-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

 خُيل إليه أنه سمع صوت تكسر عظامه مع كل ضربة عنيفة تلقاها منه، وكان يستحقها بالفعل لأنه ارتكب فعلاً مشينًا في حق تلك المسكينة، وربما فعل الأسوأ بسبب حالة الهذيان المزرية التي سيطرت عليه، عاد إلى وعيه وانتحب وهو يزحف للخلف ليستند بظهره على الكومود، تطلع إليه "تميم" بنظرات احتقارية، وحذره من جديد بصوته القاتم:

-إياك تفكر تتعرضلها، سامعني!

هز رأسه وقال بندمٍ واضح عليه وهو يمسح بظهر كفه الدماء التي أغرقت فكه:

-ماشي.. دي ساعة شيطان، مش هيحصل تاني!

سدد له نظرة مهينة والتفت ليفتح الباب الذي أوصده من الداخل لتدفعه "بثينة" وهي تصرخ به في جنون:

-عملت إيه في ابني يا "تميم"؟

بحثت بعينين مرتاعتين عن ابنها فوجدته مُلقى على الأرض في حالة يرثى لها، شهقت لاطمة على صدرها، ونحته للجانب لتجثو على ركبتيها إلى جواره وهي تنوح عليه:

-حبيبي يا "هيثم"؟ إيه اللي جرالك

ثم رفعت عينيها المحتقنتين وصرخت في "تميم":

-كنت هتموت ابني ليه؟

أجابها بجمودٍ:

-بأربيه!

ارتفعت نبرة صراخها قائلة:

-حرام عليك يا مفتري، هو بقى فيه حيل

رد عليها "هيثم" بصوته الواهن وهو يحاول النهوض:

-خلاص يامه.

نظرت له باندهاشٍ وشكوكها تتصاعد، أخبرها حدسها الأنثوي بوجود شيء ما خطير يُخفيه عنها، فسألته مباشرة:

-إيه اللي حصل عشان يبهدلك كده؟

تطلع إليها في صمتٍ قبل أن يتدلى رأسه على عنقه كتعبير عن شعوره بالخجل، هزته من كتفه مُعاودة تكرار سؤالها:

-يا ابني انطق، متخافش منه!

ابتسم "تميم" في سخرية، وكأنها ألقت دعابة طريفة عليه، استطاعت أذناه أن تلتقط قرع الجرس، فاتجه إلى الخارج وصوت خالته يلعنه من الخلف، لكنه لم يكترث بها، فتح الباب فتفاجأ بوجود أبيه، نظر له مليًا وقد أردف موضحًا:

-اطمن يابا، أنا عملت الواجب وزيادة

هز رأسه في استحسانٍ، وعقب عليه:

-كويس.. بس أنا ليا لي كلمتين معاه.

قال في سخرية:

-ده لو قدر يقف على حيله!

اصطحب "تميم" والده إلى غرفة "هيثم" حيث نهض الأخير بصعوبة ليقف على قدميه، نظرت له "بثينة" باستغراب حائر، والفضول يتضاعف بداخلها، باتت متأكدة كليًا من حدوث كارثة، وإلا لما اجتمع أفراد عائلة "سلطان" في منزلها في تلك الساعة المبكرة، التفتت ناظرة إلى "بدير" وهي تسأله:

-عاوز من ابني إيه يا حاج؟

تركزت نظراته على وجه "هيثم" المتورم، وقال بنبرة جافة وهو يشير بعكازه نحوه:

-أنا جاي أعرف الـ ...... ده إن خطوبته اتفركشت

تلاشت كافة الآلام، واختفت الأوجاع مع تلك الكلمات الصادمة، هتف غير مصدقٍ:

-نعم.. إيه؟

أخبره بنفس الصوت الأجوف المزعوج:

-والجماعة بعتولي الدهب على الدكان من شوية.

لطمت "بثينة" على صدرها مولولة:

-يا نصيبتي! ليه كل ده؟

بينما ردد مصدومًا والدموع تُحتبس في عينيه قهرًا على ما حدث ورافضًا استيعاب حقيقة الأمر:

-مش ممكن، أكيد..في حاجة غلط!

تابع "بدير" مضيفًا بلهجة متأففة:

-أنا مش هاسيبلك الدهب، هارجعه للبنت كاعتذار على اللي عملته فيها، إياكش تحس على دمك.

لم يأبه بأمره بتاتًا، وهتف يرجوه في هلعٍ وقلبه قد انخلع في صدره:

-أنا مش عاوزه، ارميه في الشارع أنا عاوزاها هي..

أظهر عدم اهتمامه بمشاعره النادمة، ونظر له باحتقارٍ قبل أن يسبه:

-نجس

وضع "تميم" يده على كتف والده، وقال له:

-بينا يا حاج، هو خد كفايته.

أومأ برأسه موافقًا، وقبل أن ينصرف استطرد موبخًا "بثينة":

-وابقي ربي ابنك كويس، كفاينا فضايح.

كتمثالٍ من الشمع وقفت لوهلة عاجزة عن التفكير، تحاول استجماع نفسها وربط أطراف الخيوط معًا علها تفهم طبيعة الكارثة التي تسبب بها ابنها، التفتت لتمسك به من كتفيه، وهزته في عصبيةٍ وهي تسأله:

-ما تفهمني إنت عملت إيه؟

توسلها وهو يبكي بطريقة استغربتها:

-كلميه ياما، قوليله يرجعلي "همسة".. أنا هتجوزها!

صرخت به بتشنج حتى يتوقف عن التصرف كالأطفال الذين أفسدوا لعبتهم:

-مش أفهم إنت هببت إيه الأول!

...............................................................

يُمكن أن توصف بأنها ليلة كابوسية مُزعجة تُضاف إلى قائمة الليالي الطويلة الموجعة الخاصة بثلاثتهن .. انتهت "فيروزة" من إعداد عصير الليمون الطازج وأتت به إلى غرفة والدتها حيث تنام توأمتها وهي تحتضن والدتها بشكلٍ يدعو للشفقة، قلبت محتويات الكوب بالمعلقة جيدًا، ومدت به يدها نحوها وهي شبه تأمرها:

-اشربي ده يا "همسة"..

وبيدٍ مرتعشة تناولته منها وبدأت في ارتشافه، سعلت في البداية لدخول بعض قطرات السائل المنعش لقصبتها الهوائية، قبلت "آمنة" رأسها وقالت لها:

-على مهلك يا بنتي.

رفعت "همسة" وجهها الباكي نحو أختها تسألها:

-عملتي إيه يا "فيروزة"؟

أجابتها مبتسمة وهي تجلس إلى جوارها على الطرف الآخر من الفراش:

-اطمني، أنا قولت لقريبه على قذارته، ونهيت كل حاجة معاه، معدتش في حاجة تربطه بينا.

ردت "آمنة" في رضا:

-كده أحسن، خليه يتصرف معاه، كفاية الرعب اللي عمله لبنتي.

سألتها "همسة" بصوتها المذعور:

-طب وخالك؟

جاوبتها بنبرة ساخطة:

-يشرب من البحر

وعلى ذكر سيرته غير المستحبة، انتبه ثلاثتهن إلى طرقاته المصحوبة بصوته على باب المنزل، أنزلت "فيروزة" قدميها عن الفراش، وقالت بشموخٍ:

-أنا رايحة افتحله.

تمتمت والدتها في قلقٍ طبيعي ويداها تحاوطان ابنتها:

-ربنا يستر ويعدي الأيام دي على خير.

بكل سخافةٍ وبرود، وابتساماتٍ مستهلكة ولج "خليل" إلى غرفة النوم ملقيًا نظرة حزينة على ابنة أخته، عــاد إلى ذهنه الليلة السابقة بكامل تفاصيلها، حيث صعد إلى زوجته التي طلبت منه إخماد تلك الفضيحة قبل أن يعلم بها أحد بحجة أن الشاب يطمح في الزواج بأسرع وقت، وما فعله كان مجرد لحظة طيش عابرة لن يكررها ولا داعي لتكبير الأمر، أما إن فعل العكس واتخذ موقفًا مغايرًا لخسر كلاهما مكاسب المستقبل المادية التي ستؤمن حياتهما لسنوات قادمة، ولهذا أعاد التفكير بتأنٍ ورتب حساباته وفق أولوياته هو غير عابئ بمصلحة ابنة شقيقته، وبهدوءٍ تام نزل ليصطحب "هيثم" وعاد به لمنزله في حالة الإعياء الواضحة، وتعلل لوالدته بأنه أنقذه من حادث سير أرعن ورأه بالصدفة وأصر على إيصاله ليطمئن عليه.. أفاق "خليل" من شروده السريع، وهتف مدعيًا اهتمامه:

-عاملة إيه دلوقتي يا بنتي؟

ردت عليه "فيروزة" بوجهٍ مقلوب:

-زي ما إنت شايف يا خالي، أكيد مش عاملة فرح!

نظر لها بضيقٍ وانزعاج قبل أن يبعدها من كتفها ليتجه نحو الفراش وهو يقول:

-طب وسعي بس كده عشان النفس.

كتمت غيظها منه في نفسها، وظلت تتابعه بعينيها المشتعلتين وهو يدنو من "همسة"، مسح على رأسها وقبلها من جبينها وهو يسألها:

-إن شاء الله شدة وتعدي.

احتجت "فيروزة" على عبارته غير اللائقة، وصححت له:

-هي كانت عيانة لا سمح الله، ده واحد ماترباش حاول يعتدي عليها

قال مدافعًا عنه:

-مكانش في وعيه يا "فيروزة"، متكبريش الموضوع

أدركت أنه لن ينصف أختها مهما حدث، فالأفعى الخبيثة قد بخت سمها، والدليل ما رأته بحدث خلسة من تهريب وطمسٍ للحقائق، لذا قررت إفســاد انتصاره الزائف، وقالت مبتسمة بزهوٍ:

-عمومًا يا خالي الموضوع خلص.

لم يستوعب مقصدها، وسألها:

-يعني إيه؟

استرسلت بابتسامة أكثر اتساعًا:

-يعني أنا اتصرفت، وقولت لقريبه الحاج "بدير" على اللي عمله، وفركشت الخطوبة!

بدا كمن ألقى عليه دلو ماء مثلج، حملق فيها بعينين شاخصتين، وردد في ذهولٍ صادم:

-إنتي.. عملتي.. إيه؟

ابتسمت في انتشاءٍ، وتابعت:

-اتصرفت زي ما المفروض كنت تعمل، ارتاح إنت يا خالي، أنا قومت بالواجب وزيادة.

تكاد تُجزم في نفسها حين تطلعت إليه في تلك اللحظة بأن دخانًا كثيفًا كان ينبعث من شدة غضبه أو غيظه، لا تعرف تحديدًا، لكنها أصابته بما فعلته في مقتل، ودمرت كل مخططاته التي بنيت على حساب عائلتها، خرج "خليل" عن شعوره، وصرخ بها بجنونٍ غير اعتيادي:

-إنتي عملتي إيه؟

نظرت له نظرة ذات مغزى، وأجابت بإيجازٍ:

-الصح.. يا خالي!

تدخلت "آمنة" في الحوار، وقالت مدعمة ابنتها:

-اللي حصل امبارح ده مايتسكتش عليه، وده أنسب حاجة تتعمل مع قليل الرباية ده

صرخ بتشنجٍ وهو يضع يديه على رأسه:

-إنتو ضيعتوا كل حاجة بغباءكم.

ردت عليه "فيروزة" ببرود:

-معلش يا خالي، مافيش أغلى من أختي عندنا

ثم تلوت شفتاها بابتسامة مستفزة وهي تسأله:

-تحب أعملك لمون تروق به دمك؟ وشك مصفر ومش عاجبني

هدر بها وهو يشيح بيده:

-امشي من قدامي السعادي.

حركت رأسها متابعة بنبرتها الباردة:

-ماشي يا خالي.

كتمت ضحكتها الشامتة بصعوبة وهي توليه ظهرها، لا تنكر أن رؤيته يغلي كمدًا أثلج صدرها وأشعرها بقليلٍ من الارتياح، تمنت فقط لو عاد لصوابها وتصرف كما يجب أن يكون الخال الحقيقي الذي يعد بمثابة أب ثانٍ للعائلة.

................................................................

-مش هاتطلع معايا يا "تميم"؟

تســاءل "بدير" بتلك الجملة وهو ينظر إلى ابنه الذي أوقف السيارة أمام مدخل بيت خطيبة "هيثم" السابقة، في البداية ظل صامتًا، وكأنه يفكر مليًا في الأمر، وظهر التردد على محياه، أمسك بكلتا يديه على المقود، والتفت ينظر لأبيه قائلاً:

-لا يا حاج، أنا هستناك في العربية

ابتلع ريقه بصعوبة، فما زال ذلك التوتر المريب يجتاح كامل حواسه كلما دنا من منزلها، أو أتى شيء ما على ذكرها، وكأنها تملك عصا سحرية قادرة على تبديل أحواله في لحظة ليصبح فاقدًا للسيطرة على مشاعره، بل ويصبح لا حول له ولا قوة حين تعتريه تلك الأحاسيس الغريبة، تبدو كما لو كانت تتكاتف جميعها وتتعاون في حضرتها بشكل قوي لتجذبه نحوها بصورة غامضة فتزيد من توتره وتضاعف من ربكته .. تنحنح والده بصوتٍ خشن، وقال مستعينًا بالمولى وهو يترجل من السيارة:

-توكلنا على الله، وربنا يقضي المشوار ده على خير.

ورغم معرفة "تميم" المحدودة بـ "فيروزة" إلا أنه كان واثقًا بأنه لا رجعة لها في قرار تتخذه بشــأن أسرتها إلا بحد السيف، لاح على ثغره ابتسامة ساخرة حين حدث نفسه:

-إنت وقعت مع غولة يا "هيثم"!

كان يقصد "فيروزة" بذلك الوصف الذي وجده ملائمًا لشخصها القوي في تلك النوعية من المواقف المصيرية، اقتحم ذهنه صورتها المستبسلة ونظراتها التي لا ترتدع بسهولة، كانت بها هالة غريبة تحثه على استمرار التفكير بها دون مللٍ أو ضجر، اتسعت ابتسامته التي امتزجت مع ضحكة عذبة وهو يستعيد وصفه السابق:

-بس معايا طاووس!

ضحك في مرحٍ وقد ملأ طيف وجهها صفحة خياله، تناقصت وبدأت تخبو بعد لحظة مع رنين هاتفه المحمول، تطلع إلى شاشته فوجد اسم "خلود" يُنير عليه، نفخ في ضيقٍ، وقال لنفسه بامتعاضٍ:

-عاوزة إيه دلوقتي؟

لم يكن بحاجة لتخمين الإجابة المناسبة، فتابع قائلاً لنفسه بصوته المنزعج:

-أكيد أمك بلغتك باللي عملته في أخوكي، وأنا مش ناقص صداع على الصبح!

ترك الهاتف يرن على تابلوه السيــارة غير مكترث بضجيجه المؤذي، وحملق في المنزل بنظراتٍ كانت تبدو في المنتصف ما بين ساهمة وحالمة.

...................................................................

استقبله "خليل" في منزل أخته بحفاوةٍ تناقض طبيعة الموقف المحرج الذي يمس طرفي العائلة، كان من حسن حظه وجوده في ذلك التوقيت، وإلا لمات بحسرته على خسارة بئر نقوده بسبب عناد ابنة أخته المميت .. وبتهذيبٍ وأسف سعى "بدير" لرأب الصدع في العلاقات الودية بين الأسرتين، استأذن يقول له بلطافةٍ بعد أن ارتشف القليل من فنجان القهوة الموضوع أمامه:

-لو مافيهاش تعب هاطلب منك يا "خليل" تناديلي الحاجة وبنتها.

رد عليه متصنعًا الابتسام:

-ده إنت جيتك على راسنا يا حاج، بس إنت فاهم نفسية البت و..

قاطعه وهو يرد بخزيٍ ملموسٍ في نبرته:

-مفهوم.. مفهوم، مافيش داعي تبرر، حقها تنهي الخطوبة.

عاجله مرددًا بتلهفٍ:

-أنا والله اتكلمت معاهم.

تنهد "بدير" معقبًا عليه دون أن يفقد رزانته:

-يا "خليل" أنا مقدر ده كله، بس عاوز البنت في كلمتين مهمين، جاي أقدر أعوضها عن اللي حصل.

وقبل أن يختلق له الأعذار أتت "فيروزة" ومعها "همسة" تسحبها بتمهلٍ من يدها، وقفت كلتاهما على مقربة منه، واستطردت الأولى تقول بجسارةٍ:

-هي جت بنفسها تقول إنها مش عاوزة تكمل الخطوبة دي، ده لو مش مصدقني يا حاج

نهض "بدير" واقفًا، ودارت عيناه على وجه "همسة" الذابل وعينيها المنتفختين من البكاء المتواصل، تقدم نحوها واعتذر منها:

-حقك عليا يا بنتي، امسحي اللي عمله فيا، مافيش حاجة تعوضك عن اللي حصل من الجبان ده، أنا ربيته ولسه هاربيه من تاني

ثم امتدت يده بعلبة من القطيفة الحمراء موضوع بها المشغولات الذهبية التي تخص الشبكة، لوح بها أمامها وهو يقول بكلامٍ شبه نافذ:

-ده حقك، ومش هترجع.

تدلى فكها السفلي في استغرابٍ مما يفعله، ونظرت إلى أختها بحيرةٍ، علقت عليه "فيروزة" رافضة عرضه السخي:

-احنا نهينا الخطوبة، يعني الشبكة ماتخصناش.

أصــر عليها قائلاً:

-بعد اللي حصل، مالوش الواد ده حاجة عندي، خديها، بعيها، اتصرفي فيها، محدش هيلومك

شكرته "آمنة" قائلة من الخلف:

-تسلم يا حاج "بدير" على تقديرك، دي صفحة وقفلناها

ســال لعاب "خليل" وقد رأى مدى سخاء ضيفه الذي يستثير أطماعه بشكلٍ جنوني، ارتعب من تزمت "فيروزة" وعنادها المهلك، لذا دون تفكيرٍ اختطف العلبة من بين أصابعه، وضمها إلى صدره، وكأنه يخشى ضياعها، وبادر يمتدحه ونظراته الطامعة تغطي حدقتيه:

-بصراحة عداك العيب يا حاج "بدير"، أبو الأصول كلها.

استشاطت عينا "فيروزة" من وقاحته، وهبت تعترض بنبرة مختنقة:

-لو سمحت يا خالي رجع الحاجة، احنا مش ناقصنا دهب.

نظر لها بغلٍ وقال متحديًا:

-إنتي عاوزة تكسفي عمك الحاج وتحرجيه؟ مايصحش وهو في بيتنا وجاي لحد عندنا...

والتفت إلى أخته يزجرها بعتابٍ:

-ما تعرفي بنتك الأصول يا "آمنة"!

ردت عليه "فيروزة" بتشنجٍ غير مبالية به وقد اِربد وجهها بحمرته المنفعلة:

-أنا مقبلش إن أختي تاخد آ....

اخشوشنت نبرته وهو يقاطعها بعبارته النافذة:

-"فيروزة" خلاص، أنا قولت كلمة..

ثم أشاح بيده لها يأمرها:

-روحي اعملي قهوة تانية لعمك بدل اللي بردت دي.

بلباقةٍ اعتذر منه "بدير" وهو يهم بالتحرك نحو الخارج:

-مالوش لزوم، يدوب أرجع الدكان.

وضع يده على كتفه كنوعٍ من إظهار الود، وقال مبتسمًا في نشوة:

-استنى يا حاج أنا جاي معاك أوصلك

لاحقه في خطواته ليهرب والعلبة لا تزال في يده، اهتز جسد "فيروزة" في عصبيةٍ جلية، التفتت إلى والدتها التي كانت تتابع الموقف بصمتٍ غريب، وهتفت بحنقٍ:

-شوفتي يا ماما خالي وعمايله؟

ضربت كفها بالآخر، وردت بتنهيدة حائرة:

-والله ما عارفة أقول إيه، أخويا الفلوس لحست عقله

نما إلى مسامع ثلاثتهن صوته المنادي:

-يا "آمنة" تعالي لحظة

أدارت ظهرها لابنتيها وهي ترد بسأمٍ:

-هاروح أشوفه، عديها على خير يا رب.

ســارت بتباطؤٍ فوجدت "خليل" يقف أمام باب المنزل والتلهف يملأ محياه، أعطاها علبة الذهب، وشدد عليها بعدم التفريط فيها ريثما تتضح توابع الأمور، أخذ وعدًا منها بالاحتفاظ بها في دولابها دون أن تُطلع ابنتيها معللاً لها:

-لو "حمدية" شمت خبر إنهم معايا هتاخدهم، وتشبط فيهم وجايز تعمل شوشرة ومترداش تفرط فيهم، سبيهم معاكي يومين كده وأنا بنفسي هارجعهم للحاج "بدير" لما الدنيا تهدى، مش عاوزين نزعل الراجل مننا، مهما كان دي كبيرة عليه إنه يتأسف بنفسه عن غلطة غيره، ماشي ياختي؟

-معاك حق.

كان صــادق النية في النصف الأول من جملته، فأطماع زوجته لا حدود لها، وربما ستحتفظ بهم كأنه حقها المكتسب، في حين أنه دس السم في العسل في باقي عبارته، فما تفوه به كان مجرد أكذوبة مخادعة ودَّ أن تنطلي على شقيقته لتوافق دون تذمرٍ على رغبته، واستجابت له بسجيتها غير المشككة فيه معتقدة أنه يفعل الصالح لابنتيها.

...............................................................................

مضت بضعة أيامٍ حُصرت فيهم ما بين رجاوات وتوسلات ابنها، وبين عصبية وانفعالات هائجة لا حدود لها، في النهاية اضطرت أن تتخلى عن كرامتها من أجله، وتذهب في زيارة استثنائية بدون ميعاد مسبق لـ "همسة" على أملِ أن تُصلح ما أفسده "هيثم"، علها تنجح في مسعاها. لم تتواجد "بثينة" بمفردها، استعانت بابنتها لتكون داعمًا لها، وبالرغم من امتعاضها إلا أنها احتفظت بتلك البسمة اللطيفة على محياها، استقبلتها "آمنة" بترحيب لائق كما اعتادت مع كل زائر يطأ منزلها، وجلست مع ضيفتيها تتجاذب أطراف الحديث العام بعيدًا عن الموضوع الرئيسي إلى أن قالت "بثينة" في الأخير لتظهر ندم ابنها:

-أنا عارفة إن ابني اتصرف بقلة أدب، بس طيش شباب والله، ده هايتجنن على "همسة"، وقلبه محروق عليها من بعد اللي حصل.

سألتها "آمنة" في عتابٍ وتعبيراتها توحي بعدم تساهلها أو لينها:

-طب يرضيكي اللي عمله؟!

نفت على الفور مستخدمة أسبابها للتبرير حتى تسترق قلبها:

-لأ طبعًا، ولو كان لا سمح الله حصل لـ "خلود" كنت قلبت الدنيا، وجبت حقها، بس هو اتربى وخد جزاته، ومش هاقولك الحاج "بدير" عمل فيه إيه، ولا "تميم"، يا لهوي، ده الكل اتكاتر عليه لحد ما رقد يا حبة عيني في السرير من القهرة

تحرجت منها "آمنة"، وبدت مذبذبة نوعًا ما لتجاريها بنفس الأسلوب الجاف في الحديث بعد الذي أفصحت عنه، تجنبت النظر نحوها وردت مبتلعة ريقها:

-مش عارفة أقولك إيه، بس كل شيء قسمة ونصيب.

هتفت ترجوها بقلبٍ ملتاع:

-ده هايموت عليها، مش شايف إلا هي يا "آمنة"، وإنتي أم زيي، والله ما يرضي حد اللي بيحصل ده!

حاولت الضغط على مشاعرها الحنون ربما تنجح في إقناعها، لكنها ما زالت محافظة على صلابتها، وقالت مبتسمة:

-ربنا يرزقه بالأحسن.

احتقنت نظرات "بثينة" من صدها لها وردودها الجافة معها، بذلت مجهودًا عنيفًا لتبدو مستكينة بالرغم من رفضها القيام بذلك الأمر المذل من وجهة نظرها، تدخلت "خلود" حين رأت أمارات الضيق تتصاعد على وجه والدتها، واقترحت بلطفٍ:

-طب ما تناديلنا يا خالتي "همسة" نسألها، يمكن رأيها غيرك.

تطلعت نحوها "آمنة"، وقالت بجدية:

-كلامها مش هيختلف عني!!

ورغم إحراجها عن عمدٍ إلا أنها ألحت بنفس الأسلوب السمج:

-معلش أهوو نسمع منها بردك، عشان خاطري يا خالتي

تنهدت قائلة في استسلامٍ وهي تهم بالنهوض من على الأريكة:

-حاضر.

وقبل أن تخرج من الغرفة كانت "همسة" تقف على أعتابها بقامةٍ منتصبة ووجه حزين، منذ لحظة وصولهما وهي متواجدة بالخارج مع توأمتها، لكنها لم ترغب في الاشتراك بالحوار، استمعت إلى كل كلمة قيلت عنه، وبالرغم من ألمها إلا أنها شعرت بالتعاطف نحوه، وكأن قلبها أبى الانصياع لتعسفها، قاومت ذلك الإحساس الخائن باللين حتى لا يطغى عليها وتتراجع، منحتها "فيروزة" إحساس القوة والثبات إلى أن أصرت "بثينة" على حضورها، شعرت بالخوف يتسلل إليها، استدعت كامل مشهده المؤسف معها حتى لا تظهر بمظهر الضعف واللين أمام تلك المرأة، لا مجال للتراجع في موقف أوضح لها معدن ذلك الرجل كما قالت لها أختها، تحلت بالشجاعة، وغالبت خوفها لتبدو قوية الشكيمة، وبثباتٍ تحركت خطوة للأمام .. وزعت نظراتها بين الضيفتين، وقالت:

-أنا موجودة يا ماما، خليكي مرتاحة.

ربتت "آمنة" على جانب ذراعها لتشجعها على الدخول، وأشــارت بعينيها إلى "فيروزة" لتظل باقية بالخارج حتى لا تتدخل في الحوار وتشعل الأجواء بعباراتها المهاجمة .. دنت منهما "همسة"، مدت يدها لمصافحة الاثنتين أولاً قبل أن تتبادل معهما القبلات والأحضان دون ودٍ ظاهر عليها وهي ترحب بهما:

-أهلاً وسهلاً بيكم.

جذبتها "بثينة" من رسغها لتجبرها على الجلوس إلى جوارها على الأريكة العريضة قائلة لها بابتسامة متشوقة:

-تعالي يا بنتي جمبي كده، ده إنتي وحشاني أوي.

ابتسمت لها ابتسامةٍ متكلفة، وقالت مجاملة:

-تشريف حضراتكم ليا على عيني وراسي..

استطردت تقول لها:

-بصي يا حبيبتي، أنا عاوز أفهمك إن اللي حصل ده كان في لحظة شيطان، مش هاتكرر تاني، وأنا أوعدك بده.

ردت عليها بجمودٍ مصطنع:

-صعب أكمل معاه!

سألتها "خلود" بنبرة متأثرة:

-يا "همسة" هو إنتي لحقتي تعرفيه؟ حرام والله تظلميه!

التفتت نحوها لترد بحرقةٍ ظاهرة في نبرتها:

-ما اللي عمله فيا كفاية إنه يخوفني منه، ده كان شارب، والله أعلم لو أختى ملحقتنيش.. كان...

وجدت صعوبة في إتمام جملتها، ومع ذلك تسلحت بالشجاعة لتقول بحسمٍ:

-أنا مش هآمن لنفسي معاه، مقدرش، أنا أسفة.

استعطفتها "خلود" بصوتٍ شبه مبحوح وبدموع التماسيح التي حاولت جاهدة استدعائها لتبدو مقنعة:

-اديله فرصة تانية، ده ربنا بيسامح، وهو هيتجنن من ساعة اللي حصل.

أضافت عليها "بثينة" لتزيح الصورة السيئة المتشكلة في ذهنها عنه:

-والله ما بياكل ولا بيشرب، وشغله سايبه يضرب يقلب، مافيش على لسانه إلا إنتي، ده ربنا هداه على إيدك وساب الزفت اللي كان لاحس مخه.

لم يكن الأمر بتلك البساطة لتمحوه من عقلها أو لتتأقلم معه وكأنه شيء مُعتاد منه، طفرت دموعها في عينيها، ومسحتها بيدها قبل أن تنهض لتقول بغصة مؤلمة في حلقها:

-معلش يا طنط مضطرية أقوم، ورايا حاجات لازم أعملها، فرصة سعيدة إني شوفتكم

نظرت لها "بثينة" في يأسٍ وهي تفر من أمامها، استدارت نحو ابنتها لتأمرها والحزن يغطي تعبيراتها:

-بينا يا "خلود"، الظاهر مافيش فايدة!

.............................................................

ركضت هاربة وقلبها يُعتصر آلمًا دون أن تعرف إن كانت عشقته حقًا، أم لأنها تكره تلك الذكرى المؤسفة التي لوثت تفكيرها عنه، هربت والدموع تنساب بغزارة من حدقتيها، ارتمت في أحضان توأمتها التي واستها وهونت عليها من الأمر، امتدحت تماسكها قائلة:

-برافو عليكي، أنا عارفة إنه صعب عليكي، بس إنتي أدها

ابتعدت عنها لتنظر إليها بعينين تفيضان بالدمع، وسألتها بنهنهةٍ:

-تفتكري.. أنا ظلمته؟

أجابتها "فيروزة" بردٍ قاطع مظهرة عدم تعاطفها مع موقفه الناد:

-هو اللي عمل كده في نفسه.

أشــارت برأسها للخلف وهي تتابع بنبرة متقطعة بسبب بكائها:

-بس على حسب.. كلام مامته.. شكله لسه.. متمسك بيا.

وضعت كلتا يديها على ذراعيها، هزتها منهما برفقٍ وهي تحذرها بلهجة قوية حتى لا تتراجع:

-اجمدي يا "همسة"، اللي زي ده مايتبكيش عليه.

نكست رأسها في حزنٍ وقالت وهي تتنفس بعمقٍ لتخفف من نوبة بكائها:

-حاضر

ابتسمت لها "فيروزة" في حبٍ، وأضافت بثباتٍ لتشد من أزرها:

-احنا مالناش إلا بعض يا "هموس"، وبكرة هايجي اللي أحسن منه، إنتي متستعجليش، ولا شكلك هتحني ليه؟

حملقت بعينين تعيستين في وجهها قبل أن تنطق بمرارةٍ:

-لأ يا "فيروزة"، ده موضوع واتقفل!

..................................................................

أبلغته والدته برفضها القطعي للعودة إليه وإتمام الخطبة، وكأنها بذلك نزعت فتيل قنبلة جنونه الموقوتة ليهتاج أكثر ويحطم ما تطاله يداه، كانت محقة حين وصفته بالأرعن الأهوج الذي انساق وراء نزواته، ولهذا عليه ألا يلوم أحدًا إلا نفسه، ثارت ثائرته، وفقد عقلانيته ليخرج من المنزل قاصدًا الذهاب إلى رفيق السوء "نوح"؛ ذاك الذي نصحه في غيابات الخمر باستباحة عرضها، لم يكن الأخير متواجدًا في منزله، دق الباب بعنفٍ عليه، أوشك أن يخلع الكتلة الخشبية التي تمنعه من اقتحام المكان، ونجح بعد عدة ضربات قوية من كتفه في إزاحة الباب، وحين تواجد بالداخل، انهال على ذاكرته تفاصيل تلك الليلة المنحوسة، هاج على الأخير وأطاح بالزجاجات الفارغة وهشمها، وركل النارجيلات المتراصة عند الزاوية بكل عصبية لتتحطم وتتبعثر محتوياتها على الأرضية، عاث في المكان الخراب وهو بالكاد يلتقط أنفاسه اللاهثة من فرط انفعالاته، لكن قلبه الموجوع لم يهدأ بعد.

جلس "هيثم" على الركام المحطم وهو يشبك يديه أمام ركبتيه يتطلع أمامه بنظرات غائمة، عــاد "نوح" من الخارج ليتفاجئ بالدمار الذي لحق بمسكنه، وخاصة عدة السهر الخاصة، نظر في صدمة إلى ما افترش الأرض من بقايا زجاجية مختلطة بأحجار الفحم، تساءل في بلاهةٍ:

-هي الحرب قامت هنا ولا إيه؟

في البداية تجمدت عينا "هيثم" عليه، وكأنه يستوعب مجيئه، شحذ قواه الغاضبة ليصبها عليه، أرخى كفيه واستند عليهما لينهض، ثم انقض عليه ليمسك به من تلابيبه وهو يصرخ به في عصبيةٍ:

-إنت السبب، إنت اللي خربتها على دماغي!

حاول "نوح" انتزاع قبضتيه من عليه وهو يسأله مصدومًا:

-في إيه يا عم؟ بالراحة عليا، واحدة واحدة خليني أفهم!

واصل صراخه المهتاج قائلاً دون أن يفلته من بين أصابعه:

-كانت شورة مهببة منك، الله يحرقك البت راحت مني

سأله مستفهمًا:

-هو إنت عملت إيه بالظبط؟

في وسط نوبة انفعاله المتأججة أخبره باقتضابٍ عن تصرفه المتجاوز، ابتسم "نوح"، وعلق بما يشبه التهكم:

-إنت اللي غلطان، أنا مقولتلكش روح اغتصابها، دماغك كانت من الأول شمال معاها!

هتف مدافعًا عن نفسه في حرقةٍ:

-مش حقيقي! أنا.. مكونتش دريان بسبب الهباب اللي بلبعته

نجح رفيقه في تخليص نفسه من قبضتيه، نفض ياقته وعدلها، ثم قال ببرودٍ:

-طيب، إنت حمار وعملت فيها كده، أنا مالي بقى بغباءك ده؟!

نظر له "هيثم" بنظراتٍ مغلولة وهو يكاد يطبق على عنقه من جديد ليخنقه، لكنه كان محقًا، هو من تصرف بوقاحةٍ، وأفسد بيده خطبته مع تلك الفتاة، كز على أسنانه وهو يلعنه:

-منك لله يا شيخ، كانت معرفتي بيك معرفة سودة!

أطلق سبة نابية وهو يوليه ظهره قبل أن يخرج من منزله، لحق به "نوح" ليستوقفه، شده من معصمه مُعاتبًا بخبثه الشيطاني:

-أوام كده هتنسى الليالي الحلوة؟ عامةً مش هاخد على خاطري منك يا "هيثم"، أنا عارف إنك مضايق شوية، يومين هتفك وترجعلي.

استل يده من أصابعه الممسكة به بتشنجٍ، ورمقه بنظرة مطولة من عينيه المحتقنتين بغضبٍ وألم، ثم رد بعدها بغصةٍ متحسرة وهو يهبط الدرجات وإحساس الهزيمة يحتل كامل كيانه:

-ولا تاخد، كله ضـاع خلاص، و"همسة" راحت مني ............................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة