-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والعشرون

 لوقتٍ متأخرٍ بعض الشيء، بقى والده منتظرًا انصــراف جميع العمال بالدكان، ولم يكن هذا من عاداته، للانفراد بابنه للحديث معه حديثًا جادًا، وبعيدًا عن الصخب المحيط بهما. تأكد "تميم" من إغلاق أبواب الدكان الداخلية والخارجية، ثم جر المقعد الخشبي في اتجاه أبيه، أسنده إلى جواره، وأراح جسده عليه متسائلاً في اهتمامٍ وهو يركز بصره عليه:

-خير يابا؟ كنت عايزني في إيه؟

أطلق "بدير" زفرة بطيئة من صدره، استطرد بعدها يخبره على مهلٍ، مستخدمًا تشبيهًا ملائمًا، ليبدو مُقنعًا في حُجته:

-قولي يا "تميم"، لو في مرة كده جيت لاقيت أختك قاعدة هنا مكانك، بتتساير مع واحد من المعلمين حبايبنا، وهو واخد راحته أوي معاها، مش مدي اعتبار لحد، ساعتها هتعمل إيه؟

فهم مقصده، والمغزى من وراء كلامه المُعاتب، دون الحاجة للاستفاضة في الإيضاح؛ كان يقصد طاووسه بتوريته عنها، فأطرق رأسه حرجًا منه، وغمغم في ترددٍ:

-أنا..

قاطعه والده بصوته الرزين:

-متقولش حاجة، ولا تبرر..

ظل "تميم" محنيًا لرأسه، بينما استمر أباه في مخاطبته بنفس الأسلوب المتريث العقلاني:

-أنا بس عايز أفهمك، إن اللي مانرضهوش على بناتنا، مانرضاش بيه على بنات الناس.

هز رأسه يؤيده وهو يرمش بجفنيه:

-معاك حق يابا.

وضع "بدير" راحته على كتف ابنه، وضغط عليه قائلاً:

-لو عينك منها، وعايزها، يبقى بالأصول ...

أحس بتدافع دقاته بعد جملته تلك، وزادت حدة باستكماله:

-وندخل بيوت الناس من بابها، مش ننط زي الحرامية.

حمحم في خفوتٍ، متجنبًا نظراته الكاشفة لأمره:

-حاضر.

أومأ "بدير" برأسه في هزة صغيرة، ومدح أخلاقها قائلاً:

-بس هي بنت حلال، وتستاهل كل خير.

وكأن ما قاله عنها راقه، فابتسم "تميم" بتلقائيةٍ، وأخذ يفرك أصابع كفه في توترٍ. ضحك والده مُضيفًا بتسليةٍ، وقد راقه رؤية ابنه متخبطًا:

-لأ وإنت قايم تجيبلها من التفاح الفاخر.

لازم "تميم" الصمت، ووجهه يكسوه تعابيرًا حرجة، فلكزه والده بقليلٍ من القوة في ذراعه، وهو يتابع:

-شكلك متوصي بيها بقى.

تنحنح مجددًا وهو يعقب عليه:

-خلاص يا حاج.

استقام "بدير" واقفًا، وأخبره بلهجته الجادة:

-لكل مقامٍ مقال، وده مش وقته...

ثم أشــار نحو باب الدكان المفتوح، وأمره:

-شِد الباب ويالا بينا، يدوب نلحق الجماعة في البيت.

قال ممتثلاً له بطاعةٍ واضحة:

-حاضر يا حاج.

تحرك في اتجاه باب الدكان المفتوح، أغلقه بقفلٍ داخلي، ثم امتدت يده للأعلى لسحب باب الصاج للأسفل، وانحنى بجذعه لتلامس يده القفل الأرضي. اعتدل في وقفته، واستدار نحو والده ليقول بصوتٍ شبه مجهد:

-بالمناسبة، أنا هسافر كام يوم كده.

ضيق عينيه متسائلاً بدهشة:

-عشان إيه؟

أجابه بردٍ حيادي، لا يثير الشكوك:

-ورايا كام مصلحة لازم انجزهم لناس حبايبي قاصدني فيها من زمان.

سأله بنبرة محققة نسبيًا:

-وماينفعش حد يروح مكانك؟

بإيماءةٍ نافية من رأسه منحه جوابه:

-لأ، صعب .. وبعدين هما متعشمين فيا.

لامه على إصراره بنظرةٍ محذرة:

-سفر وإنت لسه تعبان؟!

أكد عليه وهو يفرد ذراعيه:

-الحمدلله أنا بقيت أحسن ...

اتسعت ابتسامته أكثر وهو يتابع باقي جملته:

-وبعدين يابا الرزق يحب الخفية.

علق عليه ببساطةٍ:

-ماشي، بس إن لبدنك عليك حق.

كرر على مسامعه مؤكدًا وهو يقبل ظهر كفه وباطنه:

-والله أنا كويس يا حاج، الحمدلله في نعمة من ربنا.

حرر والده زفرة بطيئة من رئتيه، وسأله على مضضٍ:

-وسفرك ده هايكون امتى؟

حك "تميم" طرف ذقنه قائلاً:

-لسه مش عارف بالظبط، لما أرتب معاهم.

بوجهٍ ما زال مترددًا بعض الشيء اختتم حواره معه:

-طيب .. ربنا يقدملك اللي فيه الخير.

اقترب "تميم" من والده، وانحنى على كتفه يقبله في تقديرٍ، قبل أن يتحرك الاثنان معًا نحو سيارته التي عاد لقيادتها مؤخرًا، والآمال معقودة في نفسه على إنجاح مسعاه الدؤوب.

........................................................

بحرصٍ مبالغ فيه، تعاون ثلاثتهن على إجلاسه على المقعد المدولب، قبل وضع غطاءٍ رقيق على ساقيه، لتبدأ بعدها "فيروزة" في إرشاده إلى كيفية استخدامه بشكلٍ مبسط، من خلال الكُتيب المرفق معه، فانعكست مظاهر السعادة على محياه. ترقرقت العبرات في عيني "خليل"، ونطق بصعوبةٍ:

-أنا... فرحـ...ان.

رددت "آمنة" داعية له في سرورٍ كبير:

-دايمًا يا رب.

تساءلت "رقية" في مرحٍ، وهي تقفز على ساقي أبيها، لتجلس في حجره:

-كده بابا يعرف يوديني في كل حتة؟

ردت عليها "همسة" بضحكة مبتهجة:

-طبعًا يا "كوكي"، شوفي بقى عايزة تروحي فين.

هتفت مقترحة على الفور:

-الملاهي.

ضحكت "فيروزة" هي الأخرى، واعترضت بلطفٍ:

-مش أوي كده يا "كوكي".

توقفت الابتسامات المرحة عندما نادى "خليل" شقيقته بلسانه الثقيل:

-"آ...آمنة".

على الفور سألته في نبرة مهتمة:

-أيوه ياخويا، عايز إيه واعملهولك؟

أخبرها على مهلٍ، محاولاً ترتيب جملة مفيدة:

-اطـ...لعي.. افتحـ..ي .. الدولاب، وخـ...دي فلـ..وس منه.

تعقدت ملامحها متسائلة في استغرابٍ:

-بتوع إيه؟

أجاب بعد لحظةٍ من الصمت:

-الـ...كرسي

احتجت على دفعه لثمن هديتها، وقالت بعبوسٍ طفيف:

-ودي تيجي يا "خليل"؟

رد بإصرارٍ:

-عشـ...ان.. خاط..ري.

تمسكت برفضها بعنادٍ أكبر منه:

-والله ما يحصل.

اقتربت "فيروزة" منه، وأخبرته هي الأخرى بابتسامةٍ ودودة:

-لأ يا خالي، دي هدية ماما ليك، عايز تزعلنا ولا إيه؟

رفع أنظاره نحوها، وقال بعينين تلمعان بندمه:

-بس.. كده... كتـ..ير.

حافظت على ابتسامتها الرقيقة وهي ترد:

-مافيش حاجة تكتر عليك.

بدت حدقتاه وكأنهما تحتجزان الدموع فيهما، أطرق رأسه شاعرًا بالأسف، قبل أن يحرك شفتيه ليقول:

-أنا.. ما..ستهلـ..ش ده منــ...كم.

لم تحبذ "فيروزة" التطرق للذكريات الحزينة التي عاشتها على يد خالها، وأخبرته وهي تدفن رواسبها الأليمة في أعماقها:

-خلينا ننسى اللي فات، وبعدين "كوكي" عايزة تتفسح، مين هيفرجها على كل الأماكن الحلوة غيرك؟

منحها نظرة نادمة عبرت عن مدى شعوره بالخزي من تصرفاته العنيفة معها فيما مضى، لو كان بقدرته إعادة عجلة الزمن للوراء لما تردد لمحو ما تسبب فيه من ضرر نفسي وبدني لها. تحولت أنظاره نحو توأمتها التي استطردت قائلة:

-أنا اتفقت مع "هيثم" يجيب عمال يعدلوا في السلم، بحيث يبقي سهل تطلع وتنزل عليه من غير ما حاجة تحوشك.

سألها في عدم تصديق، وقد فشل في السيطرة على دموعه:

-كــ..ل ده.. عشــ..اني؟

قالت "آمنة" بوجهها البشوش وهي تتحرك لتقف خلفه:

-إنت راجلنا دلوقتي يا "خليل"، ربنا يخليك لينا، ولبنتك.

بصوت غص بالبكاء كرر اعترافه:

-سـ...امحـ...وني، أنا جــ..يت .. علـ...يكم أوي.

ربتت "آمنة" على كتفي شقيقها بحنوٍ، ومالت عليه لتقبل رأسه وهي تخبره:

-عفا الله عما سلف ...

اعتدلت في وقفتها وصاحت وهي تتجه نحو الطاولة لتأتي بطبق الحلوى الشرقي الذي أعدته سلفًا:

-سبونا من الزعل، ويالا عشان تكلوا لقمة القاضي، أنا عملاها حكاية.

هللت "همسة" في حماسٍ، وكلتا يداها تتسابقان لاختطاف أكبر قدر من حلواها الشهية:

-طول عمرك أستاذة في الطبيخ يا ماما.

حذرتها "فيروزة" بنوعٍ من المزاح:

-طب بالراحة، مش عايزين يطلعلك بدل الكرش اتنين.

ضحكوا جميعًا على طرفتها، فتجهت تعابير توأمتها قليلاً، ومع هذا استمرت في دس الحلوى في فمها، وتناولها باشتهاءٍ سعيد.

..................................................................

كلما اختلى بنفسه، كلما تذكر إهانته وإذلاله، بالرغم من انقضاء بضعة أيام على الاعتداء عليه، إلا أنه لم يتجاوز بعد شعوره بالخزي والمذلة. ما زالت ذكراته تنتعش وتشرد بتذكر تفاصيل المشهد؛ وكأنه حدث بالأمس، حينما انسحق وجهه في نتوءات الجليد المتجمد على جدار غرفة التبريد بالدكان الذي احتجز به، قاوم آنذاك الأيادي المتطاولة عليه وهي تصفعه بعنفٍ على صدغه ومؤخرة عنقه. صوت صرخاته انفلت حينما شعر بلسعات مؤلمة تصيب عجيزته وظهره بشيء حاد، فعلى ما يبدو وجد "تميم" واحدة من خشب الخيرزان الرفيع ليبرحه ضربًا بها، والأخير لم يبخل في تلقينه درسًا قاسيًا. زادت حدة الألم غير المحتمل مع انتقال الضربات الموجعة إلى موطن فخره، فنالت الالتهابات والجروح من معظم جلده، وأصبح عاجزًا عن الاستلقاء أو الجلوس، وبقي غالبية الوقت واقفًا ليتجنب وخزات الألم الحادة. تعافى "فضل" قليلاً، وما زال جسده يحتفظ بآثار الاعتداء ليُذكره بأن إذلاله لم يكن هينًا، صوت الضحكات الهازئة به أيضًا ما زال يتردد في أذنيه، خاصة مع لمحه لومضاتٍ سريعة خاصة بأحد الهواتف، لالتقاط صورًا فاضحة له لضمان اكتمال إذلاله، وكسر شوكته، فلا يجرؤ على رفع صوته، أو الشكوى، أو حتى التطرق إلى ذلك مُطلقًا، وقد كان .. بقي ذليلاً، كسير النفس، شعوره بالخزي والمهانة يتضاعف مع مرور الوقت. نفخ الهواء في زفيرٍ طويل، وغمغم مع نفسه وهو يفرك كفه بالآخر، أثناء جلوسه -مائلاً إلى حد ما بجسده- على المصطبة:

-عرفت تذلني صح، وماتخلنيش أعرف أرفع عيني فيك، ولا أوري وشي لمراتي ولا غيره.

تجسد طيف وجه "فيروزة" في مخيلته، وتابع حديث نفسه، مُلقيًا بكامل اللوم عليها:

-كل ده بسببها هي.

صر على أسنانه يتوعدها:

-آآآخ لو كنتي تحت إيدي.

شعر بطنينٍ في أذنه أخرجه من سرحانه الدائم، ليحدق أمامه في وجه والده الذي زجره بصبرٍ نافذ:

-إنت مش سامعني يا "فضل"؟

رفع بصره إليه، وسأله بفتورٍ سمج:

-أيوه يا حاج، في حاجة؟

صاح به "اسماعيل" بضجرٍ كبير:

-إنت هتفضل قاعد كده مبلط في البيت لا شغلة ولا مشغلة؟ الناس تقول عنك إيه؟

علق في سخطٍ، وهو يلوي شفتيه:

-وقعدتي دي مضايقة الناس في إيه؟

جاءه تعقيبه المستريب:

-يا ابني إنت داخل فوق الـ 10 أيام قاعد فيهم هنا، مش بعوايدك يعني.

زفر عاليًا، قبل أن يرد بنبرة متبرمةٍ:

-بأريح يابا، على طول بشقى، مافيهاش حاجة لما أخدلي كام يوم أفرد فيهم جتتي.

سأله والده مستفهمًا:

-وموضوع مراتك؟

انقلب وجهه أكثر وهو يبادله السؤال:

-مالها سُخام البرك دي؟

انزعج من إهانته لها، ومع ذلك تجاوز عن تلك النقطة ليسأله مستوضحًا:

-هتعمل معاها إيه؟

بسماجةٍ أخبره:

-هي مش أمي راحتلها تطيب خاطرها بكلمتين؟ خلاص بقى، مش ناقص خوتة على الفاضي، ما تعملهاش شغلانة.

عنفه بحدةٍ، وقد اختلجت حمرة غاضبة تعابيره:

-ده إنت اللي غلطان في حقها، وحالتها وحشة وآ...

قاطعه بعدم اكتراثٍ:

-يابا سيبك منها، دي ولية تجيب النكد.

توجهت أنظارهما نحو "سعاد" التي جاءت تجرجر ساقيها في ثقلٍ؛ وكأنها تحمل فوق ظهرها أثقالاً، تساءل زوجها أولاً بما يشله القلق، وهو يتفرس ملامحها الواجمة:

-مالك يا "سعاد"؟ سحنتك مقلوبة ليه إنتي التانية؟

ركزت عينيها مع ابنها، وخاطبته بصوتٍ اكتسب رنة حزنٍ:

-مراتك سقطت اللي في بطنها يا "فضل".

هتف "اسماعيل" مصدومًا:

-لا إله إلا الله، لطفك يا رب.

على عكسه بدا "فضل" غير مبالٍ، وقال بجمودٍ؛ وكأن خسارة الجنين ليس بالخطب الجلل:

-أحسن، خدت إيه من خلفتها يعني!!

هدر به والده في حرقةٍ:

-يا ابني إنت جبلة؟ اللي نزل ده من صلبك!

التفت يقول بنفس الأسلوب اللزج:

-نصيبه بقى، هعمل إيه يعني؟

علق "اسماعيل" رأس عكازه على ذراعه، وضرب كفه بالآخر مرددًا في نبرة بائسة متحسرة:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، استعوضت ربنا فيك وفي تناحتك.

جلست "سعاد" على المصطبة الخشبية، وأضافت في تحيرٍ:

-الواحد مش عارف ياخد بخاطرها إزاي، دي يا حبة عيني آ...

قاطعها "فضل" بأسلوبه المتنمر:

-يامه سبيك منها، متعمليش ليها قيمة، كده هتخليها تركب وتتنطط علينا.

استدارت ترمقه بنظرةٍ حادة، لتوبخه بعدها:

-ياخي ده بعدها عنك غنيمة، فالح تخلينا ناخد عدوات مع الناس.

رد بسخافةٍ أكبر:

-والله إنتي اللي ما عارفة تتعاملي مع الأشكال اللي زي دي.

انتفضت "سعاد" واقفة، وحدجته بنظرة مستاءة قبل أن تقول بتجهمٍ:

-أنا داخلة جوا بدل ما أقعد أسمع كلام يحرق الدم.

رسم ابتسامته اللزجة على ثغره، واستطرد:

-براحتك يامه.

تمهل في مخاطبة أبيه ريثما تغادر والدته المكان، ونهض واقفًا ليقترب منه، ثم تشدق قائلاً:

-بص يابا، أنا عايز أغير عتبة، والبت "سها" بقت فقر عليا، وجيبالي الهم.

سدد له نظرة محتدة قبل أن يزيد في تعنيفه المنزعج منه:

-شوف أنا بكلمه في إيه، وهو بيقول إيه؟!!

استقام في وقفته؛ لكن آلام جسده جعلته يعاود الانحناء، ثم بلع ريقه، وأخبره بما شبه التفاخر:

-أنا راجل، وأقدر أفتح بدل البيت اتنين وتلاتة...

توقف لهنيهة ملتقطًا أنفاسه ومراقبًا لردة فعله، ثم استأنف بعدها:

-وطالما مش مرتاح مع وش البومة دي، ليه ماتجوزش اللي تدلعني، وتشوف طلباتي؟

قست نظراته متسائلاً بنبرة لائمة:

-هي مراتك قصرت في حاجة؟ ده إنت جاي عليها أوي يا "فضل، ده بدل ما تقف جمبها وآ...

قاطعها ناعتًا إياها بعصبيةٍ:

-دي ولية نكد، وماتتعشرش..

ثم تقوست شفتاه عن ابتسامة ماكرة وهو يضيف:

-وبعدين الجديدة مش هتكلفني كتير، أخرها أوضة نوم عمولة، وكام هِدمة جديدة.

رمقه والده بنظرة احتقارية طالته من رأسه لأخمص قدميه قبل أن يهتف به:

-تصدق الكلام معاك يفور الدم.

همَّ بالتحرك مبتعدًا عنه؛ لكن صوتًا عاليًا استوقفه في مكانه حينما ناداه:

-حــــاج "اسماعيل".

تنحنح مصدومًا لحضور والد "سها"، وقال بلجلجة محسوسة في صوته:

-يا أهلاً وسهلاً.. بالغالي، لسه.. كنت بتكلم مع ابني، وبأقوله.. لازمًا نروح ناخد بخاطر.. الغالية مراته، وآ....

قاطعه بتشنجٍ، وبانفعالٍ كبير:

-لا مرواح ولا مجي، ومعنتش عايز كلام ولا سلام، احنا نفضنا من الجوازة الهم دي.

حفظًا لماء وجهه، رجاه "اسماعيل" بهدوءٍ، عله يمتص غضبه المندلع:

-الكلام أخد وعطا، اسمع بس يا حاج، واقعد مش هنتكلم على الواقف.

تجاهل استجدائه الضمني، ورفع إصبعه في وجهه ينذره:

-خلي ابنك يطلق بنتي بالذوق، بدل ما أعمل فيه محضر أبهدله، ده عشان العِشرة القديمة.

لعق شفتيه، واستعطفه:

-طب بس آ...

قاطعه بنفس الأسلوب الحاد:

-ومافيش سلامو عليكم.

انصرف الرجل مغمغمًا بكلماته الناقمة، فالتفت "اسماعيل" نحو ابنه يعنفه بغضبٍ:

-مبسوط دلوقتي؟

بدا منتشيًا من الأمر؛ وكأنه جاء على أهوائه، فعلق بسعادةٍ غريبة:

-جبت من عندهم، بكرة أتجوز ست ستها وأكيدها.

نظر له بنظراتٍ احتقارية، وردد في استهجانٍ وهو يتحرك مبتعدًا عنه:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، فوضت أمري فيك لله.

................................................................

جاء لرؤيتها في منزلها بعد انتهائه من استخراج إعلام الوراثة الخاص بزوجها الراحل، كان يسعى جاهدًا لتعويضها عما لاقته في غربتها، إيمانًا منه أنها تستحق الأفضل بعد تجربتها المؤلمة، لولا سوء حظها لكانت حظت بشريكٍ آخر غير "آسر"، فتذوقت معه رحيق الحب وتنعمت في ملذاته. ارتشف "ماهر" بضعة رشفاتٍ من فنجان قهوته، وعاد ليحدق بها وهي تتطلع إلى الورق الرسمي الذي قدمه لها بعد إنهائه للإجراءات القانونية بناءً على تفويضها الرسمي، تنهدت قائلة بغير رضا:

-برضوه يا "ماهر" بيه؟ مكانش في داعي.

رد بهدوءٍ:

-أيوه يا "فيروزة"، ده حقك الشرعي، ماينفعش ماتخديهوش.

أخفضت نبرتها لتخبره:

-حضرتك عارف الفلوس دي مصدرها إيه وجاية منين.

خبت نبرته هو الآخر عندما علق عليها:

-وأنا قولتلك قبل كده إنها من أملاكه اللي ورثها عن أهله ...

التوى ثغره بتعبيرٍ منزعج وهو يستكمل كلامه، ليوضح لها الصورة كاملة:

-يعني قبل ما يتلط في الشغلانة الهم اللي كان فيها.

لفظت دفعة من الهواء الثقيل عن رئتيها، وهمهمت في ترددٍ:

-مش عارفة أقول لحضرتك إيه.

أراح ظهره للخلف بعد أن أمسك بفنجانه، ونصحها مبتسمًا:

-ابدأي من جديد، وعيشي حياتك، الدنيا مابتقفش على حد.

أومأت برأسها قائلة:

-ربنا ييسر اللي فيه الخير.

لانت نبرته قليلاً وهو يرجوها:

-أنا بس عايز أطلب منك طلب، ده شيء شخصي شوية.

انعقد حاجباها إلى حدٍ ما في توجسٍ وهي تبدي ترحيبها:

-اتفضل، تحت أمرك.

أشار بسبابته مشددًا عليها:

-مهما حصل ماتخليش "علا" تعرف، مافيش داعي نتكلم في حاجة انتهت.

بلعت غصة الألم في جوفها، وأكدت له بابتسامةٍ مصطنعة، خبأت ورائها جراحًا لم تندمل بعد:

-أنا لسه على اتفاقي معاك يا "ماهر" بيه، اطمن.

ترك فنجان قهوته في الصينية، واستقام واقفًا، ثم تطلع إليها قائلاً بجديةٍ:

-عمومًا أنا موجود في الخدمة، ورقمي معاكي، وقت ما تعوزي أي حاجة اطلبيني على طول، ماتكسفيش مني يا "فيروزة".

وقفت هي الأخرى لترد عليه ببسمةٍ صغيرة:

-حاضر.

وقفت والدتها عند أعتاب غرفة الصالون وفي يدها طبقًا من الحلوى، تقدمت نحوه قائلة:

-اتفضل يا بيه، حاجة بسيطة كده يا رب تعجبك.

اعتذر من جودها بلباقةٍ:

-شكرًا يا حاجة، أنا يدوب هامشي.

اعترضت هاتفة:

-ما لسه بدري؟ ده احنا ملحقناش نعمل مع سيادتك الواجب؟

أصر على ذهابه بقوله المهذب:

-تتعوض وقت تاني، عشان ورايا شغل، عن إذنكم.

تنحت "آمنة" للجانب لتسمح له بالمرور، وتبعته "فيروزة" لتودعه وهي تقول من خلفه بودٍ:

-شرفت وأنست يا "ماهر" بيه.

......................................................

-خلاص يا ابني جهزت حاجتك؟

تساءلت "ونيسة" بتلك العبارة وهي تلقي نظرة متفحصة على الحقيبة التي امتلأت عن آخرها بثياب ابنها، ساعدته في غلق السحاب، بعد وضع جوربًا نظيفًا في الجيب الأمامي لها. جلست على طرف الفراش، وراقبته وهو يحمل الحقيبة ليضعها بجوار دولابه. التفت "تميم" ناظرًا إليها ليرد بتنهيدة شبه متعبة:

-أيوه يامه، الحمدلله.

سألته في استغرابٍ حائر وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها:

-بس لازمتها إيه الهدوم دي كلها؟ هو إنت مهاجر على طول؟

ابتسم مبررًا لها بوجهه السَمح:

-عشان لو الهدوم اتبهدلت مني، مش معقول هالبس حاجة مش نضيفة؟

علقت بتبرمٍ:

-أنا مش فاهمة يعني، ناس مين دول اللي مش قادرين يمشوا الشغل من غيرك؟!

ببساطة أتاها رده:

-يا ستي حبايبي كتير، ووقت ما بتزنق واحتاج حد فيهم، بلاقيه في ضهري.

كان محقًا في هذا، فحينما تعرض لأزمته الأخيرة وجد عددًا من أصدقائه يقفون إلى جواره، يشدون من أزره، ويتسابقون في تلبية طلباته، مسحت "ونيسة" بيدها على ظهره في رفقت، وهتفت داعية له:

-ربنا يوقفلك ولاد الحلال، ويكفيك شر الطريق.

أمسك بكفها واحتضنه بين يديه وهو يرجوها:

-أيوه يامه ادعيلي.

قالت بعينين لامعتين:

-دعيالك والله، لساني مابيبطلش.

مال "تميم" على كتف أمه يقبلها منه، فأكملت في صوتٍ شبه خافت:

-وعقبال ما يكرمك ببنت الحلال اللي تستاهلك.

رفع رأسه لينظر إليها بابتسامة تفترش ثغره، وعيناه تنشدان استجابة قريبة من المولى لمناجاته المتواصلة، هسهس مؤمنًا عليها بين جوارحه:

-يـــــا رب.

..........................................................

بعد وقت الظهيرة بقليل، خرجت كلتاهما معًا، تمشيان الهوينا، وتتأبطان ذراعيهما، على الرصيف الذي يعج بمحال شراء الثياب المختلفة، والقريب من طريق الكورنيش. ألقت "فيروزة" نظراتٍ خاطفة على الواجهات المزدحمة بأحدث ما أنتجته بيوت الأزياء والموضة العالمية، تساءلت وعيناها معلقتان على إحدى البلوزات اللامعة:

-مقولتليش بقى رايحين فين؟

سحبتها "همسة" للأمام؛ وكأنها تجرها، بعد أن تباطأت في سيرها، لترد بغموضٍ:

-هتعرفي، احنا قربنا نوصل خلاص.

أدارت توأمتها رأسها نحوها، وحذرتها بلهجةٍ لم تكن متساهلة:

-بلاش تمشي كتير، الدكتور منبه عليكي، مش عايزينك تتعبي مننا.

قالت في تذمرٍ:

-هو أنا بقيت بأعمل حاجة أصلاً، الشهادة لله "هيثم" شايل عني كتير طول ما هو في البيت، وفي الفترة اللي مش موجود فيها بأخد بالي من مامته.

لمحة من السرور انطبعت على صفحة وجهها وهي تخاطبها:

-ربنا يجعل تعبك معاها في ميزان حسناتك.

-إن شاء الله ..

تابعت الاثنتان السير المتهادي إلى أن هتفت "همسة" بحماسٍ، ويدها تسبقها في الإشارة نحو أحد المحال:

-وصلنا.

حملقت "فيروزة" بدهشةٍ متعجبة في المعروضات المعلقة على جانبي المحل، والتفتت تسألها بتعابيرٍ مليئة بعلامات الاستفهام:

-إنتي هتجيبي إيه من هنا؟

سحبت شقيقتها نفسًا عميقًا عبقت به صدرها، قبل أن تطرده، لتقول بعدها بكلماتٍ متأنية:

-بصي يا ستي، أنا بصراحة كده مكسوفة أوي من نفسي، يعني ربنا –سبحانه وتعالى- كرمني بحاجة، مكونتش متخيلة إنها تيجي كده على طول، من غير تعب ولا انتظار، ولا حتى مشاكل، فإزاي أبقى مقصرة معاه وهو كان كريم معايا؟

انفرجت شفتاها متسائلة في دهشة أكبر:

-إنتي ناوية آ...

بادرت "همسة" بإتمام باقي جملتها عنها، بإعلانها الصريح والواثق:

-أتحجب.

سألتها في ذهولٍ:

-بجد؟

أكدت بابتسامة ارتياحٍ:

-أيوه، وعقبالك إنتي كمان يا "فيرو".

نظرت لها بعينين أظهرت افتخارها بها، وقالت بعد لحظة استغرقتها في التفكير:

-تعرفي، طول عمرنا بنعمل كل حاجتنا سوا، ودي أول مرة تسبقيني فيها بالتفكير في حاجة.

ضحكت وهي تعلق عليها:

-مرة من نفسي.

ضيقت "فيروزة" عينيها، وقالت بإيماءة من حاجبها:

-بس مش هاسيبك لوحدك، هتحجب معاكي.

شهقة غبطة انفلتت من جوفها، كتمتها بكلتا يديها، قبل أن تخفضهما قليلاً، لتسألها بقلبٍ يدق في بهجةٍ عظيمة:

-بتكلمي جد؟

جاءها جوابها مقتضبًا وحاسمًا:

-أيوه.

احتضنتها دون تمهيدٍ، وعبراتٍ فرحة تتسلل إلى مقلتيها، ظلت تضمها إلى صدرها وهي تتمتم بنفس النبرة السعيدة:

-الله، أنا فرحانة أوي أوي، ربنا ما يحرمنا من بعض.

تراجعت عنها "فيروزة" لتنظر إلى وجهها الضاحك الباكي وهي تقول في حرجٍ:

-طب بس بقى عشان الناس بتتفرج علينا.

هتفت غير مبالية وهي تعاود احتضانها:

-يتفلقوا، فرحتي بيكي أكتر من فرحتي بنفسي.

................................................................

بداخل غرفة العمليات المعقمة، استلقى بظهره على الطاولة الطبية التي تنتصف المكان، وهو يشعر بدفعة من التوتر الكبير تجتاح جسده. حُجته المرتبة لإقناع عائلته أنه مسافر لبعض الوقت لاقت مردودًا طيبًا، ولم يستريب أحدهم في أمره. تأكد بعدها من نقل حقيبته التي ضبها لمنزل زيجته الأولى؛ كان الاختيار المناسب للمكوث به خلال فترة تعافيه القادمة، وملأ الثلاجة بما قد يحتاج إليه من طعام ولا شراب يكفيه لمدة أطول، فلا يضطر للنزول وهو في حالته تلك. ابتلع "تميم" ريقه في حلقه الجاف، محاولاً الحفاظ على انضباط أعصابه القلقة، وتابع بنظراتٍ شبه مراقبة ما يدور حوله من حركة دقيقة للتأكد من تجهيز ما يلزم لإجراء عمليته الجراحية. أقبل الطبيب عليه وهو يخفي معظم وجهه بقناعه الطبي، سأله بنبرته الهادئة:

-جاهز يا أستاذ "تميم"؟

قال وهو يدير رأسه في اتجاهه:

-إن شاءالله.

تابع مطمئنًا إياه:

-مش عايزك تقلق، الموضوع بسيط، وبأمر الله يعدي على خير.

غمغم بنبرة شابها القليل من الاضطراب:

-الله كريم.

عاد ليسأله وهو يوليه ظهره:

-في حد مستنيك لما تخلص؟

بعد لحظة من التفكير جاوبه:

-أنا مرتب أموري.

استدار ينظر إليه مرة أخرى وهو يملي عليه نصائحه الجادة:

-تمام، وأنا عايزك تلتزم باللي قولتلك عليه بعد العملية، ويا ريت تخف موضوع التدخين ده كمان، لأن ليه تأثيره على إنتاج الـ Sperms، وأكيد مش عايزين حاجة مضرة زي دي تبوظ اللي بنعمله.

ضم شفتيه في اعتراضٍ ملحوظ، وتكلم بعد هنيهةٍ:

-هشوف الموضوع ده بعدين، نخلص بس من الحاجة الأولانية، ونشوف اللي بعدها.

هز رأسه في تفهمٍ، واقتضب قائلاً:

-مافيش مشكلة.

بعد نفسٍ عميق سحبه إلى داخل صدره، أرخى "تميم" عضلاته المتشنجة نوعًا ما، وحملق في الإضاءات القوية التي تعتلي رأسه. ردد بصوتٍ خفيض، وهو يطبق على جفنيه، مستحضرًا في ذهنه طيف وجهها المبتسم في نعومة ورقة، حينما التقاها في مرته الأخيرة:

-توكلت على الله ...................................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة