-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والثلاثون

 مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل التاسع والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والثلاثون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والثلاثون

 أمضت ثلاثة ليالٍ حبيسة منزلها، انطوت في ركنٍ فيه غالبية وقتها، لا تخرج من غرفتها إلا قليلاً، تقضي نهارها صامتة، وليلها ساهدة، حتى والدتها فشلت في إخراجها من حالة الحزن المسيطرة عليها، كذلك لم تشفع محاولات توأمتها وابنة خالها في الترويح عنها، تجاوبت "فيروزة" معهما بالكاد، وحافظت على ذلك الجمود المستبد بمشاعرها؛ لكن الليل بساعاته التي لا تنقضي بسهولة، كان يمنحها الفسحة للتفكير بإمعانٍ في كل ما خاضته بتفاصيله المستنزفة للروح، فما زادها ذلك إلا حزنًا وغمًا! وفي اليوم الرابع كانت قد حسمت أمرها كليًا لإنهاء الصراع الدائر بداخلها، لعلها تنشد بهذا سلامًا لم تنعم به إلا نادرًا.

أمام شباك غرفتها الخشبي الموارب، وقفت "فيروزة" تتطلع للمارة على الطريق، أرادت أن يسطع النهار عليها لتنتهي من المهام التي ألزمت نفسها بتنفيذها اليوم، لتغلق كافة أبواب النميمة والقيل والقال عنها، استدارت محدقة نحو والدتها التي تفاجأت بها ترتدي كامل ثيابها وهي تناديها:

-"فيروزة"، الفطار جاهز يا حبيبتي، تعالي آ...

لم تكمل "آمنة" جملتها للنهاية، وسألتها باستغرابٍ ظاهر على تعبيراتها:

-هو إنتي خارجة ولا إيه؟

أجابت بملامح جادة غير مرتخية:

-أيوه يا ماما.

سألتها مستفهمة وقد تقطب جبينها:

-رايحة فين كده على الصبح؟ ده لسه النهار في أوله؟

بنفس الأسلوب الغامض قالت:

-ورايا مشاوير.

دنت منها متسائلة باعتراضٍ وبحاجبين معقودين:

-ضروري يعني النهاردة؟ ده إنتي لسه شكلك تعبان من اللي حصل...

وقفت قبالتها، وتفحصت ملامحها الذابلة قبل أن تتم جملتها:

-وحتى وشك باين عليه الإجهاد، وإيدك كمان مخفتش.

ردت "فيروزة" بهدوءٍ مريب وهي تخفض عينيها لتحدق في الضمادة الطبية الملفوفة بها رسغها:

-أنا كويسة.

وضعت أمها يدها على ذراعها لتربت عليه، وأضافت بصيغة شبه آمرة:

-طب تعالي افطري.

هزت رأسها نافية:

-ماليش نفس ...

ثم استلت حقيبتها لتعلقها على كتفها، وتابعت:

-ويدوب ألحق أخلص اللي ورايا.

نظرت إليها في توجسٍ وهي تخبرها:

-يا بنتي أنا مش عايزاكي تجهدي نفسك.

لم تحاول الابتسام عندما علقت عليها بأسلوبها الجاف:

-متقلقيش عليا.

ضمت "آمنة" شفتيها للحظةٍ، وكأنها تستصعب إطلاعها بالأمر؛ لكنها قالت في الأخير:

-مرات عمك اتصلت سألت عليكي، أنا الصراحة ماديتهاش وش، مش كفاية اللي ابنها عمله.

احتقنت نظرات "فيروزة" تلقائيًا، وبدا وجهها الشاحب يكتسب حمرة غاضبة، حاولت والدتها أن تشتت تفكيرها عن تلك الذكرى المشؤومة فأكملت:

-والحاجة "ونيسة" اتصلت كمان تطمن عليكي، ست ذوق بصراحة.

أطلقت زفرة مشبعة بانفعالاتٍ هائجة حاولت إخمادها في مهدها، ورددت في نبرة بدت إلى حد ما غير ثابتة:

-أنا مش هتأخر.

ألحت عليها وهي تلحق بها:

-طب قوليلي رايحة فين بالظبط.

قالت دون أن تنظر خلفها:

-لما أرجع يا ماما، سلام.

لم تتمكن والدتها من الخروج بمعلومة مفيدة منها، فاكتفت بغلق الباب من خلفها، ولسانها يدعو لها بعد تنهيدة مهمومة:

-ربنا يبعد عنك أي شر يا بنتي.

...................................................

كل ما كان بها مجرد صلابة مخوخة، أخفت هشاشة روحها بقناعٍ الجمود المرسوم على وجهها، ونظرات القساوة المسيطرة على عينيها. استمرت "فيروزة" في تقدمها نحو وجهة بعينها، بعدما انتهت من سحب جميع النقود الموضوعة في حسابٍ بنكي، ادخرت فيه ما حصلت عليه من ميراث زوجها البغيض، أفرغته بالكامل، وجمعته في عملات نقدية من فئة كبيرة. التفت أناملها حول يد حقيبة كتفها، وكأن جلدها قد التصق بها، رتبت أفكارها في رأسها طوال مشيها، لتبدو مستعدة للمواجهة التالية.

قبيل وصولها إلى هناك توقفت عن السير ملقية نظرة شاملة لم تخلُ من التوتر على محيطها، اختطفت نظرات سريعة على أوجه المارة، على ما يبدو كان من حولها مشغولاً بأمورٍ أخرى ليس شأنها الخاص بالطبع واحدًا منهم، ومع هذا سرت رجفة قلقة في بدنها، قاومتها قدر المستطاع، وتنفست بعمقٍ لتحرك بعدها قدميها في اتجاه الدكان. وجدت عينيها ضالتها المنشودة في نفس المكان المعتاد؛ الحاج "بدير"، يجلس أمام مدخله، يخاطب أحدهم، أطبقت على جفنيها لثانية، وحررت دفعة من الهواء كانت محبوسة في رئتيها، لتتابع السير ناحيته، وما إن رأها الأخير حتى ناداها بترحيبٍ شديد وهو ينهض من كرسيه الخشبي:

-منورة الدكان يا بنتي، تعالي اتفضلي.

برسمية بحتة طلبت منه:

-ممكن أتكلم مع حضرتك شوية لو مش مشغول.

هتف بنفس الترحيب الحار المليء بالود والمحبة الصافية:

-ولو مشغول حتى أفضالك، ده إنتي من الغاليين.

ثم أشــار لها لتجلس على مقعدٍ أحضره لها العامل، فقالت باقتضابٍ:

-شكرًا.

..................................................

في تلك الأثناء، كان "تميم" قد انتهى لتوه من مراجعة بعض الفواتير المؤجلة، أعطى تعليماته للعمال بتجهيز نقلة جديدة لتسليمها لإحدى المراكب السياحية، همَّ بالانصراف لولا أن سمع رنة صوتها، تلك التي تبعث البهجة على القلب، والسرور على النفس، تأهبت كافة حواسه وتنشطت برغباتٍ مشتاقة لرؤيتها والاطمئنان عليها في الحال، كانت سلواه في الأيام الماضية مكالمات والدته لأمها، أراحته نسبيًا؛ لكنها لم تكن كافية لملء الفراغ الذي استبد به. لم يستطع تلك المرة منع نفسه من رؤيتها، ربما ساقها القدر إليه! دق قلبها في تلهفٍ، وعادت البسمة إلى شفتيه، ألا يحق للحبيب الارتواء من كأس العشق ولو بالقليل؟ استسلم لسكرات الحب المغيبة للعقل، وخرج لإملاء عينيه من بهاء وجهها.

راح "تميم" يتطلع إليها عند المدخل بكل ما تحمله الكلمة من مرادفات الاشتياق، فوجد ساحرته كعادتها تسرق أنفاسه طواعية، ارتفع ضجيج قلبه بين ضلوعه، فلم يعد قادرًا على ضبط إيقاع نبضاته الراقصة، ترك ذلك الشعور الممتع يغمره، يتخلل تحت جلده، حتى أصبح إدمانه اللذيذ، وحملق فيها بنظراته الساهمة الوالهة، بجهدٍ عسير شتت نظرته عنها ليحدق في اتجاه أبيه المتسائل:

-إيه أخبارك دلوقتي؟ كله تمام معاكي يا بنتي؟

أجابته "فيروزة" بجديةٍ ملحوظة:

-الحمدلله.

شدد عليها "بدير" مجددًا:

-لو في حد مضايقك، ولا حاجة مزعلاكي، قوليلي وأنا أتصرف.

لم تبتسم وهي ترد مجاملة:

-كتر خيرك.

لم يحبذ "تميم" إبقاء مسافة بينه وبينها، احتاج للتواجد بقربها، لأخذ نظرة من لؤلؤتيها، استحثه الشوق، وحفزه العشق لفعل ما تمنى، ليكن ما يكن، حتمًا سيغضب والده قليلاً؛ لكنه سيقدر مشاعره التي غلبت عقلانيته. تقدم نحوهما ساحبًا مقعدًا خشبيًا، ووضعه تلك المرة جوار أبيه، حتى تصبح نصب عينيه، حمحم قائلاً بربكةٍ طفيفة:

-صباح الخير، إزيك يا ..أبلة؟

نظرت نحوه بجمودٍ جعله يستريب من أمرها، لتنطق بعدها بجفاءٍ لامسه في صوتها:

-الحمدلله.

تبادل نظرة حائرة مع والده، شعر بالتخبط يضرب رأسه، فكل ما يلحظه بها يؤكد له أن هناك خطب ما فيها، وقبل أن يحاول استدراجها للحوار، بادر "بدير" مستطردًا:

-نورتينا يا بنتي، أنا كنت عايز أشوفك أصلاً، لأني عايز أكلمك في موضوع، بس قولت أسيبك كام يوم كده لحد ما تروقي وتبقي تمام.

وكأنها تجاهلت ما أخبرها به، لتبدو مبرمجة كآلة لا روح فيها وهي تعقب عليه:

-في الحقيقة أنا كنت جاية عشان خاطر موضوع المحل بتاعي.

ارتسمت علامات الدهشة على كليهما، وسألها "بدير" مستوضحًا:

-ماله يا بنتي؟

شدت سحاب حقيبتها لتخرج منها مغلفًا مغلقًا، مدت به يدها نحوه وهي تقول:

-اتفضل.

تناوله منها "بدير"، فحصه بعينيه دون أن يفضه، وأردف متسائلاً في فضول، وكامل نظرات "تميم" عليها تراقبها في توجسٍ:

-إيه ده؟

أجابته بهدوءٍ وبتعابيرٍ جامدة:

-دي الفلوس اللي حضرتك صرفتها في المحل ...

حملق فيها الاثنان بدهشة يشوبها الإنكار، في حين تابعت "فيروزة" بنفس اللهجة الهادئة:

-أنا لحد دلوقتي معرفش التكلفة الفعلية، بس أقدر اتكلم مع المقاول وأعرف منه صرف أد إيه بالظبط، ولو الفلوس ناقصة متقلقش، كله هيرجعلك، أنا مش بأكل حق حد.

تجهمت تعابير وجه "بدير"، وعاتبها بلطفٍ:

-مش أنا قولتلك يا بنتي مش هاقبل أخد منك حاجة لحد ما تشتغلي، وتقفي على رجلك...

أصر على إعادة المغلف لها، وقال بجدية شبه صارمة:

-شيلي فلوسك يا بنتي، عيب كده.

نظرت إليه بعينين فارغتين، وقالت بعد زفيرٍ ثقيل:

-يبقى للأسف هتضطرني أروح للحل التاني.

هنا نطق "تميم" متسائلاً في جزعٍ، وقد أحس بقلبه يهوي بين قدميه:

-وده إيه كمان؟

نظرة ضيقة منحتها له، قبل أن تتحول أنظارها نحو "بدير" الذي سألها بتريثٍ:

-حل إيه يا بنتي؟

أخرجت من جيب حقيبتها مفتاحًا معدنيًا، رفعته في مرمى نظره، وقالت بصوتٍ جاهدت ألا يبدو مذبذبًا:

-أرجع لحضرتك مفتاح المحل، بيعه وخد حسابك، معدتش فارق معايا...

عفويًا استحضرت مشهد حرق باكورة أحلامها البسيطة في ذهنها، غطت على الذكرى سريعًا، وقتلت غصة جارحة في حلقها وهي تكمل:

-وبعدين يعني، ماهياش أول مرة أحلم فيها بحاجة أحققها، وماتكملش.

بدت وكأنها نشطت ذاكرته بما لم ينسه يومًا، حين تم إحراق عربة طعامها؛ وكان متورطًا في الأمر بشكلٍ غير مباشر، أوغرت كلماته المحملة بطعم الألم صدره، فانفجر صائحًا بلهجةٍ لم تبدُ هادئة أبدًا، محاولاً إثنائها عما اعتبره قرارها الخاطئ:

-إيه اللي بتقوليه ده؟ محل إيه اللي يرجع؟

حذره والده بنظرة غير راضية:

-اهدى يا "تميم"، بالراحة.

لمعت عيناها بعبراتٍ تسللت إليها تأثرًا بذكرياتٍ لا تزال حية فيها مهما سعت لمقاومتها، وأخبرتهما بوجهها العابس:

-كله واحد بياخد حقه، وكفاية لحد كده، مش عايزة حد يشيل همي، ولا يساعدني في حاجة.

اختلجت قسمات وجه "تميم" كافة علامات الغضب والحنق، كان مستاءً من كلامها، وشعر بالذنب ناحيتها لكونه واحدًا ممن تسببوا في أذيتها سابقًا، بينما استمر "بدير" في عتابه لها بأسلوبه الأبوي الحاني، علها تتراجع عن رغبتها:

-عيب يا بنتي الكلام ده، أنا زي أبوكي، في حد يحاسب أبوه على حاجة بيعملها لعياله؟

رمشت بعينيها لتمنع العبرات من التجمع في مقلتيها وهي تخاطبه:

-ربنا وحده عالم مكانة حضرتك عاملة إزاي عندي، بس معدتش ينفع.

هدر "تميم" مجددًا وهو يسألها:

-كله ده بسبب الكلب إياه؟

استدارت في اتجاهه، وقالت بوجومٍ شديد:

-مش عايزة أحكي في اللي راح.

ضم "تميم" أصابعه معًا، ليشكل قبضة متشنجة، وبدأ أنفاسه في الخروج بثقلٍ من جوفه، التفت ينظر إلى أبيه مستجديًا مساعدته في تليين رأسها المتيبس؛ وكأن الأخير قد فهم توسله الصامت، فاستطرد يسألها برزانةٍ:

-وإنتي هتشيلي نفسك ذنب حاجة مالكيش يد فيها؟ ده ما يرضيش ربنا، إنتي أعقل من كده يا بنتي.

شغفها للمقاومة، للكفاح، وللنضال من أجل تحقيق أحلامها لم يعد موجودًا، فقدته مع كل لحظة كان يتم فيها اغتيال إرادتها، نهضت واقفة وهي توجه حديثها لكليهما:

-أنا أسفة إن كنت عملتلكم مشاكل مالكوش يد فيها، وإن شاء الله ده ما يتكررش.

هب "تميم" بدوره واقفًا، نظر إليها مليًا، وسألها بحرقةٍ بائنة في صوته:

-المشاكل مش هتسيبنا سواء بيكي أو بغيرك، إنتي ليه توقفي حياتك عشان حتت بغل مايسواش نعل في رجلك؟!!!!

عيناها كانتا مرآة لروحٍ فاقدة لمعنى الحياة، لم تجبه، وقالت موجزة، كنوعٍ من الهروب الإلزامي بعد أن وضعت المفتاح على الطاولة قبالته:

-عن إذنكم.

لم تنتظر كلمة وداعٍ منهما، التفتت سائرة بخطواتٍ بدت أقرب للركض، تاركة تلك المرة دموعها المكبوتة تتحرر من طرفيها، فغزت كامل وجهها؛ كأنما فقدت عزيزًا لتوها. تقطعت العضلة النابضة بين ضلوع "تميم" لرؤيتها ممزقة هكذا، استدار يسأل والده في عصبيةٍ ولوعة:

-إنت هاتسيبها تمشي يابا؟ عاجبك اللي قالته ده؟

قبض على ذراعه يستوقفه وهو يأمره:

-استنى يا "تميم".

رد بزفير محمومٍ من بين أسنانه:

-الكلب ابن الـ...، هو السبب.

بهدوء متعقل أخبره:

-اللي شافته مش قليل، هي مش واعية بتعمل إيه.

هتف في غيظٍ أشد:

-لو كنت سبتني عليه كنت سيحت دمه، كنت شفيت غليلها منه، على الأقل ماتبقاش كده.

هز "بدير" رأسه بإيماءات خفيفة متعاقبة، وقال:

-الأيام كفيلة تداويها.

دمدم بسخطٍ عكس عدم قناعته:

-ماظنش

صمت مرغمًا؛ لكنه لم يكن راضيًا عما يحدث، فقبلها كانت حياته روتينية، مجرد امتداد لفراغٍ استحوذ على قلبه خلال سنوات حبسه الطويلة، لم يتذوق طعم الحب حين نال حريته، ولم يعرف السكينة في أحضان زوجته، إلى أن ألقاها القدر في طريقه، لحظتها بدأت في وضع بصمتها المميزة على كل تفصيلة تخص أمره، ورويدًا رويدًا غدت بشخصها الفريد، وشجاعتها غير الاعتيادية هي كل ما يحتاج إليه لملء الفجوة المتسعة في حياته، لذا بدا الألم المختلط بالغضب ظاهرًا على وجهه وهو يراها تغادر بانكسارٍ، وإن كانت تدعي الجمود في وجودهما!

.................................................

أدت واجبها وما جاءت إليه بإتقانٍ لم تتوقعه، جرجرت "فيروزة" ساقيها مبتعدة عن المكان، تاركة خلفها أحلامها تنسل منها بإرادتها؛ لكن الألم لم يتركها، تغلل في أعماقها، حتى إحساسها بالقهر والخذلان استبد بها مجددًا، كما راحت ومضات عشوائية خاطفة مما عاشته سابقًا تسطع في عقلها لتضاعف من هذا الشعور القابض للروح. افتقرت تلك المرة للمقاومة، وتخلت عن شجاعتها لتصبح كغصنٍ كُسر فرعه، فعصفت به الرياح في كل اتجاهٍ تريد اقتلاعه. همست بصوتٍ يملأه الشجن:

-معدتش عندي حاجة أبكي عليها.

تأرجح تفكيرها وتخبطت في الصراعات التي أنهكت قواها، بدأت خطواتها في الثقل، جاهدت بأنفاسها التي تحولت للهاث لتحريك قدميها أكثر، والابتعاد عن البشر بأنماطهم؛ لكن على ما يبدو أبت الاستجابة لأمر عقلها، فكانتا كالجبال، بذلت جهدًا أكبر في إجبارهما على الحركة، واستمر التثاقل في الازدياد، تجمدت كلتاهما في مكانها، فلم تستطع الحفاظ على اتزانها، ومنع نفسها من الانكفاء على وجهها مع قوة حركتها الفجائية، لهذا طُرحت أرضًا، واصطدمت رأسها بحافة الرصيف الحجرية، لتفقد بعدها وعيها، ودموعها تسبقها في السقوط.

.............................................................

قلبت الصحن المليء بالحساء بضعة مرات بالملعقة قبل أن ترفعها للأعلى بحذرٍ، لتقربها من فم ابنها الراقد على الفراش قبالتها، حيث انتقل لهذا المشفى المتواضع ببلدتهم بعد نجاح والده في إخراجه بمعجزة من الكارثة التي تسبب فيها، أصرت "سعاد" على إطعام ابنها قائلة:

-يا ابني اشرب الشوربة دي، ماتتعبش قلبي معاك.

أدار "فضل" وجهه المليء باللاصقات الطبية للجانب، وهتف رافضًا:

-مش .. عايز.

عاتبته في نفاذ صبرٍ:

-كل يوم في الموال ده؟ هتخف إزاي وإنت بالعافية بتاكل؟

عاد لينظر إليها مكررًا شكواه السقيمة:

-كله من بنت الكلب "فيروزة" واللي معاها، اتكاتروا عليا يامه.

ردت عليه والدته مُصححة له:

-هنعيده تاني؟ إنت اللي جلبت معاها من الأول.

صاح في غيظٍ وهو يطيح بالمعلقة من أمام فمه:

-أماه، انزلي من على دماغي.

تناثر ما بها على الملاءة وثيابها، فزجرته في تبرمٍ:

-كده يا "فضل"؟ هي دي أخرتها.

نفخ عاليًا في سأم، وحاد بنظراته عنها ليحدق في باب الغرفة الذي أطلت منه طليقته السابقة؛ كانت آخر من يريد رؤيته الآن، رمقها بنظرة نارية كارهة لها، ولعنها في خفوت، بينما استطردت "سها" ملقية بالتحية:

-سلام عليكم.

انتبهت لها "سعاد"، وأقبلت عليها ترحب بها:

-"سها"، تعالي يا بنتي، اتفضلي.

احتضنتها الأولى في ودٍ، وقالت بابتسامةٍ مصطنعة:

-إزيك يا .. "أم فضل"؟

أجابتها بألفةٍ معهودة بها:

-بخير، إنتي عاملة إيه؟ والعيال أخبارهم إيه؟

جاوبتها بإيماءة صغيرة من رأسها:

-كلنا في نعمة والحمدلله.

حانت من "سعاد" نظرة سريعة على ابنها وهي تقول:

-فيكي الخير إنك جاية تسألي على أبو العيال.

لوت شفتيها معلقة بسخطٍ بائن:

-أيوه.. طبعًا.

سألها "فضل" بعينين حانقتين، وهو يحاول رفع جسده للاعتدال من رقدته المؤلمة:

-إيه؟ جاية تشمتي فيا؟

نفت عنها اتهامه الوقح قائلة ببرودٍ:

-مع إنك تستاهل كده، بس مش طبعي يا أبو ولادي.

استفزه أسلوبها الساخر، وسألها بإهانةٍ فجة:

-أومال جاية ليه يا وش النحس؟

ردت بسخافةٍ:

-كلمتين هأقولهم وماشية.

توترت "سعاد" من احتدام المشاحنات بينهما، فتدخلت مُلطفة:

-على الواقف كده؟ اقعدي يا بنتي.

تحولت نبرتها للجدية وهي تعقب عليها:

-أيوه يا حاجة، أنا مش هطول.

بصبرٍ نافذ صاح بها "فضل" مستخدمًا يده في التلويح:

-لخصي في أم يومك الفقر.

كتفت "سها" ساعديها أمام صدرها، وقالت بزهوٍ:

-الحمدلله بعد ما ربنا ريحني منك جالي حد يقدرني ويعرف قيمتي، صحيح لسه مافيش حاجة رسمي، مستنيين لما العدة تخلص، بس أنا مش ممانعة ولا أهلي كمان.

هدر بها بنبرة مغتاظةٍ، وقد تلون وجهه بحمرة منفعلة:

-وعايزاني أعملك إيه؟ أقوم أطبل ولا أزغرط؟ ما تولعي.

حذرته والدته من إساءته لها بقولها المتحرج:

-عيب كده يا "فضل"!

استمر في هجومه المسيء هاتفًا:

-دي ولية واطية عايزة الحرق.

ردت عليه "سها" بتعابيرٍ ناقمة:

-مش هارد على واحد لسانه زفر زيك، أنا كنت جاية أعرفك إني مش هافضل هنا في البلد.

تشنج وهو يعلق عليها:

-هتلوي دراعي عشان أخد العيال، وأتلبخ بيهم عشان تتمرقعي يا روح أمك؟ طب مش هايحصل!

هتفت في استنكارٍ:

-هو الجواز بقى مرقعة عندك؟ عمومًا مش ده اللي جاية أقولهولك، أنا بس بأعرفك إني هاخد العيال معايا.

نطقت "سعاد" في صدمةٍ:

-نعم؟ تاخديهم؟

أخبرتهما أسبابها مباشرة:

-الصراحة أنا مأمنش عليهم معاه، العيال عايز أب يحبهم، ويخاف عليهم، مش واحد يمن عليهم إن هو أبوهم!

حاولت "سعاد" تأجيل الحديث عن ذلك الأمر حاليًا، ورجتها:

-مش وقته الكلام ده يا بنتي، استهدي بالله كده، وآ...

قاطع "فضل" والدته بعصبيةٍ جمة:

-إنتي هتسترجي البُلغة دي يامه؟ إياكش تتحرق...

ثم مد يده ليمسك بكوب الماء، وقذفه ناحيتها وهو يطردها بتعنيف وقح:

-غوري يا بومة من هنا، وأنا هنكد عليكي يا وش المصايب، مش هانيهكي على حاجة.

تراجعت "سها" للخلف لتتفادى الكوب، وأبلغته بثقةٍ لا يعرف من أين استمدتها:

-أعلى ما في خيلك اركبه، ولو عايز تمشيها محاكم، فأنا وأهلي مش هنسيب العيال ليك ....

رمقته بنظرة احتقارٍ استحقها، واختتمت كلامها معه موجهة إصبعها إليه:

-أنا قولت أعمل حساب للعشرة، بس فعلاً قليل الأصل لا تعاتبه ولا تلومه.

.............................................

برحيلها الواجم اختطفت معها لحظات السعادة المحدودة، فأصبح ما في عينيه كئيبًا غائمًا، لا يستحق النضال من أجله، خاصة عندما أدرك أنها لم تتعافَ أبدًا من التجربة الأليمة التي خاضتها .. دار "تميم" في حلقات مفرغة حول أبيه، محاولاً التحكم في العصبية التي نالت منه، والأخير يراقبه بهدوءٍ محاولاً منعه من التصرف بحماقة، ضجر من برطمته الناقمة، وأمره:

-ما تقعد يا ابني على حيلك، مافيش حاجة هتتحل كده.

توقف عن الدوران، ليتجه إليه، ثم أخبره بأعصابٍ تالفة:

-مش قادر يابا، أنا مخنوق، وهاتجنن، دي شكلها بقى واحدة تانية غير اللي أعرفها، للدرجادي مأثر فيها اللي حصل؟!

رفع "بدير" حاجبه للأعلى مستنكرًا تصريحه باهتمامه الزائد بها، ولم يبذل ابنه جهدًا في التغطية على مشاعره المكشوفة، تفهم أسباب خوفه عليها، ووعده ببساطةٍ:

-أنا هاروح أتكلم معاها.

في لهفة تساءل "تميم" وهو يجلس على المقعد أمامه:

-امتى طيب؟

زم شفتيه للحظة قبل أن يجيبه:

-مش دلوقتي، يومين كده وأزورها.

احتج على ما اعتبرها مماطلةٍ، وقال:

-بس آ...

قاطعه بإشارة من عينيه قائلاً:

-ده أحسن ليها.

استدار كلاهما في اتجاه الصوت المنادي بصياحٍ مرتفع:

-إلحق يا حاج "بدير"!

على الفور تساءل "تميم" بوجهه المتجهم:

-حصل إيه؟

بينما زوى "بدير" ما بين حاجبيه متسائلاً:

-في إيه يا واد؟

التقط الصبي أنفاسه، وأخبرهما وهو يستخدم يده في الشرح والإشارة:

-قريبتكم اللي كانت هنا من شوية ....

خفق قلب "تميم" في خوفٍ مع كلماته الاستهلالية، وزادت الانقباضات به عندما تابع موضحًا:

-وقعت من طولها على أول الشارع، والناس قعدوها على كرسي في القهوة.

ردد "تميم" في ذهولٍ مرتعب وقد شخصت أبصاره:

-بتقول إيــــه!!!!!!

......................................................

صدمه النبأ، فركض كالأعمى لا يرى أمامه، كل ما استحوذ على تفكيره هو الذهاب فورًا إليها، وتخبئتها في أحضانه، ليعزلها عما تسبب لها في الأذى، اتجه إلى حيث أرشده الصبي، اخترق الحشد القليل المتجمهر عند المقهى الشعبي، محاولاً الوصول إليها، وقلبه يحترق خوفًا عليها؛ كانت "فيروزة" مستلقية على مقعد خشبي بالداخل، جبينها مجروح، وخيط رفيع من الدماء ينساب على جانب صدغها، حتى وجنتيها كانتا مبتلة بدموعها، تقلصت أحشائه في ارتعابٍ، وبدا في حالةٍ لا يحسد عليها، أدار ظهره ليحجب عنها الأعين، وصاح بصوت أجش عبر عن انزعاجه:

-كتر خيركم يا جدعان...

حاول صرف ذلك التجمع بعجالةٍ، وساعده في هذا العاملين في المقهى، ليصبح المكان في أقل من دقيقة خاليًا من رواده، حينها استدار ينظر إليها مجددًا، شملها بعينيه الفاحصة لوجهها وهو يتساءل في جزعٍ:

-حصلها إيه؟

أخبره أحد العاملين في حيرة:

-منعرفش، احنا فجأة لاقيناها وقعت في الشارع.

ردد زميله من خلفه:

-حاولنا نفوقها معرفناش يا معلم.

انتبه "تميم" لصوت أبيه القائل:

-حد كلم الإسعاف؟

أجابه رجل من الخلف:

-لأ، بعتنا واد عندكم الأول يعرفكم.

شكره "بدير" بوجهه الجاد:

-كتر خيرك.

في حين وجه "تميم" أمره إلى آخر طالبًا منه:

-خد المفاتيح دول وخلي واد من عندنا يجيب العربية هنا.

تناولها منه، وقال مظهرًا انصياعه له:

-أوامرك يا معلم.

انتظر "تميم" انصرافه ليهمس لوالده في استياءٍ حانق:

-مش قولتلك يابا أنا مش مرتاح، هي كان باين عليها.

رد عليه بصوته الخافت:

-خلاص يا ابني، خلينا نطمن عليها الأول.

اتجهت أنظاره الملتاعة إليها، وغمغم في توعدٍ:

-والله لو جرالها حاجة ماهسيب البغل ده عايش، أنا بأعرفك يابا أهوو.

حذره والده بنظرة صارمة من عينيه ليتوقف عن الثرثرة بما قد يُساء فهمه أمام الغرباء في غمرة انفعاله، وجذبه من ذراعه ليخبره بصوته الخفيض:

-بلاش شوشرة.

كبح "تميم" بصعوبة انفعالاته الثائرة، في حين استطرد والده مكملاً:

-كان وارد يحصلها كده، وأكتر من مرة أفهمك إن اللي شافته مش قليل عليها.

توقفا عن الهمهمة مع مجيء العامل الذي هلل ليلفت انتباههما:

-العربية برا يا معلم.

أمر "بدير" ابنه في الحال:

-بينا ناخدها على أقرب مستشفى.

لم ينتظر أوامره لتلبيتها، خاصة حينما تتعلق بها، تحرك "تميم" في اتجاهها ليحملها بين ذراعيه عن المقعد، ألقى نظرة حزينة على تعبيراتها الشاحبة؛ كانت أقرب إلى الموتى عنها إلى الأحياء، فحز في قلبه بشدة رؤيتها هكذا! تقدم بها نحو سيارته، وأجلسها على المقعد الخلفي، حاذر حينما أراح رأسها على الجانب، نظر لها مرة أخيرة ملقيًا باللوم على نفسه لتفريطه في حقها، استقام واقفًا، وأغلق الباب ليدور حول السيارة، هامسًا بين جنباته بوعدٍ أراد حقًا أن تسمعه وهو يقطعه على نفسه:

-مش هسمح لحاجة تأذيكي تاني، حتى لو مُت فيها ............................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل التاسع والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة