-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس والعشرون

 مطت جسدها بإرهاقٍ، مستشعرة وجود الألم في كامل عضلاتها؛ وكأنها قد قضت ساعاتها الأخيرة في ممارسة تمارين رياضية قاسية، غالبت رغبتها بالاستغراق في النوم، لتجبر عقلها على التيقظ. سمعت "فيروزة" همهمات غير واضحة، وقريبة من أذنها، تقلبت على جانبها لتجد ابنة خالها جالسة إلى جوارها تعبث بخصلات دميتها محاولة صنع جديلة مثل تلك التي اعتادت أن تصنعها لها، تثاءبت قبل أن تسألها بصوتٍ ما زال يغلفه آثار النعاس:

-بتعملي إيه يا "كوكي"؟

شهقت الصغيرة في صدمةٍ فرحة، تحركت سائرة على ركبتيها لتقترب أكثر منها وهي تسألها:

-إنتي صحيتي؟

نظرت لها بدهشةٍ، ورفعت جسدها قليلاً لتسنده على الوسادة، ثم أجابتها:

-أيوه، ليه في حاجة؟

دون مقدماتٍ احتضنتها "رقية" بمحبةٍ كبيرة، وتعلقت بعنقها، ضمتها "فيروزة" إليها، والاندهاش ما زال مسيطرًا عليها، لم يفقه ذهنها بعد لتصرفاتها الغريبة، أبعدتها عنها وأعادت تكرار سؤالها عليها:

-هو حصل حاجة يا "كوكي"؟

نظرت إليها بعينين تعكسان براءتها المحببة للنفس، أومأت برأسها قائلة:

-أه، إنتي تعبتي أوي، وأنا عيطت عليكي.

وضعت "فيروزة" يدها أعلى رأسها تفركه محاولة تذكر ما حدث، لمحات مما خاضته بدأت تتسرب إلى عقلها، لتذكرها بالحزن الراسخ في أعماقها، تنهدت ببطءٍ، ونفضت ما قد يعكر صفو مزاجها، ثم ابتسمت تطمئن الصغيرة:

-أنا بقيت كويسة أهوو، متقلقيش عليا.

عادت "رقية" لتحتضنها للحظاتٍ، رافضة تركها، استغربت ابنة عمتها مما تفعله، ومع ذلك ظلت تمسح على ظهرها بحنوٍ، تراجعت الأولى برأسها عنها، وابتسمت لها في صفاءٍ قبل أن تنحني على وجنتها، لتطبع قبلة صغيرة عليها، وهي تخبرها بنبرتها الطفولية:

-دي مني.

ضحكت "فيروزة" ملء شدقيها في سعادة، وقالت:

-إيه الدلع ده!

قفزت الصغيرة للناحية الأخرى، وأعطتها قبلة ثانية وهي تضيف:

-ودي من عمو.

ضاقت نظراتها في تعجبٍ مندهش، وسألتها بوجهٍ متعقد التعبيرات

-عمو مين؟

ردت بابتسامةٍ مرحة:

-اللي معاه عصايا بيمشي بيها.

تلقائيًا وجدت "فيروزة" لسانها ينطق باسمه، مستحضرة صورته في ذهنها، وتلك الخفقة تداعب قلبها:

-"تميم".

هزت الصغيرة كتفيها قائلة:

-معرفش.

ساورتها الشكوك، وحملقت فيها بشرودٍ للحظات غير مصدقة قدومه، كانت متيقنة إلى حد كبير أن ما خاضته من معاناة أهلكتها يعود لكابوس مؤلم احتوى على رواسب ما عاشته. قفزت بعدها "رقية" من على الفراش تنادي عاليًا:

-"فيروزة" صحت يا عمتو.

تتبعتها بنظراتها وهي تنصرف ركضًا للخارج، لتظل على حالتها الواجمة، أتت إليها والدتها بتعابيرٍ مشرقة تردد في حبورٍ:

-حمدلله على سلامتك يا "فيروزة".

أقبلت عليها، واحتضنتها بمشاعرٍ أمومية فياضة، ثم مسحت بيدها على بشرتها، وعيناها تتفحصان وجهها وهي تسألها:

-عاملة إيه دلوقتي؟

تجاهلت إجابة سؤالها، لتسألها بنبرة بدت محققة نسبيًا:

-حصل إيه يا ماما؟

جاوبتها "آمنة" بتعابيرها القلقة:

-رجعتلك الحالة يا بنتي إمبارح، ومابقتش عارفة أتصرف إزاي.

بشكلٍ آلي، لاحقتها بسؤالها التالي:

-وفي حد جه هنا؟

كان ردها مترددًا بعض الشيء:

-ده جوز أختك، ومعاه الدكتور، والمعلم "تميم" قريبه.

تأكدها من شكوكها جعل مشاعرها المستاءة تتغلب على باقي ما تشعر به، لم ترغب أبدًا أن يكون شعور التعاطف والإشفاق هو ما يُمنح لها من غيرها، وليس التقدير والاعتزاز، وحتى الحب. اِربدت خلجات وجهها بالضيق، وهتفت تعاتبها في استهجانٍ شديد:

-وإزاي يا ماما تخليهم يشوفوني في الحالة دي؟

بررت لها بأسفٍ:

-يا بنتي أنا مكونتش عارفة أتصرف إزاي، والمرادي كانت صعبة أوي عليكي، خوفت يجرالك حاجة.

كانت صادقة في لهفتها المذعورة عليها كأي أم تخشى أن يصيب صغارها مكروهًا، طردت كتلة من الهواء من صدرها، وعلقت بامتعاضٍ:

-خلاص يا ماما حصل خير.

أشــارت "آمنة" بيدها نحو كيس بلاستيكي يحوي بعض العبوات الطبية، وأخبرتها بلهجةٍ مهتمة:

-الدكتور كتبلك على أدوية، ووصاني أوديكي عند دكتور نفساني.

التطرق إلى مسألة الطبيب النفسي، نشط ذهنها بنفس ما خاضته من حوار قبل سابق مع الطبيب "هاني"، عندما اقترح عليها في إحدى المرات خلال متابعته اليومية لها، بضرورة اللجوء لطبيب متخصص في الأمراض النفسية، لمساعدتها على تجاوز أزمتها، والشفاء من جراحها المعنوية، لكونها تترك تأثيرًا سلبيًا على النفس. تدلت على زاوية فمها ابتسامةٍ متهكمة، وردت بوجومٍ:

-أه، إن شاءالله.

تابعت والدتها مضيفة بأسلوبها الحاني:

-أنا عملتلك شوربة لسان عصفور من اللي بتحبيها، هاجيبهالك تشربيها عقبال ما يجي ميعاد الغدا.

علقت ساخرة:

-حد ياكل شوربة على الصبح؟

ردت حاسمة النقاش معها:

-إنتي محتاجي تتقوي، شكلك هفتان ودبلان، مش هاسيبك تقعي من طولك تاني.

همهمت "فيروزة" بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيها:

-يا ريت الحكاية كانت أكل وبس يا ماما.

خرجت "آمنة" من الغرفة، واتجهت إلى المطبخ، قبل أن تصل إليه سمعت طرقًا على باب منزلها، فانحرفت بخطواتها ناحيته، فتحته بعد لف حجاب رأسها بغير ترتيبٍ حولها، دهشة سريعة اعترتها حينما رأت كم الأقفاص المليئة بالفاكهة المرصوصة أمام عتبتها، رفعت بصرها في اتجاه أحد العمال الذي استطرد قائلاً:

-سلامو عليكم يا حاجة.

ردت بتعابيرها المدهوشة:

-وعليكم السلام يا ابني...

أشارت بيدها نحو الأقفاص، وسألته:

-إيه دول؟

أجابها موضحًا وهو ينحني لرفع واحدًا يحوي ثمار التفاح الطازجة:

-الحاج "بدير"، ومعاه المعلم "تميم" باعتين دول عندكم.

هتفت معترضة بحرجٍ:

-بس ده كتير أوي.

وكأنها لم تتلفظ بشيء، سألها بشكلٍ آلي، منفذًا ما جاء لأجله:

-أحطهم فين؟

تنحت للجانب، لتفسح المجال له للمرور، وأجابته مشيرة بيدها:

-دخلهم جوا يا ابني.

تنحنح بصوتٍ خشن، قبل أن يمرق للداخل، ثم أخبرها وهو يتابع سيره نحو المطبخ:

-والمعلم بيبلغك إن الحاجة أمه جاية آخر النهار تزوركم، وهتتصل تعرفكم بده.

ردت بترحيبٍ:

-تشرف وتآنس، البيت بيتها.

انتظرت انتهائه من رص الأقفاص في ركنٍ شاغرٍ بالمطبخ، ومنحته مبلغًا بسيطًا نظير تعبه، شكرته بودٍ على مجهوده، ورافقته لباب المنزل، استدارت بجسدها لتجد ابنتها في إثرها تسألها في فضولٍ:

-هو مين جه عندنا يا ماما؟

تحركت في اتجاه المطبخ وهي تجيبها:

-دي زيارة باعتها الحاج "بدير" لينا.

قطبت جبينها متسائلة بغرابةٍ:

-بمناسبة إيه؟

خمنت والدتها السبب البديهي لإرســال تلك الكمية، وقالت ببساطة:

-الظاهر لما عرف إنك تعبانة حب يعمل الواجب لحد ما الست "ونيسة" تجيلنا بالليل.

رددت من خلفها:

-كمان؟ كبرتوا الموضوع أوي، وهو مش مستاهل.

انفرجت شفتا "فيروزة" عن دهشةٍ كبيرة عندما رأت ما تم إرســاله، حملقت في وجه والدتها، وصاحت مازحة:

-كل ده؟ هو بعت الدكان كله ولا إيه؟

تجاوزتها "رقية" لتقترب من قفص التفاح، التقطت واحدة، وسحبت أخرى، ثم التفتت نحو عمتها تستأذنها:

-عمتو ممكن أكل أنا و"فيروزة".

قرصتها "آمنة" من وجنتها، كنوعٍ من المداعبة، وهتفت بإيماءةٍ موافقة:

-خدي اللي عايزاه يا حبيبتي، بس استني أغسلهم الأول.

تناولت التفاحتين منها، وسارت في اتجاه الحوض لتغسلهما، ثم أعادتهما لها، فأسرعت "رقية" نحو ابنة عمتها، تمد يدها بواحدةٍ لها، وقالت بابتسامتها الصافية:

-اتفضلي.

انحنت عليها لتقبلها من رأسها، وشكرتها وهي تأخذها:

-تسلمي يا "كوكي".

قالت والدتها وهي تفرز ما في الأقفاص:

-أختك "همسة" مابطلتش سؤال عليكي، اتفقت مع جوزها إنها هتعدي علينا تقضي اليوم كله معانا.

هزت "فيروزة" رأسها متمتمة:

-مالوش لازمة تتعب نفسها، خليها في حملها.

علقت عليها بتنهيدة:

-هي مصممة، وراكبة دماغها.

ابتسمت وهي ترد:

-مافيش مشكلة يا ماما...

ثم أشــارت بعينيها وهي تتابع:

-خلينا نروق المطبخ اللي قلب على سوق الفاكهة ده.

رددت "رقية" وهي تقضم قطعة من ثمرتها، لتلوكها في جوفها:

-حلو التفاح بتاع عمو، تاخدي حتة يا عمتو؟

حديثها العفوي ذكرها بتلك القبلة الغريبة التي تلقتها منها على وجنتها، امتدت أناملها لتتحسس بشرتها، وهاجسٌ بداخلها يؤكد لها أنه أرادها تعلم بقدومه؛ لكنها لم تحبذ أن يكون اللقاء في أشد لحظاتها احتياجًا وضعفًا. تردد صدى كلمات "تميم" السابقة في عقلها، مذكرًا إياها بأنه دومًا معها، وإلى جوارها. حدقت "فيروزة" في التفاحة الموجودة براحتها، قربتها من شفتيها، وقضمت منها جزءًا وهي تبتسم بحياءٍ طفيف هامسة مع نفسها:

-الرسالة وصلت.

...................................................................

-يعني قولتلهم زي ما فهمتك؟

تساءل "تميم" بتلك العبارة، وهو يقف في شرفة منزله، تلك التي قضى بها ليلة الأمس حتى أشرقت عليه شمس اليوم الجديد، وهو يعيش لأجلها حالة من الغضب، يشوبها الغل، الحنق، والتخبط الممزوج بالتوهان. كل ما له علاقة بها جعله متحفزًا، في وضعية هجومٍ للاقتصاص لها. بجهدٍ جهيد عاد إلى منزله كابحًا رغباته الجائعة في سفك دمائه. نفخ الدخان في الهواء، وأطفأ عقب سيجارته شبه المنتهية في المطفأة المتزاحمة بعشرات السجائر المحترقة، ثم تابع كلامه معه بلهجته الآمرة، بعد أن استمع إلى رده:

-ماشي، ارجع على الدكان، وشوف وراك إيه وإنجزه.

ضغط على زر إنهاء المكالمة، ودس بين شفتيه سيجارة جديدة أشعلها بولاعته، ثم بحث بين الأرقام المحفوظة على هاتفه على رقم صديقه "ناجي"، اتصل به، ووضع الهاتف على أذنه منتظرًا إجابته، بادر الأخير مرحبًا به:

-صباحك فل يا معلم.

رد يسأله بنبرته الخشنة دون تمهيدٍ:

-عايزك في مصلحة كده، فاضي؟

أتاه رده قاطعًا:

-طبعًا يا صاحبي، دايس معاك.

سأله مستوضحًا، وقد احتدت نظراته المحملقة على مدى بصره:

-ماتعرفش حد من التجار حبايبنا قريب من (...)؟

غرق في الصمتِ لبرهةٍ، وكأنه يفكر في الأمر، قبل أن يجيبه:

-بيتهيألي في واحد أعرفه هناك، كنت خلصتله زمان كام مصلحة.

سأله مباشرة دون أن يوضح غرضه:

-ليك دلال عليه؟

تردد وهو يجاوبه:

-تقريبًا أه.

كرر عليه بحزمٍ، وقد قست نظراته بشكلٍ يبعث على القلق:

-أه، ولا لأ؟ أنا عايز رد واضح.

حمحم متسائلاً بفضول:

-ليا لي عنده، خير؟ إنت عايز إيه بالظبط؟

جاءه رده غامضًا، وتلك اللمعة الغريبة تظهر في حدقتيه:

-خدمة كده صغيرة، بس تركز عشان تُظبط.

أبدى استعداده التام لتلبية أوامره بترديده المذعن له:

-ماشي كلامك.

........................................................

في تلك الأثناء، ولجت "ونيسة" إلى غرفة ابنها لتدعوه لتناول طعام الإفطار، تفاجأت بفراشه نظيفًا، ومرتبًا؛ وكأنه لم يمسه طوال الليل، فتشت عنه بعينيها، فرأته يتحدث في هاتفه بالشرفة، انتظرته حتى أنهى مكالمته، ونادت عليه:

-يا "تميم"!

استدار ناظرًا ناحيتها، ثم حمل مطفأة السجائر في يده، وسار عائدًا للداخل بخطواتٍ شبه عرجاء، دون أن يأخذ عكازه الطبي. تقدم نحوها متسائلاً:

-أيوه يامه، عايزة حاجة؟

سألته بتعابيرها المغلفة بالاستغراب:

-هو إنت مانمتش في فرشتك؟

ورغم الإرهاق الظاهر على قسماته، إلا أنه قال نافيًا:

-لأ، مجاليش نوم.

سألته بنبرة مهتمة، وهي ترمقه بنظرةٍ منزعجة:

-وإيه اللي مسهرك كده؟

لم يكن الجواب بتلك السهولة ليمنحه لها، فعقله ظل مشغولاً بأمر معذبته، كيف يتذوق طعم الراحة، وهي محاصرة في أحزانها القاتلة؟ جفاه النوم من كثرة تفكيره في أحوالها، وبات الأرق رفيقًا ملازمًا له. انتبه لشروده اللحظي، وراوغها في الرد مغمغمًا باقتضابٍ:

-مشاغل.

عاتبته بخوفٍ غريزي:

-يا ابني صحتك، ده أنا مصدقت إنك بقيت أحسن عن الأول بكتير.

لاحت على جانب شفتيه ابتسامةٍ صغيرة وهو يعقب:

-سبيها على الله.

لعقت والدته شفتيها، وتابعت:

-أنا لاقيتك اتأخرت على نزول الدكان فقولت أعملك فطار.

شكر صنيعها قائلاً، وبنظرة ممتنة كذلك:

-كتر خيرك يامه.

انخفضت نظراتها نحو المطفأة المليئة بأعقاب السجائر المحترقة، شهقت لاطمة على صدرها قبل أن تنظر إليه لتوبخه:

-وإيه السجاير دي كلها؟ يا ابني ارحم صدرك.

كانت وسيلته المتاحة للتنفيس عن مشاعر الحنق الملتهبة بداخله، زفر الهواء على مهلٍ، وقال غير مبالٍ:

-ماتخديش في بالك...

ثم طلب منها بلطفٍ:

-اعمليلي بس قهوة من إيدك الحلوة، هاشربها وأبقى زي الفل.

عقدت حاجبيها متسائلة:

-والفطار؟

قال بتعابيرٍ ممتعضة:

-ماليش نفس.

بررت عزوفه عن تناول الطعام بقولها الساخط:

-هتاكل إزاي وإنت نفسك اتصدت بالسجاير؟!!

انحنى ليقبل أعلى كتفها، وهتف مدعيًا:

-معلش دماغي مش فيا، بأفكر في كام مصلحة عايز أنجزهم.

دعت له بصدقٍ:

-ربنا يقويك يا ضنايا، ويكرمك في كل خطوة بتخطيها.

أمن على دعائها المتضرع بترديده المناجي:

-يا رب.

انشغلت "ونيسة" بلملمة بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، بينما وضع "تميم" يده في جيب بنطاله، ليضم في راحته المخبأة مشبك رأسها، ذاك الذي احتفظ به حينما رأها بحلتها البيضاء، قطعة امتلكتها كانت حقًا سلواه في ليله الطويل الساهد، بقي بداخل كفه وهو يتشدق متسائلاً:

-بالحق كلمتي الست "آمنة" تسألي على بنتها؟

رفعت نظرها نحوه، وأجابته:

-أه يا حبيبي.

اشتدت قبضته على المشبك، وشعر بتسارع دقات قلبه، بالكاد حافظ على جمود تعابيره، وهو يسألها:

-وإيه الأخبار؟

اعتدلت في وقفتها قبل أن تجيبه:

-الحمدلله بقت أحسن.

أثلجت جملتها صدره، وشعر بقليلٍ من الارتياح يغمره؛ وإن لم يكن كاملاً، ادعى جموده، وهز رأسه معقبًا باقتضابٍ حتى لا يثير شكوكها نحو اهتمامه الزائد بها:

-خير.

تابعت إخباره وهي تسير في اتجاه الباب:

-بالليل هعدي عليهم مع أختك، واطمن بنفسي، واجب برضوه، هما عمرهم ما اتأخروا عننا في حاجة.

تلك المرة لم يستطع منع نفسه من الابتسام وهو يشكرها:

-تعيشي يامه.

أشارت له بعينيها ليتبعها:

-طب تعالى عشان تفطر مع أختك.

-حاضر يامه.

قالها باستسلامٍ وهو يخرج من جيبه المشبك، ليضعه في مكانه بالدرج العلوي بالكومود الملاصق لفراشه. أزاح منديل الرأس، ودسه أسفله ليحجبه عن الأعين، فتظل -كما تعهد لها- في مأمنٍ عن الضياع.

.................................................................

انتهى عامل القهوة المجاورة للدكان، من رص أكواب الشاي الزجاجية على الطاولتين المتلاصقتين، قبل أن يضع كوبًا منفصلاً مليئًا بالسكر على الجانب، ليعاود أدراجه مستأنفًا عمله في تلقي طلبات الزبائن. مد "سراج" يده، وأمسك بالملعقة ليضيف ثلاثة ملاعق من السكر في كوبه، ثم قلب المحتويات معًا، وخبط بطرف المعلقة على حافة كوبه، كتقليدٍ يُلازم الأغلبية من محبي تناول الشاي.

سلط أنظاره على "بدير"، و"هيثم"، يراقب ردة فعلهما بعد أن فاتحهما في موضوع شراء الدكان المملوك لـ "محرز" و"بثينة" بمبلغٍ ضخم. تردد كثيرًا قبل التطرق إليه؛ لكن بعد مضي ما يقرب من شهر على مقتل الأول، واستقرار الأوضاع تقريبًا في منزل الثاني ظن أن التوقيت مناسبًا للحديث عنه، بالإضافة لوضعه في الاعتبار أن تقبلهما للأمر يعني من وجهة نظره تمهيدًا للشأن الآخر الهام الذي يتوق شوقًا للحديث عنه. نفض عن عقله ما يشوش تفكيره، ووجه سؤاله لهما وهو يرفع شايه إلى فمه:

-ها قولتوا إيه؟

استغرق الاثنان في تفكيرهما المتأني، وتبادلا نظراتٍ مترددة بعد طرح "سراج" لعرضه السخي.

-خلينا ناخد وندي مع بعض الأول، وبعد كده هنديك كلمة فيه.

رد بتفهمٍ:

-خدوا راحتكم على الآخر، أنا مش مستعجل.

هتف "هيثم" مشددًا:

-لازم أعرض الحكاية دي على أمي.

لم يعارض رغبته، وحادثه بإصرارٍ:

-وماله، بس بدل قفلته كده، أهوو أشغله بمعرفتي.

تحدث "بدير" قائلاً:

-ربنا يسهل، اشرب إنت شايك.

استدار برأسه ليواجهه، ورد:

-حاضر يا حاج.

نهض "هيثم" عن كرسيه، وسحبه بيده للخلف مخاطبًا "بدير":

-أنا هاقوم أشوف النقلة جهزت ولا لأ، عايز ألحق باقي النهار.

عقب عليه زوج خالته بهزة رأسٍ خفيفة:

-ماشي يا ابني، الله يقويك.

انتظر "سراج" مغادرته، ليقرب مقعده قليلاً من مُضيفه، واستأذنه بصوتٍ جعله خافتًا:

-حاج "بدير"، ممكن أتكلم معاك كده في موضوع بعيد عن الشغل.

نظر له بإمعانٍ، وشجعه للمضي في حديثه:

-قول يا "سراج".

تنحنح لأكثر من مرةٍ ليجلي أحباله الصوتية، كذلك ليعطي نفسه الفرصة لترتيب أفكاره المتداخلة في رأسه، قبل أن ينطق أخيرًا بلمحةٍ من التردد:

-أنا عارف إنه مش وقته، ومايصحش بردك أفتح السيرة دي دلوقتي، بس عشمي فيك كبير بعد ربنا.

تفرس في وجهه متسائلاً بتوجسٍ ملحوظ:

-خير؟ قلقتني.

قال على الفور ليطمئنه:

-كل خير إن شاءالله يا حاج.

توقف للحظة عن الكلام ليستجمع شجاعته، وحرك فكه ليقول بتلعثمٍ كان ظاهرًا:


-أنا كنت.. يعني .. بأفكر .. لما..

انزعج "بدير" من مماطلته غير المفهومة، فصاح به بنفاذِ صبرٍ:

-ما تخش دوغري في الموضوع على طول.

بلع ريقه الذي جف كليًا من جوفه، وقبل أن يفكر في التراجع نطق دفعة واحدة بما يريده:

-هو بصراحة كده، أنا طالب القرب منك.

اندهش من طلبه العجيب، وسأله باستغرابٍ:

-القرب مني؟ قصدك مين؟

رمش بعينيه، وخفض رأسه متحاشيًا نظراته المسلطة عليه، ليوضح بعدها:

-أنا قصدي على ست البنات "أم سلطان"، بنتك يا حاج...

بحذرٍ اختلس النظر نحوه بعد أن لاحظ صمته، وتابع باقي كلامه:

-يعني بعد ما تخلص عدتها بأمر الله، لو مافيش مانع عايز أتقدملها.

جدية بحتة اكتست تقاسيم وجهه، وردد يسأله بصدمةٍ:

-بتقول إيه؟

برر على الفور نواياه الصادقة، حتى لا يُساء فهمه:

-اقسم بالله ما طمعان في حاجة غير رضاها، أنا غرضي شريف.

أطبق على شفتيه محتفظًا بصمته لبعضٍ من الوقت، وهتف أخيرًا بعد سكوت موتر:

-إنت فاجئتني يا "سراج".

ضغط عليه بتلهفٍ لم يستطع كتمانه:

-أنا عشمان إنك توافق يا حاج.

تهرب من منحه جوابًا مباشرًا، فقال:

-والله ما عارف أقولك إيه، ده مش وقته ولا مكانه.

استمر في تأكيد حسن نواياه:

-أنا عارف يا حاج، بس بأجرب حظي، ولو قلقان من معاملتي لـ "سلطان" الصغير اطمن، ده في عينيا، والله كأنه ابني بالظبط.

نظر له "بدير" مليًا بنظراته الثاقبة، تفرس في ملامحه، فرأى فيها -بخبرة السنين- جدية تامة على حُسن معاملة ابنته ورضيعها، إن ارتضى به زوجًا لها، بينما واصل "سراج" القول بحماسٍ أكبر، لا يعرف من أين جاءه بعد أن زالت الرهبة:

-وكافة شيء تطلبه ست البنات هايكون عندها، من مهر، وشبكة، وشقة في أجدع حتة.

زفر على مهلٍ، وأخبره بحياديةٍ:

-مش هينفع أديك كلمة دلوقتي، ولا حتى أقولك رأيي، الكلام مش معايا أنا بس.

هز رأسه معقبًا عليه:

-شور على اللي إنت عاوزه يا حاج، وخد وقتك على الآخر، أنا مش مستعجل، بس حبيت أمشي تبع الأصول، وأدخل البيت من بابه.

زم شفتيه لبعض الوقت، مديرًا الأمر في رأسه، قبل أن يتكلم في النهاية:

-ربنا يقدم اللي فيه الخير.

رفع "سراج" كوبه إلى فمه، وقال بابتسامةٍ متحمسة:

-بإذن الله، ونشرب المرة الجاية الشربات.

سدد له نظرة صارمة وهو يعلق على جملته الموحية:

-طب اشرب شايك الأول.

ابتسم في سرورٍ وهو يرد:

-ماشي يا حاج.

.......................................................................

راقباه جيدًا، خلال سيره المتهادي، على الطريق الزراعي، ليعود إلى منزله بعد انقضاء عمله مع المستأجرين من الفلاحين؛ كان "فضل" لسوء حظه يمشي بمفرده، مما بدا صيدًا سهلاً لمتعقبيه، هؤلاء الذين جاءوا خصيصًا إليه. تحركت السيارة في إثره ببطءٍ لتتبعه، ونظرات من فيها مرتكزة عليه. تساءل "حمص"، وعيناه لم تحيدا عنه:

-هننفذ دلوقتي؟

أخبره "شيكاغو" بصوته المتحشرج، وهو يلقي بسيجارته من النافذة:

-لأ استنى، قبل الكوبري.

برزت ابتسامة انتشاء على محياه، وردد بتحفزٍ:

-اشطا .. شكلها هتبقى ليلة فل.

من المقعد الخلفي شدد عليهما "ناجي":

-عايزين نجيبوه في السريع، ده متوصي عليه جامد.

رد "شيكاغو" بتذمرٍ، وهو ينظر إليه عبر مرآته الأمامية:

-هي دي أول مرة يا ريس.

وعند نقطة معينة، وقبيل وصول "فضل" للكوبري العلوي الذي يمر من أسفله مصرفًا زراعيًا، وفي نفس الوقت يربط بين ضفتي البلدة، ضغط "شيكاغو" على دواسة البنزين، مضيقًا المسافة عليه، وليحاصره أيضًا عند مطلعه. توقف عن السير، وهمَّ بالتشاجر مع راكبي السيارة، غير متوقع أن ما يحدث معه ما هو إلا حيلة لاختطافه .. في لمح البصر ترجل كلاً من "حمص" و"ناجي"، وانقضا عليه يجذباه بشراسةٍ من جسده نحو المقعد الخلفي للسيارة، رفع "شيكاغو" جسده عن المقعد لينضم إليهما، وضرب مؤخرة رأسه بشيء ثقيل ليفقده الوعي، ثم هتف فيمن معه:

-يالا يا رجالة.

استقر الجميع في أماكنهم، بعد إحكام الوثاق عليه، ليتولى "شيكاغو" بعدها القيادة منطلقًا نحو وجهة محددة تم الاتفاق عليها مسبقًا، إلى حيث يتواجد "تميم".

............................................................

أفاق على وخزة مؤلمة في جانب كتفه؛ وكأن شيئًا غليظًا ضربه فيه، كان من الخير له أن يظل فاقدًا للوعي، فما ينتظره من مشاعر الغضب الساخطة سيفوق ما يمكنه تحمله. فرك "فضل" جانب رأسه بيده وهو يتأوه بأنينٍ بدا كالنعير، وما إن فتح عينيه، حتى رأى آخر من يرغب في رؤيته الآن، واقفًا عند قدميه، ينتظره بترقبٍ، وبملامحٍ فَزِع منها للغاية. كان جبانًا للحد الذي يجعله ينطق بذلك علنًا، متجنبًا أي مواجهات حقيقية مع الرجال الأشداء. حاول الاعتدال في رقدته على الأرضية الباردة وهو يتساءل:

-أنا فين؟

أجابه "تميم" بصوتٍ أجش، وهو يحدجه بنظراته المعبأة بقساوة السجون:

-عندي.

بلا عكازٍ ليستند عليه، وبشموخٍ يبعث الرهبة في النفس، استأنف كلامه في صيغة سؤالٍ تهديدي:

-مش أنا حذرتك قبل كده ما تقربش منها لا بحلو ولا بوحش؟

رغم فهمه لتلميحه المبطن بأنه يقصد "فيروزة" بجملته تلك، إلا أنه بطبعه الجبان أنكر أي اتهامٍ قد يضره، وهو يزحف بمرفقيه للخلف، ليبتعد عن محيط شره المستعر:

-وربنا ما عملت حاجة.

هدر به ينعته بكلمات نابية، وبصوتٍ زلزل الجدران:

-يعني مش بس (***)، لأ كمان كداب.

ازدرد ريقه، وهتف بصوتٍ مرتعش:

-صدقني يا ... معلم.. أنا قاعد هنا في حالي، لا روحت ولا جيت.

تقدم نحوه "تميم"، وأحنى جذعه قليلاً لتصل قبضته المتشنجة إلى قدمه، أمسك به منها، محكمًا أصابعه عليها، بحيث لا يقدر على الإفلات منه، جذبه إليه بكل ما يعتريه من قوة غاضبة تزداد في حدتها بمرور الوقت، ليصيح بعدها متوعدًا بوجهٍ غابت عنه الوداعة:

-وقت الحساب أزف ................................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السادس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة