-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية وصية والد بقلم على اليوسفى - الفصل الثلاثون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة والروايات الرومانسية في موقعنا قصص 26 مع رواية جديدة من روايات الكاتب علي اليوسفي ووالذى سبق أن قدمنا له رواية أشلاء واليوم سنقدم لكم الفصل الثلاثون من رواية وصية والد بقلم على اليوسفى هذه القصة مليئة بالعديد من الأحداث والمواقف المليئة بالكثير من الرومانسية والعشق.

رواية وصية والد بقلم على اليوسفى - الفصل الثلاثون

اقرأ أيضا: روايات رومانسية

رواية وصية والد بقلم على اليوسفى

رواية وصية والد بقلم على اليوسفى - الفصل الثلاثون

 الحب الحقيقي هو من يصطلِ بنار الشوق والفراق، فإن صمد فهو ذاك ، وإن لم يصمد فهو مزيف من البداية.


............................


هل سبق وأن أخبرك أحدهم عن الخيبة ؟؟


نعم أعلم أن الكثير فعل، لكني لا أعرف إن كانوا قد اخبروك، أن الصمت هو الفعل الوحيد الذي نتقنه حينها، ليس لأننا لا نعرف كيفية الرد، بل لأن ضجيج الخيبة داخلنا طغى على كل شيء.


لم يعد بها من طاقة لصبّ المزيد من الدموع ، تشعر أن منابع الدمع داخل مآقيها قد جفت، كغيمة غاض ديمُها وانقطع ، شاردة في نقطة أمامها ، محياها هادئ الملامح وشبح ابتسامة رقيقة ارتسمت على ثغرها الصغير، كأن فكيها قد اعتاداها ، يراها العابر كأنها تناجي ملاكاً.


حقا لم تعد تعرف أمجدٌ هو المريض أم هي وأدهم ؟؟؟

يبدو أن الجميع مريض ويحتاج للعلاج الفوري.

ولا تعلم حقا مالذنب الذي اقترفته لتعاقبها الأقدار بتلك الطريقة ؟؟؟

نعم تعلم أن كل إنسان سينال نصيبه من الاحزان والاوجاع، لكن هل من العدل بمكان أن تكون حياتها كلها عبارة عن كتلة آلام وخيبات؟؟.


كان عمرها ست سنوات عندما توفي والدها ، لم تكن قد ارتوت من حنانه الفطري بعد، لتنشب بعد وفاته صراعات كثيرة تمثلت في قطبين متناقضين ، أعمامها وخالها الذي ترعرعت على يديه وبين ولديه الذكور ، لم يفرق بينها وبينهم يوما، بل سقاها من نهر حبه الأبوي ، لم يتوانى عن حمايتها حتى توفاه الله، وكجزء من ردّ المعروف والدين تعاطفت مع مجد وأفاضت عليه من عاطفتها الجياشة والحب الذي فُطرت عليه، لكنها لم تنلْ منه سوى كذبة دمرت صورته المشوهة أصلا.


.........................................


ظلٌّ طويل خيّم عليها حيث كانت تجلس في حديقة المشفى ، لترفع رأسها إلى أدهم وتقاسيمه الواجمة، من يراه يقسم أنه لن يبتسم بعد اليوم.


تحدث بنبرة مرهقة: لقد حان الوقت ، يجب أن نتحدث إليه الآن.

للحظات بقيت مقلتيها شاخصة على وجهه حتى اعتقد أنها فقدت حاسة السمع ، أشارت أخيرا له بالموافقة لتنهض مستندةً على كفه الذي مدّه لها ، سارا جنبا إلى جنب ، وفي أذهانهما ترن كلمات الطبيب بعدما رأى التقارير الأصلية والمزيفة،مستفيضا في حديثه عن مرض مجد ، شارحا لهما طرق العلاج.


_ الأشخاص المتعلقين عاطفيا في معظم الأحيان يفقدون الثقة بالآخرين ، وربما يصبحون مثيرين للشك ومسيطرين، يقيمون مخاوف وهمية من أنهم سيصبحون مهجورين أو منبوذين ، فيترتب على تلك الأعراض مشاكل أخلاقية كالكذب ونوبات الغضب المزمنة، تماما كحال مجد.


تنهيدة طويلة مشبعة بالإرهاق صدرت عن أدهم ، فيما كانت ريما واجمة كأنها لم تسمع حديثه ، ليتساءل الأول: لكن لماذا تعلق بريما أكثر مني أنا ؟


أهداه الطبيب ابتسامة عملية مجيبا: لأنه يعتقد أنها ضعيفة وبحاجة إلى المساعدة، هذا ماتصوره في عقله الباطني، خاصة وأن ريما اصلا يتيمة الأب، وعندما توفيت والدتها أعتقد أنها ستنهار، أضف إلى هذا شعوره بالذنب ناحيتها لأنه سبب وفاة امها .


حرك أدهم رأسه بتفهم متأملا هدوء ريما بطرف عينه ، فيما تابع الطبيب شرحه: بمعنى آخر يعتقد مجد أن ريما تعاني من ندبة عاطفية جعلته يتعاطف معها كونه عانى من شعور الفقد ذاته، حتى تطور الأمر ووصل حدّ الإدمان.


أعاد الطبيب ظهره للخلف ليضيف بتقرير: قسْ على هذا علاقته بنور وسعيه لتزويج آماليا ، لا أريد إدخالكم في متاهات نفسية معقدة لكن كل مااستطيع أن اخبركم به، بأنكما ستكونان عماد علاجه.


تبادل كلاهما نظرات مستغربة حتى تساءلت ريما: كيف السبيل إلى علاجه حضرة الطبيب ؟؟


أتتها الإجابة فورا : بأن تقنعاه أن يدخل المصحّة النفسية.


........................


استفاقت ريما على طرق أدهم على باب غرفة مجد، ثم دخل لتتبعه هي بخطوات مترددة ، رفعت محياها إلى مجد الذي بانت عليه علامات التوتر ، رغم اشفاقها عليه من داخلها، لكنها غالبت شعورها وعاطفتها كما فعل أدهم تماما، تنفيذا لوصية الطبيب الذي اخبرهما بأن لا يضعفا أمامه ، يجب أن يكونا حازمين دون قسوة أو نفور.


وضع أدهم كلتا يديه في جيبي سرواله الأسود الشبابي ، شدّ ظهره وفرد كتفيه محدثاً مجد ونور جالسة بجانبه : لقد وجدنا تقارير الطبيب الأصلية مجد.


شحب وجهه واهتزت حدقتاه ، ابتلع ريقه ناظرا إلى ريما يبحث في مقلتيها عن الحب والحنان الذي لطالما منحته إياهما بلا مقابل ، لكنه لم يجد شيئا مما ذُكر ، فراغ قاتل فقط ، كفراغ روحها الآن.


تابع أدهم حديثه بجمود: ستنتقل إلى المصحة النفسية لتتابع علاجك.


رمشت عيناه بهلع ، هذا معناه ابتعاده عنهما ، حاول استعطاف شقيقه فتحدث بصوت متذبذب: أدهم انا....


قاطعه هو بإصرار لا مزاح فيه: لا مجد ، لقد استنفدت جميع فرصك ، لذا لا تحاول العبث معنا هذه المرة.


سكت مجد مصدوماً من نبرة لم يعتدها من أخيه ، فيما أضاف أدهم بانفعال طفيف محاولا كتم غيظه: لقد كذبتَ علينا طيلة الأعوام الماضية ، وأنت تعلم بأنك مريض وأن مرضك له علاج.


غلبتها عاطفتها رغم كل ماحدث، لتضيف بنبرتها الحنون قبل أن تنفلت أعصاب أدهم : ساعدنا وساعد نفسك مجد، يجب أن تتعالج وتشفى لأجل نور.


عرفت كيف تضغط عليه دون أن ينفجر بهما، ربما لأنها تعرف مدى حبه لها ، تلقائياً تحركت عيناه ناحية نور الواجمة منذ بداية الحديث، شعرت بنظراته المثبتة عليها لترفع رأسها إليه ، ابتسمت بخجل وهي تشير له برأسها ، ربتت على كفه المسنود على حجره لتهمس: أرجوك مجد، لأجل سعادتنا يجب أن تسمع من أدهم وتتعالج.


كلمتها كانت كفيلة بإقناع عقله المتحجر، قالت سعادتنا ؟؟

إذا هي ماتزال تحبه وستبقى.

أمسك بكفها ليقول بأسى وقد التمعت عيناه بدموع: لن أستطيع رؤيتك متى ماشئت؟؟ وسأغيب لفترة طويلة؟؟

اتسعت ابتسامتها الباهتة وهي تجيبه بصدق: سأنتظرك مجد، سأنتظرك صدقني.


رفعت كفها تضعه على وجنته ، ومقلتيها الساحرة مثبتة داخل عيناه ، مضيفة بنبرة عاشقة: مهما غبتَ لن أملّ من انتظارك، وسأزورك كلما سنحت لي الفرصة ، المهم أن تعود إليّ وانت بكامل صحتك وقوتك.


زفر من أنفه يقاوم دموعه التي تحرق مآقيه تريد التحرر، ضغط على شفتيه قبل أن يشير لها بالإيجاب موافقا ، ليسمح لعبراته أخيرا بالهطول ، ثم ضمها إليه بقوة كأنما يودعها، نعم لقد حان الوقت ، يجب أن أُشفى من أوهامي التي سجنتني وسجنت أحبائي داخل إطار محدد ، لا يجوز أن نخرج عنه ، حان الوقت لأعود إنسانا طبيعيا، رجلٌ يستحق نور وعِشقها.


لم ينكر كلا من ريما وأدهم صدمتهما بحديث نور ، والذي كان مغايرا لطبيعتها ، كلماتها رزينة ونبرة صوتها متزنة ، كان نور قد كبرت عامان خلال يومين من الصدمات.


بعد ساعة من الوقت، كان أدهم خارجا من غرفة شقيقه في المشفى حاملاً حقيبة سوداء خاصة بثياب مجد ، تاركاً ريما تضمه إليها بعاطفة صادقة ومشاعر غير قابلة للتزييف، ربت مجد على ظهرها بامتنان، ليهمس في أذنها: أعلم أنها متأخرة للغاية، لكنني آسف ريما ، حقا.


تطلعت إليه وعينيها العسلية تبتسم لقوله، ربت على وجنتها راسما ابتسامة لا يعرف كنهها حقا، تنهدت ريما لتخرج مغالبةً دموعها التي رفضت الهطول أمامه لئلا يضعف، فتقدم مجد من نور الواقفة بجانب الباب، وهي تخفي حزنها خلف قناع من القوة و القبول، أراد أن يعانقها عناق الوداع ، لكنها رفضت بل وابعدته عنها واضعة يدها على صدره، أجفلت عيناه وارتجف وفي اعتقاده أنها لا ترغب بوداعه، لكنها فاجأته وهي تقبض على كفه تشدُّ عليه بدعم، ثم خرجت تمشي بجانبه وكفها يعانق يده بقوة، ورأسها مرفوع عاليا في السماء ، كأنها تخبر الجميع بأن لا شيء معيب في أن يكون المرء يعاني من مشكلة نفسية ، ولتؤكد لمجد ولنفسها بأنها أحبته بمميزاته وحسناته ورغم كل عيوبه، حتى مرضه وسره الذي أخفاه عنها لم يفلحا في تحييد ذاك العشق الذي استوطن فؤادها ، قد عشقته وانتهى الأمر.


عند السيارة المخصصة والتي ستنقله إلى المصحة ، وقف مجد يطالع الجمع خلفه بمشاعر متضاربة، كان كلا من أدهم وريما ونور يقفان خلفه مباشرة ، وخلفهم كان بعض ممرضي المشفى من أصحاب النظرات الفضولية ،شعر مجد ببعض الرهبة ، فتقدم أدهم منه مربتاً على كتفه يوصيه كأنه طفل في السادسة من عمره سيدخل المدرسة لأول مرة: كن قويا مجد، تقبل العلاج وعد إلينا سالما.


رغما عنه تلألأت عيناه بالدموع ، فاحتضنه أدهم بشعور الاخوّة الصادق الذي لم تبدله الأيام والمواقف وحتى الخيبات ، ربت على ظهره مرة أخيرة قبل أن يحثه على الصعود إلى السيارة ، صعد طبيبه إلى جانبه ليقطع عليه مجال بصره ، مشيراً للسائق بأن يتحرك بسيارته، شيّعته نور بعبراتها التي هطلت بعد رحيله ، احتضنتها ريما واضعة يدها على كتفيها وكلتاهما تراقبان السيارة وهي تبتعد، كطائر مهاجر سيعرف طريقه يوما فيعود إلى شجرته وبيته الذي هجره....


...........................


لم تكفّ الطفلة ريما عن السؤال على سميّتها ولم تجد من والدها سوى الصمت إجابة ، فمنذ آخر لقاء لهما ، منذ أربع أيام كاملة لم يرها، عدّ الساعات والدقائق والثواني، حتى أجزاء الثانية أحصاها لكن هذا كله لم يفلح في إخماد النار التي تنهش بخافقه الذليل.


ما بالك ياقلب؟؟

حتى بعد معرفتك بأن ارتباطك بها مستحيل مازلت معلقا بهواها؟؟

لماذا لا ننساها ولنمضِ في حياتنا ؟؟ هل الأمر بهذه الصعوبة ؟؟ ألم نمضِ عشر سنوات من عمرنا في غربة عنها وعن كل شيء؟؟؟


تأفف أيمن وهو ينكس رأسه للاسفل، نعم أمضيتَ عقداً كاملا وانت بعيد، لكن الأمر مختلف الآن ، سابقا كنت تظنها خائنة اما اليوم ، فأنت تعلم أنها مجبرة على حياة لم تردها، أفلا يجب أن تنقذها ؟؟


ابتسم ساخرا من نفسه : انقذها؟؟ من ماذا بالضبط أو ممن؟؟ حتى إن شُفيَ مجد من مرضه فهو دائما سيبقى عقبة في طريقه ، هو لن يقبل بأن يرتبط بها مادام مجد رافضٌ لتلك العلاقة ،و ريما حساسة رقيقة تقبل بأن تهدر عمرها كله هباء على أن تجرح مجد.


تنهد بآسىً كتائهٍ يلاحق سراباً، عقله مرهق من فرط التفكير في حل ليريح فؤاده العائل ، لكن كيف السبيل لهذا؟؟؟


لم يفطن أيمن وهو غارق في خضمّ أفكاره ، لتلك العيون المشابهة لمقلتيه والتي كانت تراقبه بحذر، لا يبدو شقيقها بخير، بل تشعر أن ذات المشاهد منذ أعوام تتكرر أمامها من جديد، لكن هذا كله لم يُنسها أمر ريما وعلاقة اخاها بها.


تقدمت إيناس من أيمن حتى جلست بالقرب منه ، رفع عينيه إليها وقد بدى فيهما العناءُ واضحاً، ظلت للحظات تناظره بارتياب حتى لفظت سؤالها: من تكون ريما الرسام بالنسبة إليك؟؟؟


لماذا لم تجحظ مقلتاه بقلق ؟ أو يشحب وجهه او يتهرب من الإجابة ،؟ لم يصرخ ويخبرها بأنها واهمة أو أياً من تلك الكلمات والتصرفات التي يفتعلها الناس عندما يتم كشف كذبتهم؟؟


لأنه ببساطة أيمن لم يعد لديه مايخفيه، ابتسم براحة وهو يخبرها بالحقيقة كاملة ، دون تزييف أو تسويف: إنها نعمتي ونقمتي ، هي من ملكت ساكن يساري ، وقد سلمته لها بكل رحابة صدر.


كانت الصدمة من نصيب إيناس، تتسع عيناها عجبا من حديث شقيقها ، بحياته لم يكن بهذه الرقة حتى مع زوجته الراحلة ، هل تملكته تلك المها وسحرته إلى هذه الدرجة ؟؟


استمعت إيناس إلى الحقيقة التي اخفاها أيمن عنها لسنوات ، لكن أكثر ما آثار تعجبها هو قراره بالرحيل بعد تصفية عمله ، أتهجر السفن مرافئها ؟؟ من جديد؟؟


.........................................


لم تخبر آماليا أحدهم عمّا اعتزمته ، خلا قاسم بالطبع، تعلم أن والدتها لن ترضى ببعدها ، كذلك هدى لن تسمح بسفرها ، ولم تكترث كثيرا لرأي نور ، لم تكسر كل الجسور التي بينهما لكن علاقتهما تضعضعت وتلك الجسور لم تعد صالحة للعبور عليها، أواصر ارتباطها بشقيقتها لم ولن تعود كالسابق أبدا .


منذ آخر جملة نطقتها آماليا لم تحادث نور أبدا ، كانت تتحاشاها دوما رغم محاولات قليلة من نور للاعتذار منها ، لكن دائما ماكانت الحروف تختنق تحت لسانها فتأبى الخروج ،و لم تعد آماليا تلك الأخت التي تتقبل أخطاء شقيقتها بصدر رحب ، فتسامحها حتى لو لم تعتذر ، كل شيء في هذا المنزل تبدل و بدى حزينا ، حتى تلك الطاولة التي كانت تجمع أفراد تلك الأسرة على الدوام أضحت خالية، كئيبة ، تبكي حال أصحابها.


تحاليل عليا لم تكن بتلك الخطورة، لكن نصحها الطبيب بملازمة الفراش حتى تشفى، فلم ترَ ذلك الشقاق الذي نشب بين ابنتيها، إلا أن ذلك لم يمنع شعور الأمومة داخلها بإخبارها بذلك .


.........................................................................


لم يخبره أحد بأن الفراق صعب لهذه الدرجة، أهكذا هو الحب؟؟

تعتقد أنه زهرة ندية تحملها في يدك وتهفو عليها بقلبك، لكنك لا تلاحظ غصنها الخبيث والمليء بالأشواك الذي يمتدّ عبر ذراعك حتى يصل إلى رقبتك ، فيلتفّ عليها ويسحق عنقك حتى يقمع صرخات الشوق داخلك.


لم تكن الليلة الأولى لمجد وهو بعيد عن أحبائه بهذه السهولة، هو ببساطة لم يغلق جفنيه طول الليل، نعم هي ليست المرة الأولى التي يبتعد فيها عن ريما او نور، لكن لأنها أول مرة يشعر فيها بخطأه حيال الجميع ، الجميع بلا استثناء، لقد كذب عليهم ، جرحهم، خدعهم وتدخل في حياتهم ، حتى أيمن واماليا وهادي أيضا لم يسلموا منه ، لهذا فقد أنهكه الشعور بالذنب الذي كان كجمرة يستشعر مجد حرارتها كلما تذكر ما فعله بمن حوله..


تطلع من النافذة بجانبه ، يشاهد منظر الشمس وهي تسقط بتهادٍ تودع الدنيا على أمل اللقاء من جديد، تنهد بأسى وهاهي ليلة أخرى سيقضيها وحيدا، مايعزيه هو ذلك الطبيب الشاب الذي طلب بأن يعتبره صديقه ، لغاية اللحظة لم يتحدث معه عن مرضه مباشرة ، بل كان يجلس معه يتبادلان الأحاديث الشيقة تارة والمملة تارة أخرى وكان هو من يبدأ دائما بالكلام، حتى شعر بأنه اعتاد غياب عائلته وبعده عنهم.


شهر كامل مرّ على تواجده الآن داخل المصحّة ، كان يعتقد بأن أدهم لم يغفر له خطيئته بعد، لم يعرف مجد بحضور شقيقه يوميا يراقبه من بعيد دون أن يفطن لتواجده، كانت تلك وصية الطبيب أيضا.


لكن حضور أدهم هذا اليوم ليس اعتيادياً البتة ولا ليراقب شقيقه بصمت ، طلب من الطبيب أن يتحدث مع مجد فوافق بعدما أخبره أدهم بالسبب ، جلس في المقهى الصغير التابع لمبنى المصحّة منتظراً حضور أخاه ، وامامه مغلف ورقي ذو لون أصفر شاحب، تطلع أدهم امامه متذكرا عندما وصله هذا المغلف صباحا إلى مكتبه في المصنع ، استغرب أمره ليفضّ ختمه ، طالع الأوراق الموضوعة داخله بصدمة حقيقية.


صوت هرج خفيف نبهه ليرفع رأسه ، فرأى مجد وهو يدلف لتوّه إلى المقهى ويبحث عنه بعينيه حتى التقت المقل، كانت اللهفة بادية على ملامحه، فيما يشعر بقلبه يقرع بعنف، تنفس براحة وابتسامة متسعا ، وقف أدهم عندما رأى خطوات أخيه المتسارعة حتى احتضنه بقوة، ربت أدهم على ظهره برفق ثم أخرجه من أحضانه متطلعا إليه باشتياق وبسمة باهتة ارتسمت على شفتيه .


كان الكلام في عينيه كثيرا، لكن الكلمات اختنقت في جوفه فلم يتجرأ على السؤال، وكمن فهم مايدور في ذهن أخيه تحدث: كلتاهما بخير مجد فلا تقلق، لكني لم أخبرهما بقدومي إلى هنا.


حرك رأسه متفهما ليجلس على مقعده، قابله أدهم على كرسي آخر ، شبك يديه ليخبره بحذر: أتيتُ لأريكَ هذه الأوراق.


دفع المغلف الورقي ناحية مجد الذي استراب من نبرة أخيه ، فضّ محتوياته ليقرأ مادوّن على الأوراق داخله، قام أيمن بتصفية أعماله وفضّ شراكته مع مجد ،وأرسل إليه شيكاً بالمبلغ الذي دخل به في هذه الشراكة بالإضافة إلى الأرباح ، اهتزت يداه وهو يرفع رأسه ناحية أدهم الذي ربت على كفه متحدثا: كان يجب أن يحدث هذا مجد، ولم أستطع أن أخفي الأمر عنك.


ومن قال أنه يجب أن يحدث هذا ؟؟؟


طالع شقيقه بتيهٍ انعكس واضحا على ملامحه، غادر أدهم بعد وقت قليل تاركاً مجد في ضياعه، سار الأخير حاملاً لتلك الأوراق يكاد يمزقها بين يديه، يجب أن يتحدث معه بشأن قراره هذا ،لكن مالذي سيقوله وقد يغير رأي أيمن..؟؟؟


لا يعلم حقا، كل مايعرفه أنه ليس مرتاحا لفض شراكته مع أيمن ، لكن كيف سيصل إليه وقد تم سحب الهاتف منه ؟؟


لن يعجز مجد بالتأكيد ، لمح أحد الممرضين وهو يخرج من غرفة أحد المرضى في الطابق السفلي ، نادى عليه مجد ثم مشى معه ليطلب إليه تأمين هاتف له ليتحدث مع أحدهم للضرورة ، أبدى الممرض بداية بعض التردد ، إلا أن مجد أغراه عندما خلع ساعته الثمينة ليعطيها له، فلم يتردد الممرض في إدخال مجد إلى إحدى الغرف ، والتي قلّما يستخدمها البقية، ثم أعطاه هاتفه ليتحدث.


كان مجد ذو ذاكرة جيدة فحفظ رقم أيمن عن ظهر قلب، ثوان ظل يستمع إلى رنين الطرف الآخر حتى انقطع، لم يفقد الأمل فعاد وطلب الرقم مجددا ، لحظات طويلة مرت قبل أن تأتيه الإجابة ، لكنه كان صوتا أنثوياً...


..............................................


كان أيمن في الحمام عندما رنّ هاتفه للمرة الأولى ، كان رقما غير مسجلا ، فلم تأبه إيناس التي كانت ترتب ثياب اخاها برنينه حتى انقطع، إلا أن الرقم عاد مجددا وبإصرار، تأففت إيناس وقد قطع عليها هذا السمج وصلة بكائها ، مسحت عبراتها وهي تجيب على الاتصال، ارتبك مجد فبان توتره على نبرته وهو يتحدث: مرحبا ، أليس هذا رقم السيد ايمن؟؟


سارت إيناس حتى جلست على السرير مجيبة: نعم إنه هو ، كيف أساعدك ،؟؟


أومأ برأسه كأنه يراها وقد فطن إلى أنها إيناس شقيقه أيمن، فأردف قائلا: هل بإمكاني أن أحادثه؟؟


شردت إيناس للحظة ثم اجابت بنبرة بدى عليها الحزن: إنه في الحمام الآن ، يستعدّ للحاق بطائرته.


أغلقت الهاتف لتجهش في بكائها من جديد، وعلى الطرف الآخر كاد الجهاز يسقط من يده لولا أن تدارك نفسه، شخصت عيناه بذهول إذا أيمن سيرحل مجدداً ؟؟؟


بعدما أعاد الهاتف لصاحبه والذي أوصاه بألا يحدث أحدهم بشأن ماجرى، سار مجد في أروقة المستشفى

شارداً ، حتى وصل إلى مكتب طبيبه، ولحسن حظه فقد كان موجودا حينها ، شيء ما داخله حثه على الدخول إلى المكتب ليجلس أمام الطاولة متحدثاً بجملة هو نفسه استغربها: أريد أن أحادثك بشأن مرضي.


رغم استغرابه لكن وجهه تهلل بسعادة، فكما خمّن تماما هاهو مجد مستعد لإصلاح خطأٍ لم يخطؤه هو لكنه ساعد على تفاقمه ،لم يقاطعه وكعادته كان وجه الطبيب بشوشا وهو يستمع إلى حديث مجد: أشعر أن أيمن يظلم نفسه ويظلم ريما بابتعاده.


سكت لثانية قبل أن يضيف:أرغب بمساعدتهما حقا، لكني لا أعلم كيف السبيل؟؟


رفع مجد عيناه إلى الطبيب الذي ابتسم مجيبا: أتعلم يا مجد لماذا رغب أيمن بالرحيل؟؟


حرك رأسه بنفي ليتابع الطبيب بنبرة مواربة، كأنه يدعو مجد لقراءة مابين سطوره : لأجلك أنت ، ولأنه يعلم بأن ريما لن توافق بأن ترتبط به لأجلك أنت أيضا.


رمش بعينيه بصدمة كأن الطبيب كشف الغطاء عن أمر لم يفطن له، إلى حد اللحظة ورغم كل مافعله مجد معهم، فالجميع إلى الآن يقدرون مشاعره، نعم الطبيب على حق، حتى آماليا لن ترضى بأن ترتبط بأدهم لأجله هو، حقا كيف لم يفكر في الأمر ؟؟


سكت الطبيب تاركاً لمجد حرية التفكير ، ولأنه يريده أن يتخذ قراره بنفسه دون ضغط ، اكتفى بأن لفت نظره إلى أن الأمر بيده الآن ، إلا أن الطبيب ربما لا يعلم كم هي مسؤولية ثقيلة ، أن تكون سعادة جميع من حولك منوّطة بك؟؟

حقا هي أمانة صعبة.....


لم يستغرق وقتا طويلا في التفكير فالحل واضح ، ولا وقت لتضييعه، التفت مجد إلى الطبيب طالبا الأذن: أريد الخروج لبعض الوقت.........


................................


أسوء قرار تتخذه في حياتك هو الهرب، ليس الأمر سهلا كما نعتقد ، لا أبدا ، أن تترك قلبك وجزءا من روحك خلفك ، هو أمر يعادل الموت.


جلس أيمن في صالة المطار منتظراً النداء ليصعد إلى طائرته، لكنه لا يشعر بالراحة ، هناك ماينغص عليه اقتناعه بقراره المحسوم ، سيرحل وحيدا تماما كما المرة الأولى ، تاركاً خلفه ابنته عند شقيقته لترعاها، لا يريد أن تقطع دراستها ، زدْ على ذلك أنها لن تتحمل مشقة السفر في حالتها الضعيفة تلك، رغم التحسن الواضح عليها ، إلا أنه لم يرغب بأن يتعبها الآن.


في الحقيقة ، كل ذلك لم يكن سوى عذرٌ سخيف، فابنته قد شفيت تماما، وفي استطاعته أن يسجلها في مدرسة ما حيث هو راحل ، لكنه أبقاها لأجل ريما ، لا يريدها أن تبتعد عنها ، كأن هذا ماهو إلا تعويض عن ظلمه لها طيلة سنين.....


لكن إحساس غريب داخله لا يعرف كنهه لا يدعه للراحة، فؤاده يصرخ لينهره ، يخبره بأنه جبان لم يدافع عن حقه بريما ، أنت ضعيف ذليل.

تعالى الصوت داخله يلومه بقسوة على قراره ، تململ على كرسيه كجالسٍ على صفيح ساخن ، مما جعله ينتفض مهرولا متناسيا حقيبته ، كأنه بهذا يجهد قلبه فيخرسه ، ولم يشعر بنفسه إلا وقد خرج من صالة المطار، جلس على الرصيف لاهثا ، نظر إليه بعض المارة باستنكار ، وأصوات السيارات القريبة تصم اذنيه إلا أنه لم يأبه لكل ذلك.


صعد صدره وهبط بإنهاك ، أحنى رأسه تحت رذاذ المطر ليغسله، ولو في ودّه أن تدخل القطرات الندية إلى عقله فتنظفه من كل تلك الأفكار والذكريات التي باتت تؤرقه.


لم يعرف كم من الوقت مضى على حاله ذاك، لكنه فتح عينيه عندما انقطع المطر ، رفع رأسه لتجحظ عيناه بمفاجأة ، وهو يرى مجد حاملاً في يده تلك المظلة التي حمته من المطر، لم يكن الأمر بهيّن على مجد ، إلا أنه ابتسم ببساطة متسائلاً: أما آن لصحرائك أن تزهر ؟؟

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثلاثون من رواية وصية والد بقلم على اليوسفى
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة