-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون

 أرهفت أذنيها محاولة التلصص على تلك الأحاديث الهامسة بين خطيبة ابنها وزوجة خالها، لم تكن "بثينة" راضية عما يحدث من همهمات مُثيرة للشك، وما أوغر صدرها هو الطمع البائن عند انتقائها لتلك القلادة اللافتة للأنظار وإصرارها عليها، شعرت بالندم لعدم إظهار اعتراضها، وأدركت أن نظرتها لتلك الفتاة منذ البداية كانت خاطئة، وبنظراتٍ ممتعضة ووجه شبه حانق تحركت عائدة للداخل لتجلس بجوار "آمنة" وهي تبرطم بكلماتٍ ساخطة غير مفهومة، نظرت الأخيرة لحماة ابنتها بتمعنٍ، ولاحظت مدى العبوس الظاهر على تعابيرها، فسألتها بسجيتها:

-مالك يا حاجة "بثينة"؟

نظرت لها باستعلاءٍ من طرف عينها قبل أن تجيبها بنبرة موجزة:

-مافيش.

أحست "آمنة" بوجود خطب ما، وتوجست خيفة من احتمالية تصرف ابنتها بثورة غير لائقة مع تلك المرأة مما أزعجها .. تساءلت "خلود" باهتمامٍ:

-ما وقفتيش تتفرجي معاهم على الشبكة ليه يا ماما؟

أدارت رأسها في اتجاهها، وجاوبتها بوجومٍ:

-ماليش مزاج.

استشعرت تبدل أحوالها، فمالت عليها تلاحقها بأسئلتها، ولكن بصوتٍ خفيض:

-هي خطيبة "هيثم" عملت حاجة مش عجباكي؟ قالتلك كلمة ضايقتك؟

أجابتها بصوتها المتزمت وهي تلكزها في جانب فخذها:

-بعدين هاقولك، مش وقته!

تفهمت "خلود" رغبة والدتها في عدم الحديث علنًا، وتغيرت نظراتها الودودة نحو تلك العائلة ليظهر الضيق عليها، توترت "آمنة" من الصمت الغريب الذي حل بين ثلاثتهن فجأة، أحست باختفاء البهجة من حولها، وتضرعت خفية ألا يحدث الأسوأ.. ولجت "حمدية" للداخل أولاً وأساريرها منفرجة، وتلك الضحكة العالية لا تبارح شفتيها، انطلقت منها زغرودة فرحة جلجلت في المكان، ثم هتفت صائحة بغبطةٍ عجيبة:

-ماشاءالله حاجة تشرف بصحيح..

جلست إلى جوار "آمنة" في المقعد الجلدي الشاغر، وقالت بنبرة ذات مغزى تعمدت أن تكون مسموعة للبقية:

-عملت يا "آمنة" زي ما وصتيني مع "هموسة"، مخلتش في نفسها حاجة وماجبتهاش، وخطيبها اسم الله عليه ماتوصاش، ربنا يحميه لشبابه.

ردت تجاملها بحسن نية:

-كتر خيرك

احتقنت عينا "بثينة" ونظرت بغلٍ إلى كلتيهما، الآن اكتمل المشهد السخيف بتلك الجملة المفهومة، ظنت أن "آمنة" خدعتها بإدعاء عدم تدخلها في مسألة شراء الشبكة للعروس، واكتفت بالجلوس لتبدو كالحمل الوديع أمامها، وفي الخفاء هي داهية خططت بمكرٍ لتستحوذ على الأغلى سعرًا والأثقل وزنًا، رمقتها بنظرة احتقارية مهينة، كتمت حقدها عليها في نفسها وكزت على أسنانها تقول في غيظٍ لنفسها:

-ده إنتو طلعتوا عقربتين، وحرباية!

لكنها توعدتها بكراهيةٍ تضاعفت فيها:

-بس أنا قادرة عليكم بأمر الله!

......................................................

حانت من حدقتيه نظرة حائرة على باقي المشغولات المعروضة في الواجهة، كانت تضاهي بعضها البعض في بريقها اللامع وأشكالها الجذابة، لكن بقيت تلك القلادة الوحيدة المتفوقة على الجميع، زفيرٌ بطيءٌ خرج من صدره، وقبل أن يعاود أدراجه للداخل، وتحديدًا عند أعتاب الباب أوقفته "همسة" باعتراض طريقه لتقول بترددٍ:

-ممكن أطلب منك طلب صغير؟

تجمد في مكانه وجال بعينيه عليها، كانت تعبيراتها مختلفة، تظهر الحيرة عليها، تعقدت ملامحه، ثم سألها بنبرة اكتسب إيقاعًا خشنًا، وما زال ضيقه معكوسًا عليه:

-أيوه، في حاجة تانية عوزاها؟

ردت بصوتٍ خفيض وهي تتطلع من فوق كتفه للجالسين بالداخل، وكأنها تحاول استباق الأحداث قبل أن يقع الأسوأ:

-لو ينفع نتكلم برا المحل.

ازدردت ريقها، وانتظرت بقلقٍ رده، لوهلةٍ حدق فيها "هيثم" بنظرة مترددة قبل أن يضع قبضته على ذراعها، دفعها منه للأمام وهو يرد مستجيبًا لرغبتها:

-تعالي.

وقف كلاهما أمام الواجهة، وظلت نظرات "هيثم" مثبتة على وجه "همسة" التي استجمعت جأشها لتقول دفعة واحدة وهي تفرك أصابها في توترٍ، وكأنها بذلك تتخلص من الثقل الجاثم عليها حتى لا يُساء فهمها:

-أنا عارفة إني اللي هاقوله غريب شوية، بس.. ممكن ترجع السلسلة دي، أنا مش عاوزاها!

تفاجأ من طلبها الصادم، وردد بتلك التعابير المندهشة:

-إيه؟ أرجعها؟

أوضحت له بتهذيبٍ رقيق وهي تلعق شفتيها محاولة السيطرة على تلك الربكة التي انتابتها:

-بص هو ده اختيار مرات خالي، وأنا مردتش أحرجها قصاد مامتك، بس أنا مش كده والله، أصلاً مابحبش لبس الدهب، ومش عاوزة حاجة أوفر، فهستأذنك ترجعها.

ضاقت عيناه في تعجبٍ لم ينكره، وسألها بلمحة سخرية:

-بصراحة أنا مستغربك!

تابعت موضحة وقد نكست رأسها في خجلٍ:

-هو أنا بس بتلخبط ومابعرفش اتصرف وقت ما بتحط في الموقف، بس مافيش داعي تشتريها، أرجوك.

كان تصرفها مخالفًا للمعهود في مثل تلك المواقف التي تكشف عن طمع بعض العرائس، أصيب بالدهشة في البداية، لكن تحول ذلك لشعور متعاظم بالسرور، تنحنح بعدها متسائلاً بفضول وهو يتطلع إليها بنظرات متشوقة:

-يعني مافيش حاجة عجبتك نهائي هنا؟

عفويًا انخفضت عيناها على تلك السلسلة الرقيقة التي تتزين بزهرة اللوتس، وأشارت نحوها بيدها قبل أن تجيبه:

-دي كانت عجبتني في الأول.

عمق من نظراته نحو اختيارها البسيط، ثم عاد ليحدق بها وهو لا يزال مندهشًا، ثم ابتسم متسائلاً:

-بس؟

أومــأت برأسها بالإيجاب، وقد لاح على شفتيها بسمة ناعمة:

-أه.

فرك رأسه بيده، وتابع باقتضابٍ:

-ماشي يا ستي

امتدت يدها تلقائيًا لتمسك به، وسألته بتلهفٍ:

-هترجع السلسلة؟

أخفض نظراته ليتأمل يدها الموضوعة عليه، لم تكن كعادتها ترتعش حين يُلامسها، أو حتى تنفر منه، بل بدت أكثر ألفة معه، تحرجت من جراءتها غير المقصودة، وسحبت يدها على الفور، بقيت أنظاره عليها، وابتسم يُجاوبها بغموضٍ:

-ربنا يسهل.

عضت على شفتها السفلى في استحياءٍ، وهمَّت بالتحرك لولا أن سمعت الصوت الرجولي المنادي عاليًا بفظاظةٍ:

-أبو عمـــو!

التفتت لجانبها لتجد أحدهم يعبر الطريق ركضًا وهو يشير بيده لقائدي السيارات حتى يبطئوا من سرعتهم، بدت علامات الدهشة واضحة على "هيثم"، وردد وهو يسير ناحيته:

-"نوح"

احتضنه الأخير وصافحه بحرارةٍ، لم يكن قد التقاه منذ السهرة الأخيرة قبل إعلان خطبته، سأله بنبرة مهتمة وعيناه تتطلعان إلى "همسة"، وكأنها تتفحصها تحت المجهر لتقومها:

-إيه يا عمنا، فينك؟ مش باين ليه؟

رأى "هيثم" نظراته الجريئة نحوها، فجذبه بعيدًا عنها، وسأله بما يشبه الانزعاج:

-بتعمل إيه هنا؟

أجابه مبتسمًا بطريقة لا تبعث على الارتياح:

-ورايا كام حاجة بأخلصها هنا، إنت اللي فينك؟

رد بضيقٍ:

-مشغول شوية.

غمز له متسائلاً بعبثية:

-أها.. مع نسايبك الجداد؟

تصاعد ضيقه وهو يرد:

-أيوه.

أخفض رأسه ليبدو قريبًا من أذنه حين سأله في لؤمٍ:

-دي العروسة؟

رد عليه بصعوبةٍ، وكأن الكلمات تأبى الخروج من جوفه:

-أه.. هي.

نظرة جرئية نفذت منه إلى "همسة" تبعها بقوله الوقح:

-تصدق.. مكنة بصحيح!

لم يقبل بأي شكلٍ جملته المتجاوزة في وصف خطيبته، هاجت دمائه، واندفع غضبه مجتاحًا وجدانه، فانقض عليه، ودفعه خطوتين للخلف، ثم جذبه من ياقته وتوحشت نظراته نحوه وهو يوبخه بقسوةٍ:

-ما تحترم نفسك، دي هتبقى مراتي!!

تصنع الابتسام، وقال مُطلفًا حتى لا يصب جام غضبه عليه أو ينفجر فيه بفعل حميته الذكورية:

-لا مؤاخذة، هنيالك يا سيدي، وعقبالنا.

رمقه بنظرة نارية قبل أن يسأله بتجهمٍ مُضاعف:

-عاوز حاجة تاني؟

رد متسائلاً ببرودٍ:

-مش هاشوفك ولا إيه؟

علق باقتضابٍ:

-أما أشوف ظروفي.

أصــر عليه قائلاً بنبرة مُلحة:

-يا عم تعالى عندي بالليل كده نشوف مزاجنا، ونرجع ليا لي زمان قبل ما تدخل القفص برجليك..

ثم أخفض نبرته ليتابع ممازحًا:

-بعد كده هتتنشق على سهرة من دول.

نفخ مرددًا في سأم:

-ربك يسهلها، يالا من هنا.

غمز له بطرف عينه وهو يكمل:

-ماشي يا عم.. وماتنسانيش في الليلة الكبيرة.

-إن شاء الله.

قالها وهو يدفعه عنوةٍ من كتفه ليزحزحه من مكانه حتى يبتعد ويتمكن من الانفراد بخطيبته وتبادل الحديث اللطيف معها بأريحية، لكن لظرافة "نوح" الزائدة ونظراته غير البريئة التي تجوب عليها بشكل جعل بدنها يقشر، تحرجت "همسة" من الوقوف بلا حول أو قوة، انسحبت في صمتٍ لتعود إلى الداخل وتتخذ مكانها بجوار والدتها وزوجة خالها. لعن "هيثم" مجيء رفيقه الذي أفسد عليه الفرصة، أطلق بعض اللعنات والسباب الخافت وهو يدور حول نفسه ليجعل دمائه الهائجة تحط، بقي للحظة بجوار الواجهة، لكنه استغل وقته وألقى من جديد نظرة متأنية على السلسلة، دار في خلده أن تكون تلك هديته الخاصة لها، لهذا عقد النية على شرائها لها من ماله الخاص الذي كسبه بكده، وليس من النقود التي منحها له زوج خالته "بدير"، أشعرته تلك الفكرة بالرضا، وشــرع في تنفيذها دون أدنى ذرة ندم.

....................................................................

كانت شرارات الغضب تنطلق من عينيها وإن كانت صامتة، فابنها بغبائه الواضح قد ابتاع لتلك الجشعة قطعة أخرى من الذهب بالإضافة للقلادة وخواتم الخطبة وأيضًا سوار عريض، بذلت "بثينة" مجهودًا مُضنيًا حتى لا يظهر حقدها المختلط بحنقها أمامهم، انتظرت انصراف الثلاثة، وأمسكت بتلابيب ابنها توبخه في الشارع بنبرتها المنفعلة:

-كل ده دهب جايبوه للمعدولة؟ إيييه؟ هو مال سايب؟

هتف "هيثم" معترضًا على ما تتفوه به وقد انتزع قبضتيها عنه:

-في إيه يامه، ده بدل ما تقوليلي مبروك؟

تفشت فيها حمى الغضب، وصاحت في تهكمٍ وهي تشيح بيدها لتضعها على جبينها في تعبير مستهجن:

-مبروك على إيه يا إدلعدي؟ ده القرشين اللي جوز خالتك ادهوملنا طاروا في لحظة!

حاولت "خلود" تهدئة والدتها المتعصبة، وقالت بحذرٍ:

-فلوس ومتشالة لوقت عوزة، ماضعوش يعني.

استدارت نحوها محتجة عليها:

-إنتي هيخيل عليكي الحركات دي؟ ده كُهن بنات! الفلوس راحت واللي كان كان

ثم عادت لتنظر إلى ابنها، وزجرته بحدةٍ:

-البت وأمها فضلوا يدحلبوا عليك ونفضوك في تكة

تدخل "هيثم" ليدافع عنهما، فاستطرد محاولاً توضيح الحقيقة لها:

-لأ يامه إنتي غلطانة، "همسة" مكانتش موافقة، و....

قاطعته بصوتٍ أقرب للصراخ وقد اختلج وجهها حمرة غاضبة للغاية:

-إنت هتدافع عنها كمان؟! عشنا وشوفنا، بنت امبارح بقى ليها قيمة عن أمك.

نظر "هيثم" في يأس لوجه والدته الغائم قبل أن يسير مبتعدًا وهو يلوح بيده لأحد سائقي الأجرة، صاحت من خلفه "بثينة" تناديه بصوتها المحموم:

-إنت رايح فين؟ استنى هنا أنا بأكلمك

أجابها وهو يستقل السيارة:

-مش طالبة معايا عكننة، خليني أشوف شغلي، سلام يامه.

ضربت على جانبها بيدها في عصبيةٍ، وتمتمت قائلة بنبرتها المليئة بالغل:

-ماشي يا ابن "غريب"، مسيرك ترجعلي وأفوقك.

وضعت "خلود" يدها على كتف أمها، وتوسلتها:

-اهدي يامه، أعصابك، إنتي ضغطك كده هيعلى.

ردت بأنفاسٍ غاضبة:

-حرقت دمي، لأ والولية مرات خالها واقفة تتشرط وتتنى وتتفرد تقولش شبكتها، عيلة جعانة مشافتش دهب قبل كده!

تفلتت ابنتها حولها في حرجٍ وقد رأت أنظار المارة ترتكز عليهما، أحاطت والدتها من كتفيها، ورجتها بشدةٍ:

-طب بينا على البيت، الناس بتتفرج علينا.

نفضت يدها عنها وهي ترد بعصبيةٍ تزداد حدة كل لحظة:

-اوعي بس ماتمسكنيش!

ردت بهدوءٍ وهي تستدرجها نحو الشارع لتوقف إحدى سيارات الأجرة لكلتيهما:

-حاضر، بس تعالي معايا.

......................................................................

سرى تأثير ذلك المشروب المُسكر في أوصـــاله، منحه دفئًا عجيبًا وحرارة لا بأس بها جعلته يخلع سترته الثقيلة ويغوص بجسده المتعرق في الأريكة، بدأ عقله الواعي في الانسحاب لتحل تلك الهلاوس اللحظية وتملأ فراغات مخيلته، وليبدو التأثير الوهمي بسعادة تفوق الخيال أكثر فاعلية عليه أعطاه رفيق السوء مخدر الحشيش، اكتمل إحساس النشوة المزيف، وتضاعفت الخيالات الجامحة، أسلم "هيثم" نفسه لصديقه وترك له عقله يفسده كيفما يشاء، وأبدع الأخير في سهرته الماجنة تاركًا الخمر يعبث برأسه، فبدا في حالة ما بين الوعي والهذيان، وبــاح بسهولة بعلاقته بخطيبته الخجولة .. تساءل "نوح" مستوضحًا بلسانٍ ثقيل:

-وجبتلها السلسلة يا مغفل من غير ما تاخد منها حاجة؟

هز رأسه يجيبه:

-أه، عملت حركة جدعنة، وأمي كانت هتطق مني.

ضحك "نوح" مستهزئًا به:

-وإنت فييس الصراحة!

انطلقت من "هيثم" ضحكة غير طبيعية، ورد ساخرًا هو الآخر:

-هي كانت فلوس أبويا.

ثم انطفأت ضحكته وساد الوجوم على تعابيره عندما واصل القول:

-إياكش تحن عليا بدل ما هي منشفاها معايا.

رد "نوح" مستنكرًا بنفس النبرة المتلعثمة لتظهر صعوبته في الكلام:

-كمان.. منشفاها؟

قال بعبوسٍ:

-شوفت يا سيدي.

مال نحوه ليلكزه في ساقه بقدمه ليهتز جسده المتهالك، وأضــاف مستخفًا به:

-ولا تلاقيك مش عارف تجيب معاها سكة، شكلك هتطلع بؤ في الآخر وتفضحنا

هتف محتجًا وهو يعتدل في رقدته:

-لأ أنا راجل غصب عن عين الكل!

استحثه بخبثٍ يُشبه فحيح الأفعى:

-بؤ.. وريها هي مش أنا! عرفها إنك راجل!

عبث في رأسه بكلماته الموحية مُزينًا له سوء عمله، وبغباءٍ محكم انساق "هيثم" وراء ضلالاته الخداعة، فنهض وهو يترنح بجسده ليقول:

-هاتشوف هاعمل إيه.

شجعه ببسمته الشيطانية:

-وريها يا أبو المعلمين!

انحنى "هيثم" ليجمع سترته التي ألقاها أسفل قدميه حين تمدد على الأريكة، وضعها على كتفه بإهمالٍ، وســار بغير اتزانٍ قاصدًا الذهاب لبيتها في تلك الساعة المتأخرة من الليل وتلك الرغبة الغريزية تتأجج بداخله وتستعر بشدة كأنها تريد التهامه.

.............................................................................

فــردت السلسلة الرقيقة على كفها ورفعته أمام عينيها لتتأملها عن قربٍ وهي تستلقي على الفراش، فتلألأت بوهجها البراق في انعكاس حدقتيها، سعادة غريبة تخللت إليها وهي تتذكر موقفه معها ملبيًا لرغبتها، ظلت "همسة" تبتسم طوال اليوم كتعبير عن فرحتها بهديته التي فاقت في قيمتها ثمن القلادة الأخرى، تعجبت "فيروزة" من حالة الوَلَه البائنة على خلجات توأمتها، تثاءبت وهي تتقلب على جانبها قبل أن تقول لها:

-يا بنتي ماشبعتيش بص عليها؟!

ردت بتنهيدة بطيئة وهي تستعيد في ذاكرتها مشهد شرائه لها ووضعها في علبة منفصلة:

-أصلي مبسوطة بيها يا "فيرو".

رفعت "فيروزة" رأسها قليلاً وأدارتها في اتجاهها نصف استدارة، وجدتها ساهمة، تعيش في حالة من الهيام الغريب، هزت رأسها بعدم تصديقٍ، ثم قالت بلهجة آمرة:

-طب اطفي النور، عاوزة أنام، الفجر قرب يأذن

نفخت في استياءٍ منها، وقالت بتذمرٍ:

-ياباي عليكي، بتبوظي الجو الشاعري اللي أنا فيه

ردت وهي تلقي الغطاء على رأسها لتغطيه:

-معلش، أنا ماليش في حركات الحبيبة دي

نهضت "همسة" عن الفراش وهي لا تزال ممسكة بالسلسلة في يدها، وضعتها في جيب منامتها، وقالت بصوتٍ تبدل للجدية:

-أنا رايحة أتوضى للفجر.

هتفت لها من أسفل الغطاء:

-ادعيلي

تركتها في الغرفة وتوجهت للحمام لتستعد لصلاة الفجر، لكن وصل إلى مسامعها أثناء سيرها المتباطئ في الردهة -وخلال ذلك الهدوء المتزامن مع توقيت الليل المتأخر- تلك الجلبة الخفيفة، ارتعش بدنها، وخفق قلبها خوفًا، تلفتت "همسة" حولها في ذعرٍ، في البداية اعتقدت أنها حركة سخيفة من توأمتها لإرعابها، عادت إليها فوجدتها نائمة على الفراش، سألتها بصوتٍ متلعثم:

-"فيروزة" هو إنتي صاحية؟

لم تجبها، دنت منها لتزيح الغطاء عن رأسها المخبأ، فوجدتها تعنفها:

-يا بنتي إنتي متسلطة عليا، خليني أنام

همست لها بارتعابٍ:

-أصل في دوشة برا وأنا خايفة

ردت غير مبالية وهي تدفن رأسها في الوسادة:

-تلاقي في فار في المنور ولا حاجة.

أضافت عليها:

-ما جايز يكون حرامي.

قالت ساخرة وهي تبتسم قليلاً:

-هيسرقنا مننا إيه؟ ده احنا ممكن نصعب عليه

ولكي تبدد الخوف من قلبها، تابعت بثقة وببسالة منقطعة النظير:

-اجمدي إنتي بس شوية، ولو في حاجة ناديني، وأنا هاطبق في زومارة رقبته الحرامي ده اللي أمه داعية عليه يوقع في سكتي.

بدا ما قالته منطقيًا وباعثًا على الراحة، نفضت عن رأسها مخاوفها الوهمية، وتحركت نحو باب الغرفة، وقبل أن تطأ خارجها، نطقت توصيها:

-طب ماتناميش

أغمضت "فيروزة" عينيها قائلة بنبرتها التي مالت للنعاس:

-حاضر.

تحركت "همسة" بتمهلٍ حذر تلك المرة نحو الخارج، أرهفت السمع من جديد وخفقات قلبها تتصاعد رهبةً، ما زالت الجلبة تصدر بقوةٍ، بدت وكأنها تقترب من باب المنزل، انتفضت كليًا فجأة وكتمت شهقة صارخة بيديها حين سمعت النقرات عليه، تجمدت في مكانها عاجزة عن الحركة، حتى صوتها انحشر في جوفها، لكن النبرة المألوفة المنادية باسمها خففت قليلاً من حدة خوفها، رجفة أخرى قوية نالت من جسدها وقد تكرر النداء بشكلٍ مريب:

-افتحي يا عروسة، افتحي يا "همسة"!

اقتربت بقدمين مرتعشتين من الباب، ودون أن تنظر من العين السحرية تساءلت بتلقائية:

-مين؟

تداركت نفسها، وشبت على قدميها لتنظر من خلالها، تفاجأت بوجود "هيثم" أمام أعتاب منزلها، شحبت بشرتها، وشُل تفكيرها لحظيًا، حاولت أن تتغلب على خوفها، وتساءلت بصوتها المرتجف:

-إنت جاي ليه السعادي يا "هيثم"

رد عليها يأمرها بصوتٍ خشن ثقيل، وغير طبيعي وهو يطرق بعنفٍ على الباب:

-افتحيلي، أنا مش هامشي قبل ما تسمعيني الأول

خشيت "همسة" من تسببه في فضيحة دون داعٍ، تصرفت بغباءٍ وفتحت الباب له لتسأله بوجهٍ متوترٍ:

-في إيه

أجابها بأنفاسٍ كريهة وهو يترنح في وقفته أمامها:

-عاوزك يا حلوة.

وصلت رائحة أنفاسه المنفرة إلى أنفها فأصابتها بالغثيان، وضعت يدها على فمها، وسألته باشمئزازٍ:

-إنت شارب؟

لم تكن بحاجة لسماع الإجابة منه، فمظهره يؤكد لها ذلك؛ عينان مشبعتان بحمرة غريبة، وقفة غير متزنة، وحركات متشنجة لا تبشر بخير .. تصلبت في فزعٍ وقد أمسك بها من ذراعيها بقبضتيه ليجذبها نحوه وهو يقول:

-إنتي مش بتحبيني؟ ده أنا هابقى جوزك.

ألقى "هيثم" بثقل جسده عليها محاولاً الالتصاق بها واحتضانها بالإجبار، قاومته رغم حالة الذعر المسيطرة عليه لتتحرر منه، وأبعدت رأسها عن رأسه الذي يدنو منها بشكلٍ مقزز، وكأنه يريد تقبيلها بالإكراه، ثم هتفت فيه بصوتٍ خفيض لكنه صــارم ومهدد:

-اِبعد عني! بدل ما أصوت وأفضحك!

ضاعف رفضها لتودده المقيت من رغبته الحيوانية الجائعة في النيل منها، جذبها بكامل قوته إلى خارج المنزل وهو يكمم فمها ليشعر بحرارة أنفاسها المكتومة على يده مما استثاره أكثر، ألصق ظهرها بالحائط وحاصرها، نظر لها بعينين دمويتين وبشكلٍ أرعبها، ودون إنذارٍ أبعد يده عن فمها وهجم عليها مطبقًا بشفتيه على خاصتها ليحصل منها على قبلة عنيفة أصابتها بمزيد من التقزز والغثيان، تراجع ليتلقط أنفاسه وحالته قد ازدادت سوءًا، سيطرت عليه لوسة عجيبة تطالبه بالمزيد من الأفعال المشينة، تلمس جسدها بقوة جعلتها تقشعر وتصرخ، صفعته بألم على وجهه عله يفيق، ترنح "هيثم" من أثر الصفعة، نجحت "همسة" رغم صدمتها من بشاعة تصرفه الدنيء في دفعه بعيدًا عنها من صدره، وقبل أن يتصرف بتهورٍ ويستبيح لنفسه الأمارة بالسوء المزيد من دناءة أخلاقه كانت "فيروزة" تندفع نحوه بكل غضبها المشحون لتبعده عن توأمتها صارخة فيه:

-ابعد عنها يا واطي!

نجدتها من براثنه، واستخدمت عصا المقشة في ضربه على ظهره ودفعه نحو الدرج، تدحرج الأخير عليه متألمًا وقد تفاجأ بقساوة الضربات، طُرح أرضًا شبه فاقد للوعي وهو يهذي بكلماتٍ غير مفهومة، لم تتوقف عند ذلك الحد، هاجمته بشراسةٍ وضربته في أجزاءٍ متفرقة من جسده بالعصا مفرغة فيه ما يعتريها من مشاعر عدائية نحو تلك النوعية من أقذار البشر، رفعت رأسها وبصقت عليه وهي تلعنه بصوتها اللاهث من فرط انفعالها:

-بتتهجم علينا في نص الليل، أنا هوديك في داهية!

تحول صوت صراخها إلى بوقٍ أوقظ جميع من في البيت، اندفع خالها على الدرج بثياب نومه لينظر إلى ما حدث، وهتف مصعوقًا:

-في إيه اللي بيحصل هنا؟

في حين وقفت "حمدية" في مكانها تشرأب بعنقها محاولة رؤية ما يدور دون أن تتدخل، بينما خرجت "آمنة" من منزلها على صوت الصراخ والسباب، شهقت حين رأت ابنتها ترتجف وتبكي في حرقة، احتضنتها ومسحت على وجهها بيدها متسائلة في لوعة:

-مالك يا "همسة"؟ جرالك إيه؟

لم تستطع تبين ما حدث، بالكاد حاولت إمساك ابنتها التي خارت قواها .. ألقت "فيروزة" بالعصا وأشارت بإصبعها نحو "هيثم" تسرد ما حدث:

-الكلب ده جايلنا شارب وبيتهجم على أختي

نظر "خليل" مصدومًا إليه، وتحولت عيناه إلى ابنة أخته المنهارة، وقال مذهولاً:

-إيه؟ اتجنن ده في عقله ولا إيه؟

ردت عليه "فيروزة" تتوعده بكرهٍ بغيض:

-وأنا مش هاسيبه، وهاجيبله البوليس!

التقطت أنفاسها وتابعت:

-اللي زي ده مايتأمنش عليه معها!

رد عليها "هيثم" بصوته الثقيل غير الواضح، وخيوط الدماء تنزف من رأسه:

-أنا عاوز "همسة"، دي.. هتبقى مراتي..

صرخت فيه مهددة ومنهية لأحلام يقظته:

-في المشمش، الخطوبة اتفركشت، واستعد للسجن!

ثم التفتت نحو خالها لتخبره:

-أنا هاطلب البوليس، و....

حملق فيها "خليل" بعينين متسعتين في صدمة، انقض عليها ليمسكها من ذراعها، وسحبها بعيدًا عن الدرج وهو يقاطعها بتوترٍ:

-اهدي بس خلينا نفكر، مش عاوزين فضايح.

عاجلته صائحة باستنكارٍ:

-الفضايح ليه هو مش احنا!

ازدرد ريقه وحاول أن يمتص غضبها بتعقلٍ حتى لا تنفذ ما تريده، وقال بلهجة مغايرة للهجة العدائية المفترض أن يكون عليها:

-أنا هاتصرف، خلينا بس نهدى الأول.

هتفت "فيروزة" بتشنجٍ ونظراتها تلوم خالها الذي اتخذ موقفًا غير مفهومٍ:

-نهدى؟ بأقولك كان بيتهجم عليها!

أعملت "حمدية" عقلها الداهية سريعًا، وبدأت في احتساب توابع إنهاء الخطبة بتلك الصورة المهينة، حتمًا لن تكون النتيجة مرضية لأي طرفٍ، ليس بالتسبب في الفضائح فقط، ولكن بتحطيم أحلام زوجها في امتلاك المحل الجديد، وتدمير أطماعها في شراء الثمين من الذهب، توهجت نظراتها بوميضٍ مرتعد، واعتصرت عقلها لتفكر في حجة تنجيها من تلك الخسارة الحتمية. وكالشيطان الخبيث وجدت السبيل لإثارة الشكوك، فهتفت بنزقٍ محاولة تشويش عقل زوجها، وتلك النظرة الغريبة تطل من عينيها:

-وهي فتحتله ليه السعادي؟ مش جايز متفقة معاه واحنا منعرفش ونايمين على ودنا؟

تعمدت طعنها مباشرة في شرفها لتتحول بين لحظة وأخرى إلى مُدانة لا مجني عليها، هتفت "همسة" تنفي تلك التهمة الباطلة عنها وهي تبكي في حرقة:

-محصلش والله، أنا كنت مع "فيروزة".

زمت شفتيها مرددة ببرودٍ مريب:

-واحنا المفروض نصدقك كده؟!

هدرت بها "آمنة" تحذرها:

-قصدك إيه يا "حمدية"؟ أنا بنتي متربية كويس، الدور والباقي على السكران ده.

علقت عليها بنبرة جافة لتنزع منها ثقتها:

-أنا عارفة، بس لسان الناس محدش بيسلم منه! والله أعلم بالنوايا!

نظر "خليل" إلى الاثنتين بنظرات غامضة غير مفهومة، وقال وهو يبلع ريقه:

-أنا هاتصرف، خشوا جوا دلوقتي.

حدقت فيه "فيروزة" بفمٍ مفتوح، وقد باتت شبه متأكدة أنه سينساق كالأعمى خلف زوجته التي على ما يبدو نجحت في إرباكه بالإدعاء كذبًا على توأمتها، وقبل أن تهاجم معترضة صرخ بها "خليل" يأمرها من جديد بلهجةٍ متصلبة:

-خشي يا "فيروزة" واقفلي الباب، يالا!

جاهرت بنيتها المحسومة مسبقًا، وردت عليه تتعهد له بعينين تقدحـــان بالغضب الشديد:

-ماشي، بس لو إنت سكت، فأنا لأ!

تطلع إليها في صمتٍ وهو لا يزال في حيرة من أمره، تركته في مكانه ولحقت بتوأمتها ووالدتها صافقة الباب بعنفٍ، في حين ثبت "خليل" نظراته على "هيثم" الذي قال بوهنٍ:

-أنا .. هاتجوزها .. دي.. خطيبتي

نظر له باشمئزازٍ قبل أن يقول:

-اتنيل، فضحتنا، مستعجل على إيه؟!

لم يعرف "خليل" كيف يتصرف معه وهو في تلك الحالة من الإعياء الشديد، واللا وعي .. كان يقف مكتوف الأيدي عاجزًا عن حسم أمره؛ فأحلامه الطامعة في كفة، وحق ابنة شقيقته في الكفة الأخرى، لكنه لا يدرك أي كفة سترجح في النهاية! رفع رأسه للأعلى ليجد زوجته تشير له بعينيها، وكأنها تُريد إطلاعه على شيء ما، همست له:

-اطلع عاوزاك حالاً، أنا عندي الحل.

لم تترك له المجال للجدال معها، كان أمرها نافذًا، وربما كان يبحث عن فرصة للتفكير بتروي حتى لا يضحي بكل شيء في لحظة طيش..

لم يعلم بمراقبة "فيروزة" له من العين السحرية للباب، ومع انسحابه أدركت أنه سيخذلها كعادته ولن يتخذ أي موقف سوى ما تمليه عليه زوجته الأفعى، أحست بوخز يضرب كامل جسدها من شدة غيظها، وهتفت تقول لنفسها:

-ماشي يا خالي، مش هاسكت المرادي حتى لو فيها موتي.

.................................................................................

كالسهم المارق اتخذت مع سطوع شمس النهار طريقها للدكان، لم تنسَ أن تأتي معها بما أحضره ذلك الوقح من هدايا غالية وزهيدة، وبوجهٍ حانقٍ وعينان لم تتذوقا طعم النوم بحثت عن الحاج "بدير"، لن تتحدث مع أحد سواه، لتنهي معه الأمر خاصة بعد أن رأت خالها يتسلل خلسة بصحبة "هيثم" وهو يسنده ليبعده عن المنزل ليعلن بذلك ولو ضمنيًا عن اغتيال حقها في معاقبته، توقفت في مكانها لتلتقط أنفاسها، وجالت بنظراتها على المتواجدين بالمكان الذي بدا مزدحمًا رغم تلك الساعة المبكرة، وجدته جالسًا أمام دكانه يرتشف قهوته، انتصبت هامتها، وهدرت عاليًا بصدرٍ متهدج وهي تندفع صوبه:

-يا حــــــاج "بدير"!

انتبه لها وترك فنجانه ليدير رأسه ناحيتها بتوجسٍ، حملق فيها باستغرابٍ وسألها:

-خير يا بنتي؟

وبعصبية مفرطة وضعت متعلقات "هيثم" على طاولته الصغيرة وهي تقول بتشنجٍ:

-قول لقريبك المحشش معندناش بنات للجواز.

حدق فيها مصدومًا لوهلة، حاول أن يستوضح الأمر، وسألها بتريثٍ:

-فهميني في إيه بس؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بوجه مشدودٍ أظهر نفورها:

-اسأله الكلب الجبان ده! ناقص تربية صحيح!

استشعر "بدير" خطورة الموقف، وهتف متسائلاً في قلقٍ:

-عمل إيه؟ كلميني دوغري

ردت بغموضٍ لاعنة "هيثم" وتلك النظرة المشمئزة تعلو محياها:

-هو عارف.. ابقى اسأله الـ.... ده لما يفوق من اللي بلبعه!

لعبت الهواجس برأس "بدير"، وتطلع إليها في حيرة، لكنها لم ترحه وتابعت محذرة وهي تشير بيدها:

-بس يا ريت تقوله لو فكر يقرب من أختي أو يلمسها هاقتله!

لم تلاحظ "فيروزة" في ذروة غضبها زوج الأعين الحانق الذي لمحها منذ أن اقتحمت المكان، اندهش من وجودها، بالطبع ليست من النوع الاجتماعي لتقوم بزيارة ودية، تخلى "تميم" عن عمله ليدنو بحذرٍ منها، لم يقصد التلصص عليها، لكن صوتها الجهوري الغاضب كان كفيلاً باستدعاء المارة من ناصية الشارع، راقب وسمع كل كلمة أخبرت بها والده، صعد الدم إلى رأسه كالبركان الثائر وقد خمن ما ترمي إليه من كلمات موحية استطاع ببساطة أن يفسرها، هاجت عروقه بما اعتراها من ثورة محمومة، كور قبضته ضاغطًا بعنفٍ على أصابعه حتى ابيضت مفاصله من شدة غضبه، انتظرها على أعصاب محترقة حتى انصرفت ليقول بصوتٍ غائم لا ينم عن خيرٍ:

-أنا رايح مشوار يابا وجاي!

............................................................

-يا ساتر يا رب، هو في إيه؟

تساءلت "بثينة" بتلك العبارة في جزعٍ وهي تسرع من خطواتها لتفتح باب المنزلها الذي كاد أن ينهار من عنف الدقات المتتالية عليه، فركت جفنيها بيديها وهي تسد المدخل بجسدها الممتلئ، نظرة استنكار غطت وجهها وقد رأت "تميم" أمامها، عنفته بشفاه مقلوبة ونظرات استهجان:

-إيه الهبد ده على الصبح؟ ما تخبط زي الناس العاقلة؟

التزم الصمت ورمقها بنظرة مليئة بالشر قبل أن يُنحيها عنوة للجانب من كتفها ليمرق إلى الداخل، لاحقته بخطواتٍ متعجلة وهي تلح عليه:

-في إيه يا "تميم"؟ إنت جاي تهد البيت علينا، ما تعبر خالتك وتقولي في إيه!

اقتحم دون مقدماتٍ غرفة "هيثم" ليجده مسجى على الفراش ورائحة كريهة نفاذة تعبق المكان، نظرت له في ضيقٍ، واستطردت توضح له من تلقاء نفسها:

-لو جاي له عشان تصحيه يروح الشغل فاعتبره النهاردة أجازة، أديك شايف رجعلي وش الفجر في الحالة دي مع خال خطيبته، أنا عارفة كان بيعمل إيه معاه!

بسذاجتها وفرت عليه الكثير، حيث تأكد من صحة ما قالته "فيروزة" دون الحاجة لسؤاله، استثيرت حميته أكثر، ورد عليها بصوتٍ قاتم أرجف بدنها:

-لا معلش، أنا هافوقه بمعرفتي

ثم طردها بوقاحةٍ من الغرفة دافعًا إياها نحو الخارج غير مكترثٍ بتساؤلاتها الفضولية ليوصد الباب خلفه، دقت عليه تناديه في لوعةٍ لكنه تجاهلها .. وبكل ما يعتريه من مشاعر عدائية وعنف لا مثيل له انقض "تميم" على "هيثم" يسحبه من على الفراش ليسقطه أرضًا، تأوه الأخير من الألم المفاجئ الذي انتشر في كامل جسده وهو لم يشفَ بعد من آثار اعتداء الليلة الماضية، تساءل بنصف وعيٍ:

-في إيه "تميم"؟

رد عليه بصوتٍ مخيف نابع من أعماقه المهتاجة:

-لو فاكر إن اللي عملته كده هيعدي من غير ما تتحاسب تبقى غلطان

زحف "هيثم" بظهره للخلف ونظراته المتوترة مسلطة على ابن خالته، ازدرد ريقه وسأله بصوتٍ مرتبك:

-إنت بتكلم عن.. إيه؟

أجابه بسباب نابي ودون مراوغة:

-عن ليلة امبارح.. يا ............ !!!

اتسعت عيناه الحمراوتان في خوفٍ وقد فطن إلى ما يقصده، وقبل أن يبرر

وفجـــأة هجم عليه بشراسة ليفتك به، جثا فوقه وشل حركته دون مجهود أو مقاومة تذكر، نال "هيثم"ما يستحقه من لكمات عنيفة عرفت الطريق إلى وجهه فأكسبت بشرته لونًا دمويًا، وحصل باقي جسده على ضربات موجعة جعلته يصرخ معتذرًا ومستغيثًا، لم ينجده أحد من بين يديه، أذاقه ألوانًا مختلفة من الألم ليعي الدرس جيدًا، انتهى منه "تميم"، ونهض عنه لينفض دمائه التي علقت في أصابعه بتقززٍ، اعتدل في وقفته وبصق عليه، ثم هدر به منذرًا إياه مباشرة:

-دي قرصة ودن ليك، سامعني؟

بكى "هيثم" من الألم المبرح وهز رأسه في إذعانٍ عله يرحمه، بينما تابع "تميم" تهديده القاسي بصوته الجهوري المرعب دون أن يرتد له طرف ليصبح كلامه نافذًا كالخنجر المسنون على عنقه فقط إن تجرأ وخالفه:

-لو اتكرر تاني اللي عملته .. هنسى القرابة اللي بينا .................................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة