-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل العاشر

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل العاشر من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل العاشر

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل العاشر

 تقاذفت شارات الفضول المتقد من عينيه وهو يترقب بتلهفٍ تأكيد ما استشعره بكامل لا وعيه قبل إدراكه، لكنها لم تهتز قيد أنملة، أجادت الحفاظ على ثبات تعبيرات وجهها فبات غير مقروءٍ بالنسبة لها حين صدمها بسؤاله غير المتوقع، فقط رجفة خفيفة من رموش عينيها تداركتها سريعًا، مع خفقة لحظية متوترة عصفت بضلوعها، تصلبت "فيروزة" في وقفتها وبقيت ساكنة للحظة، فإن لانت قليلاً لربما أدرك أنه أصابها في مقتل، وباستغرابٍ مفتعل رددت تسأله، وكأنها تسمع عن الحادثة المريبة للمرة الأولى في حياتها:

-حريقة إيه؟

اغتاظ "تميم" من ادعائها الإنكار، وقال مباشرة:

-إنتي فهماني كويس.

أصرت على إنكارها قائلة:

-أنا مش عارفة حريقة إيه دي!

ثم أولته ظهرها لتقوم بفتح باب المحل وهي تتابع دون أن تنظر إليه حتى لا يكشف كذبها المرتب بعناية:

-شوف يا معلم "تميم"، الموضوع ومافيه إني تعبت شوية...

ولجت للداخل وأشعلت الإنارة لتضيء المكان ريثما تزيح الستائر الحاجبة للضوء، استرسلت في حديثها مضيفة بهدوءٍ:

-يعني زي ما إنت شايف الشغل كله هنا على دماغي، مابخدش أجازات ولا بارتاح، كل الحكاية إرهاق وبس.. لا أكتر ولا أقل.

انتظر إلى أن استدارت نحوه لينظر في عينيها بتشككٍ، وسألها بنظراتٍ ذات دلالة خاصة:

-إنتي متأكدة؟

وللمرة الأولى ركزت عينيها في عينيه لترد مبتسمة بثبات:

-أيوه.

ربما فشل في الحصول على إجابات لتساؤلاته الحائرة، لكنه فــاز بنظرة خالية من الكراهية من عينيها مع ابتسامة رقيقة جعلته لوهلة يرتعد من احتمالية أن يكون مفتونًا بأي ما يصدر عنها، بادرت بسؤاله بطريقة عملية بحتة:

-لو في حاجة تبع الشغل ممكن تطلبها، فـأنا تحت أمرك

بدت مهذبة معه أكثر من المعتاد مما أربكه بشكل غير اعتيادي، أخفض نظراته وتصنع الجدية معتذرًا:

-لا مؤاخذة عطلتك

ابتسمت في لطافةٍ وهي ترد:

-ولا يهمك

لم يجد "تميم" ما يعلق وسط ما تمنحه اليوم له من وداعة غير مسبوقة جعلته بشكل أو بآخر لا يتوقف عن التفكير فيها متناسيًا ليلة الأمس المشحونة بالكراهية والوحشية .. انسحب في هدوء خارجًا من المحل، لكن العواصف الدائرة بداخله لم تخبت للحظة، التفت برأسه ليلقي عليها نظرة أخيرة عبر الزجاج، لم يشعر بنفسه وهو يبتسم .. ما أفسد عليه تلك اللحظات القيمة التي لا يجد من الكلمات المناسبة ما يوصفها هو ظهور اللزج "آسر"، منحه الأخير نظرة استعلاءٍ واضحة وهو يمرق بجواره ليدلف من المحل غير عابئ بإلقاء التحية عليه، شعر الأول بغليان يستعر في صدره، بصعود الدماء المحتقنة إلى رأسه تحثه على افتعال التشاجر معه من العدم لكونه لا يروقه دون سبب معلوم .. أسرع في خطاه محاولاً كبح أفكاره العدائية الجامحة آملاً في نفسه أن يستمر طاووسه الأبيض في التعامل مع أمثال ذلك السخيف بجفاء وصرامة.

..........................................................

تركت ما في يدها لتتجه بخطوات متعجلة إلى رفيقتها فور أن رأتها تدخل المحل برشاقة وضحكاتها المتحمسة الرنانة تسبقها إلى المكان، نادتها بترحيب وهي تقبل عليها لتحتضنها في اشتياقٍ واضح:

-"علا"، نورتي مكانك.. أخيرًا قررتي تيجي.

تراجعت عنها لتقول بحماسٍ وهي تدير رأسها للجانب:

-مش هاتصدقي مين جاي معايا ومصمم يشوفك.

تطلعت إليها في حيرة سريعة تلاشت فورًا حين رأت "آسر" يتقدم نحوها وهو يستند على عكازه المعدني، اندهاشة طفيفة كست تعبيراتها ما لبث أن تحولت لابتسامة فاترة وهو يقول لها:

-صباح الخير يا آنسة "فيروزة".

ردت تهنئه بخروجه من المشفى وتعافيه من إصابته:

-حمدلله على السلامة أستاذ "آسر".

تقدم خطوة أخرى نحوها ليقلص فارق المسافات بينهما، وتابع بنبرة متعشمة:

-ولو إني ليا لي عتاب عندك عشان مافيش ولا مرة فكرتي تيجي تشوفيني فيها.

اعتذرت منه بحرجٍ:

-مكانش ينفع والله، أنا .. كنت مشغولة، وبعدين "علا" كانت متواجدة باستمرار مع حضرتك.

علق على كلمتها الأخيرة مرددًا باستنكارٍ:

-حضرتي؟ طب ليه الرسميات دي؟

غيرت مجرى الحوار معه، وسألته بنبرة ادعت فيها اهتمامها به وهي تستدير عائدة لطاولتها المستطيلة لتختبئ خلفها:

-خرجت امتى؟

أجابها بعد زفيرٍ متعب وقد أحضرت له "علا" مقعدًا ليجلس عليه:

-النهاردة.

أضافت "علا" بمرحٍ:

-ده زي العيال الصغيرة يا "فيرو"، كل يوم يشتكي ويزن عاوز يطلع من المستشفى، وإنه زهق من الأعدة، وكلام كتير كده.

تجاهل عباراتها السخيفة وثبت نظراتها على "فيروزة" ليقول بابتسامةٍ ذات دلالة خاصة:

-كان لازم تكوني أول حد أشوفه.

ضاقت عيناها باسترابةٍ بعد سماعها لتلك الجملة الموحية، تجاهلت التعليق عليها لمنع أي فرصة للتودد معها، ادعت انشغالها بتغليف أحد صناديق الهدايا، لكن صوت "علا" القريب منها سألها:

-بيتهيألي مش فاضل كتير على جوازة "همسة" يا "فيرو"، صح؟

أجابت بلهجة جادة محاولة ألا تنظر في اتجاه "آسر"، حيث حرك الأخير مقعده ليدنو قريبًا من طاولتها:

-لأ .. على الأسبوع الجاي، وخالي سافر البلد يعزم قرايبنا.

تنحنح "آسر" مهنئًا، وتلك الابتسامة المرسومة تحتل شفتاه:

-ألف مبروك، وعقبالك.

ردت فقط على الجزء الأول من مباركته قائلة:

-الله يبارك فيك..

أراح "آسر" ذراعه على طاولتها متعمدًا أن تلمس يده كفها الذي يغلف الصندوق وهو يقول:

-وشكرًا على مساعدتك.

سرت في جسدها قشعريرة منزعجة بمجرد أن شعرت بملمس يده المباغت على بشرتها، سحبت يدها كالملسوعة من أسفل كفه وهي ترمقه بنظرة محذرة، ثم أولته ظهرها قائلة بنبرة رسمية:

-أنا ما عملتش حاجة، وأي حد مكاني كان هيتصرف كده.

نقر بأصابعه على السطح الخشبي مصححًا لها بنظرة نافذة ليؤكد لها أنه يقصدها:

-بس إنتي مش أي حد.

كانت تملك من الذكاء ما يخولها لفهم ما يرمي إليه ضمن حديثه، ومع ذلك فضلت أن تظل صامتة لتقتصر في الكلام معه، سألها بهدوءٍ:

-آنسة "فيروزة"، تسمحيلي أحضر الفرح، ده لو مش هيضايقك.

صوتٍ تردد في عقلها يستنكر تطفله:

-يحضر بصفته إيه إن شاءالله؟!!

حمدت الله في نفسها أن تفكيرها غير مسموعٍ وإلا لشعر بنبرة الازدراء الظاهرة في صوتها، انتبهت لـ "علا" حين دعته دون انتظار ردها النهائي:

-أنا رايحة وش يا "آسر"، وأكيد إنت معايا، "فيرو" ومامتها مش هايمنعوا، احنا تبع العروسة، وده عادي..

ولتظهر دعم رفيقتها لدعوتها سألتها منتظرة تأييدها:

-صح يا حبيبتي؟

تنحنحت قبل أن ترد عليها بجدية، وقد باتت في موقف حرج بسبب تسرعها:

-طبعًا.. هتنورونا يا أستاذ "آسر"، وكمان كل العيلة الكريمة.

أسبل نظراته قائلاً بتنهيدة سعيدة:

-وأنا مش هتأخر..

حاولت ألا تنظر ناحيته طوال الفترة الطويلة التي مكث بها في المحل لكونها لا تشعر بالارتياح من نظراته الموجهة لشخصها فقط، وحتى حديثها كان محدودًا مقتضبًا، لا تعلق إلا في أضيق الحدود، على عكس "علا" التي لم تتوقف عن الثرثرة والضحك معه، وكأنها مستمتعة بكل لحظة تقضيها في حضوره.

..............................................................................

أراحت ظهرها في المغطس بعد أن ملأته بالمياه الدافئة، آنات خافتة موجوعة انفلتت من بين شفتيها وهي بالكاد تحاول استعادة قوتها البدنية التي استنزفت بالأمس، ما زالت آثار وحشيته مطبوعة على بشرتها، ومع ذلك بدت راضية كليًا عما وصلت إليه، اعتبرت ما حدث من زوجها من لقاء غرائزي بحت يخلو من أدنى المشاعر بأنه الوجه المرادف للحب الشغوف الذي يتضمن في طياته رغبات عنيفة، لا مانع من بعض القسوة طالما أنه يجدها قادرة على تلبية احتياجاته، لاقت فكرة كونها زوجته المطيعة حيث مباح له أن يفعل بها ما يشاء استحسانًا كبيرًا في تفكيرها المريض، لتفعل المستحيل حتى لا تسرقه منها غيرها، لتكن معه كالعاهرة في الفراش إن كان يستهويه الأمر، لا يهم! ففي النهاية استحوذت عليه، وقضى ليلته معها يطارحها الغرام.

عززت تلك الفكرة كثيرًا لتبرر تصرفه بل وربما تمتدحه على قدراته الفائقة، لم تهتم بإهانتها، بإذلالها، بتقليل منزلتها واحتقارها بتلك الصورة البشعة، المهم ألا تتحول لبضاعة راكدة في عينيه، نهضت "خلود" من المغطس لتلف نفسها بروبها القطني حتى يجف بدنها، خرجت من الحمام متجهة إلى غرفها نومها، تأملت الفراش غير المرتب الذي ما زال يحتفظ بأغطيته، ابتسمت في انتشاء وعيناها تتوهجان بوميض غريب، لم تكن بحاجة لجرعات المنشط لتحصل على غايتها منه، فالليلة السابقة كانت جامحة ومختلفة، توقعت أن يكرر الأمر للتباهي بفحولته العظيمة، وهيأت نفسها للتجاوب معه متناسية تحذيرات الطبيب بضرورة تجنب اللقاءات الزوجية في تلك الفترة حرصًا على اكتمال الحمل، توقفت عن التحديق في الفراش حين سمعت قرع جرس الباب، ترددت في فتحه قبل أن تبدل ثيابها، ومع ذلك خرجت لتتفقد الطارق من العين السحرية، وضعت يدها على المقبض لتديره وتستقبل والدتها التي هتفت تسألها بأنفاسٍ لاهثة:

-إنتي فين يا بت من بدري؟ ما بترديش ليه على التليفون؟

ابتسامة صغيرة جانبية تشكلت على شفتيها وهي تدعوها للدخول:

-خشي الأول يامه، هنتكلم واحنا واقفين؟

خطت للداخل وهي تتأمل روبها وشعرها المبتل، سألتها بفضولٍ:

-هو إنتي كنتي بتستحمي ولا إيه؟

للحظة طرأ ببال والدتها أن تكون ابنتها قد خالفت تعليمات الطبيب لتستجيب لرغبة زوجها، فنطقت على الفور معبرة عما يدور في رأسها بصوتٍ مستنكر:

-اوعي تكوني يا بت نمتي مع جوزك وآ....

بترت عبارتها عن عمد وهي تنظر مليًا لابنتها لتتأكد من هواجسها، أصابت هدفها فتبدلت تقاسيم وجهها للغضب، قبضت على ذراعها تجرها منه خلفها وهي توبخها:

-إنتي عاوزة تضيعي اللي في بطنك بجريك ورا حبيب القلب.

تأوهت "خلود" من الألم الشديد الذي انتشر في عضلات ذراعها مع هز والدتها العنيف له قبل أن تتوسلها:

-بالراحة يامه، مش قادرة، جسمي مكسر.

استغربت "بثينة" من ردة فعلها رغم كونها لم تتعامل بعدائية معها، وسألتها:

-في إيه يا بت مالك؟

ولكونها تتطفل على ما يخص علاقة ابنتها الحميمية بزوجها استطاعت أن تستدرجها في الحديث لتفهم سبب أوجاعها، شهقت لاطمة على صدرها لتهتف باستهجانٍ:

-يخربيت عقلك؟ وإزاي توافقي على كده؟ إنتي مش حاسة بنفسك عملتي إيه؟

قالت ببرودٍ استفز والدتها بشدة:

-أنا مراته، وبأشوف مزاجه.

لم تتحمل غبائها فلكزتها بغيظٍ في جانب صدرها وهي تعنفها:

-الله يحرقك، كنتي كلمتني نصحتك تعملي إيه بدل الوحلة السودة دي.

شهقة أخرى مفزوعة امتزجت مع ما يشبه العويل وهي تشير بعينيها نحو الأسفل:

-يا نصيبتي، إيه ده؟

أخفضت ابنتها نظراتها نحو بقعة الدماء الصغيرة التي انزلقت من بين ساقيها لتلوث الأرضية، جحظت أمها بعينيها، وصرخت في وجهها تلومها:

-شوفتي جنانك وصلنا لإيه؟ ضيعتي الواد اللي كان هيقش كل حاجة!

جزع قلب "خلود" بشدة وأحست بانقباضة مميتة تعتصره وقد توقعت الأسوأ، إجهاض جنينها قبل أن يكتب له الحياة، اهتز جسدها بشدة، وبدأت فاصلاً من اللطم والعويل على صدغيها بعد أن تداركت تبعات كارثة تلك الليلة المحفولة بالمخاطر والإهانات .. أسرعت "بثينة" تجذبها من معصمها نحو غرفة النوم قائلة بحزمٍ، ودون أن تمنحها أي فرصة للاختيار:

-انجري قدامي غيري هدومك عشان نروح أوام للدكتور يشوفلنا حل..

بالطبع لم يكف لسانها عن لعنها فأضافت:

-منك لله يا شيخة، تخطيطي كله بـــاظ!!

......................................................................

نظرة عميقة لا حدود لنهايتها تركزت على أمواج البحر المتلاطمة وهو يستند بجسده على سيارته التي صفها بالقرب من منطقة الصخور الحجرية في نهاية الشاطئ الرملي، تأملها بعقلٍ شارد، حيث تكالبت مشاهد ليلة أمس في رأسه لتنغص عليه الصفاء الوقتي الذي حاز عليه بصحبة طاووسه قبل قليل، عاد الحزن ليحتل قلبه ويستأثر به من جديد، لم يحبذ "تميم" أبدًا أن يصبح مع زوجته الشخص الذي كان عليه بالأمس، وإن كانت فعلته بغرض الثأر لرجولته المنتهكة على يد من أئتمنها على نفسه قبل جسده، لكنه نبذ تصرفه الجامح بشدة .. خنقته الدموع ندمًا، لن ينساق وراء تناطحت أفكاره ما بين ثائرة ورافضة لما ارتبكه، تحفزت أنفاسه وامتلأ صدره غضبًا لمجرد أن رنت كلمات "خلود" المستفزة في عقله، وكأنها لم ترتكب أي خطيئة تُلام عليها، فرك وجهه في تعبٍ وهو يزفر ببطءٍ طامعًا أن يتمسك ببقايا عقله المشحون، لم يذهب إلى عمله، ولم يرغب في رؤية أحدهم، لينفرد لبعض الوقت بنفسه عل ثورته التي تحرق أحشائه تستكين.

ألقى نظرة فاترة على شاشة هاتفه المحمول حين رأى اسم والدته ينير عليها، تجاهل الرد عليها في المرة الأولى، لكن حين ألحت عليه اضطر أن يجيب حتى لا تقلق، وبصوتٍ متحشرج قليلاً قال:

-أيوه يامه، في حاجة مهمة؟

لاحقته بأسئلتها القلقة:

-إنت فينك يا "تميم"؟ أبوك قالب عليك الدنيا، لا بترد ولا بتكلم حد، حصل حاجة؟

تنهد مليًا قبل أن يدعي كذبًا:

-ورايا كام مصلحة بأخلصها.

سألته مستفهمة:

-تبع الدكان؟

رد نافيًا:

-لأ، حد من صحابي قاصدني في خدمة، وأنا معاه بأنجزها

قالت بتفهمٍ:

-وماله يا ابني، خلاص أنا هاطمن أبوك، ولما تفضى عدي عليا، عملالك ورق العنب اللي بتحبه، هستناك.

حك ذقنه مغمغمًا بفتورٍ:

-ربنا يسهل.

ألحت عليه بطريقتها الأمومية الناجحة في اجتذابه:

-والله ما هادوقه إلا لما تيجي، يرضيك أمك تفضل جعانة؟

وكأنه بحاجة ماسة إلى أحضانها الدافئة لتزيح عنه همومه، لم يرفض طلبها، وابتسم يعدها:

-طيب.. هاجيلك يامه.

.....................................................................

-يا حاج "بدير"!

نـــادت بصراخ مرتفع تعمدت أن تلفت به أنظار المارة وتحشد به المتواجدين بالزقاق ليكونوا على رؤوس الأشهاد فيما ستفعله لاحقًا، تلك النظرة الخبيثة الماكرة توهجت في عينيها وهي تتأكد من تحقيق مسعاها الذي أتت لأجله، وبالرغم من كون حالة ابنتها بعد فحص دقيق لرحمها وأنسجتها من قبل طبيبها المتابع لحملها كانت لا تستدعي كل تلك الضجة إلا أنها كانت الفرصة المثالية لتحقيق أطماعٍ لئيمة، فالطبيب أخبرهما ببساطة أن بقع الدماء النازفة هي ردة فعل طبيعية بعد لقاء حميمي جامح من غير المفترض أن يتم في تلك الظروف، لكن ما زالت حالة الجنين مستقرة لا تدعو للخوف (حاليًا) .. ومع تكرارها لذلك النداء الغاضب تجمع الكثيرون أمام أبواب الدكان، خرج إليها صاحبه وعلامات الاندهاش تكسو وجهه، وقف قبالتها ينظر إليها بحدةٍ، لكنها تابعت ملقية اللوم بأكمله على ابنه البكري:

-هي دي الأمانة اللي ابنك المفروض يحافظ عليها؟!

سألها "بدير" في ضيقٍ بصوته الأجش الحازم:

-في إيه يا "بثينة؟ جاية بزعابيب أمشير ليه؟

زمجرت هادرة بكل ما فيها من عصبية لتبدو صاحبة حق تطالب بالقصاص العادل لفلذة كبدها المكلوبة على أمرها:

-بقى أنا يا حاج يا بتاع ربنا أجوز بنتي لابنك بعد ما استنته بالسنين ورفضت تقابل أي حد اتقدملها عشان سواد عيونه، وهو يعمل فيها كده؟!!

تطلع بعينين مزعوجتين سريعًا في أوجه الحضور وقد لاحظت الهمهمات الفضولية الدائرة من حوله قبل أن يرد بحدة:

-أنا مش فاهم حاجة، ما بتقولي "تميم" عمل إيه؟

تابعت ندبها الساخط مستخدمة ذراعيها في التلويح:

-طب بلاش نقول إنها مراته قبل ما تكون بنت خالته، يرحمها عشان اللي في بطنها، خلاص الرحمة اتعدمت من قلبه!

نفذ صبره من مماطلتها المتعمدة لتشويه سمعة ابنه على مرأى ومسمع من الحضور، وصاح بها:

-ما تنطقي وتقولي في إيه بدل ما إنتي بتكلمي بالألغاز كده!

أرادت أن تبدو منكسرة، مهيضة الجناح حين أجابته بنواحٍ

-يرضيك إنه يضربها ويعدمها العافية عشان اتمنعت عليه لأجل مصلحة ابنه اللي في بطنها..

تعقدت تعابيره في استنكارٍ حائر وهي تراوغه بالكلمات المثيرة للشكوك، فسألها بصوتٍ خبت حدته قليلاً:

-قصدك إيه؟

أجابت مسترسلة بأسلوب فج استطاعت به الحصول على همهمات ولمزات مستنكرة غاضبة ممن حولها:

-إيش حال ما كان الدكتور منبه إنه مايقربش منه وأنا موصيها يراعي ربنا فيها، يطنش ده كله ويركب دماغه إن شاء تسَقَط فيها!

كانت وقحة بشكلٍ يدعو للنفور للبوح بأسرار البيوت علنًا دون رادعٍ، عنفها بنبرة اخشوشنت على الأخير.

-ده كلام مايصحش يتقال هنا يا "بثينة"! عيب كده، تعالي نتكلم عندنا في البيت.

اعترضت عليه بشدةٍ:

-أنا مش رايحة معاك في حتة يا حاج، وبنتي هتفضل عندي لحد ما تشوفلي صرفة مع ابنك.

انضم "هيثم" إلى المشادة المحتدمة متسائلاً بغرابةٍ:

-هو في إيه يامه؟ جاية عند الدكان ليه؟

وجهت أنظارها النارية نحوه لتجيبه قاصدة استثارة مشاعره الأخوية:

-فيه إن ابن خالتك الفتوة ضرب أختك وعدمها العافية، ها يا ابن بطني، هاتسكت عن اللي عمله؟

نكست رأسها في أسف وادعت أنها تمسح دموعها غير الموجودة بطرف حجابها قبل أن تكمل:

-دي يا حبة عيني كانت هاتروح فيها، لولا ستر ربنا ...

تنهنهت بنواحٍ عالٍ مكملة استفزازها لمشاعره الذكورية وتحفيزه ضده للثأر منه:

-أل والمعدول ابنط يوم ما "هيثم" اتهف في عقله واتصرف بطيش وغلط عدمه العافية! ده مخلاش فيه حتة سليمة.

نجحت بمكرها الداهية في قلب ابنها على زوج أختها، انتفض "هيثم" ثائرًا ليقول بوعيد شرس:

-وربنا ما هاسكت، هي أده عشان يمد إيده عليها

تلك النظرة الخبيثة الفرحة برقت في عينيها قبل أن تخفيها لتولول بانكسارٍ:

-يا بهدلتنا من بعدك يا "غريب"، الكل عاملنا ملطشة للي رايح واللي جاي.

هتف بها "بدير" بصرامة:

-لمي الدور يا "بثينة" .. بنتك زي بنتي، وأنا اللي هاجيبلك حقها.

احتج عليه "هيثم" بعنادٍ أظهر فيه عدائيته الصريحة:

-حق أختي هاخده منه يا جوز خالتي، هي معدمتنيش!

كالأفعى السامة نجحت "بثينة" في وغر صدور الجميع وشحنهم بالكراهية والغضب، بل وقلب الطاولة على رأس "تميم" لتضعه في موقف حرج متخاذل مع أبيه أولاً قبل صدامه الشرس مع "هيثم"، كانت نظراتها المنتصرة تؤكد إحساسها بالنشوة من أدائها لدورها ببراعة، والحق يُقــال أن "محرز" من قدم لها المشورة لتطيح بالابن المفضل عن عرش قوته في ضربة واحدة سهلة مستغلة وحشيته مع ابنتها لصالحها.

..................................................................

اكتفى بتناول القليل من ورق العنب الذي أعدته والدته إرضاءً لها وتقديرًا لتعبها في إعداده، كان شهيًا بالقدر الذي جعله يرغب في المزيد، لكن حالته المزاجية لم تسمح له بالاستمتاع بتذوقه، اقتضب في الحديث معها رغم محاولاتها المتنوعة لاستخراج الكلمات من جوفه لتعرف سبب عبوسه والهموم المقروءة في عينيه، كان على وشك الانصراف حين تلقى مكالمة هاتفية من ابن خالته يطلب فيها رؤيته في التو والحال، توقع "تميم" أن يكون للأمر صلة بتجهيزات العرس، ولم يطرأ بباله مطلقًا تسبب خالته في جلبة من شأنها تدمير سمعته وشهامته بين أوساط رجال منطقته الشعبية.

فتح الباب لاستقباله لكنه تلقى لكمة عنيفة من "هيثم" أصابت فكه السفلي وهو يسبه:

-بتتشطر على أختي يا (...)؟

في البداية ترنح من المفاجأة، لكن ما لبث أن استعاد تماسكه ليرد متسائلاً بخشونة وقد توحشت نظراته:

-إنت اتجننت؟

رد غير مبالٍ وهو يقبل عليه متحفزًا للتضارب معه:

-ده الجنان الأصلي هايطلع عليك دلوقتي!

رفع "هيثم" ذراعه ليلكمه مجددًا، لكن قبضته وجدت ذراع "تميم" تصدها وتحول دون وصولها لوجهه، بل وبيده الأخرى المتكورة سدد له واحدة طرحته أرضًا إلى خارج المنزل من شدة قوتها، تأوه "هيثم" من الألم وهو يستند على مرفقه لينهض، بينما اندفع "تميم" للخارج مغلقًا الباب من خلفه ليمنع والدته من مشاهدة شجارهما العنيف، وإن كانت تصرخ من ورائه في جزع وصدمة.

انحنى على ابن خالته ليجذبه من تلابيبه، والآخر يسبه ويلعنه، كان "تميم" يفوقه في الطول، والقوة الجسمانية، ناهيك عن معرفته الجيدة بأساليب العنف ومواضع الإيلام التي يجيدها جراء بقائه في السجن لسنواتٍ طويلة، وبكل غيظه وغضبه المتجمع فيه دفعه دفعًا للطابق العلوي للانفراد به هناك بعيدًا عن عائلته، وحفظًا لماء الوجه حاول "هيثم" عرقلته والتصدي له بالركل تارة، وباللكم تارة أخرى في معركة غير متكافئة بينهما لفارق القوى الجسمانية ولصالح "تميم".

تجاذب الاثنان بشراسة وتلاحما جسديًا فوق سطح المنزل، هدر "هيثم" منفعلاً يلومه:

-بتتغابى عليها ليه؟ لو فاكرها من غير ضهر تبقى غلطان!

حال دون وصوله إليه بالإمساك بقبضته ولف ذراعه خلف ظهره ليعيقه مرددًا:

-إنت مش فاهم حاجة.

رد يتوعده بكامل عصبيته العمياء:

-ولا عايز أفهم غير إنك مديت إيدك على أختي! وأنا مش هاسيبها تعدي كده.

نجح "تميم" في لف ذراعه حول عنقه، أحكم سيطرته عليه وجعله مقيدًا غير قادرٍ على الإفلات منه قبل أن يدافع عن نفسه هاتفًا:

-إنت عارف أصلاً هي عملت إيه؟ ولا عرق الرجولة نط فيك فجأة فجاي تجربه فيا؟

اغتاظ "هيثم" من استخفافه به، وصاح في غضبٍ متعاظم وهو ينتفض بجسده ليتخلص من قبضتيه:

-أنا راجل غصب عن عين أتخن تخين في الحتة دي!!

تحرر منه وتراجع وهو يلهث في انفعالٍ، فواصل "تميم" القول بنوعٍ من السخرية المطعمة بالسخط:

-لأ جدع ياخويا، مافيش أرجل منك، بس قبل ما تيجي تغلطني مع مراتي، اللي بينا حاجة ماتخصكش.

رد عليه بعينين يتطاير منهما الشرر:

-لأ يخصني طالما عاوز تنام معاها عافية!

غامت عينا "تميم" وغلفهما غضب مخيف، انقض عليه يجذبه من ياقتيه وهو يصيح مستنكرًا وقاحة ما تنطق به، خاصة فيما يتعلق بحياته الزوجية الخاصة:

-إنت بتقول إيه؟

قال غير مبالٍ بردة فعله العنيفة:

-اللي سمعته.. "خلود" ليها أهل يعرفوا يجيبوا حقها من حيوان زيك مرعاش ربنا فيها ولا اللي في بطنها!

تفاجأ "تميم" من تلميحه الصريح عن ليلته الحميمية مع زوجته، وكأنه حوارًا مباح الكلام فيه بأريحية، وإن كان ما يعرفه قدرًا بسيطًا فقط لاستفزازه إلا أنه لم يكن -مطلقًا وأبدًا- ليقبل بتداول حياته الشخصية على ألسن الغرباء قبل الأقرباء .. كز على أسنانه متسائلاً بأنفاس مختنقة، ووجهه يلمع بوهج كأنه يفح نارًا حامية:

-هي وصلت لكده؟

بجراءة وعزم رد عليه "هيثم" غير معتقد بتفكيره الضيق بأنه يمنحه الحل السحري في نهاية المطاف بعد صراع وتخبط عظيمين بالقول دون احترازٍ وبنية صريحة:

-أه، و"خلود" مش رجعالك تاني.. اللي ما يصونش مراته ويقدرها ما يلزمناش ........................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل العاشر من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة