-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية أنت لى بقلم منى المرشود - الفصل السادس والستون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي في موقعنا قصص 26 مع روايات رومانسية وإجتماعية ومثيرة مع الفصل السادس والستون من رواية أنت لى بقلم د/ منى المرشود،وهى من الروايات ذات البحث الكثير على مواقع التواصل الإجتماعى 

رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل السادس والستون


اقرأ أيضا: روايات إجتماعية
رواية أنت لي بقلم منى المرشود
رواية أنت لي بقلم منى المرشود

رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل السادس والستون

انتهينا من التسوق, وعدنا نحمل حاجياتنا إلى الشقة. اليوم هو الثلاثون من شعبان وغدا هو أول أيام رمضان المبارك. نحن في موسم الشتاء, وصديقي العزيز يقيم في هذه الشقة الدافئة نسبيا وحيدا, ولا يجد أمامه غير الأطعمة المعلبة يتناولها على الفطور.
وبالرغم من أنني ألح عليه كي يشارك عائلتي موائد الشهر الكريم غير أنه يرفض. صديقي وأعرفه عزّ المعرفة!
"أين أضع هذه؟؟ في المخزن أم الثلاجة؟"
سألته وأنا أمسك بعلبة الزيتون الأسود فتناولها مني وقال:
"هات"
وفتحها وسكب بعض محتوياتها في طبق وقال:
"تفضل... شاركني العشاء الليلة"
ابتسمت وقلت:
"شكرا يا صديقي... أم فادي في انتظاري الآن..."
وتناولت بعض حبات الزيتون على عجل ثم قلت:
"إذن سأذهب الآن... هل تحتاج أي شيء؟؟"
فأجاب:
"ألف شكر"
وتصافحنا وغادرت شقته.
وليد يعمل موظفا في إحدى الشركات ويقيم في هذه الشقة منذ عدة أشهر بعد أن هجر المنزل الكبير الذي كان يقيم فيه وحيدا, واتفق مع عائلته على عرضه للبيع. كانت تلك خطوة مهمة في حياته وأنا من أوحى له بها وشجعه عليها وسهل له العثور على هذه الشقة, إذ أن وليد كان ليصاب بالجنون لو استمر في العيش وحيدا هناك؛ تحيط به أطياف أفراد عائلته... وذكرياتهم المؤلمة...
كان وليد بحاجة إلى مبالغ مادية يسد بها القروض الكبيرة التي كان قد استدانها من مؤسسة البحري ليغطي بها مصاريف سفر شقيقه وإقامته في الخارج...
باع سيارته الجديدة الفخمة, وسيارته القديمة التي علقت في شمال البلد, وكذلك سيارة وشقة أخيه, ومنزل عائلته في الشمال, بالاتفاق والتنسيق مع ذويه... واشترى هذه الشقة وسيارة متواضعة... وينتظر وصول عرض جيد لبيع المنزل ويحصل على نصيبه الشرعي منه فيتحسن وضعه المادي.
هل تتساءلون... عن السيدة أروى البحري؟؟
انفصل عنها بعد عودته من الخارج.
مر وليد بفترة عصيبة للغاية عند عودته للوطن, انفصاله عن خطيبته السابقة, انقطاعه عن العمل, تدهور وضعه المادي, والصحي والنفسي, واستدعائه من قبل السلطات مرات ومرات من أجل التحقيق في قضية اختفاء شقيقه سامر, المطلوب أمنيا.
لقد عاصرته في تلك الفترة.. وحاولنا أنا ووالدي دعمه بأقصى ما كان لدينا.. وكنت كلما زرته في ذلك المنزل رأيت الوجوم يخيم على وجهه.. وكلما حاولت مواساته وتشجيعه انهار وبثني همومه وانخرط يحكي لي ويصف.. كيف حبس شقيقه في هذه الغرفة أو كيف لفه كالجثة في تلك السجادة.. وكيف هاجمه رجال المباحث وأوسعوه ضربا وكيف امتدت أيديهم الخسيسة لتطال ابنة عمه.. وكان.. لا يزال يحتفظ بعكازها وهاتفها المحمول وأشياء كثيرة تخصها رفض التخلص منها...
لم تهدأ الأمور وتتحسن بعض الشيء إلا مؤخرا... ووليد الآن يحاول جاهدا أن يُشفي ويعود للعيش الطبيعي... يحاول أن يملأ حياته ويسد الفراغ الكبير الذي خلفه فراق كل من خطيبته السابقة, وشقيقه, وبالطبع... ابنة عمه.
يقضي أوقاته بين العمل نهارا والدراسة في المعهد ليلا, ونتبادل الزيارات أو نمر ببعض المعارف أو بالنادي الرياضي أو نتنزه عند الشاطئ في بعض أيام العطل. كنت أحاول أن أساعده ما أمكنني... حتى يجتاز الفترة الحرجة من حياته ويبدأ من جديد. ولذا عندما اتصل بي سامر يوم أمس وسألني عن عنوان شقة وليد... توجست خيفة.
أخبرني سامر بأنهم سيحضرون لقضاء شهر رمضان في الوطن... وأنهم يريدون مفاجأة وليد. وليد كان يتحاشى الاتصال بأهله إلا قليلا لأن ذلك يقلب عليه المواجع حسبما يقول. لم أشأ أن أوتّره ولا أن أفسد المفاجأة فكتمت النبأ عنه... لكنني في خشية من أن تعيده هذه الزيارة أدراجه إلى الوراء..
الحرب لم تضع أوزارها بعد لكن الحكومة تبدلت ووضع البلد بشكل عام يسير للأفضل وبعض الأسر المهاجرة عادت إلى الوطن مؤخرا.
حالما وصلت إلى منزلي أخبرتني أم فادي بأن أحدهم قد اتصل قبل قليل يسأل عني وأنه ترك رقم هاتفه لأتصل به في أقرب وقت.
اتصلت بالرقم, فإذا بذلك الشخص هو لاعب كرة القدم الشهير... نوّار!

*********

طبق من الفاصوليا الساخنة... وشريحة لحم مقلية.. مع أصابع البطاطا المقلية... وبعض الخبز والزيتون والتمر!
آه وماذا بعد؟؟
نعم... العصير!
انتهيت من توزيع الأطباق على المائدة المربعة الشكل والصغيرة الحجم, المتربعة في آخر الصالة أمام المطبخ مباشرة, وجلست على أحد المقاعد الأربعة التي تحيط بجوانبها.
هذا جيد الإفطار في غرة الشهر الكريم.. لك الحمد يا رب والشكر...
كنت أشعر بجوع شديد... وأعددت وجبتي هذه على عجل بعد عودتي من المسجد... وما كدت أنطق بالبسملة حتى سمعت قرع الجرس...
"ومن يكون هذا الآن!؟"
استغربت... فأنا لا أتوقع زيارة من أحد وخصوصا في هذه اللحظة... كما وأن الأشخاص الذين يزورونني في شقتي معدودون... ولا أظن أحدهم يهتم لتناول فطور كهذا معي!
قمت عن المائدة وذهبت إلى الباب وسألت:
"من هناك؟؟"
فجاء صوت رجولي يقول:
"هل أنت وليد؟؟ افتح من فضلك"
لم يكن الصوت غريبا... لا ليس غريبا... لكنه صوت لم أسمعه منذ زمن...أنا مشتبه... لا لست أكيدا... من هذا؟؟
"من هناك؟؟"
وجاءني الآن صوت نسائي حاد:
"افتح يا أخي!"
صوت... دانة! صوت دانة؟؟!!
مستحيل!!!
للوهلة الأولى وجمت... تسمرت على موضعي... فأنا لا أريد لحالة الجنون تلك أن تعتريني مجددا... لا أريد أن أعود إلى التهيؤات والتخيلات ...لا ... أبدا...
عاد الصوت النسائي يقول:
"هل أنت وليد شاكر أم ماذا؟؟"
نعم غنه صوت دانة!
فتحت الباب بسرعة غير مصدق... وإذا بي أرى دانة... شقيقتي الوحيدة... تقف بالفعل أمام عيني!!!
"وليد! أخي الحبيب!"
قالت ذلك وارتمت في حضني بقوة وأطبقت عليّ بذراعيها... اندفعت خطوة إلى الوراء وأنا أحملق فيها غير مصدق أنها بالفعل شقيقتي...
"يا شقيقي يا حبيبي كم اشتقت إليك! كل عام وأنت بخير عزيزي"
تقول ذلك وهي لا تزال تطوقني بذراعيها بقوة وتمرغ وجهها في صدري... ابتعدت بعد ذلك لتنظر إلي... فتيقنت بالفعل من أنها... أنها شقيقتي دانة!
"أوه! دانة!! أي مفاجأة!! لا أكاد أصدق... لا أصدق..."
قلت ذلك وضممتها إلي وقبلت جبينها بحنان... عند ذلك سمعت صوتا يقول:
"ألن تدعونا للدخول؟؟"
فالتفت إلى صاحب الصوت فإذا به نوّار... وكان يبتسم, ويحمل في يدي الاثنتين مجموعة من الأكياس... وعلى كتفه حقيبة قماشية كبيرة...
تراجعت للوراء وأنا أقول:
"يا للمفاجأة... أنا مذهول! تفضلا... أهلا..."
فدخل نوّار ووضع الأكياس والحقيبة جانبا ثم أقبل نحوي فاقتربت منه كي أصافحه وأعانقه. رحبت به بحرارة... كانت دانة تقف إلى جانبي فمددت ذراعي إلى كل منهما وحثثتهما على الدخول مرحبا...
"أهلا وسهلا ومرحبا... كل عام وأنتما بخير... تفضلا... حقا... مفاجأة مذهلة"
فسارا للأمام واستدرت للوراء لأغلق الباب... وإذا بي أرى شيئا مهولا... مهولا جدا... أخرس لساني... وجعلني أتجمد في موضعي كالتمثال...
كفى يا وليد... أرجوك توقف... لا... أنت لم تكد تصدق أنك شفيت من حالة الأوهام الفظيعة تلك... أرجوك توقف... لا تعد للصفر من جديد... كلا...
أغمضت عينيّ... بقوة... حتى كدت أعصرهما بجفوني... رغبة مني في محو الوهم الذي رأيته يقف أمام الباب قبل ثوان...
"رغد... تعالي!"
فتحت عيني... بعد الذي سمعت... نظرت من جديد... حملقت جيدا... وكان الوهم... لا يزال واقفا... يحمل شيئا ما على ذراعيه... وينظر إليّ!!
أحسست بحركة من خلفي... ثم رأيت دانة تظهر أمامي... متجهة إلى الوهم... وسمعتها تقول:
"مفاجأة! أليس كذلك؟؟!"
ثم تمد يدها نحو الوهم... وتأخذ منه ذلك الشيء وتقربه مني...
نظرت إلى ذلك الشيء... حملقت فيه... فإذا به ينظر إلي... ويتثاءب!
كان طفلا في المهد...!!
أخذت عيني تدور بين الطفل... ودانة... والوهم... تدور... وتدور... وتدور... حتى أصابني الارتجاج في دماغي واستندت إلى الجدار المجاور خشية أن أقع...
"وليد"
كان... صوت شقيقتي دانة... يهتف بقلق...
"هل أنت بخير؟؟"
أقبل نوّار... تناول الطفل من يد دانة... واقتربت دانة مني وأمسكت بذراعي وسألت:
"ماذا أصابك؟؟ هل أنت بخير؟؟"
جذبت أنفاسا عميقة متتالية ثم قلت:
"إنه... الصيام"
ثم عدت انظر إلى الطفل... ثم إلى الوهم... بل هي رغد... لأن ما حولي الآن ليس وهما... أنا أحس به وأبصر به جيدا... إنها رغد... نعم رغد...
أقول لكم رغد...
هل تسمعون؟؟
هل تفهمون ذلك؟؟
رغد... فتاتي رغد... هي رغد... آه...
أنا... أنا لا أعرف ماذا أقول... لا أعرف ماذا أقول...
"تعال... هل أكلت شيئا؟؟"
كانت دانة... تمسك بي وتحثني على السير إلى الداخل... ثم تقول موجهة خطابها إلى رغد:
"أغلقي الباب وتعالي يا رغد"
فتنفذ الأخيرة ذلك... وتتبعنا إلى المقاعد... أنا أجلس على المقعد... ويجلس نوار إلى يساري واضعا الطفل في حضنه... وأختي ورغد... تجلسان في الجانب الآخر...
"أأنت على ما يرام أخي؟؟"
تسألني دانة, فأجيب:
"لا تقلقي... أنا بخير"
يقول نوّار:
"إذا لم تبدأ الفطور بعد؟ هذا جيد... أحضرنا معنا بعض الأطعمة كي نشاركك"
التفت إليه فأراه يبتسم... وحقيقة هذا الرجل دائما مبتسم... أسمع صوتا يصدره الطفل الصغير... فيداعبه نوّار بلطف...
لحظة!
لكن... لكن...
أين سامر؟؟؟
انتبهت للتو على عدم وجوده فالتفت نحو الباب أتأكد من كونه غير موجود... ثم سألت:
"ماذا عن سامر؟؟"
فأجابت دانة:
"يبعث إليك بأحر القبلات.. كان يتمنى أن يحضر معنا ولكن تعرف.. خشينا عليه من السلطات"
وأضاف نوار وهو يضحك:
"إنه مشغول البال الآن!"
انتفض جسمي.. التفت إلى رغد بسرعة... اصطدمت بعينيها بقوة... فارتدّت إلى الوراء وقد ظهر الفزع على وجهها...
سمعت دانة تقول:
"نوّار! اسكت"
فيطلق نوّار الضحكات المرحة ثم يقول مداعبا:
"لكنني لم أفش الخبر بعد!"
تمد دانة يدها من أمامي... وتقرص رجل نوار بلطف, فيستمر بالضحك ثم يوجه سؤاله إليّ:
"ماذا عنك أنت يا وليد؟؟ هل تزوجت أم ليس بعد؟؟"
كانت برهة سريعة... لكنني لمحت فيها كل شيء...
يد دانة وهي تقرص رجل نوّار... حاجبيّ نوّار وهما يرتفعان للأعلى ثم ينخفضان بخجل... ويد رغد... وهي تنقبض وتضطرب...
جاريت نوّار مفتعلا الضحك وقلت:
"ليس بعد!... كما ترى"
وأشرت بيدي إلى ما حولي...
وفي الحقيقة... أنا انفصلت عن خطيبتي السابقة... بعد عودتي للوطن قبل عام وأكثر... ولم أطلع شقيقتي دانة على الخبر إلا لاحقا... وقد حذرتها من إفشائه على مسامع أحد... خصوصا رغد وسامر...
فبعد الذي حصل لم يكن هناك ما هو أفضل من أن أختفي وتختفي أخباري عنهم... وأخبارهم عني..
لم أكن أتصل بهم إلا قليلا للاطمئنان عليهم. كنت أهاتف دانة أغلب المرات وأتجنب التحدث إلى سامر.. أما رغد.. فأصلا لم أكن لأجرؤ حتى على السؤال عنها...
أصدر الطفل صوتا من جديد... وربما كان منقذا لي من نسمة الذكريات التي كادت تلفحني... والتي أبذل قصارى جهدي كي أتناساها... التفت إلى الطفل... ثم إلى دانة وسألت وأنا أكاد أغص بسؤالي:
"هذا... ابنكِ؟؟"
فابتسمت وقالت:
"لا"
فجن جنوني... وابتلعت الغصة مرغما وكدت أختنق بها... وإذا بها تتابع:
"بل هذه ابنتي!"
حملقت فيها... ثم نظرت إلى الطفل... أعني الطفلة... نعم الطفلة... لأن ملامحها ناعمة جدا... وجميلة جدا...
ومددت أصابعي إليها ألمس خدها الناعم...
لكن انتظروا!
أنا لم أفهم...
عدت أنظر إلى دانة وفي فمي عدة أسئلة... فإذا بها تحملق في ابنتها بنظرة عطوفة... ثم تقول:
"أليست جميلة وليد؟؟ سميتها ندى... تيمنا بوالدتنا رحمها الله"
مد نوّار الطفلة إلي وهو يقول:
"سلمي على خالك يا ندى..."
تناولت الطفلة وتأملتها برهة... فشعرت بسرور غريب يجتاح عواطفي... ضممتها إليّ وطبعت قبلة خفيفة على رأسها... وشممت رائحتها الطفولية البريئة...
"ما أرقها وأنعمها!... آه... كيف لم تخبروني عن ولادتها؟؟"
قلت معاتبا دانة فأجابت وهي ترفع حاجبا وتخفض الآخر:
"الاتصال بك ليس مهمة سهلة!"
وأنا أعرف ذلك وأتعمده...
"لم لا نتم حديثنا على المائدة؟؟ إننا نتضور جوعا!"
كان نوّار...
وقفنا كلنا قاصدين التوجه إلى المائدة... وهذه المائدة صغيرة... وقد لا تتسع لنا...
تناولت دانة طفلتها وجالت ببصرها في أرجاء الشقة وسألت:
"أين يمكنني وضع الطفلة؟؟ شقتك تبدو صغيرة!"
فقلت:
"نعم... معذرة فكل شيء صغير هنا... في غرفة النوم... من هنا... تفضلي"
وقدتها إلى غرفة النوم... فوضعت الطفلة على السرير وهمت بالمغادرة...
هنا قلت بصوت منخفض:
"انتظري"
وألقيت نظرة نحو الباب أستوثق من أحد لم يتبعنا... فهمت دانة أنني أرغب في قول شيء بسرية... فنظرت إلي متسائلة... عنها سألت:
"ماذا... عن سامر...؟ أنا لم أفهم"
ابتسمت دانة ابتسامة طفيفة ثم قالت:
"عقد قرانه على لمياء... شقيقة نوّار... قبل أسابيع"
الخبر أربكني وأرسلني إلى قعر الحيرة والتيه... ثم خرجت الكلمة من بين شفتيّ من دون أن أشعر:
"و... رغد؟؟"
ارتسم القلق والألم على وجه دانة ثم قالت:
"مررنا بفترات عصيبة... عصيبة جدا جدا..."
ثم تنهدت وتابعت:
"قررت... الاستقرار عند خالتها... سنقضي هنا أسبوعين ثم نذهب بها إلى الشمال... تستلم إرث والديها وتقيم مع أسرتها هناك.. هذا قرارها الأخير.."
جمدني الذهول... وبقيت محملقا في عيني شقيقتي... أحاول ترتيب ما عرفته من مفاجآت... هذه الساعة...
رأيتها تسير مغادرة الغرفة... فتبعتها وذهني واقف في الغرفة موضعه, توجهت دانة إلى المائدة وأخذت توزع محتويات الأكياس عليها... ثم دعتنا للجلوس... جلست على أقرب كرسي رأيته أمامي... وجلست هي إلى اليسار... ونوّار إلى اليمين... والمقعد الأخير... المقابل لي مباشرة... كان من نصيب رغد...
أنا لست بحاجة لأن أصف لكم... أنا أصلا لا أستطيع أن أصف لكم... سأترككم تتخيلون حالي... كما تشاءون...
انتهينا من العشاء وأنا لم أشعر بطعمه... ربما لم آكل شيئا... لقد كنت أراقب أصابع البطاطا وهي تختفي واحد بعد الآخر... لكنني متأكد من أنني لم أذق منها شيئا...
من الذي يوجد معنا... ويحب البطاطا المقلية لهذا الحد؟؟
من الذي يوجد معنا... ولا يتحدث؟؟
من الذي هنا... ولا أستطيع أن أرفع عيني لأنظر إليه؟؟
يتحرك أمامي... بهدوء... بصمت تام... كأنه غير موجود... لكن وجوده طغى على كل وجود... وعلا فوق كل وجود... ولم يضاهيه أي وجود...
آه...
رغد... صغيرتي...
بعد الفطور, قامت الفتاتان ترفعان الأطباق... وفيما هما كذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة... فتركت رغد ما بيدها وهي تقول:
"أنا سأتفقدها"
وذهبت إلى غرفة النوم, حيث كانت الطفلة موضوعة على السرير...
أتدرون ما الذي خطر ببالي؟؟
أن ألحق بها...
ذهبت خلفها مباشرة... ووقفت عند الباب... وهي لم تنتبه إلي بادئ الأمر... جلست على السرير ورفعت الطفلة وهزتها قليلا... فسكتت الأخيرة ونامت ببساطة!
أعادتها رغد إلى السرير... ثم هبت واقفة... واستدارت فانتبهت لوجودي...
التقت نظراتنا... التي كانت تتحاشى بعضها البعض طيلة الوقت... هذه المرة لم تتهرب أعيننا... بل تعانقت عناقا طويلا... ملتهبا... عميقا...
وبعد حصة النظرات الطويلة تلك... تقدمت باتجاهها وأنا ألهث مضطرب الكيان والجوارح... كذلك كان الاضطراب مجتاحا لرغد... فأصابع يدها تتشابك وتنفصل مرارا...
لما صرت أمامها مباشرة... لا تفصلني عنها غير بضع بوصات... كتمت أنفاسي... ثم أطلقت زفرة حارة... ثم سمعت لساني يقول لا شعوريا:
"... اشتقت إليك... صغيرتي"
لا أعرف من أين خرجت تلك الكلمات... لكنها خرجت... ووصلت على رغد... فإذا بوجهها يضطرب أكثر... وأصابعها ترتجف أكثر...
أطلت التحديق بها... مفتشا عن رد.. فإذا بي أرى حاجبيها ينعقدان ووجها يعبس وإذا بها تشيح به عني وتتنحى جانبا وتسير متجهة إلى الباب...
استدرت إليها ومددت يدي في الهواء وناديتها بصوت هامس راج متلهف:
"صغيرتي"
فإذا بها تلتفت إليّ وتصوب أسهما نارية إلى عينيّ وللمفاجأة تقول:
"إياك أن تناديني هكذا ثانية"
واستدارت لتتابع طريقها في ذات اللحظة التي ظهرت فيها شقيقتي دانة مقبلة إلى الغرفة وفي يدها زجاجة حليب أطفال... نقلت دانة بصرها بيننا ثم تظاهرت بالمرح وقالت وهي تشير للطفلة:
"هل نامت؟ إنه موعد الحليب!"
في نفس الليلة أصرت دانة على أن نقوم بزيارة للمنزل الكبير والذي شعرت بحنين شديد إليه. لم أكن أرغب في دخول ذلك المنزل واسترجاع الذكريات التعيسة فيه غير أنني لم أجد بدا من تنفيذ رغبتها.
ذهبنا إلى المنزل نحن الأربعة, مع الطفلة الصغيرة. ومن أول لحظة وطأت قدماي فيها أرض المنزل داهمتني آلام حادة في كامل جسدي...
بقي نوّار مع ابنته في المجلس, وذهبنا نحن الثلاثة وأقصد بالثلاثة أنا ودانة... ورغد... نجوب أنحاء المنزل...
لما اقتربنا من غرفة رغد السفلية توترت وتوقفت عن السير وتحاشت دخولها...
ولما صعدنا الدرجات رأيتها تتكئ على السياج وكأنها تتذكر لحظات الوقوع والكسر والجبيرة...
ولما دخلنا غرفتها العلوية... علقت هناك...
تابعنا أنا ودانة جولتنا تاركين إياها في غرفتها ربما تتفقد حاجياتها أو تسترجع ذكرياتها...
هذه الغرفة كنت أدخلها كل يوم... أطمئن على طيف صغيرتي بجنون... عندما كنت أقيم هنا وحيدا... بعد رحيلها...
بعد ذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة فنزلت دانة إلى الطابق السفلي وكنت سأتبعها غير أن رجلاي غيرتا وجهتهما وقادتاني إلى... غرفة رغد...
كانت رغد تقف بجانب السرير وعينها تحملقان في الورقة الملصقة على الجدار فوق السرير... تذكرونها؟؟ إنها أول صورة رسمتها صغيرتي لي.. قبل سنين طويلة.. وهي ما تزال طفلة بالكاد تتعلم كيف تمسك القلم...
كيف لي أن أكتشف يومها... ما لم أكتشفه إلا بعد كل تلك السنين...؟؟
أحست رغد بحركتي فالتفتت نحوي فجأة... وإذا بالهلع يجتاحها ويحول وجهها إلى صحراء من الصفار... وأصابعها تضطرب وأنفاسها تتلاحق...
"هل أفزعتك؟؟ أنا آسف صغيرتي"
قلت ذلك محاولا تهدئة روعها غير أن يدها انقبضت بشدة ثم أبعدت عينيها عني وخطت نحوي قاصدة الخروج من الغرفة...
لم أستطع التحمل وأنا أراها تهرب مني... وقفت عند فتحة الباب وسددت الطريق أمامها فوقفت أمامي في حيرة وانفعال ثم رفعت بصرها إلي وأخيرا نطقت:
"تنحّ بعيدا لو سمحت"
وكانت نظرتها أقسى من جملتها... لكني لم أتزحزح ونظرت إليها برجاء فقابلت نظراتي بغضب... همست متوسلا:
"صغيرتي... أرجوك"
فإذا بها تهتف:
"قلت لك لا تنادني هكذا ثانية... لا أسمح لك... وابتعد عن طريقي فورا"
تسمرت مذهولا في مكاني فإذا بها ترفع صوتها آمرة بعصبية:
"ابتعد هيا"
فما كان مني إلا أن تنحيت جانبا وسط الذهول... وتركتها ببساطة تختفي..!
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السادس والستون من رواية أنت لي بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية أنت لى بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية آدم بقلم جودى سامى
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة