-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السابع والثلاثون

 مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السابع والثلاثون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السابع والثلاثون

 لعبت الوساطة القوية دروها في حل الأزمة القائمة، وتغيير مجريات الأمور القانونية، ليتحول البلاغ المقدم عن محاولة لاختطاف أحدهم عنوة، لمجرد بلاغٍ عن سرقة فاشلة، نجح السارق فيها في الهروب قبل إلقاء القبض عليه. كان مدخل البناية مزدحمًا بعشرات الأفراد، ما بين أفراد الشرطة، وعمال الدكان، والمتورطين في الحادثة، فيما عدا الجد "سلطان"، و"ونيسة"، وأيضًا "هاجر". تولى الحاج "بدير" الذي عاد لتوه إدارة الموقف، مستغلاً علاقاته الواسعة في ضبط الوضع، والتأكد من عدم توريط أحدهم قانونيًا، بل وإنهائه هنا بعيدًا عن التواجد في القسم الشرطي.

لدهشة الضابط وجد اتفاقًا غير معلن بين الجيران على تكرار نفس العبارات المبهمة عن عدم رؤية أحدهم لما حدث؛ وكأنهم اتفقوا فيما بينهم على توحيد أقوالهم، ليجد نفسه حائرًا في الوصول إلى الحقيقة الأكيدة عما دار هنا. نظر شزرًا إلى "تميم" الذي كان يستفزه بنظراته المغترة، قبل أن يبعدها عنه ليتطلع إلى "همسة" ويأمرها:

-امضي على أقوالك هنا يا مدام.

تقدمت نحوه، وأمسكت بالقلم الحبري لتوقع حيث أشار لها على الأوراق الرسمية، تصنعت الابتسام وهي تعيد القلم إليه، فخرجت بسمتها باهتة مهزوزة، انسحبت عائدة إلى حيث تقف توأمتها. شردت "فيروزة" مستغرقة في تفكيرها الحائر، وكلمات "تميم" تتردد في صدى عقلها عن عدم جرأة أحدهم على التطرق لما قيل مُطلقا، لم تقل دهشتها عن الضابط، وزاد فضولها لمعرفة كيف فعل هذا، تحفزت بتعابيرٍ ناقمة مع سؤال الضابط لها بطريقته التشكيكية:

-متأكدة يا أستاذة إنك ماشوفتيش وشه؟

هنا تأهب "تميم" في وقفته، وباتت كامل نظراته عليها، لم ينكر أنه خشي من ردة فعلها، ومخالفتها لأي اتفاقٍ قد عُقد معها، لرغبتها الشديدة في الثأر لسمعتها التي تدنست بلسانٍ غير شريف أباح لنفسه الخوض في عرضها. حبس أنفاسه مترقبًا؛ لكن ما لبث أن طرد الهواء في ارتياحٍ عندما أجابت بوجهها العابس:

-لأ، كان مغطيه.

طالت نظرات الضابط المتفرسة نحوها، قبل أن يسألها مرة أخرى بطريقته المحققة:

-واللي في إيدك ده من الحرامي؟

انخفضت نظرات "فيروزة" نحو معصمها المتورم، وأجابت بعد لحظة من التفكير:

-أيوه.

تدخل "تميم" في الحوار مقاطعًا إياهما بلهجةٍ أظهرت انزعاجه من رؤية ذلك التورم جراء تصديها لهذا الوغد الحقير:

-يا باشا احنا لو كنا مسكنا الحرامي ده كنا علقناه على باب العمارة، وخلناه عبرة لمن لا يعتبر، قبل ما يمس شعرة من حد من طرفنا.

حملقت فيه "فيروزة" بوجومٍ، ولم تنطق بشيء، في حين علق عليه الضابط بنظراته الهازئة:

-في قانون في البلد يا حضرت، مش شغل فتوات، ولا لوي دراع.

كان على وشك الرد عليه لولا إشارة صارمة من يد أبيه أتبعها قوله المُلطف:

-إنت عارف الشباب يا باشا، وقت ما يشوفوا حد في أزمة بيجروا يلحقوه، فما بالك بأهل بيته.

وجه الضابط أنظاره ناحيته، وأخبره بلهجته الجادة:

-أنا عايز أخد أقوال الحاج الكبير اللي كان معاكو.

استبق "تميم" في إعلامه:

-جدي ماشفش حاجة، كان نايم، وصحى على صوت الدوشة.

نظر الضابط ناحيته مرة أخرى، نمت تعابيره أنه لم يكن راضيًا عن فرض سطوته المكشوفة، وتمسك برغبته قائلاً:

-مش إنت اللي هتحدد، أنا عايز أسمع منه، وكمان الستات اللي آ...

منعه من إتمام جملته اقتراب أحد زملائه وفي يده هاتفًا محمولاً، مال عليه هامسًا له في أذنه:

-يا باشا، كلم سيادة اللواء مدير الأمن.

ضيق عينيه في استغرابٍ، وتناول الهاتف منه ليخاطبه برسميةٍ بحتة:

-ألو، أهلاً وسهلاً بمعاليك، أخبار سعادتك إيه؟

طال صمته، وعكست تعابيره تباينًا مقلقًا خلال إنصاته للطرف الآخر، ليستطرد بعد برهةٍ:

-حاضر يا فندم، اللي سيادتك تؤمرنا بيه.

أنهى معه المكالمة، والتف نحو الجانب ليحادث زميله بخفوت، ثم ألقى نظرة شاملة على الحاضرين قبل أن يردد بتبرمٍ أكد اضطراره للرضوخ أمام الأمر النافذ:

-اتفضلوا وقعوا.

نظرة ذات مغزى تبادلها "تميم" مع والده، فالأخير عرف كيف يستعيد الزمام بحنكةٍ وروية. انقضت الدقائق الباقية في إنهاء المعاملات القانونية، ليغادر بعدها الضابط والقوة الأمنية المطوقة للمكان. ما إن انصرفوا حتى اعترضت "فيروزة" طريق "تميم" لتسأله بوجهٍ محتقن، وهي تتطلع إليه بنظراتها الغاضبة:

-هتوديني عنده امتى؟

إصرارها على المضي قدمًا حتى النهاية في انتقامها حفز نزعته الهجومية من جديد، حاول تثبيط رغباته، وأجابها بعد زفيرٍ متمهل طرد معه ضيقه:

-لما نتأكد إن البوليس مشى، ولا حابة ناخدهم معانا؟

رفعت سبابتها أمام وجهه تحذره بعنادٍ:

-اعمل حسابك إني مش هاسيبه.

على مضضٍ أخبرها:

-ربنا يسهل.

التفتت برأسها ناظرة نحو "بدير" عندما خاطبها:

-"فيروزة" يا بنتي، حقك هيرجعلك بالكامل، مش عايزك تقلقي.

زوت ما بين حاجبيها قائلة:

-مش قلقانة لأني هاجيبه بإيدي.

سألها بنوعٍ من العتاب:

-واحنا روحنا فين؟

قالت بترفعٍ يتضمن القليل من الوقاحة:

-وأنا مش هاستنى حد يردهولي مهما كان مين.

استاء "تميم" من استخفافها بقدراته، فضم شفتيه في تبرمٍ مانعًا نفسه من التلفظ بما قد يفسد الأمور المتوترة مسبقًا، بينما استمر "بدير" في معاتبتها بأسلوبه الودي الأليف:

-بس أنا مش أي حد، ده أنا في مقام أبوكي، ولا ماستهلش ده؟

شعرت بالحرج من كلامه، وقالت بدمدمةٍ مزعوجة:

-حضرتك على عيني وراسي بس آ..

قاطعها رافعًا يده:

-من غير بس، خلينا نهدى ونفكر بالعقل.

بدأ "تميم" يتكلم من تلقاء نفسه قاصدًا لفت الانتباه إلى إصابتها:

-وبعدين يا حاج شايف إيدها بقت عاملة إزاي؟ ماينفعش نسيبها كده!

ألقى "بدير" نظرة مدققة عليها، وقال بجدية:

-معاك حق، خلي الدكتور يبص عليها ...

وقبل أن تعترض عليه أضــاف بنفس الصوت الجاد:

-وبعد كده هنعمل اللي إنتي عايزاه.

أرخت عينيها عنه قائلة بطاعةٍ لم تكن كاملة:

-ماشي يا حاج.

..........................................

امتدت يده لداخل جيب بنطاله الخلفي، وأخرج من محفظته الجلدية قطعة نقدية، أعطاها لحفار القبور الذي تولى تنظيف وتهذيب الحشائش في قبر والده الراحل، انتظر "هيثم" رحيله ليبدأ بعدها في قراءة الفاتحة على روحه، واستطرد يخاطبه بكلماتٍ آسفة نادمة:

-حقك عليا يابا، بقالي زمن مجتش أزورك ولا أقرالك الفاتحة.

كان شحيح الزيارات له، خاصة بسبب شعوره العميق بالذنب جراء كارثته غير المقصودة في دكانه القديم، لهذا مجيئته إليه يعد من الأشياء نادرة الحدوث. تنهد بعمقٍ، وواصل كلامه الأحادي معه:

-شوفت اللي جرى لأمي؟

غلف الحزن صوته وهو يتابع:

-مابقتش عارف أعمل إيه عشان ترجع زي الأول.

لم تساعده قدماه على الوقوف، فافترش الأرض جالسًا أمام شاهد قبره، متذكرًا حديث الطبيب النفسي المعالج لحالة والدته، والتي أخبره عنها بإيجازٍ أنها لجأت لإحدى طرق الدفاعات النفسية اللا شعورية، وهي رفض الواقع وإنكاره، بل والإسقاط على الآخرين فأصبحت تتعامل مع قضية مقتل ابنتها على أنها لم تكن المتورطة المباشرة فيها، وإنما غيرها من تسبب في إزهاق روحها، لذا نمت بداخلها رغبة شعورية في تحقيق العدالة المنقوصة من وجهة نظرها، وباتت مهمتها الانتقام لها بوسائل عنيفة قد تلحق الأذى والضرر بنفسها وبغيرها. زفيرٌ آخرٌ طرده من صدره قبل أن يكمل في تردد وحيرةٍ:

-وخايف لو.. سبتها ترجع تعيش معايا.. تعمل مصيبة، وساعتها مش هسامح نفسي.

كفكف عبراتٍ علقت بجفنيه، وظل جالسًا على تلك الو ضعية لبرهةٍ، محاولاً تفريغ الشحنة المكبوتة بداخله، أخفض يده نحو جيبه ليخرج هاتفه المحمول، حتى يعرف الوقت، تذكر أن بطاريته قد نفذ شحنها خلال اتصال زوجته به أثناء وجوده بالمشفى النفسي، لم يكن ذهنه صافيًا آنذاك لمعاودة الاتصال بها، فخرج هائمًا على وجهه وهموم الدنيا متجمعة أمام عينيه، كان بحاجة لمكان يهرب إليه، فأرشده عقله لزيارة والده.

نهض من مكانه قائلاً بعد فرك عنقه:

-أوعدك مش هطول في الغيبة يابا، وهاجيلك كل شوية.

..................................................

الطوق الأمني المفروض حول البناية جعل قلبها يدق في عنفٍ، طاردتها الهواجس السيئة بشأن نجاح "فضل" في اللحاق بابنتها، وإلحاق الأذى الشديد بها. ظلت تدعو الله تضرعًا وخفية ألا تكون ظنونها حقيقية، ركزت بصرها على الحشد الغفير المتزاحم هناك، وتقدمت دافعة مقعد شقيقها المدولب بيدٍ، وبيدها الأخرى أمسكت بابنته الصغيرة. حاولت "آمنة" اختراقه، والولوج للداخل؛ لكنها فشلت، لذا وقفت أمام الفرد الأمني ترجوه:

-خليني يا ابني أدخل.

أصر على منعها قائلاً برسميةٍ جافة:

-ممنوع يا ست.

استعطفه "خليل" برجاءٍ:

-معــ..لش يا شــ..اويش.

أخبرته "آمنة" وهي تشير بيدها:

-أنا بنتي عايشة جوا، وده خالها وبنته، احنا عايزين نطمن بس عليها.

قال بوجهٍ جامد في تعبيراته:

-ماينفعش حد يدخل، دي أوامر.

اشرأبت بعنقها محاولة رؤية ما يحدث في الداخل؛ لكنها لم تستطع، فلعقت شفتيها، وسألته بتوسلٍ:

-طب اللمة دي ليه؟ في حاجة حصلت؟ الله يكرمك رد عليا.

لم يرأف حالها القلق، وقال بنفس الأسلوب الجاف:

-معرفش.

رغمًا عنها فاضت العبرات من عينيها، وتابعت بنواحٍ:

-ربنا ما يوقعك في ضيقة، ريحني، أنا قلبي واقع في رجليا، في حد جراله حاجة؟ قولي يا ابني، ده أنا زي أمك.

يئس من إلحاحها، فنطق بتذمرٍ:

-ده بلاغ عن سرقة، ارتحتي كده.

لاحقتها بأسئلتها وقد أراح جوابه صدرها:

-بس؟ مافيش حاجة تانية؟

رد نافيًا باقتضابٍ:

-لأ.

كررت عليه سؤاله بلوعةٍ:

-إنت متأكد؟

خاطبها بصبرٍ نافذ وهو يشير لها بيده:

-أيوه يا ست، ويالا بقى من هنا، إنتي كده هتجلبيلي مع الظابط، وهو من النوع الرزل.

أومأت برأسها قائلة بنبرة طائعة وهي تمسح دموعها بظهر كفها:

-حاضر يا ابني، كتر خيرك.

تراجعت للخلف مع "خليل" الذي سألها:

-هـ..نعمل إيه؟

أجابته مشددة من قبضتها المحكمة على يد الصغيرة، وعيناها تفتشان عن إحدى ابنتيها بين الكتل البشرية المتواجدة بالداخل:

-هنقف نستنى لحد ما يبان في إيه؟

بلع ريقه، واقترح عليها:

-جـ..ربي تـ..طلبي "هــ...مسة".

نظرت إلى هاتفها، وقالت بتوترٍ:

-مش بترد، وده مخوفني أكتر.

هز رأسه في قلقٍ، وغمغم بصوته المتلعثم:

-ربـ...نا يستـ..ر.

طال انتظار ثلاثتهم بالخارج، إلى أن هتفت الصغيرة "رقية" وهي تشير بيدها:

-عمتو، بصي!

استدارت تنظر إلى حيث أشارت الطفلة، فوجدت "فيروزة" مع "همسة"، تنفست الصعداء، وهللت في سرور عظيم:

-الحمدلله يا رب إنهم بخير، يا رب ما تضرني فيهم أبدًا.

على أحر من الجمر انتظرت ابتعاد رجال الشرطة، لتتحرك بخطاها المتعجلة مجرجرة الصغيرة معها، ومن خلفهما "خليل" بمقعده المدولب نحو المدخل الذي بات متاحًا الآن، سبقها صوت صياحها المنادي في لهفة:

-"فـــيروزة"!

على إثر ندائها التفت ابنتها ناحيتها، ورددت في سعادة كبيرة لرؤيتها:

-ماما.

أقبلت عليها الأخيرة تحتضنها، وتفيض عليها بكل ما يعتريها من مشاعر الأمومة الجياشة، تراجعت عنها، وألقت نظرة فاحصة لها من بين دموعها الرقراقة، قبل أن تسألها وكلتا يداها تضمان وجهها:

-إنتي كويسة؟

هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد:

-أيوه.

سألتها بنفس اللهجة الملتاعة، ونظراتها ما زالت تفحص ملامحها:

-"فضل" عملك حاجة؟

أجابتها بتجهمٍ شديد:

-ماتجبيش سيرته يا ماما، عشان هاموته.

دق قلبها في ارتعابٍ، متوقعة حدوث الأسوأ، وتابعت متسائلة بعينين ترمشان في خوفٍ:

-أذاكي إزاي؟

لم يطاوعها لسانها لإخبارها بمحاولته الملفقة لإلصاق الريبة بسمعتها، وتدنيسه لشرفها بتهمه الباطلة أمام الغرباء، لتبدو كفتاة ساقطة في أعينهم، توترت والدتها من صمتها، وكررت سؤالها عليها:

-عمل فيكي إيه؟

ردت باقتضابٍ، وبشرتها تشتعل من جديد:

-ملحقش يعمل.

تابع "تميم" حوارهما باهتمامٍ، ودَّ لو استطاع محو تلك اللحظات السيئة من ذاكرة مهجة فؤاده، فلا تضطرم النيران في صدرها، أو ينكوي قلبها بحرقةٍ كلما تطرق أحدهم لذكر ما يخص هذا الدنيء، مال على والده يهمس له:

-وقفتهم كده مش حلوة، ولا إنت إيه رأيك؟

قال وهو يربت على ذراعه:

-معاك حق.

انتبهت "آمنة" لـ "بدير" عندما جاءها صوته قائلاً بنبرة مرحبة:

-اتفضلوا يا جماعة، ماينفعش الوقفة دي في الحوش، تعالوا نتكلم فوق براحتنا.

اعتذرت منه على الفور:

-حاج "بدير"، أنا أسفة، متأخذنيش، اتلخمت في بنتي وآ..

تفهم خوفها الغريزي، وقال بنفس الود:

-اطمني عليها، وخدي راحتك معاها، بس فوق ...

اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يؤكد لها:

-وبعدين مش عايزك تقلقي عليها، هي في حمى رجالة.

انتشى "تميم" لسماعه لمثل تلك الجملة المادحة، خاصة مع نظراته المسلطة عليه؛ وكأنه يقصده بها تحديدًا، أخفى بصعوبة بسمة راضية كادت تلوح على ثغره، ليدعي الجدية في حضرة الجميع. شكرته "آمنة" على موقفه النبيل مرددة:

-ربنا يخليكوا لينا.

لمح "بدير" شقيقها وهو يدفع مقعده للأمام، فاتجه إليه ليستقبله بترحيبٍ لا يقل في حفاوته عن استقبال زائر هام:

-عم "خليل" يا ألف مرحب، تعالى يا غالي، بنفسك جاي لحد عندنا.

حياه بصوته المتقطع:

-سلامـ..و علـ..يكم، إزيــ..ك يا حـ..اج؟

أجابه بوجهه المرتخي في تعبيراته:

-احنا في نعمة والحمدلله.

ثم التفت آمرًا ابنه:

-تعالى بس يا "تميم"، مع الأستاذ "خليل".

.................................................

كتمت تأويهة موجوعة والطبيب يلف رباطه الضاغط حول معصمها، لم تكن في أغلب الوقت منتبهة لما يفعله، خلال جلوسها مع أفراد أسرتها بغرفة الصالون، فيما عدا الصغيرة "رقية"، والتي جلست بصحبة "هاجر" في غرفتها؛ كان عقلها منفصلاً عن المحيطين بها، استغرقت في تفكيرها العميق في كل ما طرأ عليها في الساعات الأخيرة؛ ملاحقة "فضل" لها، اكتشافها لوجود منديل الرأس ومشابكها الضائعة في غرفة "تميم"، حيرتها عن كيفيفة حصوله عليهم، توجسها بشأن احتمالية رؤية "خلود" لهم في الدرج، ولو على سبيل المصادفة، وأخيرًا الاتهامات الباطلة التي نالت من سمعتها على لسان الأقرب إليها.

بدا صوت الطبيب مبهمًا وهو يوصيها بنصائحه الجادة حول ضرورة الاهتمام بإجراء أشعة فاحصة لكدمتها، ومتابعة التضخم على مدار الساعات القادمة. هزت رأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد:

-إن شاءالله.

أغلق حقيبته، وهمَّ بالانصراف ليصحبه "تميم" نحو الخارج، تنحى للجانب قليلاً عندما مر بالردهة، ليفسح المجال لوالدته التي أتت ومعها صينية مليئة بالحلوى والمشروبات، وضعتها على الطاولة التي تنتصف الغرفة، ودعت ضيوفها لتناول ما بها قائلة:

-اتفضلوا يا جماعة، حاجة بسيطة لحد ما نجهز الأكل.

اعتذرت منها "آمنة" بحرجٍ شديد:

-مالوش لزوم والله، احنا هنمشي، كفاية وقفتكم مع بناتي طول اليوم.

اعترضت عليها "ونيسة" بإصرارٍ:

-ودي تيجي؟ والله نزعل منكم، احنا أكتر من أهل.

بينما أضــاف "بدير" الذي مد يده ليكمل ارتشاف قهوته:

-إنتو منورينا يا حاجة، ده بيتكم، خدوا راحتكم فيه.

وقف "تميم" عند أعتاب باب الغرفة يخبرهم بجدية:

-النجار لسه قدامه شوية عقبال ما يخلص تصليح الباب فوق، أنا سايب اتنين من العمال معاه.

انزلقت "همسة" قائلة من تلقاء نفسها:

-أنا قلبي وقع في رجليا لما لاقيت الحيوان ده واللي معاه كسروه، وداخلين علينا كده، مابقتش عارفة أتصرف إزاي، عمري ما كنت أتخيل إنه يعمل كده، لأ وفي مين، بنات عمه اللي من لحمه ودمه.

ردت عليها "ونيسة" وهي تضع يدها على صدرها:

-الحمدلله إن ربنا سترها معاكو.

تحولت كافة الأنظار نحو "آمنة" التي أردفت قائلة:

-أنا كلمت عمك وقولتله على اللي حصل.

اشتاط وجه "فيروزة"، واربد بحمرةٍ غاضبة بعد تصريح أمها، في حين نطقت "همسة" بنبرة مستهجنة:

-عمي، تفتكري هيعمل إيه معاه؟

ردت عليه بتفكيرها السطحي:

-أهوو يوقف ابنه عند حده، ويأدبه وآ...

فاض بها الكيل من سماع تلك المهاترات المستفزة، لذا قاطعتها "فيروزة" بتشنجٍ:

-ماما، يكون في معلومك أنا مش هاسيبه، وهاقتله.

انقبض قلبها في جزعٍ، ورجتها بوجهٍ شبه شاحب من خوفها:

-استهدي بالله كده، عايزة تودي نفسك في داهية؟

-أحسن ما أخلي اللي زيه عايش.

قالت جملتها وهي تنظر في اتجاه "تميم" الذي تقلصت عضلات وجهه أمام نظراتها المليئة بالإصرار، أخفض عينيه المشتعلتين لينظر للأسفل، محاولاً كبح جماح نفسه، فلا يندفع بهوجائية ويسبقها في تنفيذ رغبتها بنحر عنقه دون رحمة. حل تشابك ساعديه، وباعدهما عن صدره، ليدس يديه في جيبي بنطاله، شعر برجفة خفيفة تسري في عروقه؛ فمشبكها ما زال متواجدًا به، أحس بالتلبك، وجاهد ليبدو ثابتًا غير مقروء الملامح؛ لكن قلبه أبى البقاء ساكنًا. حاد بنظراته عن البقعة الوهمية المتطلع إليها لينظر ناحية "آمنة" عندما تشدقت قائلة:

-ده عمك بيتصل.

زادت الحمرة في وجه "فيروزة"، واحتقنت نظراتها أكثر مع رؤيتها لارتباك والدتها؛ كأنما تضع له اعتبارًا لا يستحقه، وقبل أن تمنعها من الإجابة على مكالمته، ردت والدتها بنبرة جمعت بين القلق والغضب:

-ألوو، أيوه يا حاج "إسماعيل".

قامت "همسة" من مكانها في تباطؤ، لتجلس على مسند أريكة "فيروزة"، سعت لتخفيف حدة عصبيتها، لذا مالت عليها، وحاوطتها من كتفيها قائلة بصوتها الخافت:

-اهدي يا "فيرو"، بالراحة يا حبيبتي، ماتعمليش في نفسك كده.

رفعت عينيها الناريتين نحوها لتخبرها بهسيسٍ متألم:

-محدش حاسس بالنار اللي جوايا يا "همسة".

أرهف "تميم" السمع عن قصدٍ إلى جملتها التي أحدثت تأثيرها الجارح في نفسه، أحس بغليانٍ يأكل هدوئه الزائف، وقال بصوتٍ حبسه في جوفه:

-بس أنا حاسس.

شتت من جديد نظراته الخاطفة عنها، ليتطلع إلى أي شيء غيرها مضطرًا؛ كان على استعداد تام للانقضاض عليه دفاعًا عنها، وتحجيمه لتلك النزعة القتالية بداخله تطلب مجهودًا استنفز طاقات صبره. أنهت "آمنة" المكالمة بعد كلماتٍ مقتضبة غامضة، لتدور بنظراتها المتوجسة على الوجوه المحدقة بها، ثم قالت بترددٍ:

-عمك جاي.. على .. هنا، علشان يتفاهم معاكي.

بمنتهى العصبية والغيظ ردت عليها "فيروزة" وقد هبت واقفة على قدميها:

-يتفاهم مع مين؟ معايا؟ مش هيحصل.

انتصب "تميم" في وقفته، وعاد لاستنفاره من جديد في لمح البرق. استطرد "خليل" معقبًا بضيق، مستحضرًا تهديد ابنه الخطير لابنته:

-الأولى كـ..ان يــ..ربيه، بدل مـ...ا كــ...ان هددنا ببنتـ..ي.

أدارت "فيروزة" رأسها في اتجاهه، وسألته بوجهٍ غائم:

-هو عمل مع "كوكي" إيه؟

ضغطت "آمنة" على شفتيها في حزنٍ، قبل أن تجيب عن شقيقها:

-هددنا لو مقولنالوش على مكانك إنه هيرميها.

نطق "تميم" لاعنًا إياه دون احترازٍ، وقد تخلى عن طور هدوئه المفتعل:

-ابن الـ (...)، هي وصلت لكده كمان؟ حقنا نقطع لسانه قبل راسه!

حذره "بدير" بلهجةٍ متشددة نسبيًا:

-"تمـــيم"!

رد دون ندمٍ:

-معلش يابا متأخذنيش، غصب عني.

أشـارت "فيروزة" بيدها مخاطبة والدتها:

-وأنا مش هستناه لما يجي عشان يقول كلمتين مالهومش أي لازمة عندي...

التفتت محدقة في وجه "تميم"، وأمرته بحدةٍ وهي تتقدم نحوه:

-وديني عند الحيوان ده.

وقفت قبالته تطالعه بعينين يتقافز فيهما كل أنواع الغضب، وتلك المرة لم يحد بنظراته عنها، بل بادلها نظرات عازمة على إظهار طاعته لها؛ لكن والده نطق بتعقلٍ حازم:

-اسمعيه الأول، ولو معجبكيش الكلام اعملي اللي إنتي عايزاه.

تحول صوتها لما يشبه الصراخ، مقاومة بشدة ما يقتحم ذاكرتها من مشاهد خذلانه لها قبيل الكشف عن عفتها:

-وأسمعه ليه؟ عشان في الآخر يطلعني غلطانة؟

سألها "بدير" باستنكارٍ:

-ومين هيسمحله بكده يا بنتي؟

أجابته بصوتٍ جريح رغم ارتفاع صوتها:

-ومين كان منعه لما صدق اللي اتقال عني زمان؟ ده كان أكتر حد عارف أخلاقي كويس، ورغم كده كان أول واحد دبحني.

لاشك أن طابعه الإجرامي العنيف كان أو ضح ما يكون في تلك اللحظة، ارتكزت كل نظراته عليها وحدها، يكاد يفني روحه لمعرفة ما الذي خاضته وسبب لها كل هذا الألم الشديد. انفصل "تميم" ذهنيًا عمن حوله ليبقى عقلاً، وقلبًا، وروحًا معها فقط، صار وجهها ما يراه الآن دونًا عن البقية، حدق فيها بتحفزٍ شديد، وصوتًا مُلحًا يصرخ بداخله:

-هما عملوا فيكي إيه ..................................... ؟!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة