-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثالث والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثالث والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثالث والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثالث والعشرون

 بالكاد تماسكت وقاومت تلك الرجفة التي اعتلت جسدها بعد تهديده العلني الخالي من أي شفقة، نظرت لعينيه القاسيتين محاولة إخفاء توترها، كانت حدقتاه تعكسان قوة، صرامة، غضبًا متعاظمًا، وكراهية مُعلنة، تلوت "فيروزة" بمعصمها بين أصابعه القابضة على رسغها، لكنه أبى تركها، استمتع "تميم" للحظة برؤيتها محاصرة منه، ومع حركتها الزائدة تناثرت رائحة عطرها لتعبق صدره، هنا أصابه التشتت، وارتخت أصابعه قليلاً عنها، ومع شحذها لكامل قواها انتزعت رسغها من قبضته انتزاعًا، وقالت في استبسالٍ وعيناها تتطلعان إليه:

-اتكلم على أدك، وفي اللي يخصك!

نظر لها بازدراءٍ، وقبل أن يرد عليها صاحت عاليًا:

-عجبك اللي بيحصل برا ده يا ماما؟

فهم "تميم" تلميحها الضمني باللجوء إلى والدتها لحمايتها منه، وكأنها تنذره بعواقب تواجده معها، استعادت ثقتها وجراءتها حين رأت صمته، أشــارت له بحاجبها في تحدٍ، فبادلها نظرات حانقة قبل أن يوليها ظهره وينسحب من أمامها حتى لا تثار المتاعب من لا شيء، زفرة خافتة أشعرتها بالارتياح بمجرد ابتعاده، التفتت بجسدها لتدخل المطبخ، ووقفت إلى جوار والدتها التي هتفت في تضرعٍ وهي تعاود ملء الكؤوس بالعصائر الطازجة:

-ربنا يعدي الليلادي على خير.

ردت في تهكمٍ:

-وهتعدي إزاي وده نفس البني آدم الحيوان اللي وقعك على الأرض؟

حدث ما كانت تخشاه "آمنة"، كانت واهمة حين ظنت أن ابنتها لن تتذكره، ابتلعت ريقها وردت وهي تدعي انهماكها في العمل:

-موقف وراح لحاله!

صاحت في استنكارٍ وقد اربد بها الغضب:

-ده أنا كنت ها ضربه وأوديه القسم، هو ده اللي عاوزه تجوزيه لبنتك

لمحة خاطفة من عيني "آمنة" لوجه ابنتها المتشنج قبل أن تدير رأسه وتقول:

-خلاص بقى يا "فيروزة"، مايبقاش قلبك إسود!

نظرت لها بغيظٍ وردت بنبرتها المتعصبة، وكأنها تلومها:

-بقى أنا اللي قلبي إسود؟ يا ماما بلاش السلبية اللي هتضيعنا دي!

حاولت "فيروزة" أن تضبط انفعالاتها فسحبت شهيقًا عميقًا ولفظته على مهلٍ لتضيف بعدها متسائلة:

-طب إنتي موافقة إن بنتك تعيش مع حماتها في بيت واحد؟

تركت والدتها ما في يدها وضربت براحة كفها على السطح الرخامي غير مكترثة بالألم الذي حل بعظامها المتعبة، ثم هتفت في نفاذ صبرٍ:

-لأ مش عاجبني، بس ما باليد حيلة، الست مش غلطانة برضوه، أنا لو أعدة لوحدي هافكر في كده، وهيبقى نفسي ولادي وأحفادي يقعدوا معايا يلموا عليا البيت.

ردت بعدم اقتناع:

-ده مش مبرر برضوه!

وقفت قبالتها وتنهدت قائلة:

-أنا تعبت والله.. مبقتش عارفة أعمل إيه

عقبت ابنتها بنزقٍ، وكأن مسألة إقناعها بتنفيذ ذلك أمر مفروغ به:

-خلينا نفض الجوازة دي، بناقص منها.

تطلعت إليها في اندهاشٍ، وعلقت عليها تسألها:

-وبعدين؟ تفتكري إيه اللي هيحصل؟ خالك هيسكت؟

وقبل أن تبادر بالرد تابعت "آمنة" باستياءٍ:

-لأ طبعًا، ده مش بعيد يقلبها حريقة ويهد البيت ده على اللي فيه، وأنا أنا مش هاستحمل يعمل فيكم حاجة

سألتها من جديد بنظراتٍ تلومها:

-وتضحي بينا؟

اكتسبت ملامحها قساوة غريبة، واستطردت:

-أختك اللي اختارت.

قالت بأنفاس متهدجة تعبر عن ضيقها:

-غبية ومابتفهمش، جت تنقذ موقف ضيعت نفسها، وأنا مش هاقف أتفرج على الـ....

قاطعتها بنبرة أقرب للتوسل وقد سئمت من جدالها المرهق:

-كفاية يا "فيروزة"، عشان خاطري بلاش تبوظي كل حاجة.

بهتت من كلماتها الأخيرة، شعرت بأنها تلقت قذيفة فوق رأسها، اختنق صوتها وهي تسألها:

-أنا يا ماما؟

لانت نبرة والدتها وغلفها الحزن حين أوضحت لها:

-افهمي، محدش هايقف معانا، وزي ما إنتي خايفة على أختك، فأنا خايفة على بنتي أكتر منك، بس هاعمل إيه قصاد جبروت خالك والناس القادرة اللي برا؟ إنتي خبرتك قليلة في الدنيا، ومتعرفهومش زي ما أنا أعرفهم..

رفض عقلها تصديق مبرراتها وإن كانت منطقية، في حين أكملت "آمنة" بنفس الصوت المرير:

-احنا عيشنا يومين جحيم بسبب تهورك، طب تفتكري هيعملوا فينا إيه واحنا بنقولهم معندناش بنات للجواز؟ مش هيسامحوا في ده، وهانكون فُرجة الحتة كلها.

ردت عليها بهدوءٍ رغم الثورة الدائرة بداخلها:

-بس كده احنا بنشارك في ظلمها، خلينا نفكر من تاني و..

أدارت ظهرها لها، وانحنت قليلاً لتمسك بطرفي الصينية وهي تقول:

-كل شيء قسمة ونصيب، ونصيبها جه مع الشاب ده!

حزنت "فيروزة" كثيرًا لافتقار والدتها للشجاعة، فقط لو منحتها الدعم لأنهت تلك الخطبة، لكنها تركتها وحدها تقاتل مع من هم أشد منها قوة، نكست رأسها في خزيٍ وأسف، اتجهت نحو حوض المطبخ لتملأ كوبًا فارغًا بالماء، لم تلتفت للخلف حين سمعت "حمدية" تتساءل بلهفةٍ:

-إيه الرغي ده كله، الناس بتسأل عليكم برا، عاوزين نقرى الفاتحة.

شعرت بنظرات أمها مرتكزة عليها وهي ترد:

-حاضر يا "حمدية"، طالعين وراكي.

دمعة حبيسة تشكلت في مقلتيها حسرة على خذلان والدتها لها، مسحتها بطرف يدها وتنفست بعمقٍ حتى تعود إلى الحشد المجتمع بغرفة الصالون وهي مرفوعة الرأس كما عاهدوها.

.................................................................

استقرت في منتصف الأريكة بجوار والدتها وعلى يسارها جلست أختها التي تشد من أزرها بقوة شخصيتها، أحست "همسة" أنها تُعايش حلمًا غريبًا، اختفى تورد وجهها، وحل الوجوم المتواتر على ملامحها، بقيت أنظارها مثبتة لحظيًا على وجه العريس الذي تذكر وجوههن المألوفة، عرفت ذلك حين تطلع إليهن باندهاشٍ قبل أن تبتعد عيناه عنهن ليحملق في ساعة يده لبعض الوقت، ارتخت في جلستها وتفحصت ملامحه بتمهلٍ، لكنه أمسك بها وهي تحدق به بعبوسها، تلبكت وأخفضت عينيها وتجنبت النظر نحوه ولو مصادفة ..

لم ينكر "هيثم" أن التردد ظهر على تعابيره في البداية حين ولجت الاثنتان للغرفة، والسبب بديهي، لم يكن يعرف من منهما عروسه، تغلله شعور كبير بالارتياح وقد تأكد من كونها تلك الفتاة الخجلة الهادئة؛ النقيض الكلي لأختها المتحفزة دومًا والتي على ما يبدو أنها تستعد للانقضاض عليه في أي وقت. تأملها بإمعانٍ مستغلاً التهاء الجميع بالحديث نيابة عنه، كانت رقيقة، جميلة، يظهر عليها الارتباك بشكلٍ فاضح وإن ادعت تماسكها، للحظة ظن أن الحظ لعب معه ومنحه فرصة ذهبية لتعويضه ولو بالقليل عن مآسيه المتعاقبة، بدا ممتنًا لـ "محرز" لأنه مهد له الطريق، لكن عاد التوتر ليحتل تفكيره وقد انتابه هاجس مزعج من احتمالية إنهاء الخطبة قبل أن تبدأ لمجرد التطرق للمشكلة الكلامية التي نشبت بينهم حين قام بالسرقة المشؤومة، تصلبت عروقه، وزاد توتره ..

أحس بجفاف مرير يضرب جوفه، بغصة علقت في حلقه، انحنى بجذعه للأمام ليمسك بكأس المشروب ويبلل به شفتيه، ارتوى قليلاً، لكن توتره لم يسكن بعد، لذا قرر أن يشعل سيجارة ليدخنها حتى يخفف من حدة اضطرابه، ظهر الامتعاض على محياه مع استمرار "فيروزة" في المقاطعة والتعليق، بالكاد حافظ على هدوء أعصابه إلى أن انسحبت وراء والدتها، هنا أخرج زفيرًا بطيئًا أزاح به الثقل الجاثم على صدره، ورويدًا رويدًا بدأ يشعر بالثقة والأمل حين تولى "خليل" زمام الأمور من جديد ورحب بالضيوف بكلماته المتملقة ليذيب الجليد ويزيد من جو الألفة والمحبة بين المتواجدين.

عادت "فيروزة" لمقعدها، والتزمت الصمت، ثم بدأت الاتفاقات الاعتيادية بين الطرفين دون أدنى اعتراض ليشرعوا بعدها في قراءة الفاتحة بعد الاستقرار على كافة الأمور، مسح "محرز" على صدغيه فور إنهائه للقراءة قائلاً بصوتٍ مرتفع وابتسامته اللزجة تنير وجهه:

-أمـــين، ألف مبروك يا جماعة، وعقبال الليلة الكبيرة..

هتف "بدير" بصوته الأجش وهو يشير بيده:

-إن شاء الله العروسة تحدد يوم تنزل تنقي فيه شبكتها مع حماتها، أحلى حاجة في محل الصاغة، ومايهمكوش الفلوس، دي هدية مني ومن أبويا الحاج "سلطان".

ردت "آمنة" تجامله بتهذيبٍ:

-ربنا يباركلنا فيك يا حاج، احنا هانشوف ظروفنا ونرتب مع الحاجة "بثينة".

نهضت "خلود" من جلستها لتضع علبة الخاتم الحمراء في صينية المشروبات الفارغة، وقالت بحماسٍ قبل أن تعود إلى مكانها:

-حاجة بسيطة نقاوتي، يا رب تعجب العروسة.

على الفور تحركت "حمدية" لتلتقط العلبة، فتحتها ونظرت إلى ما فيها بعينين مدهوشتين وفمٍ مفتوح في انبهارٍ، رفعتها نصب عيني زوجها لتقول بنبرة مادحة:

-ماشاءالله، ربنا يزيد ويبارك، الغالي ما يجبش إلا الغالي، بص يا "خليل" على الخاتم القيم ده!

حملق هو الآخر مبهورًا في الخاتم الذي عكس بريقًا جذابًا، سال لعابه قائلاً حين حمله بين أصابعه ليشعر بثقل وزنه:

-اللهم صلي على النبي، حاجة حلوة بصحيح ..

ابتلع ريقه والتفت نحو ابنة أخته يأمرها وهو يتصنع الضحك:

-تعالي يا عروسة، اشكري حماتك وعمتك الصغيرة على هديتهم الغالية.

نظرة سريعة من "همسة" إلى والدتها، وكأنها تستشيرها في صمتٍ، وجدتها تستحثها بعينيها لتنفذ طلبه، وعلى مضضٍ نهضت مجبرة من مجلسها، واتجهت إلى الاثنتين لتنحني عليهما وقبلت كل واحدة منهما على حدا من وجنتيها وهي تتمتم:

-ميرسي، ذوقكم جميل.

احتضنتها "خلود" بسعادةٍ قائلة لها:

-العفو يا عروسة، ولسه هتشوفي حاجات حلوة كتير، ده إنتي هتتجوزي أخويا.

ثم استدارت برأسها لتأمر أخاها بتسليةٍ وضحكتها المشرقة تصدح:

-ماتلبس عروستك الخاتم يا "هيثم"، ده إنت العريس والليلة دي كلها عشانك.

أيدها "محرز" الرأي قائلاً:

-مظبوط، ولا هو بيكسف

ثم كركر ضاحكًا باستظرافٍ غير مكترث بمشاعر الآخرين نحوه إن كانوا يتقبلون مزحه وطرفاته أم لا، تشجع "هيثم" ونهض من مكانه ليدنو من عروسه التي لم تنظر نحوه مطلقًا، مـد ذراعه أمامها وتنحنح قائلاً بصوتٍ خفيض:

-احم.. هاتي إيدك يا عروسة:

استجابت له "همسة"، وردت بصوتٍ بالكاد سمعه:

-اتفضل.

ارتعشت يدها أسفل قبضته التي لامست جلدها، وسحبتها على الفور حين ألبسها الخاتم، خجلتٍ وارتبكت وتصببت عرقًا وهي تفعل بالمثل له، شعرت بأنفاسه قريبة من وجهها وهو يهنئها:

-مبروك.

أسبلت عينيها نحوه ترد في تلعثمٍ مرتبك:

-الله يبارك فيك.

انطلقت الزغاريد عاليًا كتعبير عن فرحة النساء بإتمام الخطبة العائلية، والرغم من الإعياء الظاهر على "هاجر" إلا أنها شاركتهن في ذلك، مالت عليها "ونيسة" تحذرها:

-بالراحة يا بنتي عشان نفسك.

قالت في استحسانٍ وحبور:

-ده أخويا يا ست الكل، ومعزته عندي زي "تميم" بالظبط، ولازم كلنا نفرحله.

ربتت "بثينة" على كتف ابنة أختها تشكرها:

-ربنا يخليكوا لبعض يا حبيبتي، احنا كلنا عيلة مهما حصل!

اندفعت "حمدية" في اتجاه "فيروزة" لتدفعها من كتفها عنوةٍ حتى تجبرها على الوقوف وهي تأمرها بلهجة مزجت بين الجدية والمرح:

-تعالي يا "فيروزة" مكان العريس وخليه يقعد جمب عروسته شوية، خليهم يفرحوا ببعض.

زوت الأخيرة ما بين حاجبيها مرددة في ضيقٍ:

-أنا؟!!

أطلقت ضحكة مجلجلة وهي ترد عليها:

-يالا بقى، ماتبقيش زي العزول كده!

نهضت "فيروزة" مرغمة، وبحثت عن مكان شــاغر لتجلس به، فلم يكن هناك سوى ذلك المقعد الملاصق لـ "تميم"، حيث جلس "هيثم" في البداية قبل أن يحتل مكانها، تطلعت إليه في حيرة وضيق، بالطبع كانت الفرصة مناسبة لخصمها لينظر لها بتشفٍ، وكأنه يتحداها في صمتٍ أن تجلس بجواره، وبترفعٍ وغرور ســارت ناحيته، واستقرت قريبة منه، تعمدت أن تبدو كالصنم، متكلفة، متعالية إن دق التعبير، لا يظهر على قسماتها علامات الرضا، وعلى قدر الإمكان أجبرت عينيها ألا ينظرا إليه، التفاتة بطيئة حانت من رأسها حين هنأتها "خلود" ببسمتها المبتهجة:

-مبروك يا حبيبتي، عقبالك.

ردت عليها بنبرة موجزة وهي تشيح بوجهها المتجهم:

-شكرًا

في حين علق عليها "تميم" قاصدًا الاستهزاء بها:

-اللي زي دي ما بيعجبهومش العجب يا "خلود"، هيفضلوا كده من غير جواز...

-ومش بعيد يعنسوا!

أكمل جملته وهو ينظر لها بجمودٍ وتلك الابتسامة الساخطة تعلو شفتيه، إهانة حقيرة لشخصها في حضور زوجته لم تتقبلها منه، استدارت برأسها نحوه ترمقه بنظرة نارية، وقالت بصوت خفيض وهي تكز على أسنانها:

-يغور الجواز اللي يجي من ناس ماتستهلش!

ردت عليها "خلود" بمرحٍ:

-بس الجواز عن حب جنة.

عقبت "فيروزة" بما يشبه السخرية متعمدة الاستهانة بمشاعرها:

-زيك إنتي والـ .. الأستاذ! عايشين في جنة، صح؟

قست تعابير "تميم" من كلماتها الدلالية، ورد عليها بصوتٍ أجوف ليخفي غضبه، ولكنه أحرجها:

-ميخصكيش اللي بيني وبين مراتي، الزمي حدودك!

اختلج وجه "فيروزة" بحمرة ألهبت بشرتها على الفور لإحراجه لها بهذا الشكل السافر، نظرت له بعينين تشعان غيظًا قبل أن تتطلع أمامها وقد ازدادت عبوسًا .. مالت "خلود" على زوجها تعاتبه برقةٍ وبصوتٍ خافت:

-اهدى يا حبيبي، مالوش لازمة الكلام ده معاها، هي شكلها اتضايقت

رد بنفس الصوت الحانق:

-اللي مش عاجبه يشرب من البحر.

اخترقت كلماته الحادة أذني "فيروزة" فأطبقت على شفتيها بكل قوةٍ لتكتم اندفاع لسانها حتى لا تنقلب السهرة لمعركة يتراشق فيها الاثنين سويًا بالألفاظ .. هبت واقفة لتترك مكانها خاويًا واتجهت إلى والدتها وجلست على مسند أريكتها ومالت نحوها لتبدو كأنها تتبادل معها الحديث في شيء ما، مجرد وسيلة هروبية مكشوفة أشعرت "تميم" بالضيق، وضاعفت من انزعاجه، فبالرغم من انصرافها إلا أن أثر عطرها بقي يداعب أنفه ويوتر حواسه.

...............................................

نشوة عجيبة غمرت أحاسيسه وهو يجلس إلى جوار تلك الفاتنة، أمسك بطرفي سترته يشدها ليظهر مشدود الجسد، ومفتول العضلات فتعجب بقوته الذكورية المستترة، وجد "هيثم" لذة عجيبة في هذا الأمر، لذا نظر إليها بجراءة أكبر، وجاب بعينيه على تفاصيلها المشوقة التي تحاول حجبها عن عينيه مما زاده رغبة فيها، حتى أنها حفزت خيالاته الجامحة لتخيلها بشكلٍ أكثر تجاوزًا.. تدارك نفسه وتنحنح بخفوت وقد حرك عينيه في الجهة الأخرى ليمررها على أوجه المتواجدين، لم ينتبه إليه أحد فأشعره ذلك بالارتخاء، وتساءل مستنكرًا:

-أنا متوتر ليه، ما كله برضاهم وبموافقتهم.

تعاظمت بداخله الرغبة في الاستمتاع بما فُرض عليه، ولما لا الخطبة قد باتت رسمية الآن؟ سدد نظرة متفرسة لـ "همسة"، كانت تبدو كفتاة مطيعة، مرتعبة قليلاً، لكنها ناعمة، ربما ستمنحه بعض السعادة في حياته الرتيبة الفارغة، وستكون أيضًا وسيلته المشروعة لإشباع غرائزه التي تأزر من حين لآخر، ناهيك عن الاستفادة المادية من وراء زيجته. تشجع "هيثم" ومرر يده بتمهلٍ ليمسك بيد "همسة" التي انتفضت كمن لدغها عقرب بمجرد إحساسها بقبضته عليها، حملقت فيه في ذعرٍ وابتلعت ريقها، حاولت سحب يدها من بين أصابعه، لكنه أطبق عليها جيدًا، أحنى نفسه عليها ليبدو صوته قريبًا منها وهو يهمس لها:

-مش المرادي يا عروسة.

قشعريرة باردة سرت في أوصالها، أحست بمزيدٍ من الخوف والخجل والكل يتطلع إليها، التفتت تنظر إليه بما يشبه الرجاء قبل أن يخرج صوتها المتحشرج الخافت من بين شفتيها ليقول له:

-لو سمحت، أنا .. مش بأحب كده.

ابتسم وهو يرد عليها:

-بكرة تتعودي..

ثم مال عليها أكثر ليكمل همسه المداعب:

-وجايز تتخانقي معايا عشان مش ماسك إيدك.

استجمعت قوتها الهاربة لتستل يدها من بين أصابعه، وردت عليه بصوتها المرتبك:

-لأ مش هتخانق.

انزعج من عدم تجاوبها وقال بضيقٍ، وكأنه يحذرها:

-على راحتك، بس يا ريت ماتبقيش زي المحروسة أختك.

رفعت رأسها لتحملق فيه مصدومة، لم تكن تعابيره بالمازحة، بل أصبح إلى حد ما قاسيًا كالحجارة الجافة، شعرت "همسة" بقلبها يضطرم من الخوف، التفتت باحثة عن توأمتها علها تنجدها فوجدتها مشغولة بالحديث في هاتفها، كتمت شهقتها بصعوبة وقد شعرت بيده الخشنة تحتضن كفها من جديد، أدارت رأسها ناحيته فوجدته يتطلع إليها بتحدٍ وأصابعه تزداد شدة عليها، وكأنه يخبرها بشكلٍ غير منطوق أنه بات من تلك اللحظة يمتلك زمام أمرها، أدركت حينئذ أنها جنت على نفسها حين تسرعت بالقبول، وبدأ إحساسها الحقيقي بالندم يتسرب إليها.

...............................................

وُزعت حلوى الشيكولاته على الجميع، وامتلأت الأجواء ببعض الدعابات الفكاهية الجيدة أحيانًا، كما ظلت الأحاديث الودية تدور بين الأطراف في كافة المواضيع اليومية وما بالمنطقة من مشكلات تنغص ساكنيها حتى اقترب ميعاد انصراف الضيوف، هنا اقترح "محرز" بحماسٍ وهو يضع باقي الورق الفارغ من الحلوى على الطاولة أمامه:

-طب بالمناسبة الحلوة دي المفروض كلنا نطلع نتعشى برا في أحسن مطعم في المنطقة.

رد عليه "بدير" مبتسمًا:

-احنا عجزنا يا ابني على السهر!

قال بتملقٍ:

-عجزت إيه بس يا حاج؟ ده إنت لسه في عزك.

تدخلت "ونيسة" في الحوار، وقالت مازحة:

-خلي العرسان يطلعوا هما اللي يتعشوا برا..

ظنت أن حديثها لن يؤخذ بمحمل الجد، لكنها تفاجأت بـ "محرز" يرحب به ويؤيده، فأضاف بنفس اللهجة المتحمسة:

-والله فكرة، بس لازمًا ناخد رأي الخال، إيه رأيك يا عم "خليل"؟

فرك "خليل" طرف ذقنه مدعيًا التفكير، ثم أردف قائلاً ببسمة فاترة:

-ولو إني مابحبش السهر ولا التأخير، بس مافيش مانع، خلي "همسة" تتبسط مع عريسها.

ارتبكت "همسة" من ذلك الاقتراح، وظهر توترها على قسماتها، نهضت من مكانها واتجهت إلى أختها تهمس لها في خوفٍ:

-سامعة خالك، ماتسبنيش يا "همسة" لوحدي معاهم، أنا معرفهومش

ردت تطمئنها وقد استقامت واقفة:

-متقلقيش..

تقدمت خطوتين نحو خالها، وقالت بما يشبه الرفض، ولكن بأسلوب لبق:

-سوري يا جماعة، بس أختي ما بتخرجش لوحدها.

رد عليها "محرز" ضاحكًا بسخافة:

-تعالي معاها، مش معنى إنك مش مخطوبة زيها ماتجيش، ولا إيه؟

طُرفة مهينة نالت منها وأحرجتها على مرأى ومسمع الجميع، بل وكادت تشعرها بالانتقاص لولا أنها حركت شفتيها لتخبره بنفس أسلوبه السمج والمستفز، وقد وضعت يدها أعلى منتصف خصرها:

-لا شكرًا، مش محتاجة اتخطب عشان أخرج، أنا أعرف أبسط نفسي كويس.

تنهد "خليل" مبديًا موافقته حتى يكبح غضب ابنة أخته قبل أن يتفاقم:

-أنا معنديش مانع، روحي مع أختك.

نظرت إلى خالها في ضيقٍ، فبدلاً من أن تُخلص أختها تورطت معها، نهض "محرز" من مكانه ليتجه إلى حيث تجلس زوجته، وقف خلفها، وتابع:

-احنا معندناش أي مشكلة، الدعوة أصلاً للكل، وبالمرة "تميم" يفسح مراته، ما هما عرسان جداد بردك.

انتصب "تميم" في جلسته المتحفزة، وتلقائيًا اتجهت عيناه نحو "فيروزة" التي كانت تطالعه بكراهية بائنة، لمسة ناعمة من "خلود" على كفه جعلته يستدير نحوها ليجدها تقول له بدلالٍ وغنج:

-أيوه يا حبيبي، إيه رأيك؟ أهوو نغير جو، عشان خاطري وافق.

أبعد حدقتيه عن زوجته ليعاود تسليطهما على وجه "فيروزة" المتشنج وهو يرد غير مبالٍ:

-اللي يعجبك.

قال "خليل" بلطفٍ غير مستساغٍ منه ليظهر بمظهر الصرامة أمام أنسابه الجدد:

-خلاص يا "فيروزة"، روحي مع أختك، ماتأزميهاش، بس هي ساعة زمن بالكتير، وخليكي معايا على التليفون، مش عاوز تأخير

نظرت له بحدةٍ وقد بدا الاستنكار من كذبه السخيف مقروءًا على تعبيراتها .. قالت "هاجر" بتأويهة متعبة والإجهاد يبدو عليها:

-معلش يا جماعة، اعذورني مش هاقدر أروح معاكو، أنا يدوب "محرز" يوصلني البيت، الحمل تاعبني شويتين

قالت "آمنة" في ودٍ:

-ربنا معاكي ويقومك بالسلامة، ويقر عينك بمولود سليم

ردت مجاملة:

-تسلمي يا خالة..

استند "سلطان" على مسندي الأريكة بيديه المجعدتين، حركات حذرة قام بها حتى لا تئن عظامه بآلامها، نهض من مكانه، واستقام قائلاً:

-احنا كده خلصنا مهمتنا.

اعتبر "بدير" كلمات أبيه بمثابة إشارة ضمنية لانقضاء السهرة، فنهض هو الآخر ليقول مؤيدًا:

-مظبوط يا حاج "سلطان"، هنستأذنكم يا جماعة، وفرصة طيبة.

هتفت "حمدية" معترضة بضيقٍ مفتعل:

-ما لسه بدري؟ ده احنا عاملين حلويات شرقي تستاهل بؤكم، و...

قاطعها "بدير" بلطفٍ:

-بالهنا والشفا، ده كده رضا أوي، وبعدين احنا ورانا أشغال ومصالح كتير من الفجرية

رد عليه "خليل":

-كان الله في العون يا حاج.

ردد "محرز" عاليًا وهو يلوح بيده في الهواء حتى ينتبه له الجميع:

-إن شاءالله متجمعين في الخير، احنا هنستنى الشباب تحت، سلامو عليكم

دنت "همسة" من أختها بعد أن تحررت من حصار خطيبها، تعلقت بذراعها كالغريق، ونظرت لها في توترٍ حائر قبل أن تسألها بخفوتٍ يشير إلى ربكة لا بأس بها تحتل كيانها:

-هنعمل إيه دلوقتي؟

غامت نظرات "فيروزة" وتحولت للقسوة من جديد، أومأت لها بحاجبها وقد بدت مستغرقة في أفكارها العميقة، وكأنها تراجع ما ستقوم به في رأسها .. ابتسامة مزهوة لاحت على جانبي شفتيها للحظة، أعقبها تنهيدة هادئة انفلتت من جوفها لتنطق بعدها بغموضٍ وقد اكتسح نبرتها قوة أنثوية تليق بشخصها غير الضعيف:

-هنخرج، وهيعرفوا هما ناسبوا مين ................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثالث والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة