-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثامن

 كوعاءٍ موضوعٍ على موقد مشتعل ويحوي مياه تغلي حتى تقطعت اندفعت صاعدة إلى منزلها وكلماتها الحانقة تخرج من بين شفتيها، احتقنت نظراتها أكثر، واِربد وجهها بعلامات الغضب المحموم، وقفت "حمدية" أمام باب منزلها تفتش عن مفتاحها في محفظة يدها، تصاعد غضبها أكثر مع تذكر إهانة تلك المستفزة لها، همست قائلة وهي تكز على أسنانها

-والله لأولعها حريقة، وهانشوف مين هايضحك في الآخر يا بنات "آمنة"!

جال ببالها أن تشوه الحقائق وتختلق الأكاذيب، برقت عيناها بوهجٍ شيطاني لئيم، تحولت في لحظة لأفعى ماكرة تحيك المؤامرات لتوغر الصدور وتزرع الفتن، حاولت أن تستعيد أي ذكريات حزينة في رأسها لتساعدها على استدعاء عبراتها، ثم بدأت في النواح وهي تدس المفتاح في قفله، انفتح الباب فرفعت صوتها المنتحب قائلة بنبرة أقرب للتحسر:

-بقى دي آخرتها، أه ياني يامه، مكنش العشم!

رفع "خليل" أنظاره عن الأوراق المفرودة على الطاولة أمامه والتي بدا منهمكًا في دراستها ليتطلع إليها باستغرابٍ، ضاقت نظراته متسائلاً بفتورٍ محسوس:

-مالك يا "حمدية"؟

ألقت بجسدها على الأريكة ثم أحنت رأسها على صدرها لتخبئ وجهها خلف يدها، وواصلت نحيبها بنبرة كانت إلى حد ما مفتعلة، ضجر زوجها من مماطلتها فصاح بها بنفاذ صبرٍ:

-يا ولية في إيه؟

ادعت مسحها لدموع التماسيح الزائفة، وقالت له بندمٍ أثار حفيظته:

-شايف يا أخويا بنات أختك عملوا فيا إيه؟ كله بسبب طيبتي وحنية قلبي!

مل من ثرثرتها الزائدة عن الحد والتفافها حول أساس المشكلة، لذا هدر بها بتذمرٍ:

-ما تنطقي عملوا إيه الطواعين دول؟

جاوبت ما طرحه بمزيد من الغموض المستفز له:

-لأ وأنا اللي زي الهبلة نزلت أخد بخاطرهم وأقولهم يطلعوا يصالحوك والمياه ترجع لمجاريها

نفخ في استياءٍ من طريقتها الملتوية في الإشارة للأمور، حاول السيطرة على أعصابه ليسألها من جديد:

-أنا مش فاهم حاجة، وضحي كلامك.

تنحنحت قائلة بنبرة متقطعة متوسلة إياه:

-هاقولك يا "خليل"، بس بالله عليك ما تعملهم حاجة، هي غلطتي من الأول.

-ماشي

تركزت عيناه عليها وهي تسرد أكذوبتها المقنعة بما يجعلها في موضع المجني عليها وليس المتطفلة الخبيثة، حيث ادعت كذبًا أنها ذهبت للحديث مع ابنتي أخته لإعادة روابط الود بينهما وبين خالهما، لكن عاملت الاثنتان إياها بأسلوب فظٍ ووقح وتتطاولتا عليها بكلماتٍ مهينة مما أحرجها للغاية، استشاطت نظراته حنقًا مما سمعه، ببساطةٍ شديدة نجحت في استفزازه واستثارة أعصابه المتوترة .. ضرب بيده بعصبيةٍ على الطاولة لتهتز بما عليها صائحًا وقد هب واقفًا:

-أما بنات قليلة الأدب بصحيح متربوش ولا عرفوا تربية، عاوزين قطم رقبتهم..

أخفت عينيها الماكرتين وهي تكمل:

-ما هو لو كانوا بيعملولك حساب، كانوا احترموك وقدروا نزلة مراتك ليهم

حقًا كانت ماهرة في انتقاء الأسوأ من التعبيرات لتنشر الحقد والكراهية بين النفوس، تقدم نحوها "خليل" ليربت على كتفها وكأنه يهدئها، بدا صوته متهدجًا منفعلاً وهو يقول لها:

-معلش يا "حمدية"، حقك عليا..

أغاظتها تلك الكلمات التي أوحت لها بسلبيته تجاه الموقف، تضاعف إحساسها بالضيق منه، خشيت أن يخذلها ويقف كالمشاهد تاركًا إياها تحترق بغيرتها وحقدها، لهذا عمدتٍ إلى زيادة الطين بلة بالاسترسال قائلة:

-كله من أختك، لو كانت وقفتلهم ومنعتهم من المسخرة دي كانوا اتلموا، بس نقول إيه؟ هي اللي مشجعاهم على الفُجر ده، أل وعملالي متمسكنة وغلبانة، ياما تحت السواهي دواهي!!

عكست نظراته نحوها كراهية بائنة بعد أن تلفظت بتلك الجمل المليئة بالبغضاء، وجهه المشبع بغضبه ازداد تقلصًا، حملق فيها قائلاً:

-اصبري عليا بس أخلص مراجعة الجرد السنوي للمخازن وحسابات الموظفين وأفوقلهم...

التقط أنفاسه ليضيف بقسوةٍ متوعدة:

-وساعتها هاجيبهم تحت رجليكي يعتذرولك!

زمت شفتيها لتقول في عدم اقتناعٍ ونظرة ساخطة تظهر على تعبيراتها بوضوحٍ جلي:

-أما أشوف ...

...........................................

نفخ الهواء الذي استنشقه دفعة واحدة حينما وقف أمام أعتاب المنزل ليستعد نفسيًا لتلك المواجهة مع "خلود"، خطيبته التي تعشقه بكل جوارحها، تمنى أن تكون والدته قد عالجت الموقف الذي لا ناقة له فيه أو جمل سوى أنه وجد تلك الأشياء واحتفظ بها دون أن يعرف صاحبتها .. رفع "تميم" يده للأعلى ليقرع الجرس، تنفس بعمقٍ ورسم تلك البسمة الثقيلة الباردة على محياه ليبدو لطيفًا حينما ينفتح الباب، تأهبت حواسه وقد أطلت خالته منه ترمقه بنظرة عبرت عن امتعاضها، لاحظ تجمد نظراتها على الكدمة التي تزين وجهه، بدت كما لو كانت سعيدة لذلك، وبتكشيرة ظاهرة على جانب شفتيها سألته:

-إزيك يا ابن أختي؟

رد مرحبًا بها:

-الحمدلله، أخبارك إيه يا خالتي؟

تنهيدة بطيئة خرجت من جوفها قبل أن تقول:

-نحمده على كل حال..

سألها في لباقةٍ بعد أن لاحظ أنها تسد الطريق عليه لتمنعه من الدخول للمنزل بشكلٍ غير مباشر:

-مش هاتقوليلي اتفضل؟

تنحت ببطءٍ للجانب ليمر بجوارها ووجهها ما زال محتفظًا بتعابيره المزعوجة، التفت برأسه نحوها يسألها:

-"خلود" صاحية؟

أجابت في سخط:

-وهي من امتى بتنام الميعاد ده؟!

تصنع "تميم" الابتسام كبديلٍ عن الرد عليها، اتجه تلقائيًا للصالون حيث اعتاد الجلوس به حينما يلتقي بها، تبعته وكأنها ظله ثم جلست في مواجهته مسلطة عينيها عليه وهي تسأله مباشرة:

-قولي بقى، إنت ورا لوية بوزها؟

انزعج منها، ومع ذلك رد عليها متسائلاً بما يشبه المراوغة حتى لا يُشبع فضولها:

-هي قالتلك كده؟

هزت رأسها بالنفي وهي تجاوبه:

-لأ .. بس أنا خمنت.

استقام في جلسته واشتد كتفاه معقبًا عليها:

-طالما مقالتش يبقى متصدقيش كل حاجة تشوفيها يا خالتي!

اختلج وجهها من جملته تلك فحذرته بلهجةٍ شديدة:

-شوف يا ابن "بدير"...

ظهر الضيق عليه لمناداته هكذا، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو ثابت الملامح أمامها حتى لا يمنحها فرصة الاستمتاع بإزعاجه، في حين تابعت "بثينة" تهديدها الضمني بلهجة صريحة:

-اللي هيقرب من ولادي ولا يفكر يأذيهم هاقرقشه بسناني وأكل لحمه ني، واللي بس يمس شعرة منهم هيلاقيني واقفة في وشه، كفاية أوي خسارتي في أبوهم زمان بسببكم!

ظل كعادته رابط الجأش قبالتها حينما تشرع في الحديث عن الماضي وإلقاء التهم على الآخرين متغافلة عن قصدٍ عن حقائق الأمور، ثم رد عليها ببرودٍ وكامل عيناه مثبتة عليها:

-بلاش نفتح لبعض الدفاتر القديمة!

نهضت من أمامه تقول:

-أديني بأعرفك، زعل "خلود" مش هاسكت عليه!

رمقها بنظرة جافة وهو يؤكد لها:

-اطمني .. أنا مش من النوع ده، بس شكلك نسيتي مين ابن الحاج "بدير"!

تطلعت إليه بعينين حادتين، ما زال قادرًا على الاحتفاظ بكرامته دون مساس، بدا وكأنه قد سيطر على الموقف واستعاد قدرته على التحكم بمجريات الأمور مع كلماته الأخيرة تلك، اكتست خلجاتها بقليلٍ من الضيق وهو يضيف بوقاحةٍ:

-ومعلش ناديهالي، أصلي مش فاضي!

انصرفت منه أمامه لتستدعي ابنتها التي كانت مشغولة بإجراء مكالمة هاتفية مع ابنة خالتها، لوحت "خلود" بيدها لأمها كتعبير عن فهمها لإشارتها، تغيرت كليًا عن الصباح، كانت أكثر ارتياحًا وهدوئًا، حتى بكائها غير المفهوم قد تلاشى وكأن شيئًا لم يحدث .. وبيدها المتحررة ضبطت حجاب رأسها، وشدت فستانها على جسدها ليبدو مفرودًا، ثم دنت من "تميم" راسمة ابتسامة رقيقة على محياها وهي تنهي اتصالها بمرحٍ لطيف:

-ماشي يا "هاجر"، هنتكلم تاني، سلام يا حبيبتي.

كانت على وشك الترحيب بخطيبها الذي هب واقفًا ليسألها بخشونةٍ:

-ممكن أفهم في إيه؟

أطرقت رأسها معتذرة كطفلة صغيرة أخطأـ التصرف:

-أنا أسفة.

رد متسائلاً بوجهٍ جاد للغاية في تعبيراته:

-ده على إيه بالظبط؟

رفعت عينيها لتتطلع إلى في ندمٍ آسف، لكن ما لبث أن تحولت نظراتها للخوف وتعابيرها للقلق حينما رأت ما حل بوجهه، جُزع قلبها وهتفت تسأله في لوعةٍ وتلهفٍ:

-إنت مال وشك، حصلك إيه..

ضغط على شفتيه رافضًا الإجابة عليها، انخفضت عيناها لتنظر إلى كفه الملفوف بشاشٍ طبي، وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها المذعورة، نظرت له مرددة بارتعابٍ:

-الله وإيدك كمان؟ طمني عليك يا حبيبي إنت كويس؟

-أيوه

-طب ده من إيه؟!

تجاهل الإجابة عن أسئلتها ليرد بضيقٍ:

-مش موضوعنا، احكيلي اللي حصل

أدركت "خلود" تفاقم المشكلة التي تسببت فيها دون داعٍ من خشونته معها، أطرقت رأسها من جديد في حرجٍ، واستطردت بربكةٍ ظاهرة في نبرتها:

-ده.. كان سوء تفاهم.. وخلاص اتحل..

شعر "تميم" بالارتياح يتخلله بعد أن فطن لنجاح خطة والدته في خداعها، لم يحبذ استخدام تلك الطريقة معها، فهي مناقضة لطبيعته، لكنها كانت الأمثل لتلافي تطور المشكلة، ومع ذلك حافظ على رسمية ملامحه متسائلاً ليبدو أكثر إقناعًا:

-قصدك على توكة "هاجر"؟

أومأت برأسها إيجابًا بدلاً من الرد عليه، ثم أضافت:

-أنا افتكرت إنها ...

لم يحبذ "تميم" التطرق أكثر في تلك المسألة السخيفة وإعطاها أكبر من حجمها، لذا قال بحسمٍ ومنهيًا الخلاف بينهما:

-"خلود"، أنا يوم ما أحب أعمل حاجة هاعملها في النور، مش أنا اللي أوعد واحدة بالجواز، وأمشي مع واحدة تانية!

ظهر الندم في عينيها جليًا خاصة حينما استفاض موضحًا:

-ولو مكونتش عاوزك يا بنت الحلال مكونتش كملت معاكي حتى لو مين أجبرني على ده، بس إنتي برضوه مش قادرة تفهميني..

كلمات كالسياط هبطت عليها فأوجعتها بشدة، أحست بغصة مريرة تؤلم حلقها وهي تبرر له تصرفها:

-قدر موقفي يا "تميم"..

غص صدرها بالبكاء مستعيدة ذلك المشهد في رأسها، أعادت وصفه قائلة:

-أنا.. لاقيت خالتي بتحكي عن حاجات واحدة تانية، وكأنها مني، وأنا معرفش عنها حاجة، تفتكر إيه اللي هايجي في بالي؟

رد عليها يسألها بما يشبه العتاب:

-طالما مش واثقة فيا، يبقى إزاي هنتجوز يا بنت الناس؟

اختنق نبرتها أكثر وتحولت للبكاء، كما تجمعت العبرات في عينيها بكثافةٍ وشكلت سحابة ضبابية حينما همست بما يشبه الاستجداء:

-"تميم" أنا بأحبك! مقدرش أتصور إنك بتفكر في غيري، أو حتى أقدر أعيش من غيرك ..

أوجعته صراحتها الصادقة، هي تعشقه حتى النخاع، متيمة به بجنون، لا ترى في حياتها سواه، ولا يوجد حدًا لعواطفها الجياشة نحوه، بينما مشاعره ناحيتها عادية لن تصل مطلقًا للهيام، لكن القليل من الاهتمام يرضيها، حدق فيها بشرودٍ حائر، فماذا إن استحالت الحياة بينهما بعد الزواج؟ استغلت صمته لتضغط عليه ورجته بنبرتها المستعطفة وعينيها الدامعة:

-حقك عليا، عشان خاطري سامحني، أنا عرفت غلطي.

ظلت تعابيره جامدة وهو يتطلع إليها، ثم استطرد ينصحها:

-عمومًا ابقي حكمي عقلك يا "خلود" قبل ما تحكمي عليا، ده لو عاوزة عيشتنا تمشي سوا!

ازدردت ريقها وهزت رأسها بإيماءات متكررة مؤكدة له:

-حاضر، مش هايحصل تاني

اكتفى بحركة بسيطة من رأسه وقال بعدها بجديةٍ:

-أنا ماشي

انتفضت من رحيله المفاجئ فهتفت مصدومة:

-إيه ده؟ مش هاتقعد معايا شوية؟

حرك رأسه نافيًا، اعترضت طريقه قائلة بإصرارٍ حينما همَّ بالرحيل:

-طب استنى أعملك حاجة سخنة تشربها

زفير مرهق خرج من جوفه قبل أن يعتذر:

-مرة تانية يا "خلود"، تعبان من الصبح، وإنتي شايفة شكلي عامل إزاي، ده غير إن لسه عندي شغل أد كده عاوز أخلصه.

قالت في رقة وقد استعادت حيويتها:

-ربنا يقويك يا حبيبي، لسه زعلان مني؟

تقوست شفتاه لتظهر ابتسامة صغيرة وهو يرد:

-لأ

تضرج وجهها بحمرة باهتة وقد تدللت لتقول له في نعومة:

-هتوحشني لحد ما أشوفك تاني، خد بالك من نفسك.

اكتسب صوته إيقاعًا هادئًا وهو يرد:

-إن شاء الله، عاوزة حاجة مني؟

-لأ يا حبيبي

قالتها بنعومة أكبر قبل أن تصحبه نحو باب المنزل، لوحت بيدها تودعه، وانتظرت للحظات حتى هبط الدرجات، أغلقت الباب بهدوءٍ، ثم استدارت بجسدها وعلى وجهها ابتسامة بشوشة، سريعًا ما اختفت وحل الانزعاج كبديل عنها وقد بدأت والدتها في تعنيفها، فقالت لها:

-أنا مش عارفة إنتي مدلوقة عليه كده ليه؟

ردت بعبوسٍ:

-عشان بأحبه

نظرت لها شزرًا وهي تكمل:

-يا بت اجمدي كده واتقلي عليه بدل ما يبيع ويشتري فيكي،!

اتخذت الصمت سبيلاً أمام كلامها الذي لا تعتد به حينما يخص حبيب قلبها، سارت في اتجاه غرفتها ووالدتها تتبعها مكملة تحذيراتها الجادة:

-اللي زي "تميم" ده نمرود، مش هايقدر اللي بتعمليه عشانه، بكرة يتفرعن عليكي

التفتت ترد بعنادٍ:

-برضوه هاحبه، القلب وما يريد يامه، وأنا مش عاوزة إلا هو!

علقت عليها في استنكارٍ:

-بكرة يوريكي النجوم في عز الضهر.

-مش هايحصل

-خلاص اسمعي كلامي وإنتي تكسبي

عضت على شفتها السفلى وتطلعت إلى والدتها بنظرات ساهمة، ثم عقبت عليها:

-أنا عاوزة أسمع كلامه هو وبس

حدجتها "بثينة" بنظرة نارية حادة مستاءة من سذاجتها، ثم وبختها بانفعالٍ ظهر في صوتها وتعبيراتها:

-خايبة زي اللي خلفتك، بكرة تجيلي تعيطي، وساعتها هتعرفي إن الله هحق!

ألقت حديثها وراء ظهرها واكتفت بالسعادة التي احتلت روحها بعد تصالحها مع "تميم"، لم يتبقِ سوى القليل لتكون في عصمته، بضعة أيام وتصبح حرمه المصون، لكنها لم تكن تعلم أن بداية معاناتها الحقيقية ستبدأ بمجرد أن يصيرا زوجين.

...............................................................

لاحقًا، وبعد بضعة أيامٍ .. سدد نظرة عميقة متأملة لهيئته التي بدت غير مألوفة بالنسبة له في انعكاس وجهه بالمرآة بعد أن ارتدى بدلة عرسه، عدَّل من وضعية البابيون الذي يمزج بين اللونين الأبيض والأسود ليصبح في المنتصف، شعر بالغرابة والتوتر، وبالرغم من كونه على دراية بميعاد زواجه إلا أن حدوثه فعليًا كان مدعاة للقلق، لا يعرف كيف مرت الأيام سريعًا ليصل لليلة المنشودة، علل ذلك بكونه مشغولاً للأغلب الوقت فالتهى عن التفكير في تبعات الزواج.. زفرة طويلة بطيئة خرجت من صدره مستديرًا نحو المصفف ليكمل باقي عمله، ظهر "تميم" وسيمًا نوعًا ما بعد نجاح الأخير في العناية به وإظهاره بشكلٍ يليق بتلك الليلة المميزة؛ فحلق ذقنه النابتة، ورطب بشرته المتيبسة ببعض الكريمات المرطبة فأكسبها اللين، كذلك هذب خصلات شعره المتناثرة بأحد مستحضرات العناية بالشعر ليظل ثابتًا لأطول فترة ممكنة.. تساءل الأخير بابتسامة عملية قاصدًا مدح زبونه السخي:

-تمام كده يا ريس؟

هز "تميم" رأسه في استحسانٍ، وأجابه:

-زي الفل.

نثر المصفف مادة لامعة على طرفي ياقة بدلته السوداء كنوعٍ من منحة لمسة إضافية مختلفة ليبدو أكثر أناقة عن ذي قبل مع إفراطه في استخدام العطر الخاص ليزكم أنف عروسه برائحته الطيبة، أشار له "تميم" بيده ليتوقف فامتثل له، ثم دس يده في جيب بنطاله القماشي وأخرج منه حفنة من النقود وطواها في راحته، مد بها كفه نحوه يشكره:

-تعبتك معايا.

رد المصفف مهللاً بعد أن لمح المبلغ الكبير الذي أعطاه له:

-يا باشا ده إنت تؤمر.

ثم أفسح له المجال ليمر ويخرج من صالون الحلاقة حيث ينتظره "محرز" بجوار سيارة العائلة السوداء ذات الطراز القديم نسبيًا -بالرغم من كونها ماركة مرسيدس- والتي تستخدم في تنقلات أفراد الأسرة، ألقى عليه نظرة إعجاب يمتدحه بها وهو يصيح عاليًا:

-مبروك يا عريس.

اقترب منه "تميم" ليصافحه وعينيه تجوب على شرائط الزينة البيضاء التي تغطي جانبًا لا بأس به من زجاج السيارة الأمامي، لكن "محرز" جذبه من كفه نحوه ليحتضنه وربت على ظهره بخشونةٍ، ثم مازحه بسخافةٍ عكست تلميحًا خارجًا:

-عاوزينك ترفع راسنا النهاردة، ولا تحب أقولك تعمل إيه؟

رمقه "تميم" بنظرة قاتمة لا تقبل الهزل في مثل تلك الأمور الخاصة جدًا، وإن كانت على سبيل الدعابة والمزاح، لذا أحرجه قائلاً:

-مايخصكش.

تجاوز "محرز" عن رده الجاف ليقول بابتسامته اللزجة:

-طول عمرك جامد يا "تميم"

رد عليه بانزعاجٍ:

-إنت هتؤر عليا ولا إيه؟

افتعل الضحك معلقًا عليه:

-على رأيك، ما يحسد المال إلا أصحابه، وإنت مال وحسب ونسب وهيبة و...

قاطعه منهيًا الحوار:

-ارحمني، أنا مش ناقص

قال ببرودٍ سمج:

-ماشي يا عريس، كلنا كنا زيك كده، وكله بيعدي في الآخر

حاول "تميم" أن يتمالك أعصابه حتى لا تنفلت، اتجه إلى السيارة ليجلس كعادته في الأمام لكن استوقفه "محرز" صائحًا:

-عندك يا عريس، ده أنا اللي هاوصلك بنفسي

أشار بيده معترضًا:

-البيت هنا، مش حكاية هي!

حاول احتلال المقعد الأمامي ليقول بضحكة مصطنعة:

-والله ما يحصل، ده أنا نادرها.

غمغم "تميم" مع نفسه مرددًا في تأفف ممتعض وهو يطالعه بنظراته المزعوجة:

-ربنا يخلصني من الشبكة السودة دي على خير، هو أنا كنت ناقصه.

..........................................................

تصفيقات مصحوبة بالزغاريد العالية والضحكات المرتفعة الخليعة تخللت تلك الجلسة النسائية البحتة في غرفة نوم العروس بمنزل عائلتها كتعبير عن فرحة قريباتها وصديقاتها بتزويجها، بضعة نصائح هامسة عن أسرار السعادة الزوجية تناقلتها الألسن لتشجع تلك الفتاة الخجول على التعامل بجرأة ممزوجة بالحب والدلال مع زوجها حتى تضمن بقائه أسيرًا لرحيق عشقها، تلون وجهها بألوان الحياء وأشاحت ببصرها بعيدًا في خجلٍ أكبر مع كل تلميحٍ ذو دلالة، عجزت عن الرد أمام جراءتهن الوقحة، وطلبت منهن التوقف، لكنهن أبين الإصغاء واستمتعن فيما يفعلن .. وضعت خبيرة التجميل ذائعة الصيت اللمسة الأخيرة على وجهها بعد أن أصرت الأخيرة على تجميلها في المنزل، أتقنت الأولى تضخيم شفتي العروس بأحمر الشفاه لتبدو جذابة ولافتة، كذلك استخدمت فرشاتها لتضيف القليل من الحُمرة على وجنتيها فتخفي ذلك الشحوب والإرهاق فتظهر فاتنة، خاطفة للقلوب.

اشتعلت الأجواء حماسًا مع قيام أحداهن بالرقص والتمايل بميوعة واحترافية وكأنها ولدت هكذا، صفقت المتواجدات لها بحماسٍ لتزيد في رقصها، ثم جذبت أخرى لتشاركها تلك الوصلة المرحة، انتبهت "خلود" وسط ذلك الصخب الدائر لأصوات أبواق السيارات، قفز قلبها بين ضلوعها رهبةً وسعادة، استدارت تبحث بعينيها عن والدتها بين الجالسات، ثم أشارت لها بنظراتها لتأتي إليها، مالت "بثينة" ناحيتها فاشرأبت ابنتها بعنقها تسألها في تلهفٍ وصدرها يعلو ويهبط بشكلٍ ملحوظ

-هو "تميم" جه يا ماما؟

أجابتها مبتسمة:

-واقف تحت يا حبيبتي.

وضعت "خلود" يدها على صدرها النابض بقوةٍ تتحسسه، أحست بربكة عظيمة تجتاح كيانها، برقت عيناها وتصلب جسدها حينما أردفت أمها تسألها:

-ها أشاورله يطلع؟

ردت على الفور:

-أيوه...

لكن ما لبث أن سيطر عليها التردد الخائف فتراجعت قائلة:

-ولا أقولك استني.

نظرت لها "بثينة" في استغرابٍ، في حين ألقت "خلود" نظرة مدققة على هيئتها المختلفة في ثوب العروس تتأمل كل تفصيلة فيها، بدءًا بوجهها ومساحيق التجميل التي تغطيه، ومرورًا على حجابها الأبيض الذي يزين رأسها، وانتهاءً بثوبها البراق المرصع بالقطع الكبيرة اللامعة عند صدره فقط لينسدل على جسدها بانتفاخٍ ملحوظ بسبب طبقات القماش المتراكمة فوق بعضها البعض، شعرت بالرضا عن حالها، ومع ذلك سألت والدتها لتمنحها ثقة أكبر:

-ها كده شكلي حلو؟

طمأنتها والدتها بتفاخرٍ وزهو:

-زي البدر في تمامه.

عادت لتتساءل بارتباكٍ وقد زاغت أنظارها:

-تفتكري هاعجبه ولا ...؟

وضعت "بثينة" قبضتيها على كتفي ابنتها، شددت من ضغطها عليهما وهي تقول لها بجدية بعد أن اكتسب وجهها تلك اللمحة الصارمة:

-خليكي واثقة في نفسك، إنتي زي القمر، هو كان يطول يتجوز واحدة زيك أصلاً؟

أطرقت رأسها وهي تصغي لباقي حديث والدتها الجاف:

-ده إنتي ضيعتي مستقبلك عشانه! يعني المفروض يحمد ربنا..

حملقت "خلود" بنظرة مستنكرة مندهشة وقد باحت والدتها علنًا وعن قصدٍ:

-وفي الآخر هيتقال اتجوزت واحد سوابق وخريج اللومان! فخليني ساكتة أحسن!

عاجلتها ابنتها قائلة باستهجانٍ حتى لا تتمادى معها:

-بلاش يا ماما تنكدي عليا في اليوم ده!

ردت بوجهٍ امتلأ بالوجوم:

-إنتي اللي بتخليني أتكلم، وأنا مش ناقصة أصلاً.

قالت لها معتذرة:

-أنا غلطانة، حقك عليا، ممكن يامه مانفتحش السيرة دي تاني

أومأت برأسها مرددة على مضضٍ:

-طيب

تضرعت "خلود" في نفسها وقد بدأت الهواجس تطاردها بعد ذلك الانزعاج الرافض الذي لامسته في حديث والدتها:

-يا رب عدي اليوم على خير، أنا مش مصدقة فعلاً إني هاتجوزه!

......................................................

انتفضت، وتوترت، وارتعشت كل أطرافها مع سماعها لصوته الذي تعشقه يصدح خرج غرفتها، تجمدت في مكانها مستشعرة تلك الرجفة اللذيذة الفرحة التي أصابت حواسها، حاولت أن تضبط إيقاع قلبها السريع لكنها فشلت، فكل ذرة فيها تتمناه وتريده بالأمسِ قبل اليوم، خلت الضوضاء المحيطة بها إلا من نبرته المميزة، أسرتها فبدت كالمسحورة وهي تحت تأثيرها القوي، جذبتها والدتها من ذراعها برفقٍ لتحثها على الخروج من غرفتها وهي تصيح عاليًا:

-طلي على عريسك يا عروسة، ماتسمعونا زغرودة يا حبايب!

انطلقت الزغاريد من الخلف وقد خطت "خلود" في الردهة لتتقدم نحو الصالة حيث يتواجد "تميم"، نظرة خاطفة اقتنصتها نحو وجهه لتجده محدقًا بها بنظرات مطولة، سؤسعًا أخفضت عينيها ولم تجرؤ على النظر إليه مجددًا من فرط خجلها المختلط بحماسها؛ إنها ليلة زفافها الحالمة. توقفت عن السير حينما أصبحت قبالته، رفعت عينيها لتطالعه بنظراتها الهائمة الناعسة، بادلها نظرات لطيفة تعكس إعجابه بها، تنحنح في خفوت قبل أن يهنئها:

-مبروك.

ردت بخجلٍ كبير وهي تتحاشى النظر إليه:

-الله يبارك فيك.

وقف إلى جوارها حتى تتأبط ذراعه، شعر برجفتها وهي تستند عليه، ابتسم في هدوءٍ ولاذ بالصمت مكتفيًا بالإيماء برأسه وهو يتلقى التهنئات ممن حوله. توترت "خلود" من سكوته فاعتقدت في وجود خطب ما ربما لم يعجبه يخص ثوبها أو زينتها، لذا استدرجته في الحديث تسأله قبل أن يتجها لخارج المنزل:

-مقولتليش الفستان عجبك؟

رد باقتضابٍ وقد كان وجهه غير مقروء التعبيرات:

-أه حلو.

تلك التعابير الغامضة أزعجتها، فعبرت عما تشعر به قائلة:

-حساك مش مبسوط يا "تميم"

التفت ناحيتها يجيبها:

-مين قال كده؟

-مش باين عليك!

قال وهو يصطنع الابتسام ليخفي عدم ارتياحه:

-أنا بس ما بأعرفش اتكلم قصاد حد.

بدت غير راضية عن رده الأخير فأوجزت معه وقالت:

-طيب.

حاول ألا يفسد الأجواء بينهما فبادر يمدحها:

-بس إنتي طالعة حلوة أوي، متوقعتش كده!

وكأنه أعاد لها بهجة الحياة وسرورها فأشرقت تعبيراتها لتستفيض موضحة له:

-حبيبي، تعرف أنا مردتش أخلي الكوافيرة تحطلي حاجات أوفر، يعني كل اللي إنت شايفة طبيعي

هز رأسه في استحسانٍ وهو يعقب عليها:

-كده كويس

همست له ببسمتها الناعمة:

-أنا حاسة إني بأحلم، ياه .. أخيرًا اليوم ده جه ..

-الحمدلله.

-لحد دلوقتي مش مصدقة!

نظر لها متأملاً فرحتها الجلية عليها، بينما تابعت معبرة بتلقائية عن مشاعرها الجياشة:

-تعرف، أنا قلبي بيدق جامد، حاسة إني في حلم جميل مش عاوزة أفوق منه أبدًا!

حذرها بلطافة وابتسامة بسيطة تزين شفتاه، ولكن اكتسب وجهه تعبيرًا جادًا:

-لأ اهدي شوية، الليلة لسه في أولها.

أسبلت عينيها نحوه وأردفت قائلة بتنهيدة عميقة غير عابئة بمن حولها:

-أنا بأحبك أوي يا "تميم".

ضاقت نظراته قائلاً بجدية:

-ماينفعش الكلام ده كده قصاد الناس يا "خلود"...

قاطعته بشغف بائن في مقلتيها:

-مش فارق معايا أي حد، إنت وبس اللي تهمني!

هز رأسه بطريقة آلية مجاملاً:

-حبيبتي، ربنا يخليكي ليا.

-ومايحرمنيش منك يا عمري كله.

شدد "تميم" من ضمه لذراعها ليسحبها بتؤدة نحو (بَسطة) السلم حتى لا تتعثر في ثوبها الثقيل، كفت "خلود" عن حديثها الهامس معه رغمًا عنها إلى أن تختلي به، حينها فقط ستستفيض في إظهار مشاعرها المدفونة، ومع ذلك نطقت نظراتها بما عجز اللسان عن البوح به. توقف كلاهما عند أعتاب باب المنزل تمهيدًا لصعود قائد الزفة الشعبية التي أتت قبل قليل، بدأ بتحية العروسين والمباركة لهما كتمهيدٍ متبع قبل أن يبدأ فقراته الغنائية، دس "تميم" يده في جيب بنطال بدلته وأعطاه نفحة إضافية من النقود ليتحمس الرجل كثيرًا، استدار بجسده للخلف ليشير بذراعه لأفراد فرقته بيده فصدح صوت المزمار عاليًا وجلجل بقوة وهز جدران المنزل .. انتفضت أجساد الحاضرون في طربٍ على دق الطبول المختلفة في أحجامها، وبدأوا في التصفيق بحرارة، كما انطلقت الزغاريد من حول العروسين فضاعفت من تحفيز المتواجدين للمشاركة، وما هي إلا لحظات واندمجوا جميعًا مع ذلك الإيقاع الراقص المصحوب بأصوات المزامير العالية لتلك الزفة الشعبية التي احتلت المدخل والطوابق الأولى للاحتفال بالعروسين على الطريقة التقليدية السائدة من خلال ترديد الأغاني الشهيرة الخاصة بالأفراح لتزداد الأجواء بهجةً وحماسة ............................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من رواية غرام
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة