-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل التاسع عشر

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل التاسع عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل التاسع عشر

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل التاسع عشر

 حالة من الحنق، الغيظ، السخط سيطرت على كامل جوارحه واختلطت بغضبه المكتوم لتتشعب في كل ذرة من جسده بعدما أخبرته "فيروزة" بشأن زيارة والدته غير المستساغة لها، لم يحبذ مطلقًا أن يوضع في ذلك الموقف الحرج، وبجهد مضاعف ضبط انفعالاته ليبتعد عن المكان قبل أن يرتكب ما قد يندم عليه لاحقًا بسبب نجاحها في استفزازه بتسلطها الحاد. كور "تميم" قبضة يده ضاغطًا على أصابعه بقساوةٍ، ســار بمحاذاة الكورنيش لوقت طويل حتى تخبو تلك النيران المستعرة بداخله فلا يعود لمنزله وهو على وضعه الحالي، استياء عظيم شعر به لفشله في تحقيق ما كان يصبو إليه، قادته قدماه خلال طريق عودته إلى العربة المحترقة، تجمد أمامها وحملق فيها طويلاً بعقلٍ شبه شــارد، ورويدًا رويدًا بدأت ثورته المتأججة نحوها تخبو لتتحول نحو رفيقه الذي أحدث تلك الكارثة، بدا كمن أصابه البرق فانتصب في وقفته وغير مساره ليتجه نحو منزل "ناجي"، توقع مكوثه بالسطح ليلهو كعادته كل مساء، صعد الدرجات سريعًا، وقف عند أعتاب مدخله وألقى نظرة شاملة على من فيه، وكما صدق حدسه، فقد كان متواجدًا بصحبة "حمص"، و"شيكاغو"، صاح عاليًا لينتبه ثلاثتهم لوجوده:

-سلامو عليكم

على الفور نهض "ناجي" من جلسته المسترخية مهرولاً نحوه وهو يرحب به:

-أهلاً بكبير منطقتنا، نورت المكان كله.

مد يده لمصافحته، وجذبه الأخير نحوه ليحتضنه، ثم دعاه للجلوس قائلاً:

-تعالى، ده الأعدة الحلوة لسه هتبتدي.

نظر له بعينين غائمتين ووجه عابس، لم يكن راغبًا في السهر أو المكوث معه، فمجيئه فقط كان من أجل مهمة محددة، لذا سار بتثاقلٍ نحو الوسائد المحشوة التي تفترش السجاجيد بزاوية السطح، رحب به التابعان بودٍ زائد، اكتفى بالابتسام المتحفظ لهما، صاح "شيكاغو" عن ثقة وتلك البسمة اللزجة تعلو ثغره:

-اطمن يا معلم، الحكاية عندنا..

وأضاف عليه "حمص" متخذًا موضعه في الحوار:

-وزي ما ورطناك هنحلها بطريقتنا.

التفت نحوه يطالعه بنظرات قاسية رافضًا الغموض الذي يغلف كلماته، وهتف ينذره بخشونةٍ:

-طريقتكم!! أنا مش عاوز شغل عوأ وبلطجة تاني مع الحريم!

أجابه "حمص" نافيًا:

-لأ يا كبير، دي حاجة في السليم، ومضمونة.

اقترب منه "شيكاغو" ليقول بخبثٍ من بين أسنانه المتسخة:

-وبعدين ده احنا تحت طوعك يا معلم "تميم"، ومطرح ما تودينا نروح واحنا مغمضين.

هز "حمص" رأسه مؤكدًا هو الآخر:

-أيوه، رقبتنا فداك يا كبير.

نظر لهما بعدم ارتياح، وشدد من جديد بلهجته الجادة:

-ماشي، بس أديني قولتلكم أهو، عشان محدش يلومني لما اتصرف بعد كده.

قال له "شيكاغو" دون تفكير:

-فداك يا كبير.

قبض "ناجي" على ذراع "شيكاغو" وسحبه منه لينزوي به بعيدًا عن عيني "تميم" المراقبة له، وبنبرة أقرب للخفوت سأله:

-عرفت هتعمل إيه؟

جاوبه بصوته الخفيض دون أن تفتر ابتسامته السخيفة:

-أيوه، كله زي ما فهمتنا يا ريس "ناجي".

ارتخت أساريره المشدودة، وقال له:

-طيب، عاوز البشارة تجيلي قريب.

رد يطمئنه عن ثقة واضحة:

-قريب هاتسمع اللي يفرحك، بس ماتنسناش في عرقنا.

علق في سخطٍ:

-أما تتنيل تحلها تبقى تتكلم، بلاش تقاطع يا فقري

قال بتملقٍ، وكأنه بذلك يكسب وده:

-ولو ببلاش يا معلم، مايهمكش، اعتبرها عربون محبة وتصالح

هز رأسه في استحسانٍ، ثم اختطف النظرات نحو "تميم" الذي تمركز جالسًا على الوسائد، تنحنح بصوته الخفيض وأشار بعينيه لـ "شيكاغو" ليبتعد عنه، أحضر نارجيلته ودنا منه وهو يحملها، افتعل الضحك ملقيًا دعابة خارجة، لكن لم يضحك رفيقه، بل بدا أكثر وجومًا، وسأله مباشرةً ليشعره بأنه يراقبه عن كثب:

-مقولتليش هتعمل إيه ؟

تلجلج قليلاً وهو يجيبه:

-كل خير يا صاحبي، اطمن..

حذره بجديةٍ واضحة:

-يا ريت ماتكونش مصيبة جديدة تحط على دماغي!

هتف نافيًا ليبدد شكوكه:

-لأ، دي حاجة مضمونة يا "تميم"، متقلقش!

وبالرغم من كلماته الباعثة على الاطمئنان إلا أنه لم يشعر بذلك الإحساس الذي يسعى رفيقه بكل جهده لبثه فيه، بل انتابه هاجسًا مزعجًا أن الأمور تتجه للتعقيد أكثر، وربما للأسوأ، خاصة بعد مواجهته الأخيرة مع صاحبة الرأس العنيد؛ "فيروزة".

.................................................

كارثة بكافة المقاييس حلت على رأسها، وبالكاد ستقضي على سند عائلتها إن لم تتنازل عن عجرفتها وكبريائها الذي تعتد به لأجل فلذة كبدها، انخلع قلبها خوفًا عليه، وتهدجت أنفاسها فور معرفتها بما آلم به من مصيبة لن يخرج منها بسهولة، استطاعت بصعوبة أن تتمالك نفسها لترتدي ثيابها وتفكر بذهنٍ غير مشوش حتى تصل لحل ينقذه مما بات فيه، هرولت "بثينة" نحو منزل شقيقتها لتستنجد بها بعد أن هاتفها ابنها ليخبرها بإلقاء القبض عليه بالقسم الشرطي في تهمة لم يفصح لها بعد عن فحواها، استقبلتها "ونيسة" بترحابها المعتاد متجاوزة عن أي خلاف حدث من قبل، وتفاجأت بها تبكي بحرقةٍ وهي ترجوها أن تتدخل لإنقاذ ابنها، لم يكن أمامها سوى اللجوء لزوجها ليساعدها، تركتها تجلس بمفردها في الصالون بعد أن أعدت لها عصير الليمون لتشربه وتهدأ، سارت عبر الردهة لتدخل إلى غرفة النوم حيث يستلقي "بدير" في قيلولة قصيرة، توقفت في مكانها مترددة، لم تكن راغبة في إيقاظه خلال لحظاته المقدسة تلك، لكن لا مفر، استجمعت جأشها، وتقدمت نحوه، وبكل رفقٍ هزته من جانبه هامسة له:

-حاج "بدير"! إنت صاحي يا حاج؟

نظر لها الأخير بنصف عين، تقلب على جانبه، وبصوتٍ ثقيل نائم سألها:

-في إيه يا "ونيسة"؟

بصوتٍ متذبذب أجابته:

-معلش ممكن تفوقلي كده شوية، أنا عاوزاك في مسألة مهمة

انتفض في نومته يسألها والقلق قد غطى ملامحه من طريقة حديثها:

-"تميم" جراله حاجة؟ الدكان فيه مصيبة؟ البضاعة باظت؟

ردت بالنفي:

-لأ يا حاج، الشر برا وبعيد عننا، ابننا بخير، والدكان زي ما هو.

نظر لها بغضبٍ وهو يوبخها:

-أومال مصحياني ليه يا ولية السعادي؟

أجابته على استحياءٍ:

-أصل "بثينة" برا، وكانت آ.. عاوزاك.

تقلصت تعابيره واكتست بأمارات الانزعاج وهو يدمدم بتأفف:

-هي الحكاية فيها أختك، خير عاوزة إيه؟

اعتدل "بدير" في نومته، ونظراته المستاءة ما زالت تحتل وجهه، استقامت في وقفتها وردت:

-أصل الواد "هيثم" واقع في مشكلة، وآ....

قاطعها بتبرمٍ:

-يادي الزفت الحرامي ده اللي ما بيجيش من وراه أي خير!!

ربتت على كتفه تستعطفه:

-أنا عارفة يا حاج إن بلاويه كتير، بس إنت كبيرنا، وفي مقام أبوه، ولو موقفناش معاه الواد هيضيع.

علق في سخريةٍ، وقد تقوست زاوية فمه بابتسامة متهكمة:

-تقوليش هو ماشي عدل، ما هو ضايع خلقة!

حاولت استرقاق قلبه، فقالت له بلطفٍ:

-معلش يا حاج، مالوش غيرك بعد ربنا، وأمه مكسورة الجناح

هتف معترضًا على كلماتها الأخيرة:

-دي مكسورة الجناح؟ أختك ومن غير زعل كده يتفتلها بلاد، كتلة شر ماشية على الأرض.

ردت بانكسارٍ ملموسٍ في نبرتها:

-هي أختي بردك ومالهاش غيري.

أزاح "بدير" الغطاء عن جسده، وأخفض ساقيه ليهبط عن الفراش قائلاً لها:

-عشان خاطرك يا "ونيسة" هاروح أشوفها، مع إني كنت مقرر ما اتحشرلهاش في حاجة بعد اللي عمله ابنها.

سارت خلفه تثني على معروفه الكبير:

-ربنا يخليك لينا يا حاج، طول عمر قلبك طيب وبيسامح.

.................................................................

أخفض "هيثم" رأسه في خزي أمامه بعد أن تدخل لإخراجه من محبسه ودفع تكاليف الإفراج عنه منهيًا الخلاف القانوني مع ذاك الشخص الذي اعتدى بالضرب عليه خلال نوبة غضب عمياء، تملكته عزة نفسه وأفرغ في الأخير ما يعتريه من مشاعر عدائية غير مكترثٍ بتبعات جنونه الجامح، لكن لحنكة المحامي البارع، وأساليبه الجيدة في الإقناع، انتهت الأمور على خير. تطلع إليه "بدير" بنظرات المتفحصة، بدا وجهه جادًا، متصلبًا، خاليًا من مظاهر التعاطف، وبصوته الأجش هتف قائلاً للمحامي:

-متشكرين يا أستاذ، مدوخينك معانا كل يوم

رد مجاملاً:

-ده شغلي يا حاج، وأنا تحت أمرك في أي حاجة

-تسلم

تنحنح مستأذنًا:

-طيب يا حاج "بدير"، هاروح أنا أشوف مصالحي، ولو في أي حاجة ضرورية كلمني

صافحه في ودٍ:

-ماشي يا سي الأستاذ، في رعاية الله

انتظره حتى اختفى من أمام أنظاره ليستدير في اتجاه "هيثم"، رمقه بنظرة احتقارية قبل أن يستطرد:

-أفتكر كده إني عملت معاك الواجب وزيادة.

رد عليه على مضضٍ:

-أيوه.

تابع مضيفًا بازدراءٍ محسوس في نبرته:

-حد غيري مكانش سأل فيك بعد قلة أدبك وسرقتك ليا..

برقت عينا "هيثم" من جملته تلك، لكن ما لبث أن غلف نبرة "بدير" قدرًا من العطف وهو يكمل:

-بس أمك مالهاش ذنب يتحرق قلبها عليك، ولا أنا كلامي غلط؟

اعتذر في ندمٍ لم يكن يبدو أنه حقيقي:

-غلطة يا جوز خالتي.

استهزأ به في تهكمٍ:

-أها، لأ وواضح إنك ماشي على الصراط.

لم يعلق عليه وضغط على شفتيه بامتعاضٍ بائن متحملاً سخافاته، بينما لانت نبرة "بدير" قليلاً حين قال له:

-أنا نفسي حالك يتصلح، وتبقى زي باقي الشباب بتراعي لقمة عيشك وبتحوشلك قرشين عشان تتجوز بيهم، ولا عاجبك التسيب اللي إنت فيه ده؟

أظهر اتفاقه معه وردد قائلاً:

-لا يا جوز خالتي، أنا عقلي مكانش فيا، بس إن شاءالله أتغير.

ابتسم في أمل:

-يا ريت.

اضطر "هيثم" أن يجاريه بحماسٍ مصطنع في آماله الواهمة ليغير من مسار حياته الطائشة طوال سيره معه فقط ليخدعه، ودون أن يظهر حقيقة أنه يضمر له كل شر وحقد.

...............................................................

مراقبة حثيثة، ونظرات متربصة قاما بها خلال الفترة الماضية ليرصدا كافة تحركاته، باتا يعرفان عنه ما يلزم للقيام بمهمتهما التالية، والتي خططا لها جيدًا حتى لا يقعا في الفخ .. كان الأمر بسيطًا بالنسبة لهما، هما اعتادا فعله في أول حياتهما الإجرامية؛ سرقة احترافية لأحد الموظفين ممن يخرجون من البنك حاملين لحقيبة جلدية متخمة بالنقود، وكان "خليل" ينتمي لذلك النوع الروتيني من الأشخاص مما سهل الأمر عليهما كثيرًا، وللمصادفة العجيبة كان اليوم هو الميعاد المخصص لمنح أجور العاملين، انتظراه على مقربة من البنك ريثما ينهي الإجراءات والمعاملات البنكية ليتبعا خطواته المحفوظة خلال انتقاله في السيارة التي تعود به إلى مقر عمله، وباتفاقٍ مسبق تم إبرامه مع السائق وزميله نظير مبلغ مادي معقول دخلت الخطة في حيز التنفيذ.

وقبل أن يصل "خليل" إلى وجهته، وعند ذلك المكان الخاوي المحفوف بالأشجار العالية، قطع "حمص" و"شيكاغو" الطريق عليه. أظهر السائق فزعه ليبدو مقنعًا، ونظر إلى الاثنين الملثمين اللذين يحملان أسلحة في يديهما بخوفٍ شديد. صــاح "حمص" عاليًا وهو يصوب سلاحه الناري نحو رأسه:

-اركن على جمبك وإلا هاطير نافوخك!

لم يكن أمام السائق سوى الانصياع له، ترجل من السيارة بعد أن صفها في تلك البقعة الخالية من المارة وهو يدعو الله ألا يزهق روحه، ضربه بشراسةٍ على مؤخرة عنقه لينكفئ على وجهه وهو فاقدٌ للوعي، في حين تحرك "شيكاغو" نحو الموظف الآخر الجالس ملتصقًا بـ "خليل" يصيح به:

-انزل.

رفع الأخير يديه في الهواء يرجوه في مذلةٍ:

-ماتموتنيش، أنا عندي عيال بأربيهم! خدوا فلوسي، ساعتي، موبايلي بس سبوني أعيش!

قال له "شيكاغو" بعينين تقدحان شرًا:

-أنا مش جايلك إنت..

وتركزت عيناه المخيفتان على وجه "خليل" الشاحب، بدت نبرته واضحة وأكثر إرعابًا وهو يضيف بكلماته الموحية:

-حوارنا كله مع الخال!

ثم غمز له بطرف عينه وهو يكمل:

-ولا إيه يا عم "خليل"؟ مش ده اتفاقنا؟

انقبض قلب "خليل" وهوى بين قدميه من شدة خوفه، لم يفهم ما يحدث حوله أو مقصده من تلك التلميحات الكارثية، لكنه شعر بدمائه تفر هلعًا من عروقه، بينما تطلع الموظف بغرابةٍ إلى زميله مبديًا استرابته في أمره، وكأن الشكوك تساوره حول كون تلك السرقة المدبرة، وقبل أن يستوضح الأمر ببديهية لتنطلي التمثلية أكثر قفز فزعًا في مكانه حينما صرخ به "شيكاغو" بصوته الآمر الذي زاد من رجفة القلوب:

-انزل وما ترغيش، وإلا إنت الجاني على روحك!

-حــ.. حاضر.

قالها الموظف وهو يمسك بيدٍ مرتجفة مقبض الباب لينزل من السيارة، أمسك به "خليل" ليجبره على البقاء معه وهو يهمس له بصوته المرتعب:

-ماتسبنيش، خليك معايا.

نفض قبضته المرتعشة عنه، وقال له غير مبالٍ بما سيحدث له:

-يا عم سيبني، الواحد روحه على كف عفريت!

ترجل من السيارة ووقف في الخلاء رافعًا ذراعيه للأعلى كتعبيرٍ عن استسلامه وخنوعه، اقترب من خلفه "حمص" وضربه بقوة على رأسه ليوقعه أرضًا، وانفرد كلاهما بـ "خليل" الذي تشبث بالحقيبة وضمها إلى صدره بالرغم من الارتعاشة القوية المسيطرة على بدنه. ثبت "شيكاغو" فوهة سلاحه أمام وجهه وهو يطل عليه من نافذة السيارة، وقال له بصيغة آمرة:

-سلمني الفلوس اللي معاك يا "خليل".

اندهش مجددًا من ترديده لاسمه وكأنه يألفه، نظر له في حيرة، ومع ذلك تعلق بالحقيبة أكثر وهتف يستعطفه بصوته المرتجف:

-دي مرتبات الموظفين، وهما.. ناس غلابة و...

قاطعه بصوته الخشن:

-ماليش فيه، هاخدها يعني هاخدها.

سلمها له طواعية حتى لا يخسر حياته وقد أدرك حجم الخطر الكامن فيه، ولكن تصلب جسده في مكانه مصدومًا وهو يقول له بغموضٍ أربكه:

-بس يكون في معلومك، إنت هاتشيل الليلة دي يا "خليل"!

بهتت ملامحه أكثر، وتلعثم متسائلاً:

-أنا ...؟

فسر له ببساطةٍ:

-هو إنت مادرتش إن اللي معاك هيشهدوا عليك إنك سرقت الفلوس وعملت الحوار ده كله عشان تطلع بالمصلحة دي

هدر نافيًا عنه تلك التهمة الباطلة:

-كدب، إنتو هجمتوا علينا و...

كركر "حمص" ضاحكًا قبل أن يقاطعه في انتشاءٍ:

-هتروح في داهية يا "خليل"، ومحدش هيصدقك.

تضاعف خوفه من تلك المصيبة المهلكة، استدارت رأسه في اتجاه "شيكاغو" الذي بادر موضحًا له مباشرة:

-وكله بسبب بنت أختك، شوفت بقى!

ردد مدهوشًا وقد برقت عيناه على الأخير:

-بنت أختي؟

قست تعابير "شيكاغو" حين أكمل له:

-ما هو اللي يعادي أسياده لازم يتجاب الأرض!

لعق شفتيه وحاول ابتلاع ريقه الجاف مغمغمًا:

-أنا.. مش فاهم حاجة.

ضربه "شيكاغو" بقساوة في جانب كتفه وهو يهينه:

-هتعمل فيها غبي بروح أمك!

تأوه "خليل" من الألم المباغت، وتحمله مرغمًا ليرد مدافعًا:

-أقسم بالله ما أعرف حاجة، عملت إيه بنت أختي؟

نظر له "شيكاغو" بشراسةٍ وهو يجيبه مهددًا:

-من الآخر كده يا "خليل"، وعشان نقطم الليلة دي، بنت أختك تتنازل عن المحاضر اللي عملاها في الريس "تميم"، وإلا هتخش إنت مكانه!

ارتعشت شفتاه وهو يرد:

-بنت.. أختي

قال "شيكاغو" في عدائية ساخرة:

-أيوه، بياعة الكبدة!

هتف "حمص" من الجانب الآخر للسيارة:

-والفلوس دي رهن، تنفذ كلامك هترجع وكأن مافيش حاجة حصلت.

استأنف "شيكاغو" تهديده العلني قائلاً:

-معاك لبكرة الصبح، وإلا زمايلك هيطلعوا على النيابة يشهدوا عليك، ما إنت اللي سرقت الفلوس، وده حوار فاكس معمول!

أيده "حمص" الرأي:

-بالظبط.

وجد "خليل" صعوبة في استيعاب الموقف والإمساك بأطراف خيوطه، هتف بتلعثمٍ عله يمنحه المزيد من التفسيرات:

-أنا... بس..

قاطعه "شيكاغو" بغلظةٍ شديدة:

-مات الكلام!

ثم ضربه بمؤخرة سلاحه بعنف في جيبنه ليفقده الوعي لتكن آخر ما تلتقطه أذناه قبل أن تغيب الصورة عن ذهنه:

-سلام يا خـــال!

......................................................

في كل غيظ الدنيا وحنقها ســار "خليل" مترنحًا بعد أن استعاد وعيه يعبر الطرقات حتى عــاد إلى المنزل، نزع رابطة عنقه عنه وألقاها في الطريق، وفتح أزرار قميصه حتى انكشف صدره، لم يعبأ بالهواء البارد الذي يضربه، كان غضبه المستعر يحتاج لأطنانٍ من الثلوج ليخمده، ومع إن وطأ المدخل حتى اندفع كالثور الهائج يصعد الدرجات بسرعة، توقف أمام أعتاب المنزل، لم يمنح نفسه الفرصة لالتقاط الأنفاس، بل استند بكفيه على الباب يدق عليه بعنفٍ وهو يصرخ مناديًا:

-افتحي الباب يا "آمنة"! أنا عرفت كل حاجة!

كانت صرخاته متواصلة ومرعبة في نفس الآن، حملقت فيه أخته في ذهولٍ بعد أن فتحت له، سألته بتوجسٍ وقد رأت الحالة المزرية التي عليها:

-في إيه يا "خليل"؟ بتزعق ليه؟ ومالك مبهدل كده ليه؟

دفعها بخشونة من كتفها ليلج للداخل فكادت تُطرح أرضًا من دفعته المباغتة، حافظت على اتزانها، والتفتت نحوه تسأله:

-إيه اللي حصل بس؟

تجاهلها وجال بنظراته المكان باحثًا عن ابنتي أخته، لم يجدهما أمام أنظاره، فاستدار نحو "آمنة" يصيح بها:

-بناتك فين يا "آمنة"؟ مخبياهم عني فين؟

سددت له نظرة غريبة مستنكرة ما يتفوه به، ومع ذلك أجابته بتلقائية:

-بناتي جوا، هاخبيهم ليه؟

وقبل أن تتحرك لتعترض طريقه، هرول بكامل عصبيته في اتجاه غرفة الفتاتين، ودون استئذانٍ اقتحمها صارخًا وهو يسبهما:

-عملتوا محاضر في مين يا ولاد الكلب؟

انتفضت "فيروزة" فزعًا من على الفراش حينما رأت خالها أمامها وقد اتسعت عيناها مذهولة من هيئته المهتاجة، بينما انكمشت "همسة" على نفسها وتراجعت عفويًا للخلف لتحتمي من بطشه، استشاط "خليل" غضبًا وهتف يسألهما من جديد:

-انطقوا عملتوا إيه من ورايا؟

فطنت "فيروزة" لمقصده دون الحاجة لاستيضاح الأمور، وقبل أن تبرر له تصرفها القانوني، هتفت "آمنة" في لوعةٍ معتقدة أنها بذلك تخفف من وطأة الأمور:

-بالله عليك يا "خليل" ما تعمل فيهم حاجة، كانت ساعة شيطان، وكل حاجة هتتحل

التفت نحوها بوجهه الحانق والصدمة تكسو قسماته، نظر لها في حقدٍ قبل أن يلومها:

-يعني كنتي عارفة إنهم عاملين مصيبة وسكتي؟

أسهبت موضحة الحقيقة من تلقاء نفسها بصوتها المهتز وقد تملكها الخوف من عدائيته التي تلوح في الأفق:

-ما أنا اتكلمت مع "فيروزة"، وإن شاء الله هتسمع الكلام وتتنازل عن المحضر، هي بس كانت آ....

لم يمنحها الفرصة لتبرير تصرف ابنتها الجريء، بل هجم على "فيروزة" قابضًا على كومة من شعرها، لفه حول ذراعه قاصدًا اقتلاعه ليؤلمها أكثر، صرخت من الألم الشديد، وحاولت تخليص نفسها من قبضته، وقبل أن تتملص منه كانت صفعة مدوية تهبط على وجهها، شهقت "همسة" خوفًا، وعجزت عن الدفاع عن أختها، بينما اندفعت "آمنة" بجسدها البطيء تذود عن ابنتها بطش أخيها الأهوج وهي ترجوه باستماتة:

-سيبها يا "خليل"، البت هتموت في إيدك!

توسلته "همسة" ببكاءٍ يدمي القلوب:

-حرام عليك يا خالي، "فيروزة" معملتش حاجة، خلينا نفهم اللي حصل

هدر بها بجنون:

-لأ عملت، ومش عاوز أفهم حاجة، كفاية إني هاروح في داهية بسببها

تضاعفت شراسته، ودفع بيده الأخرى "آمنة" عن طريقه لتصبح "فيروزة" في قبضته، ونال وجهها منه لكمة مباشرة ومؤلمة تركت آثارها الملتهبة على بشرتها، صرخت "فيروزة" مدافعة عن حقها المشروع:

-إنت ظالمني يا خالي، هما ولعوا في عربيتي، وحقي أنا بأخده بالقانون.

صفعها بعنفٍ على نفس الوجنة المتألمة رافضًا الإصغاء لها، ليقول بعدها بصوته المهتاج:

-كسر حقك 100 مرة، إن شاءالله يولعوا فيكي حتى، ملكيش دعوة بيهم، أنا في الآخر اللي بأشيل بلاويكم

بدا المشهد مفزعًا، مؤلمًا، وقاصمًا للأظهر .. لم تتحمل "همسة" بشاعته وتحركت لتنجد أختها التي نال جسدها من الأذى المزيد من الركلات والضربات، حاوطتها بجسدها وتحملت طيشه الأهوج حتى تكورت إلى جانب "فيروزة" على الأرضية وهي تئن من الوجع الشديد، تخدل ذراعا "خليل" من عنفه المفرط مع الفتاتين. توقف عن اعتدائه القاسي ليلتقط أنفاسه، توحشت نظراته أكثر وهو ينظر إلى أخته يأمرها بلهجته النافذة وبأنفاسٍ متهدجة وسبابته تلوح في الهواء:

-بنت الكلب دي هاتقوم تلبس وتنزل معايا دلوقت تتنازل عن المحضر...

انحنت "آمنة" على ابنتيها تبكيهما في مرارة وقهر، كانت مكتوفة الأيدي، لا تملك من القوة ما تحميهما به، رفعت رأسها فجأة نحو "خليل" لتحدق فيه بارتعابٍ مميت وهو يكمل تهديده للنهاية:

-وإلا هادفنها حية، وما هتعرفيلهاش تُربة ....................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل التاسع عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة