-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

 برويةٍ انحنت بجسدها للأمام لتفتش بين أغراضها في دولابها الخشبي، خاصة الرف الأوسط، والذي تحتفظ به بأغطية الفراش المطوية النظيفة، وجدت "بثينة" ضالتها، فاعتدلت في وقفتها، وأخرجتها من الداخل لتنظر لها مجددًا؛ لفةٌ بلاستيكية مغلقة بإحكام، بلونٍ داكن، لا يظهر ما تحويه بداخلها، تبدو بيضاوية بعض الشيء، أدارتها بين يديها، متسائلة في نفسها بفضولٍ كبير:

-يا ترى فيها إيه دي؟

لم تكن أيضًا بثقيلة الوزن؛ لكنها أصابتها بالحيرة، رغبت في معرفة ما بهل، ومع ذلك تحركت بها نحو ضيفها المنتظر بغرفة الصالون، ناولته إياها وهي تسأله:

-دي عبارة عن إيه يا "محرز"؟

كان متحفظًا، ومراوغًا، في رده عندما أجابها:

-سيبك منها، وخلينا في المهم...

ثم أسندها إلى جواره؛ وكأنه غير مبالٍ بها، ليقول بهدوءٍ:

-عندي طلبية جديدة تبعنا، توريدة من العيار التقيل، يومين وهخلصها، وأجيبلك المعلوم.

هزت رأسها في استحسان، وعلقت:

-كويس.. أهي حاجة تعوض الخسارة اللي حلت عليا.

استأذنها "محرز" بتهذيب:

-هاتعبك معايا يا ست الكل، عايز فنجان قهوة مظبوط يعدل دماغي

-إنت تؤمر يا "محرز".

تابعها بنظراتٍ مراقبة إلى أن اختفت بداخل مطبخها، فأخرج هاتفه المحمول، وطلب على عجالةٍ أحدهم، أخفض نبرته، ليبدو صوته غير مسموعٍ حين قال:

-الأمانة معايا، جاهزة على التسليم.

أصغى للطرف الآخر بانتباهٍ تام، وعقب:

-حاضر هبلغ "حاتم"، وأظبط معاه.

بتعجلٍ أنهى المكالمة محافظًا على ثبات تعابيره، وفحص اللفة بدقةٍ، ليتأكد من عدم فتح "بثينة" لها؛ كانت كما هي، ابتسم في رضا، فقد كانت كل الأمور تسير على ما يرام، وجلس مسترخيًا منتظرًا عودتها إليه.

.................................................................

-أيوه يا "هاجر" أخوكي ظلمني!

رددت تلك العبارة المصحوبة بنبرة حارقة، وصدرها قد غص بالبكاء الخانق، حين سألتها شقيقة طليقها عن أحوالها، لم تمسح "خلود" دموعها عن خديها، تركتهم كدليلٍ حي وملموس عن قهرها، ومدى الظلم الذي تعايشه الآن، نظرت في عينيها بنظراتٍ ملتهبة، وتابعت نحيبها بمشاعرها الناقمة:

-وإنتي أكتر واحدة عارفة أنا بأحبه إزاي.

اقتربت منها بعد أن مددت رضيعها على الفراش، وضعت يدها على كتفها، وربتت عليه بحنوٍ، قبل أن ترد بتعاطفٍ:

-من غير ما تقولي، أنا متأكدة يا حبيبتي.

تحركت خطوة بعيدًا عنها، لتزيح يدها من على كتفها، والتفتت نحوها لتواجهها، واستطردت مُلقية بسيلٍ من التهم الحانقة عليه:

-وبدل ما يقف جمبي، يهون عليا اللي حصلي، رميني خالص، وشاغل عقله باللي خربت بيتي ...

سكتت للحظة لتثبط من اضطراب أنفاسها المختنقة، ثم كزت على أسنانها معاودة لومها له بعينين ناريتين:

-تلاقيه دلوقتي بيفكر يتجوز من تاني، ويعيش حياته، وإياكش أنا أولع

اعترضت عليها "هاجر" بحذرٍ، حتى لا تثور ثائرتها مجددًا:

-أنا مش معاكي يا "خلود"، "تميم" مش كده!!

نظرت لها ابنة خالتها بعدائية، في حين أكملت موضحة لها:

-ولا عمره بتاع بنات، ممكن أصدق أي حاجة عليه إلا كده، لا دي كانت أخلاقه، ولا تربيته.

علقت عليها بنظرات جامدة، وقد توقفت عن ذرف الدموع:

-إنتي مش عارفة حاجة.. طيبة زي تملي يا "هاجر"، أنا بأموت كل ثانية وهو مش جمبي فيها، حسي بيا يا "هاجر"، ده احنا بنات زي بعض.

هزت رأسها في تفهم، ثم انخفضت نظراتها نحو يد "خلود" التي قبضت على رسغها، ضغطت عليها الأخيرة بقبضتها، ورجتها بما يشبه التوسل:

-أنا عاوزاكي تساعديني أرجعه.

حملقت فيها باندهاشٍ مليء بالغرابة، وسألتها بترددٍ:

-إزاي؟

تعمدت "خلود" التهاوي بساقيها لتركع قبالتها على ركبتيها، رفعت أنظارها المغلفة بدموعٍ تنجح دومًا في استدعائها، حين حاجتها إليها، لتتسول عواطف الآخرين، انتحبت بصوت مرتفع، واستعطفتها بصوتٍ ذليل:

-عشان خاطري يا "هاجر"، اقفي جمبي، ماترفضيش بالله عليكي.

حاولت الأخيرة سحب يدها من بين أصابعها التي تشدها، وفي محاولة يائسة منها لإجبارها على النهوض، تمكنت "هاجر" من إيقافها، ثم ردت عليها بقلة حيلة:

-وهو أنا في إيدي حاجة؟ يعلم ربنا مقطعاه تقريبًا، وعمالة ألومه في الرايحة والجاية.

لهج لسانها وامتزج عبراتها بمخاط أنفها، وهي تزيد من ضغطها عليها برجائها المُلح:

-خليه يرجعلي، أنا بأموت من غيره، وحياة ابنك "سلطان"، اتكلمي معاه، قوليله مراتك بتحبك، مراتك مستعدة تسامحك، بس يردني ليه، إن شاءالله أكون خدامة تحت رجليه.

تفاجأت "هاجر" من حالتها التعيسة، بدت لوهلة مصدومة من وضعها، اعتبر ما تمر به يقطع نياط القلوب، ويدفعك للتعاطف مع ظروفها غير العادلة، بسبب إخلاصها الشديد وتفانيها في حبها، هزت رأسها بالموافقة، قبل أن تؤكد لها علنًا، ودون إعادة تفكير:

-من غير ما تحلفيني بيه، أنا هاعمل اللي عليا، وربنا يقدم اللي فيه الخير.

برزت ابتسامة امتنانٍ باهتة على محياها، واكتفت بعدم إضافة المزيد، عل إلحاح من حول "تميم"، والإشارة لبؤسها الموجع، وقهرها المفطر للقلوب، يعيده إليها.

.......................................................

أصغت لأكاذيبه والترهات التي لم يتوقف عن الثرثرة بها، منذ لحظة عودته إلى المنزل، مدعية تصديقها له؛ لكن حدسها يؤكد لها النقيض، لم تبتسم، وبدا وجهها خاليًا من أي تعبير غريب، بل على العكس قالت له بنبرة عادية؛ وكأنها تهتم لأمره:

-الله يكون في عونك يا خويا، غير هدومك كده وروق على نفسك.

مسح "خليل" عرقه الزائد المتصبب على جبينه، بمنديل قماشي مصنوع من القطن، لعق شفتيه، وتابع كذبه:

-والله يا "حمدية" الواحد بيتعب جامد في شغله، نفسي أسيب الهم ده كله وأركز في الدكان الجديد.

ببرودٍ مريب قالت له:

-وماله يا "خليل"، شوف المصلحة فين وأعملها.

ابتسم مضيفًا:

-تسلمي يا "أم العيال"..

ثم تنهد في تعبٍ، وأكمل؛ وكأنه يوضح لها باقي روتينه:

-هاخش الحمام أخد دش، لأحسن جسمي معفر من الطريق، وبعد كده هاقعد معاكي إنتي والعيال، وآخر النهار هنزل عند "آمنة" اعرف منها الجديد.

علقت بكلماتٍ موحية، أظهرت التوتر على ملامحه:

-الجديد كله عندي.

ابتلع ريقه، وسألها:

-قصدك إيه؟

أجابته بنفس الهدوء المربك له:

-متخدش في بالك يا "خليل"..

وأشارت له بيدها، حين تكلمت مضيفة:

-ابقى شوف السخان حرارته عالية ولا لأ.

حرك رأسه بإيماءة صغيرة، وخطا في اتجاه الحمام مكملاً حديثه له، بما يشبه الوعد:

-لما ربنا يفرجها معانا، هنبقى نجيب سخان غاز نركبه بدل التعبان ده.

قالت بوجهٍ جامد التعبيرات:

-إن شاء الله ..

رافقته "حمدية" بنظراتٍ غريبة، توحي بنوايا غير بريئة مطلقًا، وما إن اختفى في الداخل حتى توعدته:

-قالوا للبومة كام مهرك، قالت 10 بيوت خراب، وأنا هاخربها عليك يا "خليل"، لو طلعت متجوز عليا!!

.......................................................

سكونها كان ظاهريًا؛ لكن بداخلها كان كل التخبط الذي لا يمكن تخيله، ما رفضته، وأصرت على عدم القبول به، لكونه يجبرها على اختيارات لا تروق لها، اليوم ترتضي به، وبخنوعٍ يناقض شخصيتها المتمردة على ما هو عقيم. أشاحت برأسها للجانب، بعد أن اكتفت من التطلع لزرقة المياه المغرية، وعادت لتطلع إليه، بابتسامته المنمقة، وهيئته اللبقة، لم تمس "فيروزة" كأس مشروبها البارد، والذي تحول للسخونة بفعل حرارة الجو، واحتفظت بصمتها المغلف بابتسامة مرسومة بعناية، خلال محادثة "آسر" لها، في نفس المطعم الذي اجتمعت به توأمتها مع زوجها وأقربائه .. يا للسخرية! الزمن يعيد نفسه، مع فارق أنها تجلس كعروسٍ مستقبلية، لشخص لا تكن له أي مشاعر، ولا تشعر نحوه حتى بقدرٍ من الانجذاب .. انتفاضة منزعجة سرت ببدنها، وقد تجرأ مُضيفها على لمس كفها المستريح على الطاولة، سحبته سريعًا للخلف في صرامةٍ وتحفظ، أسندته في حجرها، لتمنعه من تكرار الأمر، وعلى عكس ما توقعه، بدا "آسر" هادئًا، لم يظهر على تعابيره المسترخية أدنى تغيير احتجاجًا على جمودها المتشدد معه، تركزت نظراتها المحملة بالكثير على وجهه عندما سألها:

-تحبي ننزل امتى ننقي الشبكة؟

ردت بهدوءٍ، وتاركة لها حرية الاختيار؛ وكأن الأمر لا أهمية له لديها:

-الوقت اللي يناسبك.

استند بمرفقيه على الطاولة، بعد أن أبعد فنجان قهوته، بادلها النظرات المهتمة، وقال:

-أنا معاكي في اللي تختاريه يا "فيروزة".

تنهيدة بطيئة لفظها من جوفه، ليكمل بعدها:

-بس أتمنى نخلص كل حاجة بسرعة، إنتي عارفة بعد كتب الكتاب لازم أسافر، عشان أرتب للإقامة بتاعتك، وبعد كده أبعت أجيبك، وآ..

أعطته جوابًا صريحًا:

-هسأل ماما، وأرد عليك.

أومأ برأسه معقبًا عليه، وابتسامته ما تزال تحتل شفتيه:

-تمام ..

ســاد الصمت من جديد، وعادت "فيروزة" لتدير رأسها بعيدًا عنه، وتحدق في أمواج البحر المتقلبة، في فترة وجيزة تبدلت الأمور عليها؛ ما بين سعيها لإقامة مشروع شبابي يدر عليها المال، وبين معاناتها لحرق حلمها، وبيعه بسعر زهيد، ليتبع ذلك إذلالها بين الأقرب إليها، وأخيرًا تجربة الحبس المهينة، لمحات غير مضيئة مرت بحياتها أضفت المزيد من السواد عليها، انتشلها "آسر" من استغراقها في تفكيرها المرهق لروحها، نظرت إليه مرة أخرى، وقد استطرد متجاذبًا معها أطراف الحديث:

-أنا عاوز أسألك في حاجة، بس متردد شوية.

سمحت له قائلة:

-اتفضل.

سألها بصراحةٍ، ونظراته الحذرة تدور على ملامحها، لتلاحظ ردة فعلها:

-هو إنتي زعلانة عشان مش هنعمل حفلة للخطوبة أو حتى للفرح؟ أكيد إنتي بتحلمي بليلة مميزة زي أي عروسة، وده طبيعي.

بمنطقية بحتة أجابته، ودون أن تتأثر تعبيراتها:

-إنت هاتكون مش موجود، أعتقد مافيش داعي ليه، الفرح مش هايكون ليه لازمة من غير وجود العريس.

كانت محقة في رأيها، وأيدها مدعيًا حزنه:

-فعلاً.. اللحظة دي مهمة عندي زي ما هي عندك، بس أنا أوعدك هاعوضك.

حركت شفتيها لتظهر ابتسامة مجاملة، بينما أخبرها "آسر" وهو مسبل عينيه نحوها:

-"فيروزة"، أنا عايزك تتأكدي إنك هاتكوني أكتر واحدة سعيدة معايا.

ظلت ابتسامتها المصطنعة كما هي على ثغرها، وهي ترد:

-إن شاءالله.

أرجع ظهره للخلف، واعترف لها بحماسٍ:

-الصراحة متوقعتش إني أقع في الحب بسرعة كده، ومن أول لحظة شوفتك فيها مع "علا".

تنحنحت بخفوتٍ، ورمشت بعينيها قبل أن تتشجع لتبوح له:

-أنا حابة أكون صريحة معاك، أنا لسه مش حاسة ناحيتك بحاجة دلوقتي، يعني بأقدرك، وأحترمك، جايز مع الوقت آ...

قاطعها بشكلٍ مفاجئ:

-أنا مش مستعجل، المهم نكون سوا يا حبيبتي.

قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في استنكارٍ، فاستأذن منها، وهو يبتسم:

-اسمحيلي أقولك يا حبيبتي..

اعتذرت منه بجديةٍ بائنة في قسماتها، وكذلك نظراتها:

-ممكن ماتقولهاش غير لما تبقى العلاقة بينا رسمية، ده أفضل.

اعترض بلطفٍ:

-أنا عارف كلها كام يوم وهنكون سوا، بس مش قادر أستنى، أنا مجنون بيكي.

تحرجت من اعترافاته الهائمة بها، لم تعتد على مثل ذلك، فتجنبت الخوض معه في جدال، ربما سيسير في اتجاه حميمي أكثر إن استمرت في الاعتراض عليه، وللمرة الأولى امتدت يدها، وتناولت الكأس، بللت جوفها بالمشروب الطبيعي المنعش، وسألته بعدها:

-إيه اللي عجبك فيا؟ أنا عادية جدًا، معنديش حاجة مميزة، في مليون بنت غيري تقدر تتقدملها، وأكيد ظروفهم أحسن مني.

صمت لبرهةٍ، وعيناه مثبتتان على وجهها؛ وكأنها تدرسانه، ليقطع سكوته اللحظي معترفًا لها بصدقٍ؛ وإن كانت نواياه خبيثة:

-لأنك يا "فيروزة" مختلفة عن أي حد عرفته.

.....................................................................

على الجانب الآخر، جلست "همسة" مع والدتها على طاولة ثنائية، وإلى يسارهما جلست "حمدية" بصحبة زوجها، على طاولة منفصلة، ركزت الأولى كامل انتباهها مع توأمتها، وخطيبها، بدت سعيدة للتجاذب اللطيف بينهما، وإن كان خاليًا من أي حماس؛ لكنه مُرضي للطرفين، مالت نحو والدتها، ليبدو صوتها مسموعًا إليها، وهي تقول لها:

-حلوين أوي يا ماما، شكلهم يفرح القلب، تحسيهم لايقين على بعض.

التفتت "آمنة" لتنظر نحوهما، وردت بإيجازٍ:

-ربنا يهنيهم.

أراحت "همسة" جانب وجهها على باطن كفها، وتطلعت إليهما بمحبةٍ، قبل أن تواصل حديثها:

-يا رب.. بجد "فيروزة" تستاهل كل خير.

لم تكن ملامح والدتها بالسعيدة مُطلقًا، فقد رأت جريرة رفض ابنتها الأولي له كخطيب، وشعرت بأنها مرغمة على القبول به، لتنأى بنفسها من شر ابن عمها، وإن كان يعني ذلك تعاستها، دمدمت بأنفاسٍ مهمومةٍ، والضيق يكسوها:

-طول عمرها حظها قليل.

استغربت ابنتها من التشاؤم البادي عليها، واعترضت بصوتٍ خفيض:

-ماتقوليش كده يا ماما، كل واحد بياخد نصيبه، وأنا واثقة إن "فيرو" هتلاقي مع "آسر" كل اللي كانت بتتمناه.

همهمت بفتورٍ:

-يا ريت.

استدارت "همسة" برأسها للجانب الآخر، وألقت نظرة على "خليل" وزوجته، كانا مشغولان بتناول الطعام الشهي، احتلت الأطباق المليئة بالأصناف المختلفة مساحة الطاولة بالكامل، وهذا غير اعتيادي على خالها، حيث كان الأخير حريصًا كل الحرص على عدم إنفاق ماله إلا في الضرورة القصوى، وبمعايير معينة، واليوم ينفق بسخاء شديد، مطت فمها في دهشةٍ، ثم أبعدت نظراتها لتهمس لوالدتها، بنوعٍ من التهكم:

-أومال خالي واخد جمب مع مراته ليه؟ مش بعوايده يدلعها كده، جايبلها أكل غالي، وحلويات وعصاير، ده يتحسد.

بدت غير مبالية وهي تجيبها:

-جايز بيعوضها عن غيابه.

لم يكن بالرد المقنع، فكتفت ساعديها، وتساءلت باهتمامٍ فضولي:

-تفتكري؟!!

نهرتها والدتها عن التدخل فيما لا يعنيها مشددة عليها بنظراتها، وأيضًا بنبرتها:

-مالناش دعوة بيهم، هما أحرار.

ثم طردت الهواء الثقيل من صدرها، ونطقت بتعب:

-خلينا نشوف هنعمل إيه بعد كده، لسه ورانا حاجات كتير تخص جوازة أختك.

.....................................................

بطيئة كأدهر، انقضت الليالي عليه كل واحدة تشبه الأخرى، بما فيها من كآبة، وأحزان، لم يترك نفسه لعقله، أرهقه بإغراقه في المزيد من الأعمال المستنزفة لقواه، ليعود مساءً إلى فراشه، غير قادرٍ على الحركة أو التفكير، فينام مانعًا الأحلام من زيارته .. عكف "تميم" على مراجعة دفتر آخر، بعد أن اكتشف عدم تطابق البيانات والأرقام في الدفتر الأول، قارنه بالفواتير المجمعة في ظرف قديم من اللون الأصفر الداكن، والتي من المفترض أنها تخصه، لاحظ وجود نفس الفروق على فترات متزامنة، ليست متعاقبة؛ لكنها متكررة بطريقة تدعو للاسترابة، ناهيك عن ضياع بعض الفواتير ذات القيم الشرائية العالية. لف يده خلف رأسه، ليضعها على عنقه، ويفرك بها فقراته المتيبسة، مرددًا لنفسه:

-الحكاية دي مش طبيعية، مش مرة والسلام!

قلب في الفواتير مجددًا، وفتش في الدرج السفلي الذي تتواجد به الأظرف، باحثًا عن فاتورة ضائعة، أو أخرى تائهة بين مقتنياته؛ لكن لا شيء، مما ضاعف من حيرته، توقف عن البحث، وأرجع ظهره للخلف ليريحه، متابعًا حديث نفسه؛ وكأنه توصل لاستنتاج ما:

-إما إن في حد بيسرقنا، يا حد بيعمل شغل من ورانا.

أنهكه البحث عن التفسير المنطقي للتلاعب البائن في الأوراق التي فحصها، وبالتالي لم ينتبه لمن يراقبه في الخلف، غامت تعابير "محرز"، وتوحشت نظراته، بخطواتٍ حثيثة، انسحب قبل أن يلحظه وهو يتوعده:

-هو لو فضل على الحال ده، كل حاجة هتتكشف، يبقى لازم أتغدى بيك قبل ما تتعشى بيا.

كالمذعور قفز في مكانه حين باغته "هيثم" متسائلاً من خلفه:

-بتعمل إيه يا "محرز"؟

استدار نحوه بوجهٍ مفزوعٍ، وادعى بالكذب، وهو يحاول لملمة شتاته:

-بأراجع الطلبات اللي ورانا في دماغي، الشغل اليومين دول كتير والحمدلله.

حك "هيثم" طرف ذقنه معلقًا عليه بطرافة:

-إيه يا عم هتحسدنا ولا إيه؟!

رمقه بتلك النظرة الحادة قبل أن يوبخه:

-أنا عيني شبعانة طول عمرها، الدور والباقي عليك، يوم هنا، ويوم في أجازة، تقولش موظف شغال في الحكومة.

رد عليه بتعصبٍ:

-هو بمزاجي يا "محرز"؟ ما إنت عارف المشاكل اللي واقعة اليومين دول، ده غير أخت الجماعة هتتجوز.

كان في البداية غير منتبه لجدالهما الصاخب؛ لكن إفصاحه عن قرب زواج "فيروزة"، وتطرقه إلى سيرتها، دفعت حواس "تميم" للتيقظ كليًا، واشتعلت بروحه المعذبة، تلك النيران التي تلتهم صموده الزائف، وتزيد من تحطيم فؤاده، جاهد بكل ما امتلك من بقايا قوى وعزيمة على تجاهل ما يخصها؛ لكنه فشل، دومًا تسحبه إلى دوامتها المهلكة؛ وكأنها تعرف من أين تُجيد تعذيبه. عض على شفته السفلى، كاتمًا مشاعر الحنين لحبٍ لا أمل فيه، وخنق بقساوةٍ دمعة غادرة فرت إلى طرفه، ليهب بعدها واقفًا، ودافعًا مقعده الخشبي للخلف، قبل أن يلتفت نحوهما ليصيح بهما بخشونة:

-ما كفاية رغي بقى، وكل واحد على شغله، البضاعة لسه في سوق الجملة، عايزة تتشحن على التلاجات.

نظر "محرز" في اتجاهه، وقال بوجومٍ:

-أنا واخد الرجالة وطالع على هناك..

ثم التفت ناحية "هيثم" ليسأله:

-جاي معايا؟

هز رأسه بالنفي وهو يرد:

-لأ، رايح مع الجماعة مشوار عند الجواهرجي، ولو خلصت معاهم بدري هحصلك.

انفلتت أعصاب "تميم" بعد جملته العفوية تلك، بدا في تصرفه المنفعل عليه، وكأنه قنبلة نُزع فتيلها للتو، فامتلأت الأجواء بالبارود الحارق، حيث صرخ به:

-نسيبنا من شغلنا، ونركز مع موال جماعتك يا "هيثم"، ده مال ناس، ومصالح، ولا عايزنا نجيب ضرفها بدري؟!

رد عليه بأسلوبٍ شبه هازئ:

-لأ يا معلم، مش هتوصل للدرجادي، أنا بردك خايف على المصلحة .. وبعدين هانت .. كلها يومين وتتفض الليلة دي كلها.

طعنه بكلماته الأخيرة دون أن يدري، فاحترق أكثر، وانكوى بنيران هجرٍ لن يتذوق مرارته سواه، بلغ تلك الغصة التي تشكلت في حلقه، وقال بجمودٍ منهيًا الحوار، ومستديرًا بظهره ليبتعد عنهما:

-يكون أحسن.

ركل "تميم" المقعد بقدمه في عصبيةٍ، فأسقطه أرضًا، مما سبب صخبًا مزعجًا، وجمع الدفاتر معًا، ليعيدها في مكانها بالخزينة، قبل أن يغلقها وينصرف. تابعه كلاً من "محرز" و"هيثم" بنظراتٍ متعجبة، فتساءل الأول في استغرابٍ:

-هو ماله ده؟

أجاب الأخير بنفس الحيرة:

-مش عارف!

ربت "محرز" بيده على ذراعه، وأضاف، وقد همَّ بالتحرك:

-طيب خليك إنت هنا، وأنا ماشي.

اكتفى بهز رأسه، وظل ماكثًا في الدكان يدير حركة العمال، بعد ذهاب الجميع.

.........................................

-لسه زي ما إنت؟

تساءل "محرز" بتلك الجملة الساخرة وهو يدفع الباب ليلج للسطح، ليجد "نوح" ما زال يدخن تلك النارجيلة المشبعة بالمواد المخدرة، وهو يجلس مستلقيًا على الوسائد الأرضية، انضم إليه، وجذب منه خرطومها ليسحب نفسًا عميقًا يختبر به مدى جودة المنتج، أطلق الدخان في الهواء، وقال في مدحٍ:

-حتة أصلي يا صاحبي.

قال بتفاخرٍ، وهو يستعيد خاصته ليستنشق دخانها:

-إنت عارفني، في المزاج أستاذ.

أثنى عليه "محرز" بهدوءٍ:

-طبعًا.

ثم مد يده ليتناول إحدى زجاجات البيرة، نزع غطائها، وألقاه على الأرضية، ثم تجرع ما بها في جوعه، لتتقلص عضلاته مع مذاقها اللاذع، أدار رأسه في اتجاه رفيق السوء، عندما تساءل بفتورٍ، وهو يضبط حجر الفحم المتقد ليزيد من وهجه:

-ها .. السبوبة إيه المرادي؟ نقلة جديدة؟

نفى موضحًا بغموضٍ مثير:

-لأ، حريقة كبيرة.

بدا من حديثهما المتبادل في اقتضابٍ، أنها لم تكن المرة الأولى التي يتشاركان فيها في أعمالٍ غير مشروعة، تساءل "نوح" بفضولٍ، وقد أظهر استعداده للمشاركة:

-حلو .. فاضي ولا مليان؟

رد غامزًا له بابتسامة منتشية:

-مليان يا بونط.

حرر "نوح" أنفاس الدخان من صدره، وقال بتلميحٍ متوارٍ:

-كده الفيزيتا (التكلفة) هتعلى!

أكد له بثقةٍ ملموسة في صوته، وتعابيره المستريحة:

-متقلقش.. هنتراضى كويس.

تساءل، وخرطوم نارجيلته بين شفتيه:

-زي الفل، الكلام على مين بقى؟

جاوبه بغموضٍ، ونظراته تحولت للقتامة:

-واحد حبيبك..

سأله مستفسرًا، قبل أن يسحب نفسًا آخرًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره المحترق:

-مين يعني؟

ثوانٍ لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة صمت خلالها، لينطق بعدها مفصحًا عن هوية الضحية الجديدة:

-"تميم"، ودكانه.

بمجرد الإعلان عنه، هبطت الصدمة غير المتوقعة على رأسه، لتصيبه بالارتباك والذهول، اختنق بدخان نارجيلته، وسعل بقوةٍ جارحًا أحباله الصوتية، بصوتٍ مبوحٍ مختلط ببقايا الدخان والسعال، سأله في توجسٍ مندهش:

-نعم .. "تميم" بتاعنا؟ ابن الحاج "بدير"؟

حرك "محرز" رأسه بإيماءة بسيطة، دون أن يبدو عليه التعاطف معه، وقال مؤكدًا –وبحسمٍ- وتلك اللمعة الشيطانية تتراقص في نظراته:

-أيوه .. هو المغضوب عليه ..................................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة