-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والأربعون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والأربعون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والأربعون

 بعصبيةٍ وتشنج، انتقل من درجٍ إلى آخر، ليفتش عن غرضٍ بعينه، دون أن يعبأ بالفوضى التي يُحدثها، حيث تنشطت ذاكرته في الأيام الأخيرة بذكرى قيامه بعمل نسخة احتياطية لمنزل زوج شقيقته، فعندما كان في زيارة عادية لها ببيتها، أثناء وجود "خليل" معها، استغل فترة بقاء الأخير بالحمام للاغتسال بعد عودته من العمل، وانشغال "سماح" بإعداد الطعام بالمطبخ، ليتسلل إلى داخل غرفة نومهما، لم يبذل أي عناء في إيجاد غايته، حتى الصغيرة "رقية" لم تكن على قدرٍ من الوعي لتدرك ما الذي يفعله بالداخل، فتابعت اللعب في غرفتها ببراءةٍ.

ما إن تأكد "حُسني" أن الأمور تسير على ما يرام، حتى أخرج قالب من الصلصال كان يحتفظ به في جيب قميصه، آنذاك قام بوضع ذلك المفتاح المميز الخاص بمنزله الآخر على جانبي القالب، فانطبع تصميمه عليه، ثم بنفس الحذر أعاد وضع القالب في جيبه، وأكمل باقي زيارته دون إثارة الشكوك والريبة.

دار في خلده أن يُقدم على تلك الخطوة الخبيثة من غير علمه، إذ ربما احتاج لمساومته في يومٍ ما، إن استمرت أحواله على نفس المنوال البائس دون أي تحسن يُذكر، فتفكيره الجامح أوهم له أنه يضع الهام من الأوراق، وكذلك النقود، عند زوجته الأولى. وقتئذ اتجه "حُسني" إلى أحد معارفه ممن يقومون بصنع نسخ للمفاتيح، وحصل على نسخته، وظل محتفظًا بها لحين الحاجة، ومع تطور الأوضــاع وحصوله على عملٍ بالخارج تناسى تلك المسألة، إلى أن خسر ما لم يملك، وعاد كما ذهب خاوي الوفاض.

برقت عينا "حُسني" بشدة، والتمعت في انتشاء حين وجد ضالته المنشودة، رفع المفتاح المنسوخ أمام نظراته الطامعة، وراح يردد مع نفسه في نشوةٍ عارمة:

-دلوقتي بس هعرف أخد حقي ...

قست عيناه على الأخير وهو يتم جملته بنبرة لا تبشر بخيرٍ أبدًا:

-وبزيادة.

...............................................................

لا تعرف ما الذي دفعها، لإلقاء نظرة على ألبومات الصور الفوتوغرافية القديمة، المحتفظة بها في قاع دولابها، أخرجتهم "ونيسة" بتمهلٍ، وأخذت تنفض الغبار عن الغطاء الخارجي الذي تشقق بفعل عوامل الزمن، ثم راحت تتأمل كل صورة على حدا، كأنما تسترجع شريط ذكرياتها القديم. توقفت أمام صورة قديمة جمعتها بشقيقتها "بثينة"، ازدحمت حدقتاها بسحبٍ من الدموع، بدأت في الانسياب في صمتٍ، لتتحول بعد بضعة دقائق لنهنهات متألمة.

رأى "بدير" زوجته على تلك الحالة المهمومة، فجلس إلى جوارها على طرف الفراش، وربت على كتفها بحنوٍ، فاندفعت تبوح له بنوعٍ من الشكوى، وبما يضيق به صدرها:

-أنا مقصرة مع أختي أوي، المفروض أكون جمبها، حتى لو هي مش عاوزاني.

بصوتٍ رزين وهادئ علق عليها:

-إنتي بتعملي اللي عليكي، واحنا متابعين مع الدكتور بتاعها، سواء "هيثم" كان على علم بده ولا لأ.

كفكفت بظهر يدها دموعها المنسابة، بينما أكمل "بدير" كلامه الموجه إليها:

-والدكتور آخر مرة بلغنا إن التحسن بطيء، ولسه الزيارة مش مرحب بيها.

أظهرت اعتراضها على ما أخبرها به بترديدها المنزعج:

-يعني هنسيبها لوحدها كده مقطوعة؟

رد نافيًا دون أن تتبدل نبرته الهادئة:

-لأ طبعًا، بس بنمشي حسب التعليمات.

امتدت يدها لتسحب منديلاً ورقيًا من العلبة الموجودة على الكومود، نفخت فيه أنفها، ودعت لها بصدقٍ

-ربنا يهونها عليها، ويخفف عنها..

ثم نظرت إلى زوجها، وواصلت الكلام بصوتٍ ما زال منتحبًا:

-الحكاية مش سهلة خالص، مافيش أم تستحمل خسارة ضناها قصاد عينيها، ما بالك كمان بقطع لسانها، لطفك يا رب.

عقب "بدير" في تريثٍ:

-مشيئة ربنا، وإرادته.

أضافت "ونيسة" في توترٍ وهي ترمش بعينيها:

-بيني وبينك يا حاج، ساعات بحس بتأنيب الضمير، رايحة أجوز ابني وأفرح لولادي، وسنوية "خلود" لسه مجاتش، ده غير إن آ...

لم يستسغ هذا النوع من الحديث، فقاطعها في نبرةٍ حازمة:

-الأعمار بيد الله، والحي أبقى من الميت.

ردت عليه مبررة بقدرٍ من القلق:

-ما أنا عارفة، بس الحزن جوا الواحد وآ..

مرة أخرى قاطعها بقوله الجاد:

-هيفيد بإيه الحزن، لا عمره هيرجع اللي راح، ولا هيخلينا ننسى اللي حصل، وفي النهاية كله بأمر الله.

أدركت أنها لن تصل في نقاشها العقيم معه إلى أي شيءٍ، خاصة أنه يُحادثها بمنطقية، وهي تحاوره بعاطفتها الأنثوية. طردت تنهيدة ثقيلة من صدرها قبل أن تقول:

-ونعم بالله.

أوصاها بتشددٍ طفيف:

-ركزي مع ولادك، وسيبيك من الهم دلوقتي، ربنا أنعم علينا بالفرحة، بدل ما نقول اللهم لك الحمد والشكر، ندور على الغم ونغرق نفسنا فيه؟!!

أحست بالحرج أمام كلماته العقلانية، فأومأت برأسها هاتفة في طاعة:

-حاضر يا حاج.

.....................................................

لملم طرفي قفطانه القطيفة معًا، ونهض من مجلسه، ليسير في خطوات شبه سريعة، وهو يسعل سعالاً متقطعًا، قاصدًا الاتجاه نحو باب منزله، بعد أن سمع الطرقات القوية عليه، كانت "سعاد" الأسبق في الوصول إليه؛ لكن زوجها استوقفها بأمره الصارم:

-استني عندك، أنا اللي هفتح.

ثبتت في مكانها، وقالت في انصياعٍ:

-ماشي يا حاج.

تراجعت بضعة خطوات للخلف، وسلطت أنظارها على الباب الذي فتح على مصراعيه، لتجد "إسماعيل" يتساءل في فضولٍ، وهو يتفرس بعينيه ذلك الغريب المرابط أمامه:

-خير يا ابني؟

أجاب عليه الرجل متسائلاً في لهجةٍ رسمية:

-ده بيت "إسماعيل أبو المكارم"؟

جاوبه بصوتٍ عبر عن تحيره:

-أيوه، ده أنا، في حاجة؟

اقتربت "سعاد" بحذرٍ لتعرف ما الذي يدور، ودون أن تظهر في مرمى البصر، في حين فتح الرجل دفتره الورقي، وأخرج منه ورقة ما، ناوله إياها وهو يخبره بنفس الطريقة الرسمية:

-اتفضل الإعلان ده يا حاج.

أخذها منه، ونظر إليها في غير فهمٍ، قبل أن يعاود سؤاله بحيرةٍ أكبر:

-إعلان إيه ده؟

استمر الرجل في تأدية عمله الرسمي الذي جاء من أجله، فأدار دفتره للجانب، وأشار نحو أحد الأسطر وهو يخاطبه بغموضٍ:

-وقع هنا بالاستلام الأول.

اغتاظ "إسماعيل" من أسلوبه الفظ في التعامل، وصاح به في انفعالٍ شبه ظاهر في صوته:

-مش أفهم الأول بوقع على إيه؟

تطلع إليه الرجل قائلاً بسماجةٍ:

-ده إعلان بقضية مرفوعة عليك يا حاج.

اتسعت عيناه في دهشة عجيبة، وهتف متسائلاً بصدمةٍ:

-قضية! يا ساتر يا رب، من مين؟ وليه؟

بسّط له الرجل طبيعة الإنذار القضائي بقوله:

-ده إعلان بمنعك من التصرف في أموالك.

شهقت "سعاد" من خلفه، ولطمت على صدرها في إنكارٍ صارخ، بينما جحظت عينا زوجها في ذهولٍ أكبر، وصاح مستنكرًا بشدة:

-نعم؟ إيه التخاريف دي؟ مين اللي عامل كده؟ ده مالي بتعبي وشقايا؟ مسرقتوش من حد؟!!

نظر له الرجل بجمودٍ، كأنما اعتاد على مثل تلك الانفعالات الثائرة من الأشخاص حين يتلقون إنذارات قضائية، لم ينبس بكلمةٍ، وطالعه بنظرة أوحت بانزعاجه من مماطلته. هدر به "إسماعيل" مجددًا وهو لا يزال على حالة الاستهجان تلك:

-أكيد في غلط، إنت متأكد يا ابني؟

هز رأسه مؤكدًا بهدوءٍ يناقض الثورة الحادثة أمامه:

-أيوه يا حاج، ده شغلي .. واللي رافع عليك الدعوة هو آ...

قبل أن يتم جملته للنهاية، ظهر على الساحة "فضل"، برقت عيناه بوميضٍ خبيث، وقاطعه قائلاً بقوةٍ أصابت والده بالصدمة الشديدة:

-أني يابا.

تحولت حدقتاه المدهوشتان ناحيته، فلم يعد يرى ذلك الرجل، تركز كل بصره عليه، فبدا وكأن عيناه ستبرزان من محجريهما من هول صدمته فيه، تلجلج لسانه وهو يسأله في عدم تصديقٍ:

-إنت .. يا "فضل"؟

بجحودٍ لا يضاهيه شيء نطق ابنه البكري عن ابتسامةٍ شريرة، وبكل ثقة، ودون أن يظهر الندم على تقاسيم وجهه:

-أيوه، حقي، وهخده.

.......................................................

داعب إصبعها وجنته الناعمة بحنوٍ، قبل أن تنخفض يدها لتضبط من وضعية رابطة العنق الصغيرة، ذات اللون الأحمر الداكن، والمعقودة على شكل أنشوطة، لتكتمل هيئته الأنيقة بعد أن ألبسته الحُلة الجديدة. ابتسمت "فيروزة" للرضيع في سرورٍ، ومدحته بابتسامةٍ غير متكلفة:

-عسل أوي في البدلة.

دنت "همسة" من توأمتها، وألقت نظرة إعجاب على وليدها المستلقي على الفراش، لترد بعدها في رضا:

-مجايب خالته الجميلة.

التفتت ناحيتها لتخبرها بمحبةٍ:

-ربنا يقدرني وأجيبله كل حاجة حلوة.

احتضنتها "همسة" في تلقائية، وعلقت بنبرة راجية:

-حبيبتي ربنا يخليكي، وعقبال ما أشيل عوضك يا رب.

تجاوزت عن كلامها الموحي الأخير، وسألتها لتغير من مجرى الحديث:

-أومال فين جوزك؟ من بدري ماشوفناهوش هنا عندك.

بالطبع لكون أفراد عائلتها قد قضوا النهار بأكمله في ضيافة "همسة" وزوجها لحين انتهاء مراسم الزفاف الخاصة بـ "هاجر"، فقد لاحظت "فيروزة" غياب "هيثم" معظم الوقت، إلا من بعض الدقائق العابرة خلال الساعات الطويلة الماضية. حاولت التأكد من ألا يكون سبب عزوفه عن القدوم له علاقة بها، خاصة أن الأمور بينهما كانت إلى حدٍ ما جيدة، لا يشوبها أي تعكير أو كدر. ظلت أنظارها المتفرسة على وجه شقيقتها وهي توضح لها في عفويةٍ:

-موجود تحت مع الرجالة عشان يظبطوا فِراشة الفرح والكوشة، ما إنتي عارفة "هاجر" ودماغها، حلفت ما تعمل زفتها في قاعة، وصممت تبقى طالعة من بيت أبوها.

هزت رأسها في تفهمٍ، وقالت بابتسامةٍ منمقة:

-هي تستاهل كل خير.

رمقتها "همسة" بتلك النظرة الماكرة وهي تضيف:

-عقبال ليلتك إنتي كمان.

تعمدت "فيروزة" ألا تلتفت لقولها، أو تُلقي له بالاً، فمشاعرها العاطفية شأنًا خاصًا لا تحبذ مشاركة الغير في التعبير عنها، تحركت مبتعدة عن الفراش وهي تكلمها:

-أنا هشوف "كوكي" لبست ولا لأ.

استوقفتها "همسة" متسائلة في اهتمامٍ:

-هتنزلي عند العروسة؟

هزت كتفيها مرددة في غير اكتراثٍ:

-هي عندها اللي يساعدها، ماظنش هتحتاج حاجة مننا.

التوت شفتا "همسة" ببسمة عبثية وهي تخبرها:

-برضوه لازم نقف معاها، احنا من العيلة.

منحتها "فيروزة" نظرة صارمة قبل أن تقول بجمودٍ:

-أما أجهز، هاشوف هعمل إيه.

ظلت شقيقتها محتفظة بملامحها الوديعة وهي تُطلعها على خطواتها التالية:

-ماشي، وأنا يدوب أرضع "خالد"، وأكمل لبسي.

وقفت "فيروزة" عند أعتاب الغرفة، ثم أمسكت بمقبض الباب قائلة بهزة طفيفة من رأسها:

-خدي راحتك.

أغلقت الباب بمجرد أن وطأت للخارج، ووضعت يدها على صدرها تتحسس ذلك المتلاحق في نبضاته، تنفست بعمقٍ لتهدئته، وراحت تقاوم التفكير في رؤيتها لمن بات القلب يهواه، فإن كانت تدعي الجمود في وجود الآخرين، فما يحدث داخلها ينبئ بثورة قادمة من المشاعر الجياشة، فقط تنتظر اللحظة المناسبة لتحريرها من قيودها.

..........................................................

رغم أن الوقت ما زال مُبكرًا على بدء فقرات الزفاف، إلا أن بعض أهالي المنطقة أصروا على المجيء منذ اللحظات الأولى، والمشاركة في أفراح عائلة "سلطان"، والمعروفة دومًا بأنها تحتل القمة في كل شيء؛ جودة التنظيم، السخاء والكرم الظاهر فيما يتم تقديمه من مأكولات ومشروبات، والاحترام الواضح لكل من يُبدي ودّه وتقديره لأي فردٍ من العائلة. كان "تميم" على رأس الموجودين لاستقبال الحضور بحفاوةٍ، وأيضًا للتأكد من إتمام كل شيء مثلما اتفق مع منظمي الحفل. جال بنظراتٍ غير مدققة على الأوجه الجالسة في السرادق، إلى أن لمح "ناجي" قادمًا من على بُعد، حينئذ تجهمت ملامحه، وأصبحت نظراته أكثر جدية وتحفزًا، رفع ذراعه للأعلى ليشير إليه، فبادله الأخير الإشارة، وأسرع في خطاه ناحيته، التقط أنفاسه مستطردًا الحديث:

-مبروك يا كبيرنا، وعقبال ليلتك.

قال "تميم" في لهجةٍ رسمية، وبتلهفٍ ملحوظ، وعيناه تتابعان حركة العفوية لإخراج سيجارة من علبته المحتفظ بها في جيبه:

-الله يبارك فيك، قولي في جديد عندك؟

بنوعٍ من الغرور أجابه:

-طبعًا، وإلا مكونتش جيتلك وأنا إيدي فاضية.

استعجله مرددًا في غير صبرٍ:

-ها، إيه الأخبار؟

أشعل سيجارته، ولفظ دخانها الذي سحبه دفعة واحدة قبل أن يجاوبه مسترسلاً في التوضيح:

-سافر على شغلانة مضروبة، مالهاش ورق، وفعلاً مكانش الخال يعرف بده، اللي جابها كان عاملها زيارة، ويبقى يضربها بعدين ولا يقلبها فيزا عمل.

ضاقت عينا "تميم" بطريقةٍ غامضة، وسأله في إيجازٍ:

-وبعدين؟!

أخبره مزيدًا في إيضاحه:

-البيه حاول يمشي أموره في أي حاجة لحد ما يلم القرشين اللي بعترهم، ولما جاب حق التذكرة هوب طيران راجع على هنا.

احتدت نظرات "تميم" متسائلاً:

-والأفلام بتاعة زمان؟

انقلبت تعابيره وهو يؤكد له:

-كان مدورها معاه، تسفير غير شرعي، والأغلب مراكب.

صمت "تميم" مليًا، كأنما شرد في عالمٍ خاص به، يوازن فيه الأمور بطريقة تمكنه من التعامل معها بالأسلوب المناسب. طال سكوته بشكلٍ دعا للاسترابة، مما دفع "ناجي" لسؤاله:

-ناوي على إيه يا ريسنا؟

أخبره بغموضٍ:

-أديني بلف الحوار كله في دماغي، وهشوف ...

هز "ناجي" رأسه، فتساءل رفيقه في جديةٍ:

-بس مظاهرش هنا ولا هنا؟

أجابه نافيًا:

-لأ، بعت الرجالة في المطارح اللي قولتلي عليها، بس لا حس ولا خبر.

أومأ برأسه وهو يعقب عليه:

-ماشي الكلام، المهم تأمن على بيت الجماعة.

أكد عليه "ناجي" بجديةٍ غير مشكوكٍ فيها:

-من الناحية دي اطمن، عامل ورديات قصاد بيت الجماعة، رجالتنا واخدين بالهم.

استحسن اهتمامه بالأمر، وربت ربتة سريعة على جانب ذراعه وهو يرد:

-زي الفل.

تساءل "ناجي" بعدها وهو ينهي تدخين سيجارته:

-ها تؤمر بحاجة تانية؟

ضرب على كتفه بقوةٍ قليلة وهو يقول:

-الله يكرمك، عيش بقى مع معلمين السوق.

التفت برأسه للخلف، وهتف متحمسًا:

-تمام يا كبير، ومبروك مرة تانية.

رد بغير ابتسامة:

-الله يبارك فيك.

شيعه بنظراتٍ شبه شاردة، وقد بات عقله مشغولاً بهذا اللئيم غير المرحب به، زفر الهواء من رئتيه، وتساءل مع نفسه في تحيرٍ كبيرٍ:

-يا ترى ناوي على إيه يا "حُسني"؟ شكل نابك أزرق، ونيتك سودة!

..........................................................

كان واجمًا، متجهمًا بعض الشيء، ملامحه تعكس تفكيره العميق في أمرٍ ما، سرعان ما عاد من سرحانه المنزعج، عندما انزلقت عيناه على من هجرت سماء النجوم العالية، لتهبط إلى أرض عشقه، وتغدو بين العامة بدلالها ونعومتها الرقيقة، السارقة للقلوب قبل الأنظار. أحس "تميم" بشفتيه تتقوسان عن بسمة صافية، تبدد معها الضيق الذي احتل صدره، خاصة حينما التقت الأعين ببعضها البعض في لقاءٍ حصري، اقتصر على كليهما.

منحته "فيروزة" بسمة جمعت فيها بين الرقة والحنو، كأنما تنامى بداخلها إحساسًا مؤكدًا برغبته في الظفر بقدرٍ من هذا الشعور المفعم بالألفة والود. ومثلما اعتادت حين تلقاه، أن تتجمل في بهاءٍ تضمن به بقاء كامل أنظاره عليها لأطول مدة، وإن كانت ترى مقاومته المستميتة لتأثيرها الطاغي عليه، فتجده يتحاشى النظر إليها، كأنما يبخل عليها بنظرة مرضية لها كأنثى.

تهادت في خطواتها، وهي تضبط بيدها أطراف كنزتها النبيذية، تلك التي فضلت ارتدائها على بنطال أسود مصنوعٍ من القماش، مع حجابٍ من اللون الذهبي، تتخلله تشبيحات متفرقة من نفس لون الكنزة. أطبقت على جفنيها لثانيةٍ قبل أن تعاود النظر إليه، تقدمت ناحيته بثبات، لكن ما بين ضلوعها لم يثبت، كان يقفز في فرحةٍ وانتعاش، كأنه حظى بجنته على الأرض، أبقرب الحبيب يتبدل الحال من حالٍ إلى حال؟ هكذا كانت تشعر.

رسمت ابتسامة لطيفة على ثغرها، واستهلت تحييه:

-مساء الخير عليك.

ذابت القسوة، وتلاشى التجهم مع نعومتها المزلزلة لكيانه، بالكاد حافظ على ثباته في حضرتها، وقال بابتسامة عريضة للغاية لا تخلو من الغزل:

-مساء النور على القمر.

لامست بيدها طرف حجابها المتدلي على كتفها، كأنها وسيلتها لتخفيف التوتر المُربك الذي انتابها، ثم تنحنحت بصوتٍ خفيض، وردت بعدها وهي ترفرف برموشها:

-مبروك لـ "هاجر"، هي شوية ونازلة، أنا بصيت عليها، وكل حاجة تمام.

هز "تميم" رأسه في استحسان، وقال ضاغطًا على كلمته الأخيرة:

-على خير يا رب، وعقبالنا ..

حاولت ألا يبدو تأثير نواياه الصادقة نحوها ظاهرًا عليها، أخفضت من نبرتها حين عقبت عليه:

-إن شاءالله.

تفاجأ من ردها، ونظر إليها في ابتهاجٍ، حاولت الهرب من نظراته التي تحاصرها، وادعت وهي تشير بيدها:

-أنا هشوف "رقية"، بدل ما تتوه وسط الزحمة.

انسحابها التكتيكي كان ضروريًا لئلا تنجرف مشاعره نحو التهور، سرعان ما استعاد رشده، وسألها في لهجةٍ غير ممازحة:

-قوليلي في حد ضايقكم الأيام اللي فاتت؟

تعجبت من تحوله للجدية التامة، وسألته بنفس الوتيرة القلقة:

-تقصد خال "رقية"؟

أجابها في إيجازٍ، وما زالت ملامحه تنم عن الجدية:

-أيوه.

ردت نافية:

-لأ، من ساعة السبوع ماظهرش تاني.

زم شفتيه للحظةٍ قبل أن يقول مقتضبًا:

-كويس.

ساورتها الشكوك، وتفشت في رأسها، لهذا ظلت باقية في مكانها لتسأله بنبرة المحقق:

-هو إنت عرفت حاجة ومخبي علينا؟

استقام في وقفته، ليبدو أكثر شموخًا ومهابة، ثم وضع يديه في جيبي بنطال بدلته الكحلي ليقول في تمهلٍ:

-لأ، بطمن بس عليكم.

لن تنكر أنها تشعر بالفخر لوجودها بقربه، فمثله يدعو للتباهي بالاقتران به .. تدللت عليه، وابتسمت قائلة في مرحٍ:

-العيلة كلها طبعًا.

نظر مباشرة في عمق عينيها، حتى شعرت أنه بنظراته الدافئة قد نفذ إلى مواطن الضعف بداخلها، ليحتل -بلا مقاومة منها- كامل كيانها، خاصة عندما صاحب ذلك قوله الهادئ:

-وإنتي قبلهم ..................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الخامس والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة