيع وسط الضوضاء العامة، ليصبح واحدا من مئات النداءات التي يبتلعها الزحام.
لكنه كان مصمما على إيجاد صديقه ورفيق عمره.
لا شك انه هنا في هذه الساحة، بين المعتقلين الذين تم الإفراج عنهم بعد تحطيم باب المعتقل.
بحث عن وجوه يعرفها... قد يكون أحد الرفاق قد وصل إليه قبله.
افترق عنهم حال وصوله إلى التجمع الكبير أسفل التلَّة.
أعداد كبيرة من البشر كانت تعسكر هناك، ولم يكن من السهل الحفاظ على الصفوف منظمة.
كان يسير على غير وجهة، يحاول إيجاد طريق إلى بوابة السجن الرئيسية.
وبعد طول مشقة، تمكن من العبور ليصل إلى باحة المعتقل.
كانت الأبواب جميعها محطمة، وقد اشتعلت النيران في بعض الزنازين الخالية.
لم يبقى الكثيرون بالداخل، فالأحداث المهمة كانت في الخارج، حيث أُحِيط كل مُحَرَّر بأحبابه بعد طول غياب.
كان هناك بعض الفضوليين الذين لم يكن لديهم اهتمام شخصي بلقاء السجناء السابقين، بقدر ما شغفوا باكتشاف داخل غرف السجن التي فُتِحَت للمرة الأولى للعموم.
انهمك بعضهم في البحث عن اشياء ذات قيمة، قد يكون خلفها حراس السجن أو المعتقلين خلفهم.
رأى مجموعة من الشباب يقفون على مقربة من القسم الإداري، فاقترب منهم عَلَّهُ يجد عندهم بعض الإجابات.
كانت أصواتهم تزداد وضوحا مع كل خطوة يتقدمها
- أليست جميلة؟
بلى... مليحة...
-أين وجدتها؟
كانت مع أحد المساجين، لا يتركها أبدا، يطالعها أناء الليل وأطراف النهار...
لا شك أنه فقدها أثناء فراره.
ضحك آخر وهو يتقدم ليلقي نظرة على الصورة التي اجتمعوا حولها.
لا حاجة له في الصورة، ما دام سيعُد ليجد الأصل ينتظره!
علق آخر مشككا:
لكنها يهودية، ألا ترى غطاء رأسها؟، قال الأول في استهانة:
قد تكون حبيبته او خليلته... وفي ذلك لا تختلف اليهودية عن غيرها من النساء
لو رأيته كيف يطالعها، أُقسم أنه واقع في غرامها حتى النُخاع!
سأله أحدهم مستنكرا :
بالله عليكم، كيف يلتقي حب النساء بالجهاد في سبيل الله؟، هل أنت متأكد من أنه من مساجين المقاومة؟
أطلق آخر صفيرا طويلا ثم تكلم بِثقة:
إسمع... هنالك من يقاوم لإيمان في قلبه، وهنالك من يندفع سأرا من حياته.
سَلْني أنا، أعرف الكثيرين من الصنف الثاني.
ثم يا أخي، المقاومة شيء والعاطفة شيء آخر
ليسوا ملائكة. الرجل منَّا يقاتل في ساحة المعركه بقلب من حديد. لكن حين يعود إلى دياره، يعيش حياته !
ثم، ألا تدري ما الذي تفعله الوحدة في السجن بالشباب؟، إنها خير مذكٍ للغرائز الحيوانية،
وفي ذلك لا يختلف الذاهد والفاسق!
كان أحمد قد اقترب منهم بقدر كافٍ.
كان يستمع إلى كل كلمة يقولونها في انتباه وقد أثار فضوله حديثهم عن الفتاة اليهودية.
كان يحسب نفسه المسلم الوحيد الذي تعلق بفتاة يهودية، لذلك شدته القصة.
أراد أن يلقي نظرة على الصورة...
لا يدري لماذا ساورته رغبة في رؤية وجهها.
ربما ليتأكد من خطأ الإحساس الغريب بالخطر الذي راوده في تلك اللحظة
ويتثَبَت من كونها فتاة أخرى، مختلفة.
لكن نظرة واحدة، كانت كافية لتفقده صوابه.
ما إن وقع بصره على الصورة، حتى أظلمت الدنيا أمام عينيه.
لم تكن الفتاة التي على الصورة غريبة عنه.
نعم، كان يعرفها جيدا...
أكثر مما كان يتوقع، كانت صورة ندى نفسها...
صورة خطيبته ندى.
كيف وصلت إلى أيديهم؟، ما الذي جاء بصورتها إلى هذا المكان؟، ومن ذا السجين الذي يتحدثون عنه؟، ما علاقته بِنَدى؟
كانت في رأسه إجابة واحدة، لم يكن هناك احتمال آخر...
اِنْقَض على الصورة لِيُخَلِّصها من بين أيديهم، ثم هجم على الرجل الذي رآه يقود الحديث وقد سيطر عليه الغضب وغيب عقله.
شده من لياقة قميصه بقسوة وهو يصرخ بصوت هادر، وعيناه تطلقان شرار مخيفا:
من اين جئت بها؟، تكلم الآن؟
كيف وصلت إليك الصورة؟
تدخل الآخرون الذين فوجئوا بظهوره ليخلصوا رفيقهم من براثنه بسرعة.
تراجع احمد إلى الخلف وهو يلهث بشدة، كل خلاياه تفور من الغضب.
تكلم الرجل بعد تردد:
اسمع يا هذا... لا علاقة لي بالصورة...
وجدتها على الأرض بعد رحيل الجميع...
صرخ فيه في نفاد صبر:
ما اسمه؟، ما اسم ذاك السجين؟، تكلم!
تلفت الرجل حوله في ذعر وهو يحس بالتهديد في صوت أحمد،ثم قال في تلعثم:
لست أدري... لا أذكر...
لكن احمد كان مُنْهارا، كان اسم واحد يتردد في ذهنه طوال الوقت، وكانت تلك الأفكار تُرْهِقُه، تدمره...
حاول أن يتهجم على الرجل من جديد وهو يصرخ في اختناق:
-تكلم... تكلم...
لكن الشباب الحاضرين كبلوه وأبعدوه عن رفيقهم.
ليجد نفسه على الأرض، خائر القوى. تحامل على نفسه بصعوبة. رآهم يبتعدون، يفرون، حتى تلاشوا في الزحام.
كان قد استفرغ كل طاقته، فلم يعد قادرا على الوقوف من وقع الصدمة.
استند إلى الجدار القريب، وخطا بجهد وهو يلهث.
زاغت عيناه وهو يمد بصره باتجاه الجموع التي تموج في الخارج.
لا شك أنه هناك، بينهم.
منذ قليل، كان يبحث عن رفيق عمره الذي اشتاق إلى رؤياه... لكنه الآن يبحث عن غريمه ليقتص منه.
خرج صوته مبحوحا وهو ينادي من جديد:
حسان... أين أنت؟ إظهر أيها الجبان!
سار في جميع الاتجاهات، يجر قدميه جرا .
أصبحت الوجوه تظهر أمامه ضبابية غير واضحة المعالم, تراقصت الصور أمام عينيه، واختلطت الأصوات الخارجية بالأصوات التي تصرخ بداخله، وتملأ رأسه.
لم يدري كم تواصل تَنَقُله العشوأئي بلا هدف،
لكن قَدَمَه ذلت فجأة، أَم تراها الأمواج البشرية دفعت به؟، لا يدري
لكنه شعر بالعالم يتلاعب من حوله مع توقف إحساسه بالأرض الصلبة تحت قدميه، وتهاوى جسده عبر المنحدر الزلق إلى الهاوية.
ارتطم جسده بالحجارة وتعفرت ثيابه بالأتربة مع تدحرجه إلى السفح البعيد.
لا يدري كم دام ذلك الإحساس المقيت الدامي بالعجز، وقد فقد كل سيطرة على جوارحه، التي غمرتها الرضوض والكدمات.
حين سكن جسده اخيرا بلا حراكء، كانت ضوضاء البشر قد أصبحت على بُعد أميال كثيرة منه.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الحادى والثلاثون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية 
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة