-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن عشر

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن عشر

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن عشر

 قضت في أحضانه ليلة مغايرة لتلك الليالي الجوفاء الأولى في حياتهما الخاصة معًا، واستمتعت بنوبة حب عنيفة مليئة بكل المشاعر الجامحة التي امتزجت بقوته الذكورية فأحيت فيها عنفوانها وجعلتها تحلق عاليًا في سماء الحب، بل وتطلب المزيد من ذاك الشغف العاصف بالوجدان، استطاع أن يصل بها إلى مناطق لم تختبرها من قبل، خاضت بجوارحها تجربة أوقظت فيها مشاعرها الكامنة بالكامل. لم تتوقع "خلود" أن يمنحها "تميم" مثل تلك الأحاسيس العميقة، بدا مختلفًا كليًا عن ذي قبل، تأوهت بصوتٍ خفيض وهي تنهض بتململٍ من على الفراش، التفتت برأسها نحو زوجها فوجدته لا يزال مستغرقًا في النوم، تأملته بابتسامة مشرقة ووجهها يشع نضارة لطيفة .. عبثت في خصلات شعرها المتنافرة ومشطتها بيدها لتعيد ترتيبها، ثم عقصتها كعكة دون أن تربطها بمشبكٍ للرأس .. أخفضت نظراتها لتنظر إلى ما اضطرت أن ترتديه في الليلة الماضية؛ إنه واحد من قمصانه، يكاد يغطي نصفها العلوي، توردت قليلاً لمجرد تذكر تأثير رؤيته ترتديه، أعطاها جاذبية مغرية، ومنحها ليلة حافلة العواطف الجياشة، وعلى غير عادتها نهضت مليئة بالحيوية والنشاط، كانت متحمسة لإعداد الفطور له وإحضاره بالفراش، مشيت على مهلٍ وبحذرٍ حتى لا توقظه، لكنه انتبه لحركتها، تقلب على جانبه، ونظر لها بنصف عين، بادلته ابتسامة رقيقة وهي تستطرد بنعومة متعمدة التدلل في وقفتها:

-صباح الخير يا حبيبي.

فرك "تميم" وجهه بيده، وقال متثاءبًا:

-صباح الخير.

عضت على شفتها السفلى وهي تسبل عينيها نحوه، ثم تغنجت في وقفتها المغرية لتضمن تركيز كامل أنظاره عليها، وما إن نجحت في ذلك حتى تحركت مبتعدة عنه لتجعله يتأمل تفاصيلها الأنثوية عن عمدٍ فتحرك فيه مشاعره، وأضافت وهي تشير بيدها نحو عباءتها:

-أنا هاحضرلك الفطار وأجيبهولك هنا يا حبيبي.

أومأ بحاجبه معقبًا بنبرة موحية:

-طب ما تيجي أصبح عليكي الأول!

التفتت برأسها نصف التفاتة تقول له في دلالٍ ممتع وقد امتلأت عيناها بوميض لامع:

-اللي تؤمرني بيه يا حبيبي.

ثم تهادت في خطواتها المائعة نحوه لتزيد من تأجج الرغبة بداخله، وما إن أصبحت قريبة منه حتى مد يده ناحيتها وقبض على معصمها ليجذبها إليه، سقطت في أحضانه، وأحاطها بذراعيه .. وبخفة ممتزجة بالقوة رفع جسدها وأدارها للناحية الأخرى من الفراش لتغدو أسفل منه، وما هي إلا لحظاتٍ وانغمست معه في أنهر الحب اللذيذة.

.....................................................................

ركام محترق، بقايا مدمرة، هذا كل ما تبقى لها من العربة حين وقفت تتطلع إليها في الصباح عند الكورنيش، أخفت "فيروزة" عينيها الغائرتين خلف نظارة داكنة، لكن دمعاتها أبت الاختباء، انسابت في صمتٍ تحسرًا على حلمٍ قريب ضاع قبل أن يكتمل، لم تأبه لمن يتطلع إليها، لم تشعر بمن حولها، فقط مزيج من المشاعر الحانقة، الغاضبة، والمتألمة كان مسيطرًا عليها، مسحت بطرف إصبعها دمعاتها التي شقت طريقها عبر صفحة وجهها لتضع بعدها الهاتف على أذنها، هتفت متسائلة بصوتها المائل للبكاء:

-مافيش لسه جديد يا "علا"؟

أجابتها رفيقتها على مهلٍ:

-لأ لسه.

عادت لتسألها بعد زفير بطيء:

-و"ماهر" بيه طمنك على وضعي القانوني؟

لحظة صمت سادت بينهما قبل أن تجيبها:

-كله تمام.

مسحت بمنديلها الورقي أنفها المبتل، وأضافت تسألها:

-يعني أنا مش محتاجة أستشير محامي أو حد متخصص

نفت على الفور:

-لالالا، هو قايم بكل حاجة، معارفه كتير زي ما إنتي فاهمة

أومـأت برأسها ترد وقد شردت نظراتها في أمواج البحر المتلاطمة والتي نثرت رذاذها على عربتها:

-ماشي، بس لو عرفتي حاجة بلغيني.

قالت لها:

-أكيد يا حبيبتي، وإنتي خلي بالك من نفسك

-إن شاء الله.

أنهت "فيروزة" المكالمة معها لتلقي نظرة أخيرة طويلة على ما كانت عربتها قبل أن تستدير للجانب لتسير مجرجرة ساقيها بعيدًا عما أصبح يؤلمها.

....................................................................

على الجانب الآخر، كان "ماهر" جالسًا إلى جوار شقيقته واضعًا ساقه فوق الأخرى ويتابع بأنفاس مكتومة حوارهما الخاص بعد أن أسمعته المكالمة الدائرة بينهما. تعليماته لها كانت واضحة؛ أن تماطل قدر المستطاع معها حتى لا تلجأ لمساعدة محامٍ متخصص فيفسد ما يحاول إصلاحه، أغلقت الخط، والتفتت نحوه تسأله في ضيقٍ:

-أنا خايفة "فيروزة" تزعل مني لما تعرف إني كنت بأكدب عليها، وإن المحضر اتركن ومافيش فيه جديد.

حدق فيها بنظرة جامدة خالية من العطف وهو يرد:

-ده لمصلحتها يا "علا"، الناس اللي واقعة معاهم تُقال أوي، وممكن يضيعوها، واللي أنا عملته ده هيخدمها بعدين.

رددت والتأثر ظاهر في نبرتها:

-بس هي صعبانة عليا أوي.

انتصب في جلسته يقول لها:

-للأسف احنا في غابة، والضعيف مالوش مكان فيها، وصاحبتك بعنادها حطت نفسها في عرين الأسد

سألته في قلقٍ:

-طيب هيحصل إيه بعد كده؟

أجابها برويةٍ، مؤكدًا لها أن الأمر مخطط له:

-هنحاول نخليها تتنازل، أنا متفق مع "وجدي" على ده، والصراحة هو عامل اللي عليه وزيادة عشان الموضوع ميوصلش للنيابة.

تمتمت في رجاءٍ وهي تستند بطرف ذقنها على كف يدها:

-ربنا معاها

حذرها "ماهر" بوجهٍ صارمٍ للغاية ونبرة غير قابلة للنقاش:

-إنتي خليكي متابعة معاها على الخط كل حاجة بتعملها، لوو جد أي جديد عرفيني، مفهوم؟

أومأت برأسها متنهدة في خنوعٍ:

-حاضر.

.......................................................................

وقف مستندًا بكفيه على حائط الحمام المبتل في منزله تاركًا المياه المتدفقة تنهال على رأسه بقوتها علها تسكت تلك الأصوات الصاخبة في عقله، والتي أصابته بالتخبط والارتباك، تردد مريب جعله يعاود التفكير في أمرها بالرغم من مرور يومين على تحرير المحاضر بينهما، أغمض "تميم" عينيه مستعيدًا المشاهد الشائكة التي حدثت له معها مؤخرًا، وكان هو طرفًا محوريًا فيها، بدا كمن يحلل الأحداث وينقيها محاولاً استنباط الحقيقة بشفافية بعيدًا عن تحيزه الذكوري الأعمى وهواجسه الخاطئة، ربما لكون حديث والده وما تردد من فمها خلال نوبة غضبها قد أوقظ إدراكه العقلاني، بالإضافة لرؤيته للأضرار الجسيمة التي قضت على العربة، فبدت بدنًا مهترئًا لا يصلح لشيء، تساءل مع نفسه بعشرات الأسئلة التي أرهقت عقله كثيرًا لإيجاد الإجابات عليها ..

ماذا لو تبدلت الأدوار وكان هو في محلها وعبث أحدهم بلقمة عيشه؟ بالطبع لم يكن ليتهاون في حقه! بل ومن الممكن أن يطيح برأس أحدهم انتقامًا منه .. تلقائيًا وجد نفسه يُوجد لها الأعذار المنطقية مبررًا تصرفها معه بعدائيةٍ بحتة، كذلك وصل إلى نتيجة مقنعة جعلته يميل لدافعها المفهوم بالتعامل معه بكل ذلك الحنق المشحون؛ قهرها على ضياع مصدر رزقها، لعلها تكون هي المعيلة الوحيدة لأسرتها، ومحدودية تفكيره جعلته يُدينها دون تهمة حقيقة. ردد مع نفسه بصوتٍ خفيض وهو يستدير بجسده:

-ما يمكن أكون غلطان!

لم ينكر أنه خلال ممارسته لطقوس الحب الحميمية مع زوجته كانت "فيروزة" ضيفة مميزة في مخيلته، لوهلة ارتبك من اقتحامها لذهنه وحاول مقاومة صورتها الخيالية ليركز انتباهه مع تلك التي تمنحه حبها غير المشروط، تعامل بشكل غير اعتيادي مع زوجته ليتغلب على تلك المتطفلة، لكنها اخترقت أحلامه الجريئة وطغت عليها بحضورها المثير لحواسه لدرجة جعلته يرغب في مطارحتها الغرام، نهض من النوم مذعورًا قبل شروق الشمس وهو يلهث وقد فزع من جموح أحلامه، تطلع إلى "خلود" بنظرات غريبة، ما لبث أن تحولت للندم بعد أن تبين ملامحها على أثر الضوء الخافت، وكأنه اقترف ذنبًا في حقها باستدعائها إلى منطقته المحرمة، نفض تدفق تلك الأفكار عن رأسه منذرًا نفسه بعواقب التمادي في تخيلها بتلك الطريقة، أكمل استحمامه محاولاً الاسترخاء غير عابئ بالوقت الذي قضاه في الحمام ..

حملق أمامه بعينين متسعتين وكأن طيف وجهها المحتقن شبه متجسد على المرآة المشبعة ببخار الماء يلومه على إحراق عربتها، أحاسيس غريبة بدأت تراوده من جديد نحوها خلال يقظته، لكنها لا تضم مشاعر الغضب من عدوانيتها، إلى حد ما مال للتعاطف معها بعد أن تفهم موقفها وأدركه من أبعاد أخرى لم يكن قد فكر فيها من قبل، شعر وكأن الوحشة التي عششت في قلبه بسبب تأثير الحبس عليه قد تضآلت قليلاً، لكن ما انتاب جسده من تأثيراتٍ حسية لمجرد احتلالها لذهنه أصابه بالتوتر، توقف فجأة عن التفكير في أمرها وتلك الدقات الخفيفة تطرق على الباب يصحبها صوت "خلود" المنادي:

-عمي "بدير" بيتصل عليك.

رد متصنعًا الجدية وهو يكبح هواجسه:

-طيب، أنا هاخرج وأكلمه، تسلمي .. يا حبيبتي.

غسل رأسه ودعكها بخشونة وهو يلوم نفسه بشدة على ضعفه غير المسبوق أمام تلك الخيالات المثيرة للشهوات، كيف يعقل ذلك وهو من يصنع إرادته بنفسه؟ كز على أسنانه يعنف نفسه بنبرة لا تتخطى الهمس:

-إنت اتجننت ولا إيه؟ فوق يا "تميم"!! مراتك ما تستهلش ده منك!

عاهد نفسه ألا يخطو مجددًا نحو تلك المنطقة المحرمة بالتفكير فيها، بل وعقد العزم على إنهاء تشاحنهما القانوني بحلٍ سريع وودي ليقطع سبل التواصل معها، غمره الارتياح بالوصول لذلك القرار.

..............................................................

اعتقدت بسجيتها أن الأمور تسير على ما يرام إلى أن جاءت إليها في زيارة استثنائية وغير عادية، فتحت "آمنة" باب منزلها لتتفاجأ بآخر من توقعت رؤيته، رمشت بعينيها في ذهول وتطلعت للضيفة بفمٍ مفتوح، لعقت شفتيها راسمة على وجهها ابتسامة باهتة قبل أن تبادر مرحبة بصوتٍ عبر عن اهتزاز نبرتها:

-حاجة "ونيسة"، يا أهلاً وسهــ....

لم تكمل جملتها للنهاية، حيث قاطعتها "ونيسة" تعاتبها بصوتٍ متجهمٍ، ووجه عابس للغاية:

-مكنش العشم يا "آمنة".

ازدردت ريقها في حلقها الجاف، حاولت أن تحافظ على ابتسامتها المبتورة، وقالت:

-اتفضلي يا حاجة، مايصحش نتكلم على الباب.

دفعتها بغلظة من كتفها لتمرق للداخل، ثم استدارت لتهاجمها كلاميًا:

-وهو إنتي تعرفي اللي يصح واللي مايصحش؟

ردت "آمنة" على الفور مدافعة عن نفسها حتى لا تسيء الظن بها:

-من قبل ما تتكلمي وتعاتبيني، أنا أقسم بالله ما كنت أعرف أي حاجة.

نظرت لها باحتقارٍ، وكأنها غير مقتنعة بكذبتها الساذجة، ثم سألتها مباشرة:

-ولما عرفتي، اتصرفتي إزاي؟

نكست رأسها تجيبها بلبكة بائنة:

-أنا كلمت بنتي، و.. وضاغطة عليها عشان.. تتنازل عن المحضر

ركزت نظراتها عليها وهي تسألها:

-وبعدين..؟

بلعت ريقها في حلقها الجاف وردت بتلعثمٍ:

-هي.. يعني.. آ..

كانت تبحث عن الكلمات المناسبة لتسعفها قبل أن تتفوه بما قد يأزم الأمور ويعقدها، لكن "ونيسة" استطردت موضحة دون مراوغة:

-راكبة دماغها، عاوزة تقولي كده، مظبوط؟

نفت في التو:

-لالالا يا حاجة "ونيسة"، بس الموضوع فيه سوء فهم.

رفعت سبابتها أمام وجهها تحذرها بلهجة قوية وقد توحشت نظراتها:

-شوفي يا "آمنة"، هي كلمة من الآخر...

انتبهت حواسها لما هو قادم، وتابعتها بآذان صاغيها حينما أكملت:

-بنتك لو أذت ابني فأنا هانسى الجيرة اللي كانت بينا في يوم، ومش هاعمل حساب لحاجة، سمعاني؟

أحست بدوار قاسٍ يضرب رأسها، حاولت التماسك أمامها حتى لا تُظهر ضعفها، لكن ملامحها الباهتة أكدت خوفها، واصلت "ونيسة" تهديدها العلني قائلة:

-قدامك يومين تحلي فيهم كل المشاكل، وقد أعذر من أنذر!!

رمقتها بنظرة متعالية متأففة قبل أن توليها ظهرها لتتجه نحو المنزل وهي تغمغم بحنقٍ:

-ومافيش سلامو عليكم.

بحثت "آمنة" عن أقرب مقعدٍ لتستند عليه بيدها قبل أن يختل توازنها، زاغت نظراتها وأحست بعنف دقات قلبها، اضطربت أنفاسها وهي تولول تحسرًا:

-يا دي المصايب اللي نازلة ترف على دماغي من الصبح!

تشوش ذهنها واحتلت الهواجس المذعورة رأسها، تخيلت المخاطر تحيق بكل فرد من أسرتها دون وجود مدافع عنهم، فزعت أكثر، وما ضاعف من ذلك ارتعابها من ردة فعل شقيقها إن علم بما دار خلال غيابه، ارتعش بدنها، وهمست في هلعٍ:

-ناوية تخسريني مين تاني بعد كده يا "فيروزة"؟!

..................................................................

مرت الساعات كأنها أدهر عليها وهي تلملم ما ظنت أنه حلمها، أخلت "فيروزة" الغرفة التي أعدتها مخزنًا من كل ما تحتويه من أشياء ووضعتهم بالباحة الخلفية تمهيدًا لبيعهم، فوجودهم بها ليس له جدوى، تأزم الموقف حقًا بعد جدالها العقيم مع والدتها التي سعت لإجبارها على التنازل عن حقها القانوني إرضاءً لجارتها القديمة دون أن تأبه بمشاعرها المقهورة، رفضت بشدة وتمسكت بقوة بآخر حقوقها المشروعة، وبفتورٍ وحزن أخرجت آخر صندوقٍ كان موضوعًا بالزاوية، حملته بيديها وسارت نحو الكومة الملقاة لتضمه إليها، رأت "همسة" الدمعات النافرة من عينيها، دنت منها وهي تقاوم رغبتها في مشاطرتها البكاء، ثم ربتت على كتفها محاولة تهوين الأمر عليها قبل أن تستطرد مواسية إياها:

-متعيطيش يا "فيروزة"، قلبي بيتقطع عشانك.

نظرت نحوها بأسى، وقالت بصوتها المنتحب الذي يعبر عن ألمها وهي تلقي بالملاءة القماشية على الكومة لتغطيها:

-حلمي ضاع يا "همسة"، كل اللي حلمت بيه راح، ومحدش حاسس بالوجع اللي جوايا.

تماسكت أختها بصعوبة أمامها، وردت بغصة مريرة عالقة في حلقها:

-كله هيتعوض، و...

كانت بلا وعيٍ فلم تصغِ لحديث "همسة" الآسف، زادت نهنهاتها وهي تواصل ندبها المتحسر:

-ومطلوب مني بعد ده كله أتنازل عن حقي، وأسيب اللي عمل كده من غير حساب؟ ده يرضي مين بس؟

فشلت "همسة" في مغالبة دموعها المتأثرة، ورددت عفويًا:

-حبيبتي..

ثم مدت يدها لتأخذها في أحضانها من تلقاء نفسها، وضمتها إليها محاولة تهوين الأمر عليها ليس بكلماتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع وإنما بمشاعرها الصادقة، فهي ما تملكه حاليًا لتخفف من مصابها، لم تتمكن كلتاهما من الحصول على لحظة سكينة هانئة، فقد أتت من تكدر الصفو وتعكر السلام الداخلي، صاحت "حمدية" مهللة وهي تتبختر في خطواتها متجهة نحوهما:

-هو في إيه اللي بيحصل هنا؟

كزت "فيروزة" على أسنانها في حنقٍ قبل أن تميل نحو أختها لتقول لها بصوتٍ خفيض:

-أنا مش نقصاها السعادي

اندفعت بعصبيةٍ مبتعدة عنها حتى لا تمنحها الفرصة للتشاجر معها، لكن كان كتفها الأسبق في لكزها بعنف محسوس، نظرت لها "حمدية" بتعالٍ وغيظ، ثم عادت لتحملق في أختها، مصمصت شفتيها متسائلة:

-مالها دي؟ لاوية بوزها علينا كده ليه؟

أجابتها "همسة" على امتعاضٍ وهي تمسح بيدها آثار دموعها:

-معلش يا مرات خالي، ظروف بقى.

ردت ساخرة وهي تومئ بحاجبها:

-إيه نسيتوا الزيت على النار، وانشغلتوا بالهئ والمئ فالأكل باظ؟

عبست بتعبيراتها في استنكارٍ من سماجتها الثقيلة، همت بالانصراف، وقالت لها:

-لأ يا مرات خالي، عن إذنك

غمغمت بنبرة ناقمة:

-غوري، جاتك ضربة إنتي التانية!

ألقت "حمدية" بحقيبة يدها على كتفها، واستدارت عائدة من حيث أتت، توقفت عند المدخل لتأمر زوجها ببرودٍ:

-طلع الشنط إنت يا "خليل" لأحسن مش قادرة، وبالمرة هافوت على أختك أسلم عليها، وأشوف طابخة إيه، جايز أريحك من أكل برا النهاردة!

نظر لها شزرًا وهو يتناول باقي الأجرة من السائق قبل أن يرد بوجهٍ متجهم:

-يكون أحسن بردك.

كان "خليل" مجهدًا للحد الذي يمنعه من الانتباه إلى ثرثرتها المزعجة أو حتى الاعتراض على أوامرها المملة، انحنى ليرفع الحقائب عن الأرضية مكملاً السير بتريثٍ وهو يعيد ترتيب ما سيفعله لاحقًا في رأسه؛ فأيامه القادمة مشحونة بالكثير من الأعمال الهامة.

..................................................................

ثينت ساقها اليسرى ووضعتها فوق اليمني لتجلس القرفصاء على الأريكة، وباستخدام أصابعها قامت "حمدية" بفرك وتدليك قدميها المتورمتين، أصدرت أنينًا عاليًا من جوفها ونظراتها تجول على وجه "آمنة" الشــارد، تفحصتها بعينين فضوليتين، كانت تعلم أن الأخيرة بها خطب ما، فجلوسها صامتة بتلك الملامح الواجمة يؤكد لها إحساسها، مهدت للحديث معها قائلة بنبرة تعمدت أن تظهر فيها تعبها:

-أما كانوا يومين ما يعلم بيهم إلا ربنا، الواحد قال يروح البلد يشم نفسه شوية يبص يلاقي النكد في ديله.

اكتفت بهز رأسها كتعبيرٍ عن استماعها لها، بينما تابعت "حمدية" مسترسلة بأسلوب يشدها للحوار وتلك النظرات اللئيمة تكسو حدقتاها:

-عارفة يا "آمنة" الولية اللي اسمها "حنان" مرات "رياض خورشيد" اللي كان مات من قريب.

ضاقت عيناها متسائلة باهتمامٍ:

-أه، مالها؟

التوى ثغرها بابتسامة ماكرة لنجاحها في الاستحواذ على انتباهها، اختفت تلك البسمة سريعًا ليحل الحزن المصطنع على تعابيرها قبل أن تقول موجزة:

-ماتت.

لطمت "آمنة" على صدرها مرددة في صدمة مفجوعة:

-يا ساتر يا رب، امتى ده حصل؟

زمت شفتيها تجاوبها:

-اليومين اللي فاتوا، راحت تزور باين قرايب جوزها، وماتت عندهم.

قالت في أسفٍ:

-إنا لله وإنا إليه راجعون.

أضافت بنبرة خالية من أي تعاطف:

-ولسه مش عارفين هايعملوا إيه مع بنتها، ما إنتي عارفة سلو بلدنا في الحاجات دي

ردت عليها بتنهيدة حزينة:

-ربنا يتولاها

وبخبثٍ مكشوف سألتها مباشرة:

-مقولتليش صحيح، إيه اللي حاصل مع بناتك؟

لم تكن "آمنة" في مزاج رائق يسمح لها بالفضفضة العفوية معها، كانت تخشى من البوح معها بما آلم بعائلتها في الأيام الماضية فتستغل الموقف كعادتها وتزيد من تعقيد الأمور، لذا تهربت من الإجابة عليها، وقالت وهي تنهض من على الأريكة لتسير بتؤدة نحو المطبخ:

-زمانت الأكل سخن، هاطفي النار عليه

نظرت لها "حمدية" في غيظٍ مكبوت، وما إن اختفت عن عينيها حتى غمغمت مع نفسها بتبرمٍ:

-بتتلاوعي عليا يا "آمنة"؟! مسيري هاعرف، ده مافيش حاجة بتستخبى عليا!

....................................................................

انتهى من تدخين سيجارته الرابعة أو الخامسة، لم يعر الأمر أي اهتمامٍ زائد، فكامل تركيزه كان منصبًا على أمر آخر، ولكنها كانت وسيلته المؤقتة للتنفيس عن التوتر الغريب الذي اعتراه. راقب "تميم" الطريق بعينين حادتين ممعنًا النظر في الأوجه التي تمر أمامه، حيث انتقى تلك البقعة تحديدًا لتمكنه من رؤيتها حينما تعرج من أي اتجاه، تفحص جيبه الممتلئ بلزمة لا إرادية كل بضعة دقائق، انتصب جسده واشتد كتفاه حين أبصرها قادمة من على بعدٍ، ألقى بسيجارته ودعس طرفها بقدمه ليطفئها، ثم تأهب في وقفته. تنحنح "تميم" بخشونة طفيفة ليزيح تلك الحشرجة التي تغلف أحباله الصوتية، وبدا إلى حد ما مستعدًا لمواجهته مجددًا معها.

لم تكن "فيروزة" منتبهة لذاك الظل الواقف على مقربة من منزلها وفي تلك البقعة المعتمة، كانت مستغرقة في أفكارها المهمومة محاولة توفيق أوضاعها وفق ما توفر معها من ماديات بعد بيع كل ما يخص عربة الطعام من أدوات ومستلزمات الطهي، تسمرت في مكانها مذعورة حين أقبل عليها أحدهم بهامته الطويلة، في البداية لم تتبين ملامحه، ودق قلبها بخوفٍ طبيعي، وما إن انعكس الضوء الباهت على قسماته حتى اتضحت قسماته المألوفة؛ إنه ذاك الوغد الذي أفسد عليها حياتها! حقًا كان بارعًا في إفزاعها بخروجه المفاجئ من الظلام ليغدو في لحظة أمامها، تداركت خوفها الغريزي وتطلعت إليه بنظرات حانقة قبل أن تصيح فيه بقوةٍ مهاجمة إياه:

-إنت بتراقبني؟

نظر لها بجمودٍ تاركًا لها الفرصة لتفرغ ما في جعبتها من كلماتٍ ناقمة، وكذلك ليتمكن من ضبط تلك المشاعر الحسية التي هاجمته بشكلٍ غير متوقع، واصلت "فيروزة" صياحها الغاضب فقالت:

-فكرك أسلوب المجرمين ده هيخوفني؟ يبقى إنت متعرفنيش كويس، أنا ورايا ناس ...

رفع "تميم" كفه أمام وجهها ليخرسها بصيغة شبه آمرة:

-ابلعي ريقك شوية، أنا جاي في كلمتين وماشي

ردت معترضة بشراسةٍ على أسلوبه الفظ معها:

-مش إنت اللي هاتقولي أتكلم امتى وأسكت امتى.

نفخ في استياءٍ فاستغلت الفرصة لتضيف بغضبٍ ظاهر على وجهها المتشنج:

-ومش هتنازل عن أي محضر مهما حصل!

كانت نظراته نحوها غامضة ممتزجة بالقسوة، وبكل ترفعٍ علق عليها:

-محدش قالك اتنازلي.. مش المحضر بتاعك ده اللي هايفرق معايا.

اغتاظت من ازدرائه الملموس في طريقة تحدثه معها، وقبل أن تبادر بالكلام مجددًا هتف بهدوءٍ:

-أنا جاي في حاجة تانية خالص.

تبدلت تعبيراتها للاندهاش، ورفعت حاجبها للأعلى متسائلة بنفس النبرة المتعصبة:

-خير؟

لا يعرف لماذا ظلت عيناه مشدودة لوجهها المليء بأمارات الغضب، وكأنه يدرسه، يتمحصه، يفحص كل ذرة فيه على حدا، بات من العسير عليه أن يكبح تلك التأثيرات الحسية التي تجتاحه على نحوٍ مقلق وغير اعتيادي. تنفس بعمقٍ ليكبت ما يعتريه ويوؤده في مهده، ثم استطرد موضحًا بنبرة باردة وكأن أمرها لا يعنيه حقًا:

-أنا جاي أعوضك عن اللي حصل لعربيتك.

رددت في اندهاشٍ مذهول من عرضه المفاجئ وقد تعقد جبينها:

-تعوضني؟

أخرج "تميم" من جيب سترته المغلف الأصفر المطوي إلى نصفين، ومد به يده نحوها قائلاً:

-اتفضلي.

تجمدت يداها ولم تحركهما قيد أنملة، وكأن جسدها بالكامل قد تحول لتمثال حي، نظرت له بعينين غاضبتين متسائلة بوجهها المقلوب:

-إيه ده؟

لوح بالمغلف وهو يجيبها في بساطةٍ:

-فلوس، بدل عربيتك المحروقة.

ابتسمت في تهكمٍ غير مصدقة عرضه الذي بدا من وجهة نظرها سخيفًا ولا معنى له سوى إذلالها بشكلٍ متعمد، رفعت رأسها للأعلى في كبرياءٍ، ثم سألته بما يشبه السخرية:

-مش سيادتك أنكرت إن ليك صلة بالموضوع من الأساس، جاي تدفعلي تعويض ليه بقى؟!

ارتبك لوهلةٍ لسؤالها الصريح، ومع ذلك حافظ على ثبات نبرته وهدوئها وهو يبرر لها:

-لأني مرضاش بخراب البيوت لحد.

التوت شفتاها في ابتسامةٍ مستهجنة، ثم علقت بنبرتها الساخرة وهي تطالعه بنظراتٍ احتقارية واضحة:

-عاوز تقولي إنك يا حرام قلبك رق وصعبت عليك بعد اللي حصل فقولت أطلع قرشين للغلبانة دي أتعطف بيهم عليها، وأهي تبقى بجميلة وأعرف أكسر عينها كويس!!!

صدمته واقعيتها وأفسدت مخططاته العادية بتزمتها الحاد، كان يعتصر عقله ليجد الكلمات المناسبة التي يعلل بها تصرفه، فهي تركيبة نسائية عجيبة لم يقابلها في حياته من قبل، أخرجته من صمته حين هتفت بنبرة اكتسبت قساوة أكبر:

-شكرًا يا حضرت، أنا ما بأقبلش العوض ولا الإحسان من حد..

-بس أنا قصدي..

قاطعته بغصة شعرت بألمها في حلقها:

-محصلتش إني أشحت على نفسي!

دافعت بعزة نفس عن كبريائها الذي جرحه بعرضه السخي، تفهم موقفها ولم يعلق بشيء، لكنها أفسدت احترامه لموقفها بقول:

-خلي فلوسك في جيبك، وابقى ادفعهم للمحامي عشان يطلعك من السجن.

احتقنت نظراته من بشاعة لسانها السليط، لم يكن قد تجاوز بعد عن صفعتها، وحاول تخطيها مرغمًا لينسى كل ما يخصها بإنهاء المسائل العالقة بينهما، لكنها تعيده إلى ذروة الخلاف بحماقتها وتهورها، استطاعت برعونتها أن تستثير حميته فعنفها بحدةٍ وقد توحشت عيناه:

-الواحد غلطان إنه بيعمل معاكي أي واجب.

ردت ببرودٍ:

-مش عاوزة، خليهولك!

نظرة احتقارية له أطلت من عينيها جعلته يستشيط غضبًا، تركته يغلي في مكانه قبل أن يتحول لوحش كاسر ويهاجمها إما لفظيًا أو بدنيًا، فتجربتها السابقة معه توحي بذلك، خاصة مع عدم وجود من يدافع عنها إن تطلب الأمر تدخلاً سريعًا، بدأت "فيروزة" تسير مبتعدة عنه بخطا متعجلة غير مبالية بنظراته النارية المصوبة نحوها. كان "تميم" على وشك التحرك وهو بالكاد يكبح انفعالاته المستثارة، لكنه أدار رأسه في اتجاهها ليقول لها بنبرة عالية:

-عارفة، إنتي عاملة زي الطاووس بالظبط!

استوقفتها جملته الغريبة فالتفتت نحوه تسأله:

-نعم..

تابع موضحًا بما يشبه التهكم عليها:

-أيوه، إنتي مغرورة ومناخيرك لفوق، مالكيش كبير، ومابتسمعيش لحد، ولسانك سابق دماغك، وصدقيني ده هيضيعك.

تفاجأت من تحليله لشخصيتها بتلك الصورة التي تضعها في قالب ترفضه، تماسكت حتى لا تظهر تأثرها بوقاحته، ونظرت له بتعالٍ وهي تعقب عليه:

-طب يا ريت تخلي نصايحك لنفسك، هتنفعك أكتر مني.

لاح على زاوية فمه ابتسامة ساخرة منها مما استفزها، فاندفعت قائلة بنزقٍ:

-أه، وبالمرة قول للست الوالدة ماتتعبش نفسها وتيجي تهددنا تاني، أنا هاخد حقي منك وبالقانون!

بدا تأثير المفاجأة بائنًا على تعبيراته التي تحولت للوجوم وهو يردد:

-إيه الكلام ده؟

شعرت "فيروزة" أنها كسبت تلك الجولة لصالحها، فارتخت قسماتها وانعكس عليها القليل من الزهو، ثم قالت ساخرة وتلك النظرة المنتصرة تتراقص في حدقتيها:

-مش معقول متعرفش بده، غريبة!

اشتد في وقفته، ودنا منها خطوتين ليسألها بصوتٍ قاسٍ:

-فهميني هنا، معناه إيه كلامك البايخ ده!

حذرته بتهديدٍ صريح وهي تتراجع للخلف:

-عندك! متقربش مني وإلا هاعملك محضر تحرش وبدل السنة هتبقى عشرة!

نظر لها بعينين مغلولتين مستنكرًا بجاحتها، أهذا جزاء معروفه معها؟ ردد لنفسه في ضيقٍ، بينما تابعت "فيروزة" بنبرة تهزأ به:

-وإنت ماشاء الله سوابق، وسمعتك سبقاك.

أوصلته بنزقها المستفز إلى درجة جعلت من الصعب عليه السيطرة على غضبته الوشيكة، غالب "تميم" ما يعتريه من مشاعر حانقة ومستثارة حتى لا يتصرف بطيشٍ .. وبصوتٍ أجش رن صداه في أذنيها بقوةٍ قال لها متعهدًا:

-بكرة السوابق ده هيكسر مناخيرك ويجيبها الأرض .................................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة