-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

 لحظة فارقة، لم تظن أنها ستحدث هكذا، حيث اختارت فيها الهروب مما يطاردها، ولإسكات لسانه الشرير الذي ينهش في سمعتها، بتهمه المجحفة، والتي لا تتوقف أبدًا عن النيل منها، لجأت لآخر الحلول المستبعدة عنها، إلى ذاك الذي زج بها منذ البداية في مستنقع الآلام، ليكون الخلاص لها منه؛ وإن كان يعني هذا إلقاء نفسها، في مجهول محفوف بالمفاجآت الصادمة لها؛ لكنها لن تُعايش مثل تلك التجربة المذلة مجددًا بسبب أكاذيبه المُضلة. رمقته "فيروزة" بتلك النظرة النارية الناقمة عليه، وأكدت له بصراخها:

-إنت ملكش دعوة بأي حاجة تخصني من هنا ورايح.

وبكل وقاحةٍ علق عليها "فضل"، والشرر يتطاير من حدقتيه:

-ولما هو كان عاجبك من الأول، رفضتيه ليه؟!

هدرت به بانفعالٍ:

-وإنت مالك؟

تابع "آسر" بنظرات فضولية، واهتمامٍ لا بأس به، حدة الأجواء بينهما، وفَطن لوجود رواسب خلاف سابق، ما تزال عالقة، وقد راقه الأمر كثيرًا، ففي الأخير هو يصب في مصلحته، لهذا استغل الفرصة، وهتف بنوعٍ من الجراءة التي تُغاير طبيعته الهروبية:

-اهدي يا حبيبتي، لو البني آدم ده مضايقك فأنا جاهز أربيه

زجره "فضل" قائلاً بنوعٍ من الازدراء، وهو يرمقه بتلك النظرة الدونية بعد أن تحولت عيناه إليه:

-اركن على جمبك ..

تقدم "آسر" نحوه، ورد بتحدٍ، وهو يلوح له بذراعه:

-إنت بتكلم إزاي بالأسلوب ده معايا؟ إنت عارف أنا ممكن أعمل فيك إيه؟

بادله "فضل" سبة مهينة لإحراجه، وتحرك صوبه ليهمّ بضربه، مما دفع "فيروزة للتدخل فورًا، وإيقاف تلك المهازل المخجلة بصراخها العنيف:

-بس بقى، كفاية فضايح.

على إثر صوتها جاءت "همسة" ركضًا من الخارج، متسائلة في جزعٍ:

-في إيه اللي بيحصل هنا؟

ردت عليها "فيروزة" بصوتها الصارخ، وتعبيراتها المهتاجة:

-تعبت بقى، سيبوني في حالي.

تبع "هيثم" زوجته، ومن خلفه ظهرت "آمنة"، ارتكزت نظرات الأول على وجه "فضل"، متعجبًا من وجوده، فقد تحجج الأخير بحاجته لشراء بعض الأشياء قبيل ذهابهم، وسيلحق بهم في المشفى فيما بعد، وها هو الآن متواجد بغرفة "فيروزة"، لم يسترح لحضوره، استراب من تصرفاته غير المفهومة، اتجهت أنظاره نحو "آسر"، واستنكر وجوده أيضًا، ثم تساءل بوجه متجهم:

-دول بيعملوا إيه هنا؟

حرك "هيثم" رأسه في اتجاه "فيروزة" التي واصلت صراخها:

-كله يطلع برا، مشوهم من هنا، مش عايزة أتكلم مع حد.

ردت عليها "همسة"، وهي تمسك بها من ذراعها لتهدئها:

-حاضر يا "فيرو"، هنعمل كل اللي إنتي عايزاه.

وانضمت إليها والدتها لتحتوي غضبها الغريب، بينما أشــار "هيثم" بذراعه للاثنين ليطردهما:

-يالا يا كابتن، سمعتوها، بالسلامة من هنا.

بسماجةٍ سخيفة، تنحنح "آسر" قائلاً، وعيناه تتطلعان إلى "فيروزة":

-خلاص يا حبيبتي، هنتكلم تاني، نظبط فيه كل حاجة.

وصــل إليه "هيثم" ودفعه نحو الخارج، بعد أن طرد "فضل" الذي كان يحترق غيظًا بالخارج، ثم صفق الباب في وجهيهما، وانزوى عند الركن يتابع بصمت، حالة تلك البائسة التي كانت تقريبًا في وضع انهيار.

.................................................................

أين المفر من حبٍ حُكم عليه بالنهاية قبل أن يبدأ حتى؟ لذا كان كل ما سرقه، وفي غفلة منها، نظرة أخيرة لملامح وجهها المتشنج، وهي تنطق باعترافها المُهلك، لينسحب سريعًا بعدها، وصوت "آسر" يلازمه في عقله، ليؤكد له موافقتها الواضحة على خطبته، وأنها تنتمي إليه. "فيروزة"! اسم حُرم من تداوله بين شفتيه، وإن كان قد مُنح فرصًا لينطق به أمامها وبعيدًا عنها؛ لكنه بات محرمًا عليه كليًا من الآن فصاعدًا. وفي جانب هادئ تمامًا، في نهاية طريق الكورنيش الموازي للشاطئ، أوقف "تميم" سيارته، ليستند بظهره على مقدمتها، ويحدق بعينين تحتجزان العبرات الحزينة الرقراقة، وقلب محطم في زرقة المياه القاتمة.

كانت المرة الأخيرة التي يسمح فيها لنفسه بالظهور بهذا الضعف، فكما أجاد إدعاء جهله بسرقة "هيثم" أمام أبيه وجده، متقنًا دوره ببراعة، بينما كانت والدته قد أطلعته سابقًا على تفاصيل السرقة، سيفعل ذلك مجددًا، سيدرب نفسه، ويطوعها أكثر، ليجيد إخفاء مشاعره المهزومة؛ وكأنه جماد، بلا قلب نبض مرة لأجل الحب. مسح عبراته التي تسللت خارجة من طرفيه، بظهر كفه، وتحدث إلى نفسه قائلاً؛ وكأنه يحفزها:

-أيوه، إنت هاتقدر تنساها يا "تميم"، زيها زي أي حاجة كان نفسك فيها وراحت، مش نهاية الدنيا.

غلف نبرته حزنًا غير مستتر، وهو يكمل إفراجه عن مكنونات نفسه لنفسه:

-بس هي مش زي أي حد..

أطبق على جفنيه بقوة، وهمس بحرقةٍ:

-هي "فيروزة" واحدة وبس!

عند نطقه باسمها رغمًا عنه، أجهش بالبكاء، وقد فقد قدرته على ضبط انفعالاته، ببساطة خرجت مشاعره عن السيطرة، واستسلم لمرةٍ أكد لنفسه مرارًا وتكرارًا أنها ستكون الأخيرة، بإظهار جرحه المعنوي، باكيًا حبًا يجهل عنه العالم بأسره .. فيما عدا قلبه!

..............................................................

غيابه كان مريبًا حد الشك، وهي بمفردها مع أبنائه في البلدة، بعيدة كل البعد عن أجواء الصراع المحتدمة في المدينة، أكلها فضولها وحثها على الذهاب؛ لكنها لم تكن لتتحمل أعباء ومشاق السفر بمفردها، ما نما إلى مسامعها من تطورات مثيرة حفزها على العودة، تبقى لها فقط إعلام زوجها، وسحب القطيع خلفها .. كعادته في تجاهل الرد على اتصالاتها المتعاقبة التي تلاحقه، خاصة حين يكون في ذروة عمله، يئست "حمدية" من الوصول إليه، لولا سماعها لأنفاس لاهثة، قبل أن تضغط على زر إنهاء الاتصــال، تبعها سؤال طفولي لصغيرة ما:

-ألو، مين معايا؟

اعتدلت في جلستها بشرفة منزلها المطلة على الأرض الزراعية، وتساءلت بوجهٍ تبدلت ملامحه للجدية التامة:

-مش ده تليفون "خليل"؟

أجابت الصغيرة بتلقائيةٍ:

-أيوه..

سألتها بشكلٍ آلي، وعقلها مشحونٍ تقريبًا، بالتفكير الاستنباطي، في ماهية تلك الطفلة التي أجابت عليها:

-هو فين؟

ردت باقتضابٍ:

-هناديه ..

أرهفت "حمدية" السمع جيدًا للطرف الآخر، وبدا لها أنها تسمع أنفاسٍ لاهثة لتلك الصغيرة التي تركض تقريبًا، ثم جاء صوتها مناديًا بعفوية واضحة:

-بابا! يا بابا!

انقبض قلبها بقوةٍ، وشعرت بضيقٍ يجثم على صدرها، تمالكت أعصابها، وكتمت أنفاسها الشاهقة بيدها لتبدو هادئة كليًا، أتاها صوت زوجها واضحًا وهو يتساءل:

-في إيه يا "كوكي"؟

جاوبته بتمهلٍ:

-حد بيتصل بيك.

تصلب جسد "حمدية"، وبدت تعبيراتها غائمة، وزوجها يجيب على الهاتف:

-ألو، مين؟

ردت عليه بوجومٍ شديد:

-إنت فين يا "خليل"؟ ومين دي اللي ردت عليا؟

استطاعت أن تتبين الارتباك في صوته المهتز، حين ادعى كذبًا:

-ده أنا.. على القهوة، مع صاحبي و.. آ..دي بنته كانت بتلعب في الموبايل وآ...

قاطعته متسائلة بقتامةٍ:

-جاي امتى؟

هتف دون تفكيرٍ:

-على طول يا حبيبتي، ده أنا خلصت الشغل كله، وكنت هفاجئك وأرجع النهاردة..

ولسوء حظه هللت "سماح" تناديه:

-يا "خليل"! السفرة جاهزة، تعالى قبل ما الأكل يبرد.

لم تكذب "حمدية" أذنيها، كان النداء واضحًا، ويخص زوجها، وما تبعه من كلام يشير لوجود ما يخفيه عنها، غلت الدماء في شرايينها، وتصاعدت إلى رأسها لتزيد من حنقها، بالكاد كظمت غضبها وهو يهتف موضحًا بكذب:

-مرات صاحبي عازمنا على الأكل، وأنا مش عارف أخلع منهم.

ردت تسأله مباشرة لتكشف كذبه الواهي:

-هو إنت على القهوة؟ ولا عند مرات صاحبك؟

تلجلج وهو يقول:

-ده احنا كنا في القهوة تحت بيت صاحبي، ومراته بتنادي علينا نطلع.

علقت عليه باستنكارٍ، ونظراتها تقدح بالشر:

-وواخدة عليك أوي؟ بتقولك يا "خليل" كده حاف؟

تنحنح وهو يبرر لها:

-دي أد أمي .. وأنا ما بأردش..

ثم أخفض صوته ليتغزل بها:

-ولا إنتي بتغيري يا "أم العيال"؟ ده إنتي اللي في القلب.

أنهت معه المكالمة قائلة بغموضٍ، تأكدت أنه سيربك كافة حساباته:

-تعالالي على البلد على طول يا "خليل"، هنتكلم لما تيجي.

لم تمهله الفرصــة للرد، وأغلقت الاتصــال، وشكوكها الأنثوية تتزايد بداخلها، قبضت على أصابعها المحتوية للهاتف، وضغطت عليهم بشدة، حتى ابيضت مفاصلها، لتغمغم لنفسها بتوعدٍ بعدها:

-أه لو طلعت متجوز عليا، ولا بتلعب بديلك من ورايا يا "خليل"، ساعتها بس هتعرف مين هي "حمدية"!!!!!!

................................................................

في الناحية الأخرى، انسابت ساقي "خليل"، وشعر بانخفاض ضغط دمه، تهاوى جالسًا على الأريكة الموضوعة بجوار النافذة، اختفى التورد من وجهه، وتحول للشحوب والارتعاب، كان حرفيًا يرتجف، يداه تهتزان بتوترٍ رهيب. تطلعت إليه "سماح" باندهاشٍ، وسألته:

-مالك يا راجل في إيه؟ مش على بعضك كده ليه؟

أجابها بغموضٍ، وبصوتٍ متذبذب:

-نصيبة يا "سماح"، وحلت على دماغي!

قطبت جبينها متسائلة:

-نصيبة إيه دي؟

لعق شفتيه، وأجابها بأنفاسٍ مضطربة:

-"حــ.. حمدية" اتصلت.

ردت ببرود:

-ما تتصل، فيها إيه؟

انخفضت نظراته نحو هاتفه، الذي سقط من يده إلى جواره، وقال بتوجسٍ:

-هي اللي كانت على الخط، وسمعتك إنتي والبت!

لطمت على صدرها في صدمةٍ، ورمشت بعينيها متسائلة:

-يا لهوي، طب والعمل؟ تفتكر إنها شكت فيك؟

رد بتشتتٍ:

-مش عارف ...

استجمع نفسه، ونهض من مكانه بقدمين مرتعشتين، ثم أكمل عازمًا، بتوتره البادي عليه، وبؤبؤاه يتحركان بقلقٍ كبير:

-بس أنا لازمًا امشي دلوقتي من هنا، وأرجع البلد

سألته "سماح" بعبوسٍ:

-طب والأكل؟

أجابها وهو يهرع متجهًا نحو غرفة النوم:

-كليه إنتي!

زمت "سماح" شفتيها في سخطٍ، وحركتهما للجانبين، قبل أن تدمدم بتذمرٍ، وهي رافعة ليديها في السماء:

-منك لله يا "حمدية"، دايمًا معكننة كده عليا!

....................................................

مكثت في غرفتها وحيدة، منعزلة عن البقية، بعد أن خرجت من المشفى، وعادت إلى منزلها، رافضة النقاش مع أي أحد في قرارها الأخير، كانت بحاجة لمساحة خاصة، تجعلها تفكر برويةٍ، وبعمقٍ، فما حاربت لعدم حدوثه، أعلنت عن رغبتها في تنفيذه! دقت "همسة" الباب على توأمتها قبل أن تفتحه، وتلج للداخل، وهي حاملة لصحن صغير بيدها، ابتسمت تشجعها على تناول ما به:

-شوية شوربة بمكرونة لسان عصفور حكاية.

استلقت "فيروزة" على جانبها، ورفضت قائلة:

-ماليش نفس

أسندت الصحن على الكومود، وتمددت إلى جوارها، لتمسح برفقٍ على جانب كتفها، وسألتها بنبرة مهتمة:

-مالك يا "فيرو"؟ من ساعة ما رجعنا البيت، وإنتي واخدة جمب...

لم تجبها شقيقتها، وظلت ممددة على جانبها، استمرت "همسة" في تمسيد شعرها، وكتفها، وهي تسألها بإلحاحٍ طفيف:

-حصل إيه في المستشفى خلاكي تتعصبي؟

لم تمتلك من الشجاعة ما يدفعها للالتفاف، والنظر في وجه توأمتها، وأجابت بفتورٍ:

-مافيش.

سألتها مجددًا معللة أسباب سؤالها المستفسر:

-"فضل" ضايقك؟ بيني وبينك كلامه بايخ معايا، وكان هيشتبك مع "هيثم"، فأكيد عمل دقة نقص معاكي، صح ولا أنا غلطانة؟

حافظت على جمود تعبيراتها، وتنهدت ترجوها بهدوءٍ:

-عشان خاطري بلاش نتكلم عنه، كفاية أوي إنه غار من هنا.

ابتسمت تؤيدها:

-على رأيك..

أراحت "همسة" ظهرها للخلف، ووسدت يديها وراء رأسها، وأضافت:

-تعرفي يا "فيرو"، أنا فرحانة إنك هتتخطبي، مع إن الظرف مش مناسب، يعني عشان اللي مريتي بيه، بس دي فرصة تدلعي، وتشوفي نفسك مع واحد بيحبك.. حاجة حلوة أوي إن الواحدة تحب وتتجوز حد كويس...

تحولت عباراتها للفضول عندما سألتها:

-صحيح إنتي واقفتي عليه ليه؟ مش كنتي رفضتيه في البلد وآ...

قاطعتها منهية النقاش في ذلك الموضوع قبل أن يبدأ:

-"همسة" لو سمحتي، أنا دماغي تقيلة، وعايزة أنام، ممكن نتكلم في ده بعدين.

هزت رأسها في تفهمٍ، لتقول بعدها:

-ماشي يا حبيبتي، خدي راحتك ..

ثم اعتدلت في رقدتها، ومالت نحو توأمتها تقبلها من أعلى رأسها، شعرت بتخبطها، بحالة العزوف المسيطرة عليها، ولم ترغب في الضغط عليها، لتحصل على ما تريد من معلومات، تركتها تختلي بنفسها، وختمت حديثها الودي معها بقولها:

-أنا هاقعد شوية مع ماما برا وهمشي، وهكلمك أطمن تاني عليكي.

استدارت لتنظر إليها في امتنانٍ، لترد بكلمةٍ مقتضبة:

-أوكي.

أشــارت "همسة" بعينيها نحو الكومود، قبل أن توضح لها:

-الشوربة هغطيهالك، بس كليها، دي عمايل إيديا، وإنتي عارفة أنا طباخة بريمو.

حانت من "فيروزة" ابتسامة لطيفة تشكلت على ثغرها، وودعتها بنظراتها إلى أن خرجت من الغرفة، لتختفي تلك البسمة الزائفة، وتعود لحالة الجمود الحزينة التي تمكنت منها.

..........................................................

منذ لحظة وصوله، وتبدد الهدوء الذي عم المنزل لصخب وشجار، لم يتوقف "فضل" عن إثارة المتاعب مع من يلقاه في طريقه؛ وكأنهم وسيلته لإفراغ الكبت المحبوس بداخله، بعد أن تمت إهانته لأكثر من مرة، أراد التغطية على شعور النقص المستبد به، باستعراضِ قوةٍ زائفة على من هم أضعف منه؛ شخصيةً، وبنيانًا. وبخطواتٍ متمهلة اقتربت منه "سها"، وهو جالس بمفرده في المضيفة لتسأله، دون أن يطرأ ببالها أنه سيثور هكذا في وجهها:

-مرات عمك و"فيروزة" بنتها عاملين إيه؟ عدت المشكلة اللي كانوا فيها على خير ولا إيه الأخبار؟ طمني كده عليهم.

التفت ناظرًا إليها بعينين حادتين، قبل أن يوبخها:

-مالك إنتي ومالهم يا ولية يا حشرية؟ عايزة تعرفي أخبارهم ليه؟ كنتي من بقية أهلهم وأنا معرفش؟ ولما أحب أتكلم في حاجة تخصهم هاجيبك إنتي يا أم مخ فاضي أحكي معاكي، وأخد برأيك؟!!

تلون وجهها بحمرة خجلة من إهانته الشديدة، وتقليله لشأنها، كانت أدرى بطبيعته المتقلبة، ولم تقابل أسلوبه المتعنت معها إلا بالهدوء، فمن الخير أن تتجاهل فظاظته البشعة حتى لا تثير غضبته البائنة عليه، جلست على المصطبة الخشبية إلى جواره، وقالت متصنعة الابتسام، كأنها لم تسمع ما يهينها قبل ثوانٍ:

-وماله ياخويا لما نتكلم سوا، ما أنا مراتك بردك، وإنت لما تفضفض معايا هتشيل عن قلبك وترتاح.

دفعها بقساوة من كتفها، ليزيحها من جواره، وقال بعينين شرستين:

-قومي فِزي يا ولية، اتكشحي من هنا، مش ناقصك!

ابتلعت مرارة الإهانة، خاصة حين رأت "سعاد" مُقبلة عليها، وفي عينيها نظرات إشفاقٍ ولوم، أطرقت رأسها، وانسحبت من المكان سامعة صوت الأخيرة يعنف ابنها:

-حرام عليك يا "فضل"، عملتلك إيه المسكينة دي عشان تبهدلها كده؟

لوى ثغره معلقًا عليها بنبرة جافية:

-مالكيش دعوة يامه، دي مراتي، وأنا حر فيها، إن شاءالله أقطم رقبتها...

ثم اكتسب صوته إيقاعًا غريبًا وهو يتابع:

-مش زي بنت "آمنة" اللي ملاقتش اللي يربيها ولا يلمها..

حملق في الفراغ أمامه، وكز على أسنانه متوعدًا -في نفسه- بنوعٍ من التمني:

-آه لو كانت مراتي، كنت عرفتها مقامها، دي مكانش ينفعها إلا واحد زيي، يمشيها على العجين متلخبطوش!

استغربت "سعاد" من تحامله عليها، وسألته مباشرة بعد أن استقرت على المصطبة:

-مالك ومال "فيروزة" يا "فضل"؟

انتبه لها، وأجاب وقد برقت عيناه:

-مافيش يامه، بس إنتي عارفة، أنا مابيعجبنيش الحال المايل.

تهدل كتفاها، وأضافت في لهجة هادئة، متعمدة الدفاع عنها:

-بنت عمك طول عمرها في حالها، ماشية زي الألف، مالهاش في أي حاجة، فبلاش تيجي عليها تاني.

لا إراديًا، تحسس "فضل" بيده الجرح المتروك أثره على وجهه، بعد أن أزاح الضمادة من عليه، متذكرًا عدائية "تميم"، وتهديداته التي لم تكن من فراغ، تقوس فمه في امتعاضٍ ظاهر عليه، وهسهس بسبة نابية انحصرت بين شفتيه، بينما لانت تعبيرات والدته حين تكلمت بحماسٍ:

-وبعدين المفروض نفرحلها، أبوك قالي إنها وافقت على العريس، وكلها أيام وهتتخطبله ويتكتب كتابها، يعني احنا يدوب نجهز نفسنا عشان نروحلها.

رد بوجهٍ عابس:

-أنا مش رايح في حتة.

سألته باستغرابٍ، والدهشة تغزو محياها:

-ليه كده؟ ده إنت ابن عمها الكبير، ومش عايزين النفوس تفضل شايلة من بعض، ده الضفر مايطلعش من اللحم.

أجلى أحبال صوته المحتشرجة بنحنحة عالية، قبل أن يعلق عليها بسخطٍ، مستخدمًا يديه في التلويح:

-المثل بيقول إيه يامه، أردب ماهولك (مش ليك) ما تحضرش كيله، تتعفر دقنك، وتتعب في شيله .. وأنا الليلة دي كلها ماليش فيها خلاص، أنا شيلت إيدي.

نطق بلسانه ما يناقض رغبته الحقيقية، فلو اتيحت له الفرصة، وكان في مركز قوة، وهي تحت يده، وحاضرة هنا في بلدته، لحشد أعيانها، وأجبرها على الزواج منه قسرًا، ومارس عليها طغيانه، كما اعتاد أن يفعل مع زوجته المقهورة، أشاح بنظراته عن والدته التي ما تزال محدقة فيها بتعجبٍ، تنهدت الأخيرة ببطءٍ، لم تعرف ما الذي يدور في رأس ابنها؛ لكنه لم يكن هكذا يحاوطه الغموض، نهضت من جلستها، وهي تردد في يأسٍ:

-هاقولك إيه يا ابني، غير ربنا يهديك لحالك.

..........................................................................

بأعجوبةٍ، وألاعيب المخضرمين من المحامين، خاصة الداهية "آسر"، نجت "بثينة" ببدنها من كارثة كادت تزج بها بالسجن، وتعرضها لمشاكل في غنى عنها حاليًا، بعد كشف الحقيقة كاملة، وإظهار براءة "فيروزة" من التهمة الملفقة التي اتهمتها بها، انتهى المحضر على خير، وحُفظ في الأدراج، كغيره ممن ينتهون دون تصعيد قانوني. تجرعت "بثينة" رشفة كبيرة من كوب الماء، وأسندته في مكانه بالصينية، ثم بدأت تهت جسدها بحركة عصبية، بعد أن جلست في الصالون، بصحبة ضيفيها "محرز"، وزوجته، تنوح مُصابها لهما:

-بقى دي أخرتها يا "هاجر"؟ شوفتي أخوكي وعمايله؟ كان ناقص يحبس خالته، ولولا ستر ربنا وولاد الحال!

نظرت "هاجر" لخالتها في حرجٍ، وظلت تهدهد رضيعها بين ذراعيها باهتزازة خفيفة ثابتة، بينما واصلت الأولى ندبها الناقم:

-هي دي صلة الرحم اللي ربنا أمره بيها؟ مش كفاية مراته خسرت اللي في بطنها، لأ يزود الهم علينا ويجرجرنا في الأقسام.

رفرفت بعينيها وهي تتطلع إلى زوجها في ترددٍ، ثم استدارت ناظرة إليها مرة أخرى، وردت تواسيها :

-متزعليش يا خالتي، ده أنا جاية أخد بخاطرك النهاردة، وأراضيكي.

هتفت معترضة في سخطٍ:

-لا يا "هاجر"، اللي عمل أخوكي ده مش هايروح بالطبطبة.

أردف "محرز" قائلاً بهدوءٍ، وعيناه تلمعان في خبثٍ:

-يا حاجة ده إنتي طول عمرك قلبك طيب.

انخرطت في بكاءٍ مصطنع وهي ترد عليه، لتستجدي مشاعرهما

-هو أنا مضيعني غير قلبي وحنيته؟

وضع "محرز" يده على كتف زوجته يحثها على النهوض، عندما أمرها بلطفٍ:

-قومي يا "هاجر" شوفي بنت خالتك، أكيد الموضوع مش سهل عليها، طيبي خاطرها بكلمتين، وخديلها الواد تشيله شوية.

ردت بإيماءة موافقة من رأسها:

-طيب يا "محرز".

بدا كحمامةٍ للسلام ولسانه ينطق بمعسول الكلام، ليزيل الوحشة المعششة في القلوب، ما إن تأكد من اختفاء زوجته بالداخل، حتى انتقل من مكانه، ليجلس قريبًا من "بثينة"، أحنى رأسه عليها، وهمس لها؛ وكأنه يلومها:

-كنتي هتودينا في داهية، مش تاخدي بالك إن في كاميرات راكبة؟ لولا البيه بتاعي كان زمانك لبستي فيها.

مسحت دموع التماسيح التي لم تترك مقلتيها، وردت بخفوتٍ بلهجة جافة:

-وأنا كنت أعرف منين؟ بأشم على ضهري إيدي ولا بأضرب الودع؟

قست نظراتها، وانزلقت مضيفة من تلقاء نفسها:

-وأختي "ونيسة" مجابتليش سيرة عن الحكاية دي.

سألها "محرز" بجديةٍ، رغم انخفاض نبرته:

-سيبك من ده، وقوليلي هنعمل إيه دلوقتي؟ زي ما احنا ولا غيرتي رأيك؟

تصلب كتفاها، وردت بحقدٍ مغلول:

-أغيره؟ ده أنا عايزة أنتقم منه، أولع في جتته، ده أنا خسرت كل حاجة.

ابتسامة لئيمة خطت على شفتيه وهو يرد بتلذذٍ انعكس كذلك في نظراته:

-حلو الكلام، قريب هتسمعي البشارة.

تنهدت في رجاءٍ:

-يا ريت يا "محرز".

أضاف طالبًا منها:

-عايزك تجيبلي الأمانة اللي شايلها عندك.

سألته في استغرابٍ، والفضول يكسو أنظارها:

-ليه؟

أجاب بتهكمٍ، وبتعابير جادة:

-صاحبها عايزها، هاقوله لأ؟ هاتيها بسرعة قبل ما تخرج "هاجر" من جوا.

همهمت وهي تحرك جسدها بثقلٍ لتنهض من جلستها:

-ماشي ياخويا.

شيعها بنظراتٍ كالصقر وهي تمرق عبر الردهة الطويلة متجهة إلى غرفتها، فقد أزف الوقت للقيام بعملية التهريب المُرتب لها، بعد أن صدرت الأوامر العليا بالشروع فورًا في تنفيذها ............................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة