-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل التاسع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والعشرون

 تأويهة متألمة وجدت طريقها من بين شفتيه المنفرجتين قليلاً، وهو يدير رأسه بحركة لا إرادية للجانبين، ليجبر عقله على الإفاقة من الغيبوبة الغارق فيها. صوتًا مبهمًا، ظل يناديه لبضعة مرات، مما دفع إدراكه للتيقظ الكامل. وبثقلٍ ملحوظ على جفنيه جاهد "تميم" لفتحهما؛ كانت الرؤية مشوشة في البداية، بدا من يُحادثه -بلطفٍ وعن قربٍ- طيفًا غير واضح المعالم؛ لكن سرعان ما لبث أن ظهرت قسماته بوضوحٍ تدريجي، حتى تبين له أنه وجه طبيبه المعالج هو من يخاطبه. نطق الأخير بابتسامةٍ بشوشة بعد أن وجد منه استجابة معقولة:

-حمدلله على سلامتك يا أستاذ.

سأله "تميم" بصوته الذي ما زال ثقيلاً:

-إيه أخبار العملية؟

أجابه بنبرة مطمئنة:

-الحمدلله تمت على خير، وإن شاء الله مع استمرار المتابعة والعلاج تحقق نتيجة كويسة.

تقوست شفتاه عن ابتسامةٍ متعبة وهو يعلق عليه:

-الحمدلله، كله خير من عند ربنا.

سأله الطبيب مستفهمًا من جديد:

-في حد منتظرك عشان يوصلك لبيتك؟

صمت لبرهةٍ قبل أن يأتيه جوابه محايدًا:

-أنا مظبط أموري.

هز رأسه في استحسانٍ:

-طيب تمام، وحمدلله على سلامتك .

همَّ بالتحرك؛ لكنه توقف في منتصف المسافة ليسأله بفضولٍ:

-مين "فيروزة" دي اللي كنت عمال تنادي عليها وإنت في الإفاقة؟

تبدلت قسماته المرهقة للضيق والحرج، ولاحظ الطبيب ذلك التغيير المرئي على ملامحه، فاعتذر منه بلباقةٍ:

-مقصدش اتطفل على أمورك، عن إذنك.

لم يعقب عليه "تميم" واكتفى بنظرة مزعوجة سددها له، ثم أشاح بوجهه بعيدًا عنه ليحملق في السقف، ولسانه ينطق سرًا بأملٍ يزداد مع مرور الأيام:

-دي اللي هاتجوزها إن شاء الله.

……………………………………….

التفافة نصف دائرية بمقود سيارته جعلته ينحرف عن الطريق الرئيسي المزدحم بالعربات إلى آخر أقل زحامًا. صف "سراج" سيارته – الربع نقل- بمحاذاة الرصيف، وترجل منها ليستند بظهره على الباب، وهاتفه موضوع على أذنه. بدا وجهه متجهمًا وهو يخاطب المتصل:

-يا حاج "عوف"، احنا متفقين على السعر معاه من بدري، مايجيش دلوقتي ويغير الكلام عشان احنا في وقت زنقة، دي مش أصول شغل؟!

ظلت تعابيره غائمة وهو ينصت إليه قبل أن يستأنف مكالمته معه:

-أنا هاخد التوريد منه المرادي، بس مايزعلش لما أدور على غيره، وأخد البضاعة اللي أنا عايزها بسعر أقل.

كان صوت زفيره مسموعًا قبل أن يكمل:

-يا حاج كلامك فوق راسي، بس الشغل شغل.

بنفس التعابير المتجهمة اختتم الاتصال بقوله:

-ماشي يا حاج "عوف"، على تليفون، مع السلامة.

ظل "سراج" يغمغم بكلماته المتبرمة وهو يستدير نحو مقدمة سيارته. لمح على مدى بصره – مصادفة، آخر من توقع رؤيته على الجهة المقابلة، يرتدي على غير العادة جلبابًا، ويسير على مهلٍ وبخطوات شبه متباطئة، وهو مستند بكف يده على الحائط. تلقائيًا ردد لسانه في دهشة:

-معلم" تميم"!

انعقد حاجباه متسائلاً:

-هو بيعمل إيه هنا؟!

دون إضاعة الوقت في تخمين سبب تواجده عند المركز الطبي الشهير، عبر الطريق متجهًا إليه وهو يناديه عاليًا ليلفت انتباهه إليه:

-معلم "تميم".

استدار الأخير برأسه ناحية مصدر الصوت المألوف، وعلامات الدهشة مرسومة على قسمات وجهه. بدا غير مستريحٍ لرؤيته، على الأحرى مصدومًا لتواجده، وسأله بوجوم:

-"سراج"، بتعمل إيه هنا؟

أجابه بنفس النبرة المتسائلة:

-ده أنا كنت جاي أسألك نفس السؤال يا معلم، خير في حاجة؟

لاحظ "سراج" تقلص عضلات وجه "تميم"، وظهور الإعياء عليه، فسأله في توجسٍ:

-إنت كويس، فيك حاجة؟

جاءه رده عائمًا:

-الحمدلله.

زادت الشكوك بداخل "سراج" عندما وجده يستند على الحائط ويحاول هبوط الدرجات بحذرٍ شديد. بادر بتقديم المساعدة له وهو يصر عليه:

-هات إيدك يا معلم.

لم يتردد في الاستناد عليه بعد انتهاء امتداد الحائط الحجري، اتكأ "تميم" على ساعده إلى أن هبط عن كامل درجات السلم الرخامية، فطلب منه وهو يشير برأسه:

-وقفلي تاكسي.

اعترض بإصرارٍ:

-ودي تيجي؟ العربية موجودة هناك أهي.

هز رأسه بالرفض، فدقق "سراج" النظر في ملامحه المتعبة، وسأله في قلقٍ:

-يا معلم "تميم" إنت كويس؟ طمني عليك بس، لو في حاجة قولي، وأنا أساعدك.

شكره بوجهه الشاحب:

-كتر خيرك...

ثم ادعى كذبًا، ليتجنب أسئلته التحقيقية:

-أنا مافياش حاجة.

اقترح عليه الأول باهتمامٍ:

-طب أوديك عند الجماعة؟

راح "تميم" يخبره برفضٍ قاطع؛ وكأن في حدوث هذا كارثة كبيرة:

-لأ.

تعقدت تعابير "سراج" باستغرابٍ، فأوضح له "تميم" بوجهٍ متقلص من الألم الذي يعانيه:

-أنا رايح مكان تاني، وقفلي تاكسي الله يكرمك.

استمر على اعتراضه المستنكر قائلاً:

-تاكسي إزاي وإنت في الحالة دي؟!

أشار له بذراعه مكملاً إصراره عليه:

-تعالى بس وأنا هوديك مطرح ما إنت عايز.

لم يستطع المناص منه، لذا رضخ لإلحاحه وسار معه بخطواته المتمهلة نحو سيارته، وبحرصٍ مبالغ فيه جاهد ليستقر في المقعد كاتمًا أنينه قدر المستطاع. لم يتطفل عليه "سراج"، واحتفظ بأسئلته الفضولية داخل نفسه، وما إن وجده قد جلس أخيرًا حتى بادر بسؤاله:

-على فين العزم؟

أجابه مشيرًا بعينيه للأمام:

-اطلع على بيتي القديم.

حل المزيد من الدهشة على قسماته، ومع هذا لم يطرح أي أسئلة مزعجة عليه، بل كبت فضوله، وقال مبتسمًا:

-ماشي يا معلم "تميم".

…………………………………………………


شعرت بنفحات خفيفة من الهواء الساخن تضرب جانب صدغها، فدفعتها للانتباه من غفلتها المؤقتة، واستعادة إدراكها الحسي بما حولها. فتحت "همسة" عينيها بتكاسلٍ وهي تدير رأسها في اتجاه مصدر الهواء الغريب، انتفضت ناهضة من رقدتها في فزعٍ انعكس على كامل ملامحها، حينما رأت "بثينة" تنظر لها عن قربٍ مخيف. اعتدلت ناظرة إليها في توجسٍ حائر، زادت انتفاضتها مع شعورها بقبضةٍ محكمة على رسغها، انخفضت نظراتها نحو يدها المتشبثة بها، وخفقات قلبها تتسارع. استلت ذراعها بحذرٍ من قبضتها برجفة خفيفة، وأرجعت ظهرها للخلف لتلصقه بعارضة الفراش وهي تسألها بصوتٍ ظهر مهتزًا:

-اعملك حاجة يا طنط؟

بالطبع لم يكن من المتاح أن تجيبها لظروفها الحالية؛ لكن نظراتها الغامضة نحوها أوحت لها بشيء مخيف. ازدردت ريقها في توترٍ محسوس، ولعقت شفتيها متابعة كلامها الموجه إليها:

-ده آ... "هيثم" زمانه جاي، و... آ هيقعد معاكي.

حدجتها "بثينة" بنظرة أكثر غرابة عن ذي قبل، فحاولت الظهور بمظهرٍ متماسك أمامها، وأضافت:

-تحبي نستناه سوا؟

استمرت في تحديقها بها للحظاتٍ قبل أن تنصرف بعدها، وهي تغمغم بلسانٍ لا ينطق إلا بكل ما هو مبهم. تنفست "همسة" الصعداء، وارتخت عضلات جسدها المتشنجة. بقيت أنظارها معلقة على أثرها للحظاتٍ مستشعرة تلاحق دقات قلبها، تنهدت بعمقٍ لتهدئ من روعها، فركت رسغها براحة يدها متسائلة مع نفسها بصوتٍ خفيض:

-يا ترى كانت عايزة إيه مني؟!

................................................


باستمتاعٍ ظاهر على وجهه، نفخ "فضل" دخان نارجيلته في الهواء وهو يضبط وضعية حجر الفحم ليزيد من وهجه. لم تتغير قسماته المرتخية، وبدا هادئًا لأقصى حد ووالده يصيح متسائلاً باهتياجٍ:

-عملت اللي في دماغك بردك يا "فضل"؟

كان على علمٍ مسبق بأسباب غضب والده منه، فقد انتهى اليوم من الإجراءات القانونية للانفصال عن زوجته، ضاربًا برغبة والده في إعادة لم الشمل واستعادة الود عرض الحائط، بالرغم من توصيته له بعدم فعل أي شيء متهور دون الرجوع إليه. زجره "اسماعيل" بعصبيةٍ:

-خلاص مابقاش عندك كبير ترجعله؟ بتطلق بنت الناس كده على طول؟

كان رده عليه باردًا لأقصى الحدود:

-ده هم وانزاح من على قلبي.

هدر به بصوته المنفعل:

-وأبوك مالوش قيمة عندك؟ كده تصغرني قصاد نسايبك؟

هتف في سماجةٍ وهو يواصل تدخين النارجيلة:

-قصدك اللي كانوا، خلاص المولد اتفض...

حدجه أباه بنظرة نارية عندما أكمل:

-وبعدين يابا إنت تزعل مني لو كان حد يستاهل؛ لكن الولية دي ماتسواش، دي لامؤاخذة مقلعهاش من رجلي.

حذره بغيظٍ وهو يشير بعكازه:

-عيب تكلم عنها كده، مهما كانت دي أم عيالك. بشفاه مقلوبة عقب عليه:

-هي غارت في ٦٠ داهية خلاص، وعيالي هياخدوا حقهم وزيادة مني، مش هقصر معاهم في مليم.

ضرب "اسماعيل" جانب جسده بذراعه، وقال في يأسٍ، وتلك النظرة الناقمة تسيطر على ملامحه:

-فوضت الأمر فيك لله.

بسمة لزجة احتلت فمه وهو يخبره بتلميحٍ ضمني:

-يا حاج انسى، وخلينا نركز في اللي جاي.

ضاقت عينا والده بشكٍ مستريب، وسأله مباشرة:

-إنت شكلك بتنمر على إيه كده؟ هات اللي في بطنك يا "فضل".

ترك الأخير خرطوم نارجيلته جانبًا، ونهض ليقف قبالته قبل أن ينطق بوجهٍ لم يكن مريحًا مطلقًا:

-من الآخر كده يابا أنا عايز أتجوز بنت عمي.. "فيروزة".


.........................................................

بيدٍ مرتجفة تمكن من إخراج المفتاح من جيبه، ثم دسه في قفل باب منزله، ليديره بعدها، وبمساعدة بسيطة من "سراج" فتحه على مصراعيه، ليلج الاثنان إلى الداخل. التفت "تميم" للجانب نحو ضيفه، وقال مبتسمًا:

-كتر خيرك يا "سراج"، تعبتك معايا.

علق عليه بجدية:

-متقولش كده يا معلم، هو أنا عملت حاجة أصلاً.

اكتست تعابير "تميم" بالجمود وهو يطلب منه:

-بأقولك يا "سراج"..

ردد الأخير متسائلاً في نبرة مهتمة:

-خير يا معلم؟

اكتسب صوته المزيد من الجدية وهو يخبره:

-مش عايزك تجيب سيرة لمخلوق إني موجود هنا...

تطلع إليه في دهشة، بينما شدد الأول على باقي جملته ونظراته قد تحولت للصرامة:

-وخصوصًا أهل بيتي.

قطب جبينه معترضًا:

-بس آ....

قاطعه مبررًا بأسلوبه الصارم:

-هما عارفين إني مسافر، مافيش داعي تقول إنك شوفتني هنا.

رضخ لأمره، وقال بنوعٍ من الحيرة:

-حاضر، بس أنا مش فاهم حاجة، هو إنت فيك إيه بالظبط؟

حمحم قبل أن يخبره بحرجٍ ملموس في صوته:

-عملت عملية بسيطة، ومش عايز حد يقلق عليا، يومين وهبقى كويس، وإنت عارف الجماعة عندي بيكبروا المواضيع.

قال ممازحًا:

-فكرتني وقت ما ركبت شريحة ومسامير في ركبتي بعد الخناقة إياها، كانت هيصة وهوليلة.

فهم تلميحه المبطن عن شجارهما العنيف، وعقب باقتضابٍ:

-كله بيعدي.

رد عليه بوجهه المبتسم:

-الحمدلله، ربنا كريم، وبيسترها معانا...

عاد ليتناقش معه في موضوعهما الأساسي:

-المهم أنا بس مش حابب أسيبك لوحدك.

أصر على ذهابه بقوله:

-أنا بخير، متقلقش.

ألح عليه بعنادٍ:

-طب قولي ناقصك إيه وأجيبهولك؟

تمسك برفضه قائلاً:

-خير ربنا موجود، تسلم.

لم يتراجع عن تشبثه برغبته، وأصر عليه:

-لا وربنا ما يحصل، أنا رقبتي سدادة، قولي بس، ده احنا زي الأهل.

تقوست شفتاه عن بسمة صغيرة وهو يشكره:

-ابن أصول، متشكر.

تحرك كلاهما في اتجاه الردهة ليتجها نحو غرفة النوم، ساعده "سراج" ليصل إلى الفراش، ويتمدد عليه، ثم استأنف حديثه معه:

-طب إيه رأيك لو وصيت الحاجة أمي تعملك أحلى أكل يرم العضم.

بلباقةٍ رفض طلبه السخي:

-مافيش داعي أنا عامل حسابي.

أصر عليه بشدة:

-لأ كله إلا كده، دي تبقى عيبة في حقي، وربنا مايحصل أبدًا.

هتف مجاملاً:

-بيت كرم، بس حقيقي أنا مش عاوز حاجة، سيبني بس ارتاح.

لم يضغط عليه، وخاطبه بنفس أسلوبه المهتم:

-طيب أنا رقمي معاك، واسمحلي كده اتصل وأشقر عليك.

أومأ برأسه وهو يقول:

-مافيش مشكلة.

أشار "سراج" بيده نحو الكومود المجاور للفراش موضحًا:

-الدوا أنا حطيته جمبك أهوو عشان يبقى قريب منك.

هتف في استحسانٍ مقتضب:

-تمام.

ودعه "سراج" بنفس مشاعر الود والعشم:

-أسيبك في رعاية الله، وسلامتك يا معلم "تميم".

رد يشكره بابتسامةٍ صغيرة:

-الله يسلمك، نردهالك في الفرح.

قال ضاحكًا:

-الله يجعل الجاي من أيامنا كلها فرح.

اكتفى بالابتسام المجامل له، وودعه مجددًا قبل أن يغادر ضيفه المنزل، ليبقى بعدها بمفرده. وسَّد "تميم" ذراعه خلف رأسه، وتساءل مع نفسه في حيرة:

-والله شكلي ظلمتك زمان، وماسمعتش كلام جدي لما قالي محكمش على حد من الكلام.

………………………………………………..

عاد من عمله مرهقًا، ومع هذا لم يظهر ضجره من سماعه لشكوى زوجته المريبة بشأن والدته، بل بدا مهتمًا بمعرفة المزيد عن تصرفاتها مؤخرًا. اتجه "هيثم" إلى حيث تنام "بثينة"، فوجدها تغط في نومٍ عميق، دنا من فراشها، وسحب الغطاء عليها ليدثرها جيدًا، واستدار عائدًا إلى زوجته الواقفة عند أعتاب الغرفة. أشار لها بعينيه لتتحرك بعيدًا، واستطرد قائلاً بصوتٍ خافت:

-هي نايمة، وشكلها غطسان في النوم كمان.

ردت عليه" همسة" مؤكدة بلمحة من الانزعاج:

-والله العظيم كانت صاحية من 5 دقايق، وعملتلها شوربة سخنة تشربها دلقتها على الأرض، وبعد كده نضفت المكان.

حك مقدمة رأسه هاتفًا في تخبطٍ:

-غريبة اللي بتقوليه ده!!!

أخبرته بتشنجٍ طفيف مبدية استنكارها لما يحدث:

-والله ده اللي حصل يا "هيثم"...

لم تتوقف عند هذا الحد، وأفصحت له عن مخاوفها، لذا عبرت له دون احترازٍ:

-ومكدبش عليك أنا بصراحة بقيت قلقانة من اللي بيحصلها، تصرفاتها بقت تخوف.

صمت مليًا ليفكر في الأمر قبل أن ينطق أخيرًا:

-طيب لو ده اتكرر انزلي عند خالتي تحت، وخليها تطلع معاكي تشوفها.

وجدت اقتراحه مناسبًا، فتنهدت قائلة بقليلٍ من الارتياح:

-ماشي.

بينما تابع "هيثم" كلامه معها:

-وأنا برضوه هكلم الدكتور اسأله، جايز يفيدني بحاجة.

استحسنت قراره وأيدته:

-كده أحسن.

دفعها "هيثم" من ظهرها للأمام وهو يطلب منها:

-طب تعالي عشان ناكل مع بعض.

ابتسمت في نعومة وهي ترد:

-ماشي يا حبيبي.

…………………………………………….

في شرفة المنزل، وبعد استغراق خالها وابنته في النوم، جلست كلتاهما معًا ترتشفان الشاي الساخن بها. تطرقت "فيروزة" لموضوع شغل تفكيرها كثيرًا في الفترة الأخيرة، احتفظت بتفاصيل فكرتها لنفسها، إلى أن تخمرت جيدًا في رأسها، واتضحت كامل معالمها لها، تبقى لها فقط مفاتحة والدتها في الأمر، والشروع في تنفيذها على أرض الواقع. كانت فكرة العمل الجديد الذي استحوذ على اهتمامها تدور حول تشغيل الدكان الذي منحه الحاج "بدير" للعائلة في تغليف الهدايا، وتجهيز متعلقات السبوع والخطبة الأسرية بتكاليف تناسب الجميع. لم تبدُ "آمنة" مقتنعة بقدرتها على إدارة هذا العمل -وما يرتبط به من أعباء وتوابع قانونية وحسابية- بمفردها، لهذا عارضتها بتخوفٍ غريزي:

-مالوش لازمة يا "فيروزة".

هتفت محتجة:

-ليه بس؟

-هو إنتي ناقصة وجع دماغ؟ ده غير رزالة الزباين.

قالت عن ثقة واضحة:

-يا ماما دي مش أول مرة اعمل فيها مشروع، وأنا بأعرف إزاي مع الزباين.

جاءها تعليقها محذرًا من وجهة نظرها:

-بس شوفتي حصل إيه في الآخر؟ بلاش نعيده تاني.

قالت في هدوءٍ لا يخلو من الإصرار:

-المرادي غير.

تمسكت باعتراضها عليها، وهتفت في وجومٍ:

-بس يا بنتي آ...

قاطعتها على الفور قبل أن تستبد بها هواجسها:

-يا ماما، ده أحسن حل لينا كلنا، وخصوصًا في الظروف اللي احنا فيها دي.

بنفس الوجه المنزعج قالت:

-ما هي مستورة والحمدلله.

خاطبتها بهدوءٍ لتقنعها:

-طبعًا يستاهل الحمد على كل حال، بس إنتي فاهمة كويس إن المصاريف مش هتكفي كل الالتزامات اللي علينا.

علقت عليها بنبرة تحولت للجدية:

-خالك ربنا يشفي عنه أنا خلصتله ورق معاشه، واهوو القرشين بتوعه هيساعدوا مع الإيراد، وآ....

مجددًا قاطعتها في تزمتٍ:

-واحنا مش هنفضل نستنى الحسنة اللي بيديهالنا عمي كل كام شهر...

سرعان ما غلف صوتها غصة جاهدت لإخفائها عندما تابعت:

-ده غير البغل اللي ما يتسمى "فضل"، لازم هيطلعلنا بمليون حجة عشان تيجي الفلوس ناقصة، دي دماغه سم، وأنا مجربة أذيته بالذات في أكتر من حاجة.

فهمت والدتها ما ترمي إليه، فاعتذرت منها بندمٍ حقيقي:

-حقك عليا يا "فيروزة"، يا ريتني وقفت لابن عمك زمان.

هتفت ترجوها في ضيقٍ:

-قفلي على السيرة دي يا ماما.

أومأت برأسها قائلة:

-حاضر...

لكن ما لبث أن انعكست رنة القلق في صوتها وهي تكمل:

-بس هو إنتي مكتوب عليكي الشقا والبهدلة بعد ده كله؟!

استنكرت وصفها قائلة:

-بهدلة ليه ودي أصلاً حاجتنا؟!

نظرت لها والدتها بنظراتها المتوترة، بينما واصلت "فيروزة" محاولاتها المضنية لإقناعها:

-وبعدين بدل ما أنا أعدة كده في البيت لا شغلة ولا مشغلة، أهوو هعمل حاجة أنا كويسة فيها.

سألتها باسترابة:

-يعني إنتي واثقة إنك هتنجحي؟

أجابتها بعد زفيرٍ طويل:

-أنا هعمل اللي عليا والباقي على ربنا.

دعت لها "آمنة" برجاءٍ:

-ربنا يكتبلك كل اللي فيه الخير.

أخبرتها وهي تنهض من على كرسيها:

-أنا هاكلم "ماهر" بيه اسأله على الإجراءات بتاعة عمل السجل التجاري، جايز يعرف حد يساعدني.

التفتت برأسها لتتبعها وهي ترد:

-ربنا يكرمه، بني آدم ابن حلال مصفي، مايتخيرش عن جوزك الله يرحمه.

تسمرت في مكانها لهنيهة، والتوى ثغرها عن نصف ابتسامة متهكمة، تنفست بعمقٍ، وغمغمت في سخرية مريرة:

-أه طبعًا، إنتي هاتقوليلي.

……………………………………………..

على مدار بضعة أيامٍ، واظب "تميم" على تناول أدويته، ورعاية نفسه بمساعدة "سراج" الذي أثبت له حسن نواياه، والتزامه بعهده معه بعدم إطلاع أي فرد من عائلته عن عمليته ريثما يكتمل شفائه، ويتعافى بشكلٍ يمكنه من التحرك بصورة طبيعية دون أن يثير الشكوك حوله، ناهيك عن إحضاره للطعام المطهو منزليًا يوميًا ليتغذى جيدًا. ما لفت انتباهه الأيام المنصرمة -أو الأحرى ما توقعه- هو اختفاء كافة المشغولات الذهبية، والأشياء الثمينة من الأدراج، والتي كانت السبب بالطبع في مقتل طليقته "خلود"، في حين بقيت كافة الثياب كما هي في الدواليب، وكذلك متعلقاتها الشخصية، وحتى ما يخصه ظل في مكانه، وكأن ما كان يهمها حقًا هو الذهب دونًا عن غيره.

تحرك "تميم" بتؤدةٍ نحو التسريحة، يبحث عن مسكنٍ بديل بعد أن نفذ خاصته، فتش في الأدراج الجانبية، حيث اعتاد ترك الأدوية بواحدٍ منهم، لم يجد شيئًا؛ لكن تجمدت نظراته على الملف الطبي الموضوع به، أخرجه ليلقي نظرة فاحصة على ما دُوّن فيه، خاصة بعد أن قرأ اسم "خلود" أعلاه، وتساءل مع نفسه:

-وده متساب هنا ليه؟

عاد إلى الفراش ليجلس على طرفه، وبدأ في مطالعته بتريثٍ، وجد صعوبة في فهم الرموز الطبية، والمصطلحات المستخدمة لتقييم حالتها. انتابه الملل مع زيادة إحساسه بعدم استنباط ما تحويه الأوراق، كاد يترك الملف برمته جانبًا لولا أن لمح ملحوظة جانبية، مكتوبة بالقلم الحبري، وباللغة العربية في آخر صفحة، بعد الأسطر المكتوبة باللغة الإنجليزية كترجمة لها، وتحديدًا في السطر الأخير. قرأها "تميم" بصوتِ عكس صدمته:

-يرجى تحديد موعد أقصاه يومين على الأكثر لإجراء عملية الإجهاض، ويوصى بكحت الرحم لإزالة آثار الجنين الميت.

برقت عيناه بلمعانٍ مذهول، قبل أن يردد في صدمةٍ، والأحداث السابقة التي تخص اتهام ابنة خالته لـ "فيروزة" تتزاحم في عقله:

-يعني "خلود" كانت عارفة إنه ميت من الأول، وخبت الحقيقية دي عليا، وعلى الكل ........................................... ؟!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل التاسع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة