-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الأول

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الأول من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الأول

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الأول

 بنصف عينٍ تطلعت أمامها محاولة إجبار نفسها على الاستيقاظ بعد ليلة مرهقة ذهنيًا وعصبيًا لها، غلبها النعاس واستكانت لبرهة، استشعرت "خلود" سطوع النهار من خلال تلك الإضاءة الخافتة المتسللة من نافذة الغرفة الموصودة، تقلبت على جانبها الآخر ويدها قد امتدت لتتحسس الفراش، لم يكن دافئًا مما أوقظ إدراكها، وباتت واعية تقريبًا، فتحت عينيها على الأخير، تلفتت حولها باحثة عن زوجها الذي على ما يبدو هجر فراشها، تساءلت مع نفسها:

-هو راح فين؟

بدا المكان ساكنًا من حولها، ظنت أنه ربما ذهب إلى عمله مُبكرًا، ولم يرغب في إيقاظها، اعتدلت في رقدتها واستدارت ناحية الكومود لتمسك بهاتفها المحمول حتى تنظر إلى الوقت، لكنها تفاجأت بوجود زجاجة الدواء التي قامت بتبديل أقراصها موضوعة عليه، انقبض قلبها في خوفٍ، وأحست برهبة موترة تجتاحها، مدت "خلود" يدها لتلتقطها، تفحصتها بعينين خائفتين، ابتلعت ريقها وتساءلت في توجسٍ:

-إيه دي؟ بتعمل إيه هنا؟

أحست بثقلٍ يجثم على صدرها، كما ازدحم عقلها بأفكار متواترة تشير إلى احتماليات مخيفة لم تحبذ التفكير بها لأنها ستحيل حياتها إلى جحيم، وجدت لسان حالها يلهج باسمه:

-"تميم"!

أزاحت الغطاء عنها، وهبطت عن الفراش لتفتش عنه في أرجاء المنزل لتتأكد من وجوده، توجهت ناحية الحمام، دقت على بابه قبل أن تفتحه، لم يكن متواجدًا بالداخل مما زاد من ريبتها، واصلت البحث عنه في كل غرف المنزل انتهاءً بالمطبخ، كان الاحتمال الأكبر أنه اتجه لعمله بالدكان، ظلت محتفظة بالزجاجة في يدها، ثم نظرت مطولاً إليها، وتساءلت، وكأنها :

-هو ساب الإزازة دي ليه هنا؟

....................................................

تردد في الذهاب إلى نفس الصيدلية التي يتعامل معها، خشي أن يكون هناك خطب ما في الدواء الذي بحوزته، لذا استقل سيارته واتجه إلى واحدة منزوية في مكانٍ بعيد عن منطقته، ترجل "تميم" من السيارة بعد أن صفها أمامها، تنحنح بصوته الخشن وهو يلج المكان، كان شبه هادئ، قليلٌ من الزبائن متواجدون به، اتجه نحو الزاوية وانتظر دوره .. ألقى نظرة عابرة على الرفوف الزجاجية المليئة بأصنافٍ مختلفة من الدواء وهو يقف مستندًا بقبضته على إحدى واجهات العرض المنخفضة، تحرك الصيدلي الذي انتهى من إحضار المكتوب في روشتة أحد المرضى نحوه لينظر له باهتمامٍ، بادر "تميم" مستهلاً حديثه:

-سلامو عليكم.

رد التحية برسمية بحتة:

-وعليكم السلام، اتفضل يا أستاذ.

أخرج "تميم" من جيبه القرص الذي غفلت "خلود" عن أخذه أو حتى تبديله ليضعه في كفه وهو يسأله بملامحه الجادة ونظراته الحائرة:

-لا مؤاخذة أنا كنت عاوز أسأل عن نوع برشام معين.

نظر الصيدلي إليه متسائلاً بهدوء:

-معاك اسمه؟

أجابه نافيًا وهو يفتح راحته ليريه إياه:

-لأ، مش معايا، بس شبه القرص ده!

تناوله منه وألقى نظرة متفحصة عليه، ألح عليه "تميم" بسؤاله:

-ها عرفته؟

مط فمه وقد بدا منشغلاً في تحديد ماهيته بالضبط، استدار خلفه ليفتح أحد الأدراج الرمادية، وأخرج منه علبة تحتوي على شرائط أدوية، فتحها والتقط واحدًا منهم ثم رفعه نصب عينيه، واستطرد بهدوءٍ مستريب:

-هو شبه الموجود في الشريط ده.

سأله بنفاذ صبر:

-أيوه، يعني عبارة عن إيه؟

أجابه بوجه جامد وقد انخفضت نبرته قليلاً:

-منشطات..

أصابه التخبط من الحقيقة الصادمة التي هبطت عليه كالصاعقة، اتسعت عيناه في ذهول وهو يغمغم بصوتٍ هامس:

-يخربيتك يا "خلود"! ودي هتعمل بيها إيه؟

سأله الصيدلي في اهتمامٍ:

-بتقول إيه يا أستاذ.

رد بصوته الأجش:

بسأل إن كنت متأكد من الكلام ده ولا آ.....

قاطعه موضحًا عن ثقة:

-يا فندم الحباية دي معروفة.

عبوسٍ واجم غطا قسمات وجهه، ورد بامتعاضٍ:

-ماشي.. متشكر.

حذره الصيدلي بجدية:

-خد بالك يا أستاذ، كتر الحاجات دي مش حلو عليك، يعني ليها تأثير و...

قاطعه بتحفزٍ، وهو ينذره بنظراته التي غامت:

-حد قالك إني خرع؟ ده مش بتاعي، وأنا مش محتاج للبرشام ده.

رد عليه بهدوء ليمتص غضبته قبل أن تندلع مستخدمًا يده في الإشارة:

-أنا قولتلك ما يملي عليا ضميري المهني، وإنت حر.

ظهرت العصبية في نبرته وهو يقول محتجًا على تلميحه الذي ينتقص من رجولته:

-بردك هايقولي بتاعي!!!

ثم ضرب بكفيه في تشنجٍ وهو يكمل:

-حاجة تجن العاقل، جاي اسأل على حاجة يلبسني تهمة.

أدرك الصيدلي أن الجدال معه لن يجدي، وربما قد يتهور ويُخرب في المكان جراء عصبيته، لذا قال مبتسمًا بنبرة عملية:

-أسف يا أستاذ، شرفتنا.

وأعاد وضع القرص أمامه على السطح الزجاجي ليلتقطه "تميم" ويدسه في جيبه قبل أن يخرج من المكان مبرطمًا بكلمات منزعجة.

....................................................................

بإجهادٍ واضح عليها وهي تجرجر ساقيها نحو باب المنزل الذي سمعت قرع جرسه قبل لحظاتٍ، خاصة وأنها أُنهكت في متابعة تنظيف المطبخ وغرف البيت ليلة أمس بمساعدة إحدى الخادمات، شهقت مصدومة حين أبصرت "محرز" واقفًا عند أعتاب الباب، تجمدت الدماء في عروقها، واندفعت نحو الخارج وجعلت بابها مواربًا حتى تتحدث معه، كزت على أسنانها تسأله في توترٍ خائف:

-إنت بتعمل إيه السعادي؟ الواد "هيثم" لسه جوا!

تباهى "محرز" في وقفته، وقال ببرودٍ، وكأن اكتشاف تواجده في تلك الساعة لا يعنيه:

-ما إنتي ما بترديش عليا، وموبايلك مقفول.

ردت بصوتها المتوتر وهي تتلفت حولها:

-تلاقيه فصل شحن، ما هو دايمًا بيعمل كده معايا.

غمز لها قائلاً بسماجة:

-ما تغيري العِدة يا خالتي!

حذرته بصوتها الخفيض ووجهها الذي احتلته تكشيرة عظيمة:

-بأقولك إيه الحكاية مش نقصاك، قول جاي في إيه بسرعة وخلصني.

دس يده في جيب سترته الجلدية ليخرج منها رزمة من النقود، مد ذراعه نحوها قائلاً بمكرٍ:

-ده نصيبك من التوريد إياه، شوفتي أنا حقاني إزاي.

اختطفت النقود من أصابعه ونظرت لهم بعينين طامعتين .. لسنوات كانت شريكة "محرز" السرية في سرقة "بدير" واختلاس الأموال والبضائع من خلال تجارتهما غير المعلومة، تربحت الكثير، وادعت فقرها لتستمر في مص دمائه واِكتناز الكثير .. رفعت وجهها إليه وسألته:

-كام دول؟

أجابها وهو يمسح على صدره:

-عشر بواكي يا خالتي.

ســال لعابها وقد شردت تحسب في عقلها إجمالي ما معها من نقود، راقب "محرز" ببسمة ساخرة نظراتها الطامعة، وسألها بتسليةٍ:

-قوليلي يا خالتي بقى معاكي كام؟ قفلتي الأرنب ولا لسه؟

رفعت كفها أمام وجهه لترد بحدةٍ:

-الله أكبر، هو أنا معايا حاجة، ده مصاريف البيت شافطة كله.

غمز بطرف عينه وهو يسخر منها:

-لأ ما هو واضح، الله يعينه الحاج "بدير"، مش ملاحق بردك.

خبأت النقود في حجابها المنزلي، واِربد وجهها بعلامات التجهم قبل أن تأمره بغلظة بالرغم من خفوت صوتها:

-يالا امشي قبل ما "هيثم" يشوفك.

هز رأسه ليقول ملوحًا بيده:

-ماشي.. هنياله!

راقبته "بثينة" حتى هبط الدرجات فعادت إلى الداخل، وأغلقت الباب بهدوءٍ، اشرأبت بعنقها وقد تسمرت للحظات في مكانها لتتأكد من عدم ملاحظة ابنها لما حدث، أرهفت السمع فالتقطت أذناها صوت انهمار المياه الخاصة بالدش، ابتسمت في انتشاءٍ، وســارت بخفة نحو غرفتها، وبحرصٍ مبالغ فيه أوصدت الباب بالمفتاح لتضمن عدم اقتحام "هيثم" للغرفة في غفلة منها .. اقتربت من الفراش وأزاحت حجابها ووضعت النقود على طرفه، ثم عند قائمته اليمنى الملاصقة للكومود أحنت جسدها لتزيح السجادة القديمة، استخدمت دبوسًا معدنيًا رفيعًا كانت تربط به شعرها في خلع إحدى البلاطات القديمة المتخلخلة، أمسكتها بعنايةٍ بيدها ووضعتها إلى جوار النقود على الفراش، ثم التقطت الرزمة ونظرت لها بوهجٍ متحمسٍ قبل أن تقبلها في سعادة، ضمتها إلى جوار مثيلاتها، و همست لنفسها وكأنها تتبادل الحديث مع أموالها:

-بكرة أروح أبدلكم بورق من أبو 200 جنية عشان ماتخدوش مكان!

وفي أقل من دقيقة، أعادت "بثينة" كل شيء إلى وضعه السابق لتبدو الغرفة على هيئتها القديمة .. اعتدلت في وقفتها، وجمعت حجابها الملقى بإهمالٍ على الأرضية لتستعد للخروج من الغرفة، وبقيت تلك الابتسامة المزهوة تغطي محياها.

..................................................................

خرجت من الحمام ورأسها يلتف بالمنشفة القطنية، سارت بخطواتٍ متهادية نحو التسريحة وجلست على المقعد أمامها، مدت يدها لتسحب علبة الكريم لتدلك به بشرتها، لم تنتبه لصوت فتح باب المنزل، التفتت "خلود" للخلف حين لمحت انعكاس وجهه القاتم في المرآة، لم تكن ملامحه طبيعية، ناهيك عن نظراته الغريبة المسلطة عليها، تعجبت من حضوره المبكر، وسألته باندهاش وقد انزوى ما بين حاجبيها:

-إنت متأخرتش برا يا حبيبي؟ ولا نازل تاني؟

باغتها "تميم" متسائلاً دون تمهيدٍ:

-قولتيلي البرشام ده بتاع إيه يا "خلود"؟

تجمدت في مكانها مصدومة من سؤاله المباشر، أحست برجفة تنتاب جسدها، وكأن دلوًا من الماء المثلج هبط فوق رأسها ليشل تفكيرها ويشوش ذهنها .. حاولت التماسك وبذلت مجهودًا كبيرًا لفعل هذا حتى لا ينكشف ملعوبها الحقير في جذبه للفراش تحت تأثير ذاك الدواء، لعقت شفتيها وأجابته بابتسامة باهتة وبصوتٍ مرتبك:

-فـ.. فيتامينات.

تقدم نحوها بوجهه الذي اِربد بغضبه المُلبك للأبدان، وأعاد تكرار السؤال عليها كما لو كان يحقق معها:

-إنتي متأكدة؟

بلعت ريقها، وجاهدت لتظل ابتسامتها المزيفة مرسومة على شفتيها حين ردت:

-أيوه يا حبيبي...

ثم أدارت رأسها في اتجاهه، وتابعت بقليلٍ من الثقة:

-دي ماما متعودة تجبهولي وآ...

قاطعها بنظراته الذكية المتشككة في أقوالها:

-بس الدكتور اللي في الصيدلية قالي غير كده!

هربت الدماء من عروقها، ورددت بصوتٍ متقطع في صدمة:

-د... دكتور مين ده؟

طوقت أصابعه معصمها ليشدها منه ويجبرها على النهوض، جذبها بعنفٍ محسوسٍ نحوه متابعًا باقي جملته، ونظراته النارية مرتكزة على عينيها المذعورتين:

-قالي دي لا مؤاخذة كده منشطات، وللرجالة!!!

هوى قلبها بين قدميها ارتعابًا، تطلعت عليه بعينين شاخصتين، أحست بأن نهايتها قد أوشكت، تجمدت الكلمات على طرف لسانها وهي تعتصر عقلها اعتصارًا لتختلق أي أكذوبة تنجدها من شره المستطير. هزها "تميم" بقسوة وهو يسألها بما يشبه التهكم:

-ما هو أكيد المنشطات دي مش ليكي يا "خلود"؟

تشنجت خوفًا من عدائيته الواضحة، وردت بتلعثمٍ مذعور:

-أنا.. كنت

استغربت من توجه تفكيره للظن بتعاطيها لتلك النوعية من الأدوية، لكنه صدمها بسؤالٍ كان وقعه عليها كمن لامس بدنه تيارًا كهربيًا شديد القوة:

-ولا دي ليا وأنا مش عارف؟

ألجمت الصدمة الممتزجة بالخوف لسانها، نظرت له في هلعٍ، بينما تابع هزه القاسي لها وهو يصرخ بها:

-انطقي.. سكتي ليه؟

ردت بصعوبةٍ، وعيناها تهربان من نظراته التي تكشفها:

-إنت.. فاهم غلط.

أرخى قبضته عن يدها التي اصطبغ جلدها بحمرة شديدة من ضغط أصابعه عليها، لوح بذراعيه في الهواء مكملاً صياحه الهادر بها ليستنطقها:

-طيب فهميني إنتي الصح بدل ما أنا واقف زي القرطاس كده قصادك.

برق عقلها بفكرة جهنمية، وكأن شيطانها يعمل بكامل طاقته لتطويع الأمور لصالحها، استجمعت جأشها لتدعي كذبًا:

-ده.. بتاع.. "هيثم".

ارتسمت أمارات الاستغراب المستنكر على وجهه وهو يقول في حيرة:

-"هيثم؟ وبيعمل إيه عندك؟

تنفست الصعداء حين رأت خدعتها تنطلي عليه، وتابعت مسترسلة في كذب:

-دي.. ماما لاقته عنده في الأوضة.. أيام المشكلة إياها مع البت خطيبته.. خافت يكون بيتعاطى حاجة، فقالتلي أعينه هنا.

نظر لها في شكٍ قبل أن يعقب متسائلاً:

-لا والله! طب وهي مرمتهوش في الزبالة ليه؟

تصنعت العبوس، وجاوبته بضيقٍ لتزعزع شكوكه نحوها، وكأنها ليست الملامة في تلك المسألة الخطيرة:

-معرفش.. اسألها.

علق بلهجة جادة أخافتها:

-ما أنا لازم هسألها.

تماسكت أكثر بعد تحويل دفة الأمور نحو والدتها، وأضافت بما يشبه الرجاء:

-ماتنساش يا "تميم" إن "هيثم" ده أخويا، وأنا خايفة عليه.. فمافيش داعي تكبر المسألة.

سدد لها نظرة غائمة وهو يقول بصوته المحتقن:

-وماله.. حقك، بس بتكدبي عليا ليه؟

ارتفع حاجباها للأعلى في توترٍ، بينما أكمل بتشنجٍ والاتهامات التي تدينها تتصاعد في عينيه:

-لأ وتقومي تتسحبي في نص الليل زي الحرامية عشان تبدلي الدوا، أل يعني مكفراني نايم على وداني، مش دريان بحاجة.

هتفت تلومه ومبررة تصرفها:

-خوفت تعمل مشكلة تانية معاه، ولا حتى تضربه، واحنا مصدقنا حاله ينصلح.

هدر في تهكمٍ ساخط:

-يا سلام على الطيبة!!

ارتخت أعصابها المشدودة قليلاً، شعرت أن الكفة رجحت مجددًا لصالحها مما أكسبها المزيد من الثقة، وردت بصوتها الذي غلفه الضيق لتبدو مقنعة في غضبها منه:

-إنت عارف احنا كلنا يهمنا مصلحته، أكيد مش هابقى عاوزة أضر أخويا، وإنت لو مكاني هتعمل اللي تحافظ بيه على أهل بيتك، ما تلومنيش لما أحاول أحميه.

نظر لها مطولاً بغموضٍ، لم تعرف إن كانت نظراته النافذة نحوها جعلته يصدقها أم لا، وباقتضابٍ قال لها:

-ماشي يا "خلود".

خشيت من تبعات ردة فعله غير المتوقعة، فالأمر تلك المرة اتخذ منحنًا آخرًا لم تُرتب له جيدًا، وكما عهدته لم يكن ليمرر تلك المسألة دون تحقق متعمق فيها، لهذا سألته وقد ضاقت عيناها:

-إنت مش مصدقني؟

أومأ برأسه قائلاً:

-هنشوف.

نظرت في عينيه قائلة بثبات:

-اطلب أمي لو عاوز تتأكد، وهتعرف منها الحقيقة..

ثم وضعت يديها على ذراعيه، ضغطت برفقٍ على عضلاته، وأسبلت عينيها نحوه، تنهدت ببطءٍ لتعاود تسول عواطفه وهي تهتف:

-"تميم"، أنا بأحبك ومقدرش أبعد عنك، نفسي نرجع زي أول جوازنا، الحياة بينا كانت أحسن من دلوقتي، كفاية تعذب فيا.

ولتظهر شغفها به طوقت جسده بذراعيها ليشعر بها عليه، وارتمت برأسها على صدره هامسة له بحرارةٍ:

-أنا محتاجة حضنك أوي.

نبذها عنه قائلاً بجمودٍ، والجفاء يظهر في نظراته نحوها:

-مش وقته.

أنقذه من دلالها غير المستساغ رنين هاتفه المحمول، أجاب على اتصال والده به قائلاً بزفيرٍ متعب:

-أيوه يابا، لأ أنا جاي على طول، كان ورايا مصلحة كده، تمام، مش هتأخر.

أنهى المكالمة معه، ونظر لها ليقول وهو يشير بسبابته:

-هنتكلم أما نرجع.

رسمت بسمة ناعمة على شفتيها حين ردت:

-حاضر يا حبيبي.

تبعته في خطواته متسائلة:

-عاوزني أطبخلك إيه على الغدا؟

رد بتجهمٍ:

-هاكل مع الرجالة، عندنا شغل كتير.

دعت له من خلفه، وتلك البسمة المتكلفة تزين محياها:

-ربنا يقويك يا حبيبي، أدها وإدود.

ظلت تسمعه بكلماتها المحفوظة عن ظهر قلب والتي تشد بها من أزره إلى أن خرج من المنزل وأغلق الباب ورائه، اندفعت عائدة إلى غرفة النوم بخطواتٍ أقرب للركض، أمسكت بهاتفها المحمول واتصلت بأحدهم، وضعت الهاتف على أذنها وصاحت بأنفاس مضطربة ودون مقدمات حين سمعت صوت والدتها:

-أيوه يامه، في مصيبة حصلت!!!!

.....................................................................

ألقت نظرة أخيرة مدققة على حقيبة ظهرها التي ملأتها بما تحتاج إليه من أدوات لتستخدمها في وظيفتها الجديدة مع رفيقتها "علا" التي عرضت عليها العمل معها في محل تغليف الهدايا الذي تديره في وقت فراغها، لم ترفض "فيروزة" عرضها، كانت بحاجة ماسة للنقود لتسدد الالتزامات الملاقاة على كاهلها .. رأتها والدتها فأقبلت عليها تسألها باهتمامٍ:

-مش هتفطري برضوه يا "فيروزة"؟

أجابت نافية وهي تشد السحاب لتغلقها:

-لأ يا ماما، ورايا كام مشوار كده هاخلصهم، وبعدين عاوزة ألحق أروح لـ "علا" عشان نجهز ديكورات السبوع، يدوب الوقت يكفي بحيث نسلمها قبل العصر.

ربتت على كتفها، وقالت كنوعٍ من الدعم لها:

-ربنا معاكو يا بنتي ويكرمكم.

ابتسمت تقول في تعبٍ:

-اه يا ماما إدعيلي، لو الشغل بتاعنا ده ظبط هنتشهر أوي، الحاجات دي بتاكل مع الناس.

ردت بحنو أمومي:

-أنا بأدعيلك من غير ما توصيني يا "فيروزة".

حركت رأسها في استحسانٍ، وعلقت حقيبتها على كتفها استعدادًا للذهاب، استوقفتها "آمنة" متسائلة:

-قوليلي، لسه زعلانة من أختك؟

تنفست بعمقٍ لتثبط ما يعتريها من مشاعرٍ مستاءة، وردت بوجومٍ:

-هي حرة، وأدرى بمصلحتها عني.

مسحت أمها برفق على ذراعها، وقالت لها بنظراتٍ متوسلة:

-إنتو بقالكو كتير متخاصمين، وهي مضايقة إنك واخدة جمب منها، وده آ....

قاطعتها بحدة ملحوظة:

-ولا واخدة جمب ولا حاجة، كل الحكاية إني ماليش دعوة بأي حاجة تخص الجوازة دي.

رجتها بغصة عالقة في حلقها:

-يا بنتي إنتي بس لو تسمعيها، تفهمي هي عملت كده ليه.

قالت بحسمٍ لتنهي النقاش في تلك المسألة:

-سمعت اللي أنا عاوزاه خلاص، كلامي مالوش لازمة معاها، ولا هيقدم ولا هيأخر، ويالا عشان اتأخرت على "علا".

تحركت في اتجاه باب المنزل، لكن اعترضت "همسة" طريقها، واستطرد تقول وعبراتها الرقراقة تحتجز في حدقتيها:

-"فيرو"، أنا ...

لم تنظر نحوها، بل تعمدت تجاهلها بقساوة اكتسابها نحوها بعد موقفها الأخير الذي أحرجها وأخذلها، تجاوزتها قائلة ببرود:

-سلام يا ماما.

تنهدت "همسة" في إحباطٍ حزين وهي تراها تخرج من المنزل صافقة الباب بقوةٍ خلفها، التفتت ناظرة إلى والدتها، وهتفت بصوت مليء بالشجن وقد انسابت دموعها:

-برضوه دماغها ناشفة، هي بس لو تديني فرصة أشرحلها أسبابي.

هونت عليها والدتها من الأمر، وعلقت بنبرة مواسية:

-معلش يا حبيبتي، يومين وهتهدى، وكل حاجة هترجع زي ما كان.

ردت بيأسٍ:

-يا ماما ده احنا داخلين في أكتر من أسبوعين من ساعة اللي حصل، وبرضوه هي مقطعاني، حتى معدتش بتنام معايا، وأنا قلبي واجعني أوي، احنا عمرنا ما اتخصمنا كل المدة دي

علقت عليها بنبرة مليئة بالعشم:

-هتكلم معاها تاني، وربك يهديها، ويصفي النفوس.

تحت طائلة من الضغوطات المتصاعدة التي استنزفت طاقاتها بالكامل وافقت "همسة" على عرض الزواج المتكرر لتنهي صراعها النفسي، لا أحد يشعر بذاك الخوف العظيم الذي ينتابها كلما اختلت بنفسها وتذكرت كلمات "بثينة" القاتلة لإحساس الأمومة الغريزي في أي فتاة.. افتقرت إلى الشجاعة لتوافق آنذاك على القيام بالتحليل الذي يثبت صحة ادعائها من عدمه.. خافت من الحقيقة التي يمكن أن تصدمها إن صدق قولها وكانت امرأة عقيم، رفضت ارتعابًا مما يمكن أن يصيبها جراء المعرفة التي ربما ستوصمها للأبد، سيطر عليها ضعفها وخوفها من المواجهة لتترك تلك المسألة المصيرية في طيات الغيب، ارتضت بـ "هيثم" عن طيب خاطر، فبالرغم من كل العقبات التي واجهها إلا أنه ما زال متمسكًا بها، يحبها بجنون، ويُريدها كزوجة ولن يتراجع عن رغبته بها.

........................................................................

لفت شرائط الزينة حول العلبة الكرتونية التي انتهت من تغليفها لتضعها على الجانب، مدت يدها لتمسك بالورقة الصغيرة وترفعها أمام عينيها لتراجع مهامها المتبقية، اتجهت نظرات "فيروزة" نحو الباب الزجاجي الذي فتح للتو، ابتسامة صغيرة تكونت على شفتيها وقد أطلت "علا" بوجهها البشوش عليها .. نظرت إلى ما تحمله يداها من أكياسٍ ممتلئة، أسندتها على الطاولة وألقت بثقل جسدها على مقعدها، سألتها الأولى مستوضحة:

-ها لاقيتي ورق السلوفان؟

أجابتها بعد زفير طويل:

-أيوه، ده بعد دوخة، لاقيته في الآخر عند المكتبة النوعية.

ردت وهي توزع نظراتها بينها وبين الأكياس الورقية التي تقوم بوضع الحلوى بها:

-أنا من الأول قولتلك روحي هناك، هما عندهم كل حاجة.

وافقتها الرأي، وقالت:

-معاكي حق، بعد كده اللي هايبقى ناقص عندنا هنشوفه هناك على طول بدل اللفة الطويلة.

التقطت "علا" أنفاسها ونهضت من مقعدها لتتجه إلى رفيقتها، وقفت قبالتها وسألتها:

-ها.. قوليلي، أساعدك في إيه؟

ابتسمت تجيبها موضحة من تلقاء نفسها:

-أنا خلاص قفلت هدايا عيد الميلاد بتاع البنوتة "سما"، وبأجهز دلوقتي في شنط السبوع، حطيت البونبونيرات بعد ما قفلتها، ولزقت الكروت، والشيكولاته ظبطتها، وآ...

قاطعتها في انبهارٍ:

-ماشاءالله عليكي، بتنجزي بسرعة.

ردت بتفاخرٍ، وعيناها تلمعان في فرحٍ:

-طبعًا، هو أنا جاية أهزر، أنا أستاذة في تقفيل الحاجة.

مدحتها "علا" قائلة:

-لأ برافو عليكي، أنا بأخد وقت طويل، وبصراحة إنتي مظبطة كل حاجة.

قالت "فيروزة" مجاملة دون أن تفتر ابتسامتها:

-حبيبتي، تسلميلي.

انتبهت كلتاهما لذاك الشخص الذي ولج لتوه للمحل، هللت "علا" في سعادة غريبة:

-مش معقول، شوفي مين جاي عندنا!

رفعت "فيروزة" أنظارها نحو "آسر" الذي صدمها بحضوره، رسم تلك الابتسامة اللبقة على ثغره، واستطرد يقول وهو يحمل باقة ضخمة من الورد الأبيض الملفوف بغطاءٍ بلاستيكي شفاف:

-صباح الورد عليكم.

على الفور ردت "علا" بمرحٍ زائد:

-صباحك جميل.

أضاف بلطافةٍ:

-الورد للورد.

تناولت "علا" الباقة منه بحذرٍ، وشكرته بابتسامتها الرقيقة:

-ميرسي أوي.

كان الوقت قد قارب الظهيرة تقريبًا، ولم تحبذ "فيروزة" الاستئذان مبكرًا بحجة كاذبة وإلا لبدا الأمر مكشوفًا لكونها لا تحبذ أسلوب "آسر" التطفلي في فرض شخصه عليها، أولته ظهرها وادعت انشغالها بتغليف إحدى الهدايا، عله لا يبادر بالحديث معها .. اقتربت منه "علا"، ورددت برقةٍ:

-أنا مش مصدقة، دي أول مرة تشرفني هنا يا "آسر".

تنحنح بصوتٍ خفيض، وعلق عليها:

-مبروك على المحل يا "علا"، أنا أسف، هي متأخرة شوية، بس كان لازم أجي بنفسي وأباركلك.

هتفت في حبورٍ:

-الله يبارك فيك.

ثم اتجهت إلى مكتبها الذي يحتل الركن الخلفي من المحل ووضعت الباقة عليه ريثما توضب لها مكانًا آخرًا يظهر اهتمامها بها، استدارت تشكره مجددًا:

-الورد شيك أوي.

قال وعيناه تتجولان على ظهر "فيروزة" علها تستدير وتنظر إليه:

-دي حاجة بسيطة، ويا رب ذوقي يعجبك.

تنهدت قبل أن تثني على هديته:

-تحفة يا "آسر"، عندك استايل في الهدايا مختلف.

-ماشي.. مقبولة منك يا "آسر".

حين لاحظ تجاهلها لها، تنحنح الأخير متسائلاً عن قصد:

-إزيك يا آنسة "فيروزة"؟

أجابت وهي تنظر له بطرف عينها:

-الحمدلله.

دنا منها متسائلاً باهتمام:

-وأخبار أختك إيه؟

أجابته باقتضابٍ موجز، وتلك النظرة المنزعجة تكسو عيناها:

-تمام.. بقت أحسن.

تساءلت "علا" بتهذيبٍ وقد تحركت من مكانها لتصبح قريبة منه:

-قولي يا "آسر" عاوز تشرب إيه؟

التفت برأسه نحوها، ورد مبتسمًا:

-لو قهوة يبقى تمام.

عضت على شفتها السفلى، وقالت بحرجٍ وتعبيرات وجهها توحي بخجلها:

-أوبس.. احنا معندناش قهوة.

علق دون تكليف:

-خلاص مش مشكلة يا "علا".

اقترحت عليه بعد تفكيرٍ سريع:

-بص في محل قريب بيعمل كابتشينو حلو، هاطلب أوردر بسرعة وأرجعلك على طول.

اعترض بلباقةٍ:

-ماتتعبيش نفسك يا "علا".

أصرت عليه بحماسٍ:

-لأ إزاي، دي أول مرة تشرفني هنا، أنا أصلاً مش مصدقة إنك موجود..

اتجهت بخطواتٍ شبه متعجلة نحو باب محلها، والتفتت نحوه ترجوه بدلالٍ مستحب:

-اوعى تمشي، بجد هزعل.

هز رأسه موافقًا وهو يرد:

-حاضر.

خرجت من المحل قاصدة المطعم القريب لتأتي بمشروبات ساخنة لثلاثتهم .. شعر "آسر" بالرضا، فقد بدت الفرصة سانحة لتبادل الحديث الودي مع "فيروزة" التي اتخذت الصمت سبيلها خلال تواجده، طرق بأصابعه على الطاولة مرددًا بصوتٍ شبه مرتفع ليثير انتباهها:

-لطيفة "علا".

لم تعلق عليه، واكتفت بتحريك رأسها بإيماءة خفيفة، سألها بتهذيبٍ:

-محتاجة مساعدة؟

رفضت بجمودٍ:

-شكرًا.

لاحقها "آسر" بنظراتها للحظاتٍ قبل أن يدنو أكثر منها لتشعر باقترابه الذي يزعجها، زفرت في ضيقٍ، وظهرت علامات التبرم على محياها، لم تملك من الصبر ما يجبرها على تحمله، لذا استدارت كليًا نحوه وأشارت بيدها الممسكة بمسدس الشمع الساخن:

-إنت ممكن تستريح لحد ما "علا" ترجع.

أسبل نظراته نحوها، وغمغم بابتسامة مرسومة بعناية:

-أكدب عليكي لو قولتلك إن جاي مخصوص عشانك.

لم تطق "فيروزة" ابتساماته السخيفة، ولا تعليقه الأخير، قطبت جبينها متسائلة بوجومٍ مستنكر:

-أفندم، مش فاهمة؟!

تابع موضحًا، وعيناه تتأملان تعبيراتها:

-يعني أنا هسافر بكرة، ورايا شغل ضروري أخلصه، وحبيت أسلم عليكي قبل ما أمشي، أصلي حابب إن الناس اللي بأعزهم يكونوا آخر حد أشوفهم.

فهمت تلميحه المتواري خلف تلك الكلمات المرتبة، تقلص وجهها وردت بحدة طفيفة قاصدة إحراجه:

-أستاذ "آسر" متزعلش مني لو قولتلك إنه مش فارق معايا اللي بتقوله ده.

بدا ردها فظًا ومخالفًا لما توقعه حين يبدي اهتمامه بها، تنحنح معتذرًا منها:

-احم... أنا أسف لو ضايقتك.

قالت ببرودٍ، وكأن اعتذاره لا يعنيها من الأساس:

-إنت حر في حياتك، ده شيء مايخصنيش.

حاولت تبرير اهتمامه، وهتف بتلعثمٍ:

-أنا بس كنت حابب يعني آ....

قاطعته بنبرة جافية ونظراتها الممتعضة مرتكزة عليه:

-يا أستاذ "آسر"، أنا واحدة دوغري ماليش في أي حوارات، فيا ريت توفر على نفسك أي كلام هتقوله.

ابتلع ريقه، ونكس رأسه قائلاً:

-أنا.. بأجدد اعتذاري منك..

تجاهلت التعليق عليه ورمقته بنظرة جليدية جافة، وجد "آسر" نفسه في موقفٍ حرج، تراجع مبتعدًا عنها وادعى تطلعه إلى الهدايا المعلقة على الأرفف .. ومع ذلك لا ينكر اهتمامه بتلك الحالة المتفردة والمناقضة للمعهود من الفتيات التي التقى بهن، استحوذت على تفكيره بالرغم من أسلوبها الجاف، عادت "علا" من الخارج، وهتفت متسائلة بصوتٍ شبه لاهث ووجه مشرق:

-اتأخرت عليكم؟

ردت "فيروزة" نافية وبابتسامةٍ سخيفة للغاية:

-لأ جيتي في وقتك يا "علا"، الأستاذ "آسر" كان يدوب هيمشي.

تحولت أنظارها نحوه، وسألته بعبوسٍ احتل قسماتها:

-إزاي؟ إنت لحقت؟ ده أنا قولتلهم يبعتوا الأوردر على هنا، تعالى نتكلم شوية.

نظر إلى "فيروزة" بضيقٍ قبل أن يرد متصنعًا الابتسام، وكأنه يتحدى بموافقته فظاظتها معه:

-عشان خاطرك بس يا "علا"، أنا مش هامشي.

رمقته "فيروزة" بنظرة باردة منزعجة قبل أن تشيح بعينيها بعيدًا عنه، هزت رأسها في سأم لتغمغم مع نفسها بكلماتٍ متبرمة تعبر عن استيائها:

-الحكاية مش نقصاك ..................................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الأول من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة