-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثانى عشر

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثانى عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثانى عشر

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثانى عشر

 أمسكت بفرشاة تنظيف الثياب الخشبية، ونفضت العالق من الأتربة والشوائب الصغيرة عن جلباب زوجها الذي ارتداه في تلك الليلة قبل أن تعلقه على الشماعة ليحصل على التهوية الجيدة ومن ثم تغسله حينما يتسنى لها الوقت لفعل ذلك لتعيده بعدها في مكانه بالدولاب. انحنت "ونيسة" بتمهلٍ لتمسك بالحذاء وتضعه في مكانه قائلة بفرحة صادقة وابتسامة عريضة تغزو صفحة وجهها الضاحك:

-أما كانت ليلة يا حاج، مافيش بعد كده! حاجة تِشرح القلب بصحيح!

هز "بدير" رأسه في استحسانٍ وهو يتمدد على الفراش ليريح جسده المنهك من عناء مجهود اليوم، ثنى ركبته اليمنى إلى صدره، وأراح ظهره للخلف، ثم قال لها:

-الحمدلله، المهم يكون الكل اتبسط ..

ردت بعبوسٍ زائف وقد وضعت يدها أعلى منتصف خاصرتها:

-هو حد يقدر يتكلم بعد اللي عملته يا حاج؟!

ثم ما لبث أن ارتخت ملامحها حينما أضافت بتفاخرٍ:

-ده ليلة "تميم" هيتحكى عنها لشهور قدام

رد باقتضابٍ:

-ربنا كريم

لانت نبرتها أكثر وهي تضيف ونظراتها مرتفعة للسماء:

-الحمدلله إنك مديت في عمري يا رب عشان أشوف ابني وهو بيتزف لعروسته.

استطرد مضيفًا بابتسامةٍ صغيرة:

-ده أبويا كان فرحان بيه أوي، تحسي إن الدموية ردت في وشه لما شافه

قالت بنبرة مزهوة:

-لازمًا يفرح بيه، مش حفيده البكري، ربنا يديه الصحة

-يا رب

التفتت "ونيسة" نحو الشفونيرة لترص ما طوته من ثياب نظيفة عليها، استرعى انتباهها الدرج العلوي المفتوح قليلاً، ضاقت نظراتها نحوه متفحصة إياه دون أن تلمسه، ورددت متسائلة في اندهاشٍ كبير، وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:

-هو إنت يا حاج نسيت الدرج ده مفتوح؟

استدار برأسه نحوها يسألها:

-أنهو درج؟

امتدت يدها لتشير إليه قائلة بتلقائية مما شد انتباهه بالكامل:

-الدرج ده يا حاج.

اعتدل "بدير" في جلسته المسترخية وأخفض ساقه ليقول نافيًا:

-محصلش.. وريني كده.

ثم هب واقفًا على قدميه واقترب من الشوفنيرة ليدقق النظر في الدرج بعد أن تنحت زوجته للجانب، اكتشف كسر القفل الخاص به، وهرع يفتحه ليجد مفاجأة صادمة في انتظاره، حيث كان خاليًا من الأموال التي احتفظ بها بداخله، حلت أمارات الحنق على تعابيره المجهدة، وغطى الغضب الجم نظراته كليًا، التفت كالمسلوع نحوها يسألها بحدةٍ:

-الفلوس اللي هنا راحت فين؟

على الفور هتفت "ونيسة" ترد لتدافع عن نفسها وتنفي تلك التهمة عنها:

-والله ما أعرف يا "بدير"! أنا مشوفتش حاجة، وإنت بنفسك اللي بترص فلوسك في الدرج.

صاح في عصبيةٍ شديدة وهو يعتصر ذهنه محاولاً التفكير فيما حدث لتلك النقود أو حتى أين أنفقها:

-أومال راحوا فين؟

هزت كتفيها تجيبه:

-معرفش

حك "بدير" رأسه في ضيق متعاظم، ولكن ما لبث أن تذكر شيئًا، الأموال الأخرى الموضوعة في الدرج السفلي، ذاك المبلغ الضخم الذي ما زال محتفظًا به ريثما يرسله للبنك، امتدت يده عفويًا لتسحب الدرج، لكنه وجده موصدًا فأشعره ذلك بالارتياح، زفر قائلاً بصوتٍ خفيض خفف بنسبة قليلة من حنقه:

-الحمدلله

التفت عائدًا للخلف ليمسك بمفاتيحه المسنودة على الكومود، وأسرع نحو الدرج وقام بفتحه، قليل من الارتياح تسرب إليه، ومع هذا هتف بصوته الأجش الحانق:

-الحرامي ابن الـ ..... مخدش باله من الدرج ده، كان فيه يجي فوق الـ 100 ألف جنية وأكتر محطوطين هنا.

شاركته التعليق:

-ألف حمد وشكر ليك يا رب

ثم غلف الخوف نبرتها وهي تُعاود سؤاله:

-بس مين هيتجرأ ويسرقنا يا حاج؟

تطلع إليها في حيرة قبل أن يجيبها:

-مش عارف!

رددتت "ونيسة" في ذعرٍ وهي تتلفت حولها بنظرات مرتعدة:

-لأحسن يكون الحرامي لسه مستخبي هنا ولا هنا.

وكأنها بعفويتها قد نبهت زوجها إلى خطورة ذلك، تحرك على الفور إلى خارج الغرفة بعد أن جذب عكازه ليستخدمه في الدفاع عن نفسه وضرب السارق إن وجده، جاب "بدير" غرف المنزل يفتش في كل زاوية وركن وأي مكان يحتمل أن يختبئ به، لكن لا أثر له، العجيب في الأمر أنه لم يعرف بعد كيف اقتحم المنزل، وكيف قام بالسرقة مما ضاعف من فضوله وتساؤلاته، حاول كذلك خلال بحثه عنه ألا يزعج والده الكهل الذي استغرق في نومه بعد مشقة اليوم إلى أن يحل الصباح فيطلعه على الأمر، ومع هذا تأكد من خلو غرفته منه.

ظلت أطراف "ونيسة" ترتجف بالرغم من بحث زوجها المتأني عن اللص، وبقي إحساس الخوف متغلغلاً في أعماقها، لحقت بـ "بدير" كظله ولازمته حتى توقف عن التفتيش، ابتلعت ريقها وقالت بصوت مهتز ينطق عن هلعها:

-أنا خايفة أوي يا حاج.. تفتكر الـ .. الحرامي ممكن يرجع تاني؟

علق في استهجانٍ شديد، ونظراته امتلأت بالغيظ:

-ده يبقى غبي أوي، هو خلاص خد النهيبة وخلع!

سألته مستفهمة:

-طب هتبلغ البوليس ولا هنتصل بـ "تميم" نعرفه؟

أجابها مستنكرًا آخر جملتها:

-وده كلام يا "ونيسة"؟ نتصل بابنك ليلة فرحه نقوله إلحق اتسرقنا؟ انسي الكلام ده خالص، "تميم" مش هايعرف دلوقتي، مفهوم

-طيب..

-خليني أفكر هاعمل إيه.

عادت لتسأله في إلحاحٍ:

-يعني هتكلم البوليس؟

رد نافيًا:

-لأ مش هاطلب أي حد!

اقترحت عليه بعفوية:

-طب وجوز بنتك؟

ردد بوجهٍ ممتعض:

-"محرز" ده لا بيحل ولا بيربط، هيعملي زيطة على الفاضي.

-أومال هتعمل إيه يا حاج؟

-لسه مش عارف.

قالت "ونيسة" بصوتها المرتجف:

-أديلنا زمن من يوم ما سكنا في الحتة ماحد عمره هوب ناحيتنا ولا فكر يسرقنا

أيدها الرأي قائلاً:

-معاكي حق.

-أول مرة تحصل الحكاية دي، الظاهر ولاد الحرام كانوا مراقبينا.

-الله أعلم.

انكمشت "ونيسة" على نفسها تقول له:

-بس أنا خايفة أوي يا حاج.

حاول طمأنتها فقال لها بهدوءٍ بالرغم من الثورة المستعرة بداخله جراء ما حدث:

-ماتخافيش يا "ونيسة"، أنا هتصرف..

أومأت برأسها عدة مراتٍ وتبعته أينما ذهب، ولم يعلق هو عليها، كان متفهمًا لخوفها الغريزي، إلا أنه كان عكسها يغلي من داخله، عاد ليفحص باب المنزل في دقةٍ عله يجد آثار الاقتحام، لكن لا شيء، انشغل تفكيره في اكتشاف طريقة دخول اللص للمنزل، امتلك "بدير" من الفراسة والخبرة الحياتية العريضة ما يجعله مؤهلاً لتحليل الأمور بشكلٍ منطقي، والوصول لنتائج واستنتاجات هامة. فرك طرف ذقنه في حركة ثابتة، وقال بصوتٍ خفيض:

-القفل مش مكسور، والباب زي ما هو.

علقت في سذاجة:

-يكونش الحرامي معاه مفتاح البيت؟

قال مستنكرًا محدودية تفكيرها:

-ليه كنت مديله نسخة وأنا مش دريان؟

زمت شفتيها معقبة عليه:

-أهوو اللي جه في بالي!

فكر "بدير" بعمقٍ مشاركًا زوجته ما يدور في رأسه:

-الحرامي ده عارف هيسرق إيه بالظبط، ولو كان دور كويس، كان شاف الفلوس التانية

-مظبوط

-أنا حاسس كده إن الموضوع ده مخرجش برا حد نعرفه.

سألته مستوضحة:

-قصدك مين؟

نظر لها بغموضٍ وقد بدا وجهه صارم التعبيرات، التزم الصمت رافضًا البوح بما يراود عقله من هواجس وشكوك تدفعه للتفكير في شخصٍ بعينه.

...................................................................

أخرجت تأويهة متألمة بعد أن نزعت حذائها الجديد عن قدميها بمجرد جلوسها على الأريكة، شعرت بوخزات حادة في أصابع قدميها التي بدت متورمة قليلاً جراء ارتدائها له لفترة طويلة، انحنت للأمام لتفركها في رفقٍ، ثم عادت بظهرها للخلف لتسترخي في جلستها. سمعت "بثينة" جلبةً تأتي من داخل غرفة ابنها فانتصب جسدها، أجبرت نفسها على النهوض واتجهت إليه بخطواتٍ متأنية .. وقفت عند أعتاب الغرفة تتأمل ما يفعله على عجالة، انخفضت نظراتها نحو الفراش لتجده واضعًا لحقيبة سفره عليه، حملقت فيه مجددًا فرأته يحشر ثيابه دون ترتيب فيها، ولجت للداخل وهي تعرج قليلاً، ثم سألته مباشرة ونظراتها موزعة بينه وبين حقيبة السفر الصغيرة:

-إنت بتعمل إيه؟

نظر لها في فتورٍ وكأن سؤالها لا يعنيه، ألحت عليه مكررة تساؤلها المستفهم:

-يا واد قولي بتعمل إيه؟ ولا رايح فين السعادي؟

رد بنبرة ساخطة تنم عن عزمه للأمر:

-بأوضب هدومي للسفر زي ما إنتي شايفة.

-يعني إنت مسافر؟

-أيوه، طالع أغير جو يومين كده مع أصحابي

هتفت مرددة في استغرابٍ مُبرر:

-في الجو ده يا "هيثم"؟ طب ليه؟

أجابها بزفيرٍ منزعج ووجهه مغطى بتعابير جامدة:

-مخنوق.

رفعت حاجبها للأعلى متسائلة:

-في حد ضايقك؟

أجابها بنظراته المتنمرة وتعابير أقرب للتزمت:

-هو في غيره

لم تكن بحاجة لامتلاك ذكاء خارق لتفطن إلى الإجابة الصحيحة لسؤاله، حيث علقت عليه بنظراتها الحادة:

-جوز خالتك "بدير"، صح؟

تابع معللاً سفره المفاجئ مستغلاً تلك الحجة الزائفة ليبدو جيدًا في إقناعه لها:

-ما هو لازم يسمم بدني بكلمتين بايخين من بتوعه، حتى لو كان ده فرح أختي

وقفت "بثينة" قبالته تقول له بتجهمٍ:

-معلش يا حبيبي، ولا تحرق دمك، هو كده غاوي ينكد على الناس، اطلع سافر وغير جو، وروق مزاجك، وأنا ليا لي كلام معاه و...

قاطعها في عصبيةٍ:

-يامه أنا مش عاوزك تتحشري في مشاكلي معاه كل مرة، بيمسكهالي ذلة ويعايرني بيكي

ردت بنبرة منفعلة:

-فشرت عينه، ده إنت راجل ابن راجل، هو نسى نفسه ولا إيه بتاع الجرجير ده؟!!

قال "هيثم" في عدم اكتراث وهو يجرجر حقيبة سفره خلفه بعد أن أنزلها من على الفراش:

-أديني هسيبهاله وهاغور من وشه، إياكش يرتاح

سارت خلفه محاولة تهدئته، فقالت:

-ولا تضايق نفسك، أنا هاعرف أجيبلك حقك منه

لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، تابع سيره المتعجل متجهًا نحو الصالة، سألته باهتمامٍ مدللة إياه:

-ناقصك فلوس يا نور عيني؟

للحظة تجمد في مكانه وكأن صاعقة أصابت جسده، التفت نحوها ينظر لها بعينين غائمتين متذكرًا سطوه على منزل خالته في ظلام الليل وحصوله على مبلغ لا بأس به، بدت تعابيره غريبة نسبيًا ووالدته تتأمله، تدارك شروده السريع ليقول بتلعثم وهو يهرب من نظرات والدته:

-مـ.. مستورة

أصرت عليه قائلة:

-يا حبيبي ماتكسفش، هو إنت بتطلب من حد غريب، ده أنا أمك، وكل ما أملك ليك يا "هيثم"

استدار ناحيتها متصنعًا الابتسام، ثم شكرها وهو يحني رأسه نحو جبينها ليقبله:

-تعيشيلي يامه.

أوصته "بثينة" بنظراتها التي تبدلت للجدية:

-خد بالك من نفسك وكلمني كل شوية عشان أطمن، ماتسبنيش قلقانة

-طيب.

قالها وهو يدير مقبض الباب ليفتحه، اتجه للخارج في سرعة وهو يعد نفسه بسَفرةٍ ممتعة مع رفقاء السوء ينفق فيها ما حصل عليه من غنيمته الثمينة على شهواته دفعة واحدة، وكأنه بذلك يفرغ غضبه المكبوت في إضاعتها سدى مقنعًا نفسه بأن ما سرقه ليس إلا جزءًا ضئيلاً من حقه المسلوب.

.......................................................................

رفعت رأسها لتستند على كتفه بعد أن ذاب الجليد بينهما وغابا في لحظات حميمية مميزة تأكد فيها من عفتها، وشعرت فيها بتأثير أنوثتها عليه، استلقى "تميم" على الفراش وشبك ذراعيه خلف رأسه تاركًا إياه تداعب صدره بأناملها الرقيقة، أغمض عينيه ليغفو مما حمسها لتأمله عن كثب بعينين تشعان بهجة، بدت أنفاسها دافئة وهي تلطم صدغه حينما همست له بنعومةٍ:

-مش عاوزة أفوق من الحلم الجميل اللي أنا عايشة فيه معاك، نفسي نفضل كده على طول، أنا في حضنك، وإنت معايا مابتفارقنيش.

رد عليها بصوت يميل للنعاس، ودون أن يفتح جفنيه:

-بكرة تزهقي مني.

اكتسى وجهها بتعبير مزعوج، وقالت محتجة:

-استحالة يحصل ده، أنا ماليش إلا إنت وبس!

شعر بتلك القبلة الناعمة التي انطبعت على جانب وجهه ففتح عينيه ليجد "خلود" تكاد تلتصق به، وتتطلع إليه بنظرات هائمة مليئة بالعشق، بسمة عذبة ظهرت على شفتيه قبل أن يرفع رأسه نحوها ليطبق على خاصتها مبادلاً إياها قبلة ناعمة جعلت بشرتها تتضرج بحمرتها النضرة، تثاءب في تعبٍ وربت على كتفها، ثم أزاحها ليتقلب على جانبه وهو يقول لها بإرهاقٍ:

-تصبحي على خير يا "خلود"

اكفهرت قسماتها وردت متسائلة بتذمرٍ:

-إنت هتنام دلوقت؟ مش هانقعد مع بعض شوية؟

أجابها في ثقلٍ وقد انطبق جفناه على بعضهما البعض:

-معلش يا حبيبتي، أنا مش قادر خالص، جسمي كله مكسر، ومش شايف قدامي!

أحست "خلود" بقليل من الإهانة والتجاهل من خلال جملته تلك، فمن المفترض أن يقضي ليلته الأولى معها حتى الصباح، انزعجت من عدم اكتراثه بما يجيش في صدرها من ضيقٍ، واعتدلت في رقدتها لتكتف ساعديها أمام صدرها، تعمدت أن تنفخ بصوتٍ مسموع ليعبر عن استيائها، ثم رددت عاليًا:

-يعني هاسهر لوحدي؟ بقى ده ينفع؟ ده أنا نفسي أحكي معاك ومانمش خالص.

أدرك "تميم" أنها لن تتوقف عن التذمر والشكوى حتى ينهض، نفض النعاس عن جفنيه متخليًا عن رغبته الشديدة في الحصول على قسطٍ وافر من النوم، والتفت نحوها متسائلاً بخلجاتٍ عابسة:

-عاوزة تحكي في إيه يا "خلود"؟

شعرت بالزهو لنجاحها في اجتذابه إليها، تطلعت إليه بنظراتها الوالهة، ثم صمتت لتفكر فيما تريد الحديث عنه، طرأ ببالها سؤاله عن الندوب التي تحتل الجانب الأيمن من كتفه، بدت لها كآثار حروق قديمة، لكنها لا تعرف سببها مما استرعى فضولها، استندت بطرف ذقنها على مرفقها المسنود على الوسادة متسائلة في نشوةٍ وبابتسامتها الفاتنة:

-هو اللي في ضهرك ده جالك من إيه؟

وأشـارت بعينيها نحو جانب كتفه لتتحرك أنظاره عفويًا مع إيماءتها، ويا ليتها لم تتطرق إلى تلك الذكرى المؤلمة! فقد اشتدت تعابيره المسترخية قساوة واحتقنت نظراته، رمقها "تميم" بنظرة غريبة قاتمة هادرًا بها:

-ملكيش فيه!

انتفضت من صوته الأجش الذي جعلها تتخشب في مكانها وتحملق فيه في ذهول، تدلى فكها للأسفل وهو يتابع تحذيره القاسي:

-في حاجات مابحبش أحكي عنها ولا حتى أفتكرها، منها حروق ضهري! يا ريت تفهمي ده!

ارتجفت شفتاها، وشعرت بالاختناق يضرب صدرها من حدته معها، حاولت أن تتماسك حتى لا تبكي أمامه، ثم هتفت مبررة سؤالها البريء:

-أنا.. مقصدش يا "تميم"، إنت عارف إن أي حاجة تخصك تهمني، و.. معرفش إن سؤالي ده بالذات.. هـ.. هيضايقك

رد بشراسةٍ وقد غامت عيناه:

-وأديكي عرفتي، يا ريت ماتكرريهاش

-بس .. كده آ....

قاطعها بحسم وبلهجة ذات طابع رسمي جليدي وهو يوليها ظهره:

-تصبحي على خير.

تطلعت له في قهرٍ وحسرة، دمعة حزينة فرت من طرف عينها تأثرًا بموقفه الصارم معها، مسحتها بيدٍ مرتعشة، واستدارت للجهة المعاكسة ملقية برأسها على الوسادة، ضغطت على شفتيها لتمنع شهقة باكية من الخروج من جوفها لتفضحها بعد أن أشعرها بالخذلان، لم تستطع السيطرة على الرجفة الخفيفة التي سيطرت على جسدها، نهنهة تكاد تكون مسموعة انفلتت منها حينما أحست بذراعه تحاوطها من الأعلى، حاولت الابتعاد عنه لكنه رفض إفلاتها، أطبقت على جفنيها في قوة مقاومة تيار المشاعر الحزينة الذي غزاها، تردد صوته الهامس في أذنها معتذرًا:

-حقك عليا يا "خلود".

عاتبته بنحيبٍ:

-ليه دايمًا بتكسر بخاطري يا "تميم"؟ وأنا اللي بأحبك!

ندم الأخير لسوء تصرفه وقساوته غير المفهومة معها، فقال لها موضحًا أسبابه:

-والله ماقصدش، متزعليش مني، وبعدين ده أنا لسه مفهمك إن في حاجات بتضايقني، وإني عاوزك تصبري عليا لما أتعصب.

ردت في غير اقتناعٍ:

-وسؤالي عمل كل العصبية دي؟

تنفس بعمقٍ ليثبط انفعالاته كليًا، ثم لفظ الهواء في زفير بطيء قبل أن يجيبها بهدوءٍ يناقض عصبيته قبل لحظات:

-أكيد لأ.

تابعت متصنعة اللا مبالاة:

-عمومًا حصل خير

مرر "تميم" ذراعه الآخر أسفل جسدها لتصبح أسيرة ذراعيه، ثم سألها بصوتٍ رخيم:

-لسه زعلانة مني؟

هزت كتفيها تُجاوبه:

-عادي .. مش هاتفرق، ما أنا لسه غريبة عنك!

زادت كلماتها الأخيرة من إحساسه بالذنب، أراد "تميم" أن يعوضها عن ذلك، فشدد من ضمه لها لتشعر بحرارة جسده عليها، ارتجفت من لمساته التي تُجيد اللعب على أحاسيسها المرهفة، وتشعرها باحتلاله لوجدانها، لهيب أنفاسه الساخنة وترها أكثر، خاصة حينما لامست جانب عنقها وهو يستأنف همسه المعتذر:

-حقك عليا.

ردت بصوتٍ لان بدرجة كبيرة وقد استجمعت نفسها:

-خلاص يا حبيبي.

وبكل ودٍ ولطف أدارها إليه ليجثم فوقها وتصبح أسيرة نظراته التي تفتنها، ابتسم لها بطريقة ساحرة أشعلت جذوة الحب في كيانها، مال عليها يقول بنبرة ذات مغزى، وتلك العبثية المغرية تتراقص في حدقتيه:

-سبيني أصالحك على طريقتي!

تورد وجهها بالكامل وقد فطنت إلى تلميحه المتواري بمنحها المزيد من اللحظات الشغوفة التي حتمًا ستمحو تعاستها.

..................................................................

ليلة طويلة باردة انقضت عليه حتى سطع النهار وهو جالس في الصالة بمفرده رابط الجأش يفكر مليًا وبعمقٍ فيما حدث، كان المكان غارقًا في الهدوء مما ساعده كثيرًا ليصفو ذهنه وينشط ذاكرته، فقد تركته زوجته لتستسلم لسلطان النوم حينما تمكن منها التعب وغفت في غرفة ابنها بعد أن رفضت النوم في غرفة نومها كردة فعل طبيعية لتأثير الصدمة المرتعدة عليها. أطفأ "بدير" سيجارته العاشرة في منفضته التي امتلأت بأعقاب السجائر مُنشطًا ذاكرته بالأحداث التي يمكن أن تحفز ذلك اللص وتدفعه للتجرأ واقتحام منزله في غفلة منه، وكأنه يعرف جيدًا متى سيخلو البيت من ساكنيه لينفذ جريمته. كل الشواهد حامت حول شخص بعينه، ولا ينكر "بدير" أنه استعان هاتفيًا بأحد أصدقائه القدامى ممن يعملون بالسلك الشرطي ويحتلون منصبًا متقدمًا فيه، أفادته تلميحاته الدقيقة، ونصائحه الخبيرة مع محترفي الإجرام في إرشاده لضالته وتأكيد شكوكه التي اتجهت نحو "هيثم" تحديدًا .. نعم إنه أول من فكر فيه ليقوم بتلك الفعلة النكراء، خاصة وأنه الوحيد الذي تواجد مؤخرًا في غرفة نومه، وربما لمح الأموال مصادفة في الدرج العلوي، تبقى له فقط أن يتأكد من معلومة واحدة إجابتها لدى زوجته، فإن أعطته المال حقًا دون علمه وعرف أين يتواجد، فستكتمل الصورة في ذهنه. ضغط "بدير" على أصابعه في غيظٍ حتى ابيضت مفاصله، ثم ردد مع نفسه يتوعده بوجه لا يبشر بالخير:

-أه لو طلعت إنت! هاعلقك وأعرفك مين أنا يا ابن "بثينة"!

..........................................................................

ازدهرت الأعمال خلال الأيام التالية بعد أن تذوق معظم رواد منطقة الكورنيش السندوتشات الشهية، أصبح لديهما زبونهما الخاص ممن يفضلون الأطعمة المختلفة وذات المذاق المميز، وبدأت تتكون علاقات ودية وطيبة مع الكثير من العائلات التي تصادقت مع الشابتين وأمهما، تلك السيدة الوقورة صاحبة الملامح الوديعة، والقلب الحنون التي تعامل الجميع برحابة صدر ولطف محبب للجميع. وبالرغم من امتعاض "خليل" ورفضه لذلك العمل غير المجدي -من وجهة نظره- إلا أنه اتخذ موقفًا سلميًا وتابع بنفسه ما تقوم به الفتاتين، والحق يُقال أنهما كانتا مثالاً يحتذى به للأخلاق والجدية، التزمت كلتاهما في التعامل مع الجنس الآخر، وانشغلتا فقط بتأدية المطلوب منهما في سرعة ودقة..

إلى جواره، وعلى مقربة من العربة، جلست "حمدية" التي كانت أحشائها تحترق كمدًا من حيادية زوجها تتابع المشهد العبثي بنظراتها الناقمة؛ تارة تحدق في "خليل" شزرًا، وتارة أخرى تحملق في الاثنتين بسخطٍ متعاظم، نفخت متسائلة بنفاذ صبر وهي تهز ساقيها في عصبية:

-هو احنا هنفضل قاعدين الأعدة الهباب دي كده كتير؟

رد بفتورٍ دون أن يحيد بنظراته عن عربة الطعام:

-لو زهقتي روحي!

قالت بنبرة مستهجنة ووجهها متجهم الملامح:

-وأقعد لوحدي بوزي في بوز العيال؟

زفر ببطءٍ قبل أن يعلق بإيجازٍ:

-هانت يا "حمدية".

تابعت الأخيرة شكواها فأكملت وهي تحكم لف شالها السميك المصنوع من الصوف حول كتفيها لتحصل على الدفء:

-ده البرد نخر في عضمي، معنتش قادرة من كتافي.

رد على مضضٍ:

-اصبري.

أضافت بحقدٍ وعيناها تبرقان في غيظٍ:

-لأ وبنات أختك معندهومش دم! إن مافي واحدة عزمت علينا بسندوتش ولا حتة فطيرة سخنة تطري علينا، وهما مولعينها من بدري، آل يعني اللقمة دي هاتخسر معاهم!

زجرها مرددًا في تهكمٍ ساخر:

-بطلي طفاسة يا "حمدية"!

شقهت تعنفه مستخدمة يدها في الإشارة:

-طفاسة؟ لأ عندك! ده أنا جاية من بيت شبع يا "خليل"، أكل إيه اللي أبصله وعيني فيه؟! حاسب على كلامك معايا!

رد بضحكة مستهزأة من إنكارها الزائف:

-ما هو باين.

زمت شفتيها في حركة متأففة وهي تدور بعينيها على المارة مغمغة بعبارات ناقمة لم يفهم معظمها "خليل" إلى أن ضجرت من انتظارها الممل، لذا قالت مرة أخرى وقد نفذ صبرها:

-مش ناوي تقوم معايا؟

أجابها معاتبًا:

-وأسيب أختي وبناتها لواحدهم في الشارع؟

ردت عليه بازدراءٍ ونظراتها الاحتقارية تجوب أوجه ثلاثتهن:

-يعني هيجرالهم إيه، ما الناس حواليهم أد كده زي الرز، مش هياكلهم البعبع ياخويا!

أصر على بقائه مشددًا:

-بردك مايصحش، أنا هافضل معاهم.

أومأت بحاجبها تسأله بنبرتها المتنمرة:

-ده إيه الحنية اللي نزلت على قلبك دي؟ من إمتي الحب ده كله يا "خليل"؟

جاوبها بضيقٍ وقد غلف تعابيره الانزعاج:

-يعني عاوزة الناس تاكل وشي بعد ما اتعرف إن بنات "آمنة" فاتحين عربية أكل وأنا مش واقف جمبهم؟!!

لم تصدق بالطبع مبرراته الواهية التي يختلقها ليظهر اهتمامه الزائف بعائلته، فقالت ساخرة منه بحدية أكبر:

-وهما لما يشوفوك أعدلهم كده هيشجعوك؟ ده مش بعيد يقولوا عليك طرطور، أو آ.... ولا بلاش تسمع مني كلام يوجعك، لأحسن تزعل!

قال لها في نفاذ صبرٍ:

-انزلي عن دماغي يا "حمدية"، أنا مش ناقصك.

تمتمت ترد عليه وهي تزم شفتيها:

-حِكَم!

تابع "خليل" مضيفًا مشاركًا إياها ما يدور في عقله:

-أما أنا في مخي ترتيب حلو، لو مشى زي ما أنا عاوز هنطلعلنا بمصلحة!

سألته بفضول وقد توهجت نظراتها:

-ترتيب إيه ده؟ ما تقولي عليه!

رمقها بنظرة مزعوجة قبل أن يقول على مضض:

-ما أنا خايف لتبرمي فيها وتفسد!

زجرته بعصبية وقد هبت واقفة على قدميها:

-ليه؟ حد قالك إني بومة؟ خلاص يا إدلعدي مش عاوزة أعرف!

أمسك بها من معصمها ليستوقفها، ثم جذبها منه ليجلسها في مكانها وهو يقول مرغمًا:

-هاقولك وربنا يستر!

ادعت عدم اكتراثها، وأشاحت بوجهها للجانب لتظهر ضيقها، فأكمل بحذرٍ عارضًا عليها فكرته الخبيثة:

-دلوقتي الحاج "بدير" عليه دين في رقبته لينا، عشان اللي حصل من قريبه مع أختي، أنا عاوز أستغل ده بقى وأخد منه قرشين كده ندفعهم عربون لدكان محندق حاطط عيني عليه بقالي فترة، أل يعني بحجة إننا بنساعد البنات اليتامى بدل وقفتهم في الشارع

انتبهت له وسألته مستوضحة:

-أها، وبعدين؟

قال بإيجازٍ مليء بالغموض:

-ولا قبلين، هاجيب الدكان وأشغله لحسابي

رددت في قلقٍ:

-طب وبنات أختك، هتعمل معاهم إيه؟

أجاب ببساطة وكأنه قد أعد الرد مسبقًا:

-هخليهم يبيعوا العربية دي وأخد فلوسها واحطها في الدكان وتوضيبه.

-طب ما جايز يشبطوا فيه وتخسر المصلحة كلها!!

-مش هايحصل، ما أنا هاعمل الورق كله باسمي ويبقوا يقابلوني لو طالوا مني حاجة

حذرته من جديد بلهجة مغلفة بالجدية:

-إنت ضامن الحكاية دي؟ بنت أختك "فيروزة" مش عبيطة، ولا سهل يضحك عليها

استطرد محتقرًا قدراتها:

-دي جعجاعة على الفاضي، قطتها جمل، ومش هاتقدر تعمل حاجة.

كانت غير راضية عن استهانته بها، فعادت لتحذره:

-أنا بأنبهك بس، هي مش سهلة!

تقوست شفتاه قليلاً وأظهرت ابتسامة مغترة عليهما حينما قال عن ثقة كاملة:

-متقلقيش، جوزين أقلام مني على وشها هيربوها!

نظرة مطولة منها إلى وجهه الخبيث، بدت كما لو كانت تدرسه، ثم تنهدت قائلة:

-هانشوف.

............................................................................

بابتسامة عملية بحتة وإيماءة رأسٍ بسيطة مدت يدها بكيسٍ ورقي مليء بالسندوتشات من نافذة العربة نحو أحد الأشخاص المنتظرين ليحصل على طلبه، تلقت "فيروزة" النقود من شخص آخر ودونت في ورقة صغيرة ما يريد، ثم استدارت نحو أختها تسألها بتلهفٍ:

-أوردر 36 خلص؟

أجابتها "همسة" بلهاثٍ وهي تدور حول نفسها لتنجز عملها في أسرع وقت:

-بأقفله أهوو.

أشارت الأولى بالورقة الصغيرة التي في يدها متابعة حديثها:

-طيب في أوردر تاني مستعجل

هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد عليها ويداها مشغولتان في تغليف السندوتشات بطريقة جذابة:

-ماشي.. هاعمله بعد ده على طول

-أوكي

تطلعت "فيروزة" من النافذة مجددًا لتراقب وتقرأ ردات الفعل على أوجه الزبائن الذين لم يغادروا المكان بعد، وآثروا تناول السندوتشات على الكورنيش بجوارهم، رأت علامات التلذذ والاستحسان واضحة على محياهم، شعرت بالانتشاء والرضا لنجاحها في إرضاء جمهورها من الذواقة، استمرت في تحريك عينيها على باقي المنطقة إلى أن توقفت عند البقعة التي يجلس فيها خالها، لم تصدق بقائه حتى تلك الساعة، قالت في ذهول لاكزة أختها في جانب ذراعها لتنتبه لها:

-تصدقي يا "همسة" خالك لسه قاعد لحد دلوقتي!

رفعت الأخيرة عينيها لتنظر إلى الأمام باحثة عن مكانه وهي تقول:

-بتهزري!!

تابعت "فيروزة" جملتها بتأفف مشمئز:

-لأ والعقربة مراته لازقة فيه!

ردت عليها أختها تمازحها:

-تلاقيها مش رحمانا من كتر أرها علينا

أيدتها الرأي فاستطردت:

-ايوه، ربنا يستر من عينيها، ومن شر حاسد إذا حسد!

-يا رب، الأوردر جاهز للتسليم يا "فيرو".

قالتها وهي تناولها آخر ما أعدته من طعامٍ لتضعه في الكيس الورقي حتى يتسنى لها إعطائه لصاحبه، ولزمة معتادة منها مسحت كفيها في مريلة المطبخ التي تحاوط خصرها قبل أن تنظر مصادفة أمامها، وكأنها على موعد مع القدر، كانت أكثر إحساسًا بالتوتر والضياع، جحظت عيناها في ارتعابٍ منه حينما أبصرته أمامها يطالعها عن قصدٍ، جف حلقها وانتفضت عروقها خوفًا من قدومه المحمل حتمًا بالمشاكل، رددت مع نفسها في رجاءٍ كانت واثقة أنه لن يستجاب:

-شكل الليلة مش هاتعدي على خير، يا رب ما يجي هنا!

تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وقد بات بالفعل واقفًا أسفل نافذة العربة وكامل نظراته مرتكزة عليها أولاً قبل أن تتحول عيناها تلقائيًا وبشكلٍ آلي نحو "فيروزة" وقد هتف صائحًا بصوته الرجولي الأجش:

-سلامو عليكم ......

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثانى عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة