-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السابع والأربعون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السابع والأربعون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السابع والأربعون

 الفرار، ثم الفرار، ثم المزيد من الفرار، كان الاختيار المناسب حتمًا، إن أرادت أن تحافظ على ثباتها المتزعزع في وجوده .. ألبضعة كلمات عادية، منقحة من أي عبارات خادشة للحياء، كل هذا التأثير القوي عليها؟! لم تصدق "فيروزة" نفسها حين شعرت بهذه الرعدة الخفيفة تسري في أوصالها ابتهاجًا لشعورها باهتمامه الواضح بها. انزوت عن محيط أنظاره؛ لكن بقي القلب مُعلقًا بمن نجح في احتلال ثناياه والتربع على عرشه. انتقت لنفسها مكانًا بين الحضور في المقدمة، لتبدو قريبة من العروس، إن احتاجت إلى شيءٍ، فلبت ندائها بمحبة صافية. جلست إلى جوارها "همسة"، ومعها رضيعها النائم، لتلحق بهما "آمنة"، والصغيرة "رقية".

تبقى القليل على بدء مراسم الزفاف، والعروس ما تزال في منزلها بصحبة والدتها، في تلك اللحظات العاطفية الخاصة، حانت من "فيروزة" نظرة خلفية تبحث بها عن "تميم"، رأته يصافح أحدهم بحرارة، والضحكات العفوية تملأ وجهه، لحظها السعيد التقط نظراتها السارحة فيه، فخجلت، ووجلت، واستدارت محدقة أمامها وهي تشعر بدقات قلبها تعلو وترتفع، حتى كاد ضجيجه يصم آذانها. عنفت نفسها في صوتٍ هامسٍ للغاية:

-في إيه يا "فيرو"؟ ما تهدي كده.

بالكاد منعت نفسها من النظر إليه، وكأن العين لم تعد ترتوي بما يطفئ لهيب الظمأ فيها إلا برؤياه!

حاولت الالتهاء بالحديث مع شقيقتها، علَّها بهذا تسكت الصوت المنادي في رأسها باختلاس النظرات إليه، وبإرادة كاملة منها انصاعت لرغبات العقل تلك المرة، وراحت تدير رأسها في حركة بطيئة حذرة لتتطلع إليه، ويا له من شعور عظيم يزيد من إحساس الألفة والمودة بداخلها كلما أبصرته يضحك، أو يبتسم، بل يمكن الجزم بأنها شعرت بالغيرة لكون تلك الضحكات العفوية مع غيرها.

عبوسٌ طفيف سيطر على ملامحها سرعان ما تبدل لابتسامة خفيفة حين طلبت منها "همسة" بلطفٍ:

-ممكن تشيلي "لودة" شوية، لحد بس ما أشوف "هيثم" عاوز مني إيه.

امتدت ذراعاها نحوها، التقطته منها، وضمته إلى صدرها بحذرٍ وهي تُبدي ترحابها:

-ماشي يا حبيبتي.

تابعتها بنظراتها وهي تسير في تعجلٍ، تتجه نحو زوجها، في حين ضجرت "رقية" من الجلوس ساكنة، وتعلقت عيناها بالصغار الذين يلهون أمام خشبة المسرح، نهضت من مكانها استعدادًا للذهاب؛ لكن أنذرتها عمتها بجديةٍ:

-خليكي هنا يا "كوكي"، بلاش شقاوة!

زمت شفتيها محتجة في عبوسٍ طفولي:

-عايزة ألعب.

حذرتها "آمنة" من جديد بنبرة غليظة:

-وتبهدلي نفسك؟ ده لسه الفرح مابدأش.

كتفت "رقية" ساعديها، وعادت للجلوس وهي تنفخ عاليًا في سأمٍ، فتدخلت "فيروزة" لإقناعها بالقبول:

-سبيها يا ماما، هي بتلعب قصادنا.

بادرت بالاحتجاج مجددًا

-بس فستانها هيبوظ، وجايز تقع، و..

قاطعتها قبل أن تنهي ما بدأت من كلام:

-معلش، دي برضوه عيلة، مش هتفضل متقيدة في مكانها طول الوقت، لما الفرح يبدأ تبقى تقعد جمبنا.

تنهدت "آمنة" بعمقٍ، ثم استدارت تنظر لوجه الصغيرة الرقيق، لانت ملامحها واستسلمت، ثم شددت عليها بإشارة من سبابتها كذلك:

-طيب ما تروحيش بعيد، ولو التفت وملاقتكيش هعاقبك.

صدحت ابتسامة سعادة على وجهها، وتلاشى هذا التجهم مع موافقتها، ركضت لتنضم لبقية الصغار وهي تردد:

-حاضر.

ابتسمت "فيروزة" لبراءتها، وودت لو عاد بها الزمن إلى الوراء، وكانت لا تزال صغيرة، تلعب بلا همٍ، وتبيت ليلتها بلا خوفٍ من المجهول. انتشلها من شرودها السريع صوت والدتها المتساءل:

-مافيش جديد عندك؟

نظرت ناحيتها، وردت متسائلة بقليلٍ من الحيرة

-جديد إيه؟

أخبرتها ببساطة عن قلقها:

-يعني محدش كلمك في كتب كتاب ولا جواز؟ بقالنا فترة على وضعنا!

تجهمت كامل قسماتها، وهتفت قائلة في اعتراضٍ مستاء:

-مش وقته الكلام ده يا ماما.

ردت بسخافةٍ وضيق:

-أومال إمتى وقته؟ ما هو كله أهوو ربنا كرمه وبيتجوز، إنتي بس اللي هتعملي فيها بنت بارم ديله.

هسهست في غيظٍ:

-استغفر الله العظيم يا رب.

استمرت والدتها في الضغط عليها بسؤالها المُزعج:

-ها مردتيش عليا؟

أظهار أسبابها لها لن يجعلها تفهم ببساطة ما الذي تحاول فعله قبل أن تُقدم على تلك الخطوة الفاصلة في حياتها، هي تستمتع بما يتنامى بداخلها من مشاعر نقية، تُعايش وتحفر في أعماقها ذكريات حلوة تكون سلواها في المستقبل، لذا أشاحت "فيروزة" بوجهها بعيدًا عنها، وقالت في برودٍ:

-لما يبقى في جديد هاقولك، حلو كده.

رمقتها "آمنة" بنظرة حادة، مزعوجة، رافضة لعزوفها عن الزواج، تفكيرها المحدود يوهمها أن ابنتها تدلل على من لا يصلح التدلل معه، إطالة مدة الخطبة تعني إعطاء الفرصة لغيرها للقفز عليها، ومحاولة إيقاعه بالحيلة لإنهاء تلك الخطبة المزعومة والزواج بأخرى مستعدة لهذا، لم تبتسم وهي تعقب عليها:

-ماشي، ربنا يهديكي لنفسك.

...................................................

تحفز في وقفته، وبدا على أَهُبة الاستعداد، حين اصطفت السيارة المألوفة على مقربة من سرادق الفرح، اعتلى ثغر "تميم" ابتسامة اعتزاز، سرعان ما امتزجت مع نظرة الفخر التي أطلت من عينيه، عندما ترجل رفيقاه المقربان منها. تحرك "دياب" أولاً ناحية الباب الخلفي ليُخرج طفله، ثم حاوط كتفيه بذراعه، واستحثه على السير للأمام بتلكؤٍ ملحوظ، ليلحق بهما "منذر". ما إن أصبح ثلاثتهم على مقربةٍ من "تميم" حتى هلل صائحًا في مزاحٍ:

-والله كنت هزعل لو ماجتوش.

امتدت يد "منذر" لمصافحته، قبل أن يجذبه إلى صدره لاحتضانه وهو يبادله الترحاب الحار:

-هو احنا نقدر نتأخر عنك، مبروك يا "تميم"، وعقبالك.

تراجع عنه "تميم"، والتفت ناظرًا إلى "دياب" الذي خاطبه ممازحًا:

-يا عم إنت عاوز تنكد عليه من تاني، هو كده حلو.

عاتبه "منذر" بنظرةٍ ذات مغزى:

-الجواز بقى نكد دلوقتي؟ ما كان حلو من كام شهر.

رد عليه شقيقه الأصغر متصنعًا العبوس:

-ده بقى تأديب وتهذيب وإصلاح، وتقويم، وكل حاجة تخيلك تمشي عدل.

قهقه "منذر" ضاحكًا، وشاركه "تميم" الضحك، ليتبع ذلك قول الأول الطريف:

-مع مراتك أيوه، الله يكون في عونك يا "دياب".

علق عليه بطرافةٍ مماثلة:

-ده أنا ساعات بخاف منها وربنا، صعبة في زعلها، فاكر لما اتخانقت مع الجزار، دي مابيهمهاش حد.

أخبره "تميم" مبتسمًا في مرحٍ:

-كل الستات كده، عاوزين كتالوج عشان نفهمهم.

عندئذ كرر "منذر" سؤاله عليه بنظراتٍ موحية:

-طيب مش هنفرح بيك بقى؟

في حين اعترض "دياب" بنفس الأسلوب المتسلي:

-برضوه؟! ليه عاوز تجيبله النكد؟

أجاب عليه "تميم" وهو ما زال يقاوم الضحك:

-لما ربنا يأذن، هتلاقيني دخلت القفص برجليا.

أنذره "دياب" بإصبعه المرفوع أمام وجهه:

-ومترجعش تزعل، وتقول ندمان.

هز رأسه نافيًا:

-لأ يا سيدي مش هشتكي.

جذب الصغير "يحيى" ذراع والده، وطلب منه بنوعٍ من الإلحاح وهو ينظر نحو حفنة من الأطفال يلعبون على مقربة منه:

-بابا عاوز ألعب هناك.

ألقى "دياب" نظرة شمولية على البقعة المشار إليها، كأنما يُقيم مخاطرها بنظراته الثاقبة، ثم أبدى موافقته المشروطة بلهجةٍ جمعت بين الجد والهزل:

-ماشي، بس مضايقش حد، والعب مع البنات الحلوة بس.

رد "يحيى" في حماس مرح وهو يعدو ركضًا:

-حاضر يا بابا.

ما إن انصرف الصغير حتى عاتبه "تميم" في خشونةٍ:

-في حد يعلم ابنه كده؟

غمز له مبررًا بعبثية:

-خليه يجرب حظه من بدري، أومال يحصله كبت زي ناس؟

رفع "منذر" كفيه للأعلى كأنما يبرئ ساحته، وأتبع ذلك معترفًا في لطافةٍ:

-اتكلم عن نفسك، أنا مبسوط مع جماعتي.

حدج "تميم" رفيقه العابث بنظرة صارمة قبل أن يوجه كلامه الجاد إليه/

-ده أنا لو عندي بنت وإنت جاي تخطبها لابنك، وربنا لأنشف ريقكم قبل ما أوافق.

شاركه "منذر" الرأي مؤمئًا برأسه:

-لو "تميم" يعملها معاك وش.

فرد "دياب" ذراعيه في الهواء، وأحنى جذعه كأنما يؤدي تحية احترامٍ لشخصية وقورة وهو يردف مازحًا:

-هو احنا نطول نناسب الفخامة كلها!

لم يكبت "تميم" ضحكه المستمتع، وجاراه في مزاحه مرددًا:

-أيوه، اضحك عليا بكلام السوق، أصلها بيعة سهلة، ده إنت متعرفنيش، أنا عند أهلي وناسي ببقى صعب جدًا.

علق وهو ما زال مبتسمًا، وبغمزة سريعة:

-يا عم الصعب نسهله عشانك.

استمر "تميم" على جديته معه، فقال:

-برضوه هطلع عين ابنك، وعينك قبل منه.

لَحَظ "منذر" اتخاذ الأمر منحنًا جادًا فيما بينهما، فهتف يلفت انتباههما بلهجةٍ بدت شبه عالية ولا تخلو من المرح:

-إنتو بتكلموا في إيه؟ مش لما تتجوز الأول، وربنا يكرمك بالذرية الصالحة، والعيال تكبر، وتشيل الهم بدالنا، تبقى تتشرط عليهم، يعني خدلك كام سنة.

-على رأيك، عملنا زي اللي جابوا السلَّبة قبل الجاموسة.

..................................................

التجمعات الطفولية كانت وسيلة فعالة لاجتذاب الصغار للعب تحت أنظار البالغين، خاصة حينما تكون في مساحة مغلقة. تحمست "رقية" لمشاركة مثيلاتها من الفتيات، ممن يرتدين الأثواب البيضاء في الأعراس، للهو والمرح. بضعة دقائق انقضت وانضم المزيد من الأطفال للمشاركة، وقع الاختيار من غالبية الصغار على لعب "الغميضة"، وبدأوا في الركض في كل الاتجاهات، وما هي إلا لحظات وصدحت أصوات الصراخ الحماسي في الأجواء.

تحولت واحدة من تلك الصرخات الضاحكة إلى شهقة مفزوعة، حين جذب اجتذب أحدهم الأنشوطة التي تزين ثوبها، كمحاولة للإمساك بها خلال اللعب. ورغم أنها انتُزعت دون قصدٍ، إلا أنها أصيبت بالجزع، وتوقفت في مكانها مشدوهة، مرتعدة الفرائص. انحنت "رقية" لتلتقطها من على الأرض، وقد تقوست شفتاها للأسفل في حزنٍ لا يمكن نكرانه. دنت منها إحدى الفتيات تسألها:

-مالك؟ مش بتلعبي معانا ليه؟

أجابتها في عفويةٍ، وعيناها تغرقان في الدموع:

-الولد ده قطعلي الفيونكة...

ثم أشارت بيدها نحو واحدٍ من الصبية بالتحديد، نظرت إليه صديقتها، وحاولت تهوين الأمر عليها، فقالت:

-متزعليش، مش باينة، محدش هياخد باله.

هزت رأسها نافية، وردت بصوتٍ باكٍ:

-عمتو هتزعق عشان اتقطعت.

عضت الطفلة الأخرى على شفتها السفلى في حيرة، وأخبرتها بعد لحظة من التفكير السريع:

-ممكن تتربط كده.

وقامت بتجربة ما هداه إليها تفكيرها المحدود؛ لكن محاولتها باءت بالفشل، ارتاعت الصغيرة أكثر، وراحت تردد في بكاءٍ أكبر:

-أنا خايفة، هتزعقلي جامد، وممكن تضربني.

أشفقت عليها الطفلة الأخرى، واقترحت عليها في صوتٍ جاد:

-قوليلها إن الواد ده قطعها، دي مش غلطتك.

ثم أمسكت بها من معصمها، وأضافت بنبرة مهددة:

-وأنا كمان هزعقله قصادك.

اتجهت الاثنتان للصغير الذي تسبب في إفساد مظهر الثوب الرقيق، وبدأت الطفلة الأكبر سنًا في توبيخه، وتهديده بجديةٍ، خاصة مع كونه غريبًا عن المنطقة، فزأر "يحيى" يرد مدافعًا عن نفسه في حمئة عجيبة:

-مكانش قصدي، وإنتي ملكيش دعوة.

اغتاظت منه "رقية"، فراحت تهدده هي الأخرى بشجاعة رغم الرجفة الظاهرة في صوتها:

-إنت وحش، هاقول لبابا عليك.

نظر في اتجاهها، ورد بوقاحةٍ، كأنه لا يكترث لتهديدها:

-قوليله، بابايا هيضربه.

اتسعت عيناها في صدمة، وناطحته الطفلة الأخرى الرأس بالرأس، وكالت له من التهديدات المصحوبة ببعض الشتائم لتهينه، فواصل الرد عليهما بصوتٍ تعمد جعله حادًا وقويًا، مما جعل "رقية" تغادر راكضة بحثًا عن المساعدة اللازمة بعد أن تحول الأمر لمشكلة حقيقية .. كانت "فيروزة" في مرمى بصرها، لهذا بدت الخيار المناسب لإيجاد الحل.

........................................

بين الفنية والأخرى، كانت "فيروزة" تدور برأسها على محيط المكان من حولها، لتتأكد من بقاء ابنة خالها تحت ناظريها، خاصة مع بدء ازدحام السرادق بالمدعوين، تجمدت عيناها على الصغيرة حين رأتها ترنو إليها بخطى راكضة، زوت ما بين حاجبيها، وسألتها في اهتمامٍ ملحوظ يشوبه القليل من القلق:

-في إيه يا "كوكي"؟

التقطت أنفاسها لهنيهة قبل أن تشكو إليها بصوتٍ جمعت فيه بين اللهاث ونهنهة البكاء:

-في ولد قطع الفيونكة بتاعة الفستان.

نظرت إلى الأنشوطة الموجودة في راحة يدها، وتناولتها منها، ثم فحصت الثوب بعينين مدققتين قبل أن تخبرها مبتسمة في لطفٍ لتهون عليها الأمر:

-حبيبتي، خلاص متزعليش، أنا هصلحهالك.

ظلت "رقية" على عبوسها وهي تضيف:

-عمتو هتزعل.

طمأنتها "فيروزة" بنفس الأسلوب الحاني:

-مش هنقولها، وهي مش هتاخد بالها.

من زاويتها استطاعت "رقية" أن تلمح الطفل الفظ وهو يسير منفردًا، رأته ينظر إليها، قبل أن يخرج لسانه من فمه ليغيظها، فصاحت في تذمرٍ وهي تشير بيدها ناحيته:

-بصي هو الولد ده، وقال هيضرب بابا كمان.

هنا برزت عينا "فيروزة" في غضبٍ مستنكر، واستدارت ناظرة إليه حيث أشارت ابنة خالها، ثم هتفت تتوعده بتحفزٍ واضح:

-إيه الكلام ده؟ أنا هبهدله، عيب مايصحش يقول كده، لازم نحترم الكُبار.

..............................................

لم تمضِ دقيقة إلا وكانت "فيروزة" واقفة قبالة "يحيى"، حاصرته عند الزاوية، وحدجته بنظرة قاسية، بعد أن اشتاطت غضبًا وغيظًا من تصرفه الفظ، بدأت في تقريعه على سوء فعله؛ لكنه تجاهلها، وأخذ يركل كومة من التراب أسفل قدمه ليبعثره. تصاعد الحنق بداخلها أكثر، وهتفت صارخة في وجهه:

-ينفع تعمل كده في فستانها؟

بفتورٍ علق عليها:

-مكونتش أقصد.

هدرت به بتشنجٍ وهي تستخدم يدها في التلويح:

-اللي مايقصدش يعتذر عن الغلط اللي عمله، مش يقول كلام وحش للأصغر منه.

وزع "يحيى" نظراته ما بين هذه الشابة الغاضبة الغريبة عنه، وبين الصغيرة المبتسمة في نشوة انتصارٍ عجيبة، ظهر الكدر في عينيه، وصاح متوعدًا الاثنتين، وهو ينحني بجسده للأمام، ليفر في خفة من حصار ذراعها المفرود قبالته:

-أنا هاجيبلكم بابا.

شيعته بنظراتٍ مستشاطة، وردت عليه بصياحٍ قوي:

-هاته، يعني هخاف منه!!

بقيت أنظارها عليه رغم اختفائه في الزحام، ورددت مع نفسها باستهجانٍ:

-إيه العيال دي؟!!!

................................................

بوجهٍ متوهج بحمرة الغضب، اتجه "يحيى" إلى أبيه، بعد أن شق طريقه وسط الحشد المتجمهر في السرادق، لم يجد صعوبة في إيجاده؛ لكن الأخير نظر إلى ملامح طفله العابسة بشدة، والقلق يعتريه، خاصة مع تلك النظرة الحانقة التي تطل من عينيه. سحبه بعيدًا عن الصخب المحاوط بهما، وسأله مستريبًا:

-في إيه يا "يحيى"؟

أخبره بعد زفيرٍ حاد، وهو يدير رأسه في كافة الاتجاهات إلى أن حدد بقعة بعينها:

-الناس اللي هناك دول بيزعقولي.

حملق ناحية الوجهة المُشار إليها، وتابع متسائلاً في تمهلٍ، ليفهم سبب نشوب الشجار قبل أن يبادر بالرد الرادع:

-عملت إيه؟

تردد قبل أن يجاوبه كاذبًا:

-آ .. ولا حاجة.

استشعر "دياب" من ملامح صغيره المهتزة وجود خطب ما، الحكاية منقوصة، إكمالها يتطلب الذهاب منه إلى الطرف الآخر ومعرفة التفاصيل قبل تقييم الوضع بأكمله، قبض على معصمه، وسحبه خلفه هاتفًا بنبرة حازمة لا ترد:

-تعالى نشوف الحكاية.

تثاقلت خطوات "يحيى" وهو يتبعه مجبرًا، فقد أدرك أنه وقع في مأزق بسبب رعونته الطفولية، وتباهيه غير الضروري مع صغيرة لا حول لها ولا قوة، قبل أن يتصاعد لتهديدٍ نزق مع شابة بالغة، الآن عليه تحمل العواقب!

................................................

احتدت نظرات "فيروزة" على الرجل القادم في اتجاهها وهو يجذب معه الطفل المشاغب، الملامح المألوفة لكليهما معًا، بالإضافة لبعض المشاهد غير واضحة المعالم لمواقف سابقة بدأت في اقتحام عقلها، لتذكرها بأنها رأتهما فيما مضى؛ لكنها لا تذكر حاليًا أين تحديدًا، لهذا سعت جاهدة لاعتصار عقلها عصرًا علَّ ذاكرتها تتنشط قبل مجيئهما.

في البداية ساورتها الشكوك وهي تتحدث إلى الصغير، أما الآن مع حضور أبيه فقد تضاعف إحساسها بأنها تعرفهما من مكانٍ ما، تغاضت "فيروزة" مؤقتًا عن حيرتها، وبدأت بالهجوم أولاً، وأصابع الاتهام موجهة للاثنين:

-إنت أبو الولد ده؟

الطباع الحادة للنساء دومًا تكون من نصيبه، لماذا هذا الحظ الغريب معه؟ أمكتوبٌ على جبينه صالحٌ لتنفيس الانفعالات النسائية؟ امتعضت تعبيرات وجه "دياب"، ونظر لها نظرة مزعوجة وهو يرد مبررًا:

-أيوه، وأنا كنت جاي عشان آ....

قاطعته قبل أن يختتم جملته بنفس الأسلوب المهاجم:

-كويس إنك عارف إنه غلطان، يعني يصح اللي عمله ده؟!!!

نفذ صبره من هجومها العدائي تجاهه، وهتف في استياءٍ وهو يرخي قبضته عن رسغ طفله الذي أخذ يُطالع "رقية" بنظراتٍ فاحصة حادة:

-إديني فرصة أتكلم بس، هو أنا ملاحقك؟!

هدرت به "فيروزة" في انفعالٍ؛ وكأن غضب الدنيا قد تجمع في عينيها، غير منتبهة لابنة خالها التي تنظر نظرة خجولة قلقة لهذا الفظ الصغير:

-أيوه يعني عاوز تحور، وتغلوش على الموضوع، بحيث تطلعه منه زي الشعرة من العجينة.

ضرب "دياب" كفه بالآخر معقبًا في استنكارٍ:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو أنا لحقت أنطق؟

ردت عليه في حدةٍ:

-ما الجواب بيبان من عنوانه.

صاح ساخرًا في صبرٍ نافذ:

-يا ربي على الجنان، أنا ربنا مابيقطعش بيا!

..........................................................

لم يصل الأمر بعد إلى جدالٍ يصُعب حله؛ لكنه أوحى ببوادر صدامٍ شرس، قد يلوح في الأفق، إن استمر على هذا التواتر المتزايد. انتبه "تميم" لوقوف طاووسه الصلد مع أحد رفيقيه العزيزين، فأسرع في مشيه لينضم إليهما، لم يركز في بادئ الأمر مع الطفلين الواقفين بمحاذاتهما عند كل جانب، واللاذين راحا يتابعان الصراع في صمت مشدوه، كأنهما لم يتسببا فيه منذ البداية.

وقف "تميم" بينهما متسائلاً في توجسٍ، وقد رأى علامات التحفز والاستهجان على كليهما:

-خير يا جماعة؟ في إيه يا "دياب"؟

ما إن تيقنت من وجود الصلة به، حتى التفتت "فيروزة" تنظر إلى "تميم" في غضبٍ، وهتفت تشكو إليه بغيظٍ:

-شوف صاحبك.

تحولت أنظاره نحو رفيقه، وسأله متوجسًا:

-عملت إيه؟

على الفور نفى أي تهمة عنه بأمارات استهجان ملأت وجهه كذلك:

-ولا أي حاجة.

هنا استطردت "رقية" قائلة، وإصبعها الصغير يشير نحو "يحيى":

-عمو "تميم" الولد ده بوظلي الفستان!

أيدتها "فيروزة" بتحفزٍ واضح وهي تخاطب "تميم":

-سمعت؟

اتجهت كافة الأنظار نحو "يحيى"، فزجره والده متسائلاً بنظرة صارمة:

-"يحيى"! إنت عملت كده؟

نكس رأسه في خزيٍ، واعترف بذنبه الصغير مُظهرًا ندمه:

-مكونتش أقصد يا بابا.

رفع "دياب" يده أعلى رأسه ليحك منابت شعره وهو يعلق في لهجة شبه مازحة:

-يعني الغلط عندنا؟ يادي الكسفة اللي احنا فيها!

مد "يحيى" ذراعه للأمام مشيرًا نحو "رقية" متهمًا إياها:

-بس هي زعقلتي جامد مع صاحبتها.

ردت عليه "رقية" بتجهمٍ كبير وهي تضع يدها المتكورة أعلى منتصف خصرها:

-وإنت قولت هتجيب باباك يضرب بابا.

فاقت جملتها حد تصور "دياب"، فانزعج للغاية من تصرف طفله، ووبخه بصرامةٍ:

-عيب كده يا "يحيى"، ماينفعش تقول الكلام ده.

استمر الصغير في إحناء رأسه حرجًا من سوء فعله، بينما استطرد "تميم" هاتفًا في هدوءٍ، ليكمل مسعاه في إصلاح ما أفسده الصغار بلهوهم العفوي:

-يا جماعة حقكوا عليا أنا، احنا ساعة فرح، وماينفعش نزعل.

شبكت "فيروزة" ساعديها، وتساءلت بحاجبٍ مرفوع للأعلى:

-والفستان اللي باظ؟

أخبرها "دياب" وهو يضع يده على صدره:

-عندي، هاجيبلها عشرة بداله.

نظرت له بترفعٍ قبل أن ترفض عرضه بكبرياءٍ عجيب:

-لأ شكرًا مش عاوزين إحسان من حد.

رد "دياب" مستنكرًا تعاليها المصطنع:

-إحسان إيه؟ ده تعويض بسيط، وآ...

قاطعته وهي تدير وجهها للجانب؛ كأنما تنأى عن الحديث معه:

-مابنقبلش العوض.

خشي "تميم" من تصاعد الأمور وتعقدها مجددًا، بسبب بعض التوافه، خاصة مع عودة طاووسه المشاكس لتلك النزعة المليئة بالعنجهية، في حضور رفيقه المتحفز دومًا للشجار على أصغر الأمور .. لهذا لم يترك الأمر معلقًا، وتحرك في اتجاه خطيبته يرجوها بلطفٍ:

-خلاص يا أبلة، دول ضيوفنا برضوه.

هسهس "دياب" ساخرًا في صوتٍ خفيض متذكرًا لقب زوجته المميز:

-أبلة تاني!!!

النظرة المستجدية في عينيه، مع اقترابه الخطير، كانا كفيلان بتخليها عن عنادها، والإصغاء للصوت المنادي في رأسها بتلبية أمره في التو، ترققت نبرتها، ولانت ملامحها المتجهمة بشكلٍ ملحوظ عندما قالت:

-عشان خاطرك بس ..

ابتسم في سعادة لتجاوبها معه، أمعقول ما يحدث بينهما من انسجامٍ يدعو خلايا الجسد للذوبان في إحساسٍ ناعم يفوق الوصف، ربما حظى في هذا الاحتدام العجيب بلحظةِ انتصارٍ خاصة به. أفاق "تميم" من هيامه اللحظي على باقي جملتها المحذرة:

-وقول لصحابك تاني مايزعلوش اللي من طرفي.

لم يستطع "دياب" منع نفسه من التعليق مازحًا وهو ينظر لطفله نظرة معاتبة:

-صح، واللي مني مزعلني.

عبس "يحيى" أكثر، فواصل والده توبيخه:

-في حد يعمل كده مع الحلوين؟

حاول الصغير التبرير له:

-والله يا بابا آ...

هتف مقاطعًا في حسمٍ:

-بابا إيه دلوقتي؟ اتفضل قولها آسف، ولم الدور.

أيده "تميم" في الرأي:

-بالظبط.

استحسنت كذلك "فيروزة" هذا التصرف، وقامت بدفع ابنة خالها في رفقٍ لتقف أمامها، وراحت تنتظر إقبال "يحيى" عليها ليُبدي ندمه على ما اقترف. أمسك التردد بخطوات الصغير، وتلكأ وهو يسير نحو الأمام، تسمرت قدماه على بعد خطوة من "رقية"، ونظر إليها بوجهٍ غير مبتسم وهو يقول:

-سوري.

ثم أحنى رأسه على وجنتها ليقبلها في سرعةٍ وسط دهشة الجميع، ثم انسحب مختبئًا خلف والده، تلون وجه "فيروزة" بالغيظ، وصاحت في إنكارٍ شديد وهي تجذب ابنة خالها إلى جوارها:

-إيه ده؟

حمحم "دياب" هاتفًا في استهجانٍ زائف، وهو يبذل جهده لإخفاء ابتسامته:

-أنا قولتلك صالحها، مش بوسها، عيب كده.

برر له "يحيى" تصرفه بعفويةٍ وهو يرفع رأسه لينظر إليه:

-ما إنت قولتلي قبل كده الحلوين لما نزعلهم يتصالحوا ببوسة.

حك "دياب" مؤخرة عنقه بيده متمتمًا في خفوتٍ حرج:

-هو أنا قولتلك كده؟!

احتدت نظرات "تميم" ناحية رفيقه، ولكزه في جانب ذراعه بخشونةٍ طفيفة قبل أن يسخر منه بوجه منقلب؛ لكنه لا يرتقي لحد الضيق:

-ونعم التربية والأخلاق ......................................... 

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة