-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والعشرون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والعشرون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والعشرون

 كان جسدها غير ثابت، ويهتز في رعشة خفيفة، استندت بيدها على حافة الحوض بعد أن غسلت الكوب وأعادته إلى مكانه، جاهدت لإيقاف تلك الرجفة الموترة لها، ونكست رأسها وقد أغمضت عينيها لبعض الوقت. رنين وصول رسالة ما بهاتفها جعلها تستقيم واقفة، قرأت فحوها سريعًا، كانت لموعد تم ترتيبه للقاء طبيبتها، ابتسمت في ارتياح، وأحنت رأسها على صدرها للحظةٍ مقاومة محاولة استحواذ تفكيرها عليه.

انتفض كامل جسدها مع اللمسة المباغتة على كتفها؛ كأن تيارًا كهربيًا صعقها، نظرت "فيروزة" إلى جانبها، فوجدت "ونيسة" ترمقها بنظرة حنون وهي تسألها:

-إنتي كويسة يا بنتي؟

اعتدلت في وقفتها، ثم أجابتها وهي تتصنع الابتسام:

-أه.. الحمدلله.

أشــارت لها بيدها، ودفعتها برفقٍ نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل تدعوها:

-طب تعالي اقعدي هنا شوية.

رغم تجاوبها معها إلا أنها أكدت لها حتى لا ترتاب بأمرها:

-أنا تمام.

أخبرتها "ونيسة" وهي تعبث بأغراض المطبخ في خفة وسرعة:

-استني أعملك شوية ليمون تروقي بيها دمك، إنتي تعبانة معانا بقالك كام يوم.

احتجت في تهذيبٍ:

-شكرًا يا طنط، أنا بخير والله، ماتقلقيش.

التفتت تنظر إليها في دفءٍ قبل أن تقول:

-ده ليا وليكي، حاجة نطري بيها على قلوبنا.

في أقل من دقيقة كانت "ونيسة" قد انتهت من إعداد مشروب الليمون الطازج، أفرغته في كأسين نظيفين، وقدمته إلى "فيروزة" لترد الأخيرة شاكرة إياها في لطفٍ. جلست بعدها إلى جوارها، واستطردت قائلة بعد زفيرٍ سريع:

-شوية وهتلاقي الرِجل خفت من عندنا، الناس ماشاءالله قايمة بالواجب.

علقت عليها "فيروزة" بابتسامةٍ رقيقة:

-ربنا يديم عليكم الفرحة.

أمنت عليها في رجاءٍ معكوس في نظراتها للأعلى:

-يا رب يتمها على خير.

عمَّ الصمت لهنيهة إلا من الأصوات الخارجية، قطعته "ونيسة" باسترسالها العفوي، وهذا البريق الحزين يكسو حدقتيها:

-تعرفي إن دي أول مرة نفرح فيها أديلنا مدة.

انتبهت "فيروزة" لقولها باهتمامٍ، واستمعت لها بآذان صاغية عندما أكملت بنفس النبرة المطعمة بالشجن:

-من ساعة ما حصل اللي حصل، والحال اتبدل مع عيالي، وبقى الحزن والهم معششين هنا، فقدت الأمل إنهم يشوفوا الفرح تاني، بس سبحان الله، دوام الحال من المحال.

خُيل إليها أن أذنها التقطت نهنهة بكاءٍ مكتومة منها، أخفتها "ونيسة" سريعًا لتقول وهي تبتسم رغم الدموع التي تطفر من عينيها:

-ربنا جبر بخاطر بنتي، وعوضها بجدع يستاهلها بجد.

امتدت يد "فيروزة" لتربت على ساعدها، وقالت في محبةٍ:

-هي طيبة وبنت حلال.

بتلك النظرة المغلفة بالود تطلعت إليها "ونيسة"، وقالت:

-زيك كده يا بنتي .. ما تتخيرش عنك.

أثنت على ما اعتبرته تقديرًا لها، فردت:

-ربنا يكرمك يا طنط.

أضافت "ونيسة" على مهلٍ، بعد أن سحبت نفسًا عميقًا أرادت به تخفيف حدة مشاعرها المتأثرة:

-تعرفي، على أد ما أنا فرحانة إنها هتروح لبيت العدل، بس زعلانة إنها هتفارقني، دي كانت واخدة بحسي هي وابنها.

لامست ببوحها الأمومي قلبها، شعرت وكأنها تخاطب فردًا من عائلتها، لا مجرد ضيفة عابرة، تلك المشاعر الفياضة التي اختبرتها بداخل جدران هذا المنزل كانت كفيلة بتعويضها عما افتقدت إليه من مشاعر أسرية مخضبة بالدفء والأمان. حركت "فيروزة" يدها صعودًا وهبوطًا على طول ذراع مُضيفتها، ودعت لها:

-ربنا يبارك فيهم وتملى البيت عليكي بالأحفاد.

مسحت "ونيسة" ما انساب على وجنتيها من عبراتٍ لتقول بابتسامتها الصافية:

-يا رب، وعقبال ما نفرح بيكي إنتي كمان.

تلك الكلمات التلقائية أصابتها بالخوف والتوتر، سحبت يدها ببطءٍ وضمتها إلى كفها الآخر لتشبكهما معًا، ثم علقت بوجهٍ واجم:

-كل شيء قسمة ونصيب.

هزت "ونيسة" رأسها مرددة عن يقينٍ غريب:

-نصيبك مسيره هايجي، وأنا حساه هايكون قريب.

سرعان ما اصطبغ وجهها بحمرة مريبة خجلة، فنهضت واقفة وهي تحمل الكأسين قائلة ببسمة مرتبكة:

-تسلم إيدك على اللمون.

نهضت "ونيسة" بدورها، وهتفت في لباقةٍ:

-على إيه يا حبيبتي، سيبهم أنا هغسلهم.

قالت في إصرارٍ شبه معاند:

-لأ مايصحش، دي حاجة بسيطة.

اتجهت إلى الحوض لتعيد تنظيف الكأسين، ودقات قلبها تتسارع في بهجةٍ غريبة، للمرة الأولى تشعر كما لو كانت تتحرك في منزلها، في مكانٍ غير غريب عنها، لا يوجد من ينافقها، ولا من ينبذ قربها، بل كانت مرغوبة وبشدة، الكل يتسابق لإراحتها، بل وتتعامل بعفويةٍ وتلقائية .. كم بدت تلك اللحظات مُريحة وممتعة!

....................................................

ما إن بات قادرًا على الحركة بثبات، حتى نهض من رقدته الذليلة في فراشه، وقد حسم أمره بشأن هذا المقيت الذي جلب عليه العار والشماتة، وهو في آخر أيامه، وجوده أصبح غير مرحب به، بل كان من اللازم تقريعه وتأديبه بصرامة ليعود إلى رشده، ويتعلم كيف يكون رجلاً بحق. أمسك "إسماعيل" بعكازه، واندفع خارجًا من حجرته يتساءل بملامح مكفهرة، ونبرة خشنة:

-البغل فين؟

هبت "سعاد" واقفة من على الأريكة، وأسرعت ناحيته تسأله بنظراتٍ فزعة:

-رايح فين يا حاج؟

مسح المكان بنظراته، وسلط عينيه عليها مكررًا سؤاله بإهانةٍ واضحة:

-الطِحش ابنك فين؟

بلعت ريقها، وأجابته وهي تشير بيدها نحو باب غرفته:

-نـ .. نايم جوا، إنت عايزه ليه؟

أخبرها بوجهٍ غائمٍ للغاية:

-مالقوش قعاد هنا!

لطمت على صدرها شاهقة في جزعٍ:

-بتقول إيه يا حاج؟ يعني إيه؟

هدر بها بصوته الصارم:

-اللي سمعتيه، وحاسبي من قدامي.

دفعها نحو الجانب ليتجاوزها وهو يصيح عاليًا:

-إنت يا راس الخروف!

ركل الباب بقدمه بعد أن فتحه، ليهدر مجددًا وهو يسلط أنظاره على ابنه النائم في فراشه كالموتى:

-قوم يا عجل!

انتفض "فضل" في ذعرٍ، ليتطلع بنظراتٍ مشوشة لوجه أبيه، ثم جفف بظهر كفه اللعاب السائل على زاوية فمه، ليتساءل بعدها بصوتٍ تقيل، ما زال يشوبه النعاس:

-في إيه يابا؟

حدجه والده بنظرةٍ مشمئزةٍ قبل أن يأمره بغلظةٍ:

-قوم غور من هنا.

حملق فيه مدهوشًا بعد أن طار من عينيه أثر النوم، وهتف في صدمةٍ:

-نعم.

لوح "إسماعيل" بعكازه أمام وجهه وهو يقول بلهجته المتشددة:

-خد نجاستك، وقرفك، واطلع برا بيتي الطاهر!

أخفض "فضل" ساقيه عن الفراش، ونظر إلى والده مصدومًا، ليردد بعدها في عدم تصديق:

-إنت.. بتطردني يابا؟

ضربه والده بطرف عكازه في عنفٍ وهو يوبخه:

-أيوه، طالما معرفتش أربيك، ولا نافع فيك نصيحة، ولا حتى بتتهد وعامل لكبيرك قيمة، يبقى تغور من بيتي.

حاول تفادي الضربات المتلاحقة على جانبيه مستغيثًا بوالدته:

-إلحقي يامه.

تدخلت للحول بينهما، فهتف "إسماعيل" بلهجةٍ أشد صرامة:

-أمك مالهاش دخل، أنا هنا صاحب الكلمة في بيتي.

حاولت إقناعه بتغيير رأيه، ومنحه فرصة أخرى، فاستعطفته بنبرةٍ شبه باكية:

-يا حاج ده ابنك، سندك، وآ...

لم يدعها تكمل، وزجرها مقاطعًا في غلظةٍ، وهذه النظرة المخيفة تحتل عينيه:

-ولا كلمة وإلا هتحصليه!

رضخت أمام سطوته البائنة، وانخرطت في بكاءٍ مرير، علَّ هذا السلاح الأنثوي يأتي بمفعوله معه، تجاهلها "إسماعيل"، وحول أنظاره القاسية نحوه ابنه يخاطبه بشدة:

-روح شيل مسئولية نفسك، واتعلم تبقى راجل بجد، مش نطع، نجس، مخلي راسنا في الأرض.

حرك شفتيه ليرد باستجداءٍ زائف:

-يابا ده أنا ماليش إلا إنت.

وكأن شأنه لم يعد يهمه، هدر به في جمودٍ:

-غـــور في داهية.

تبدلت تعابير "فضل" للقتامة، ورمق أبيه بنظرة نافرة قبل أن يقول في وجومٍ:

-بقى كده يابا، دي أخرتها؟

لم يطق سماع ترهاته السمجة، وصاح في حدةٍ:

-يالا من هنا.. مش طايق أشوف وشك ولا أسمع حسك.

اِربدت قسمات ابنه بالمزيد من الحنق، وتصاعد الغضب في نظراته إليه، ليندفع قائلاً بأنفاسٍ منفعلة:

-ماشي يا حاج "إسماعيل"، أنا طالع من بيتي.

ركضت خلفه "سعاد" لتستوقفه وهي تناديه:

-استنى يا "فضل".

دفعها في قوةٍ من كتفها حتى كاد يسقطها وهو يهتف في غيظٍ:

-حاسبي يامه.

لم يرأف "إسماعيل" بزوجته التي واصلت التوسل له:

-حرام عليك يا حاج تعمل فيه كده، ده ابنك بردك وآ...

قاطعها في حدةٍ وهو يشير بسبابته:

-الحرام إني أسكت عن الغلط، عاوزة بعد العمر ده كله الناس تقل مني عشان وساخته؟ كل واحد يشيل شيلته!

ارتفع صوت نحيب "سعاد" وهي تنادي على ابنها بعد أن أبصرته يسير بخطواتٍ شبه عرجاء:

-"فضل".

نظرة حانقة سددها "إسماعيل" لابنه دون أن يبدو على قسماته دليلاً للندم، وهو يدمدم في غلٍ:

-منك لله، ضيعت تعب العمر على الفاضي.

.......................................................

قبل موعدها بنصف الساعة كانت متواجدة في استقبال عيادتها، جلست في هدوءٍ تام بعد عبارات ترحيبية مقتضبة مع السكرتيرة، فركت أناملها معًا، ونظرت لمن حولها بنظراتٍ قلقة، لحسن حظها كان المكان شبه خالي، فقط شخص ما جاء بعدها. تقدمت نحوها السكرتيرة لتخبرها بالاستعداد للقاء طبيبتها بعد 10 دقائق، فتأهبت في جلستها، وتطلعت إلى الباب المغلق بنظراتٍ طويلة متأملة؛ لكن في الواقع كانت مستغرقة في تفكيرها الشارد.

يومان انقضيا عليها منذ طرحه لعرض الزواج الغريب، لم يظهر مطلقًا في الأرجاء، كأنما اختفى من على وجه البسيطة، ليتأكد لها تنفيذ ما أخبرها به الجد "سلطان"، بأنه لن يزعجها مجددًا، ولن تلمحه في محيطها، وهذا ما أصابها بالإحباط والجنون في نفس الوقت. الإحباط لأن في هجره المريب عذابًا لا تستطيع تحمله، والجنون لأنها أصبحت تفكر فيه أكثر من المعتاد بمراحلٍ أوحت لها بشيءٍ تخشى الاعتراف به حتى بينها وبين نفسها.

كانت بحاجةٍ ماسة للإفراج عن الأفكار المتناطحة في رأسها، إسكات الأصوات المنتشرة في عقلها، وأيضًا مناقشة ما تفكر فيه مع من يقدر على استيعاب تخبطها المرهق لأعصابها. نهضت متحركة في اتجاهها بعد نداء السكرتيرة لها، طرقت الباب بطرقة خفيفة، ثم استأذنت بالدخول. مكثت صامتة بعد ترحيب ودود، تحاول ترتيب أفكارها، أيًا منهم ستفصح عنه أولاً.

عاونتها "ريم" في تسهيل انتقاء ما ترغب في الحديث عنه في البداية، وقامت بتمهيد النقاش وإدارته بشكلٍ خبير استحثها على الإفراغ عن مكنونات صدرها بسلاسة ويسر. حينئد سألتها مباشرةً:

-إنتي رفضاه هو شخصيًا، ولا مش عايزة مبدأ الجواز نفسه؟

وضعت "فيروزة" يدها على مقدمة رأسها، وأجابتها في ترددٍ واضح:

-مش عارفة.

انتقلت "ريم" للجلوس في مواجهتها، وضغطت عليها برفقٍ:

-يا "فيروزة" لازم تحددي.

انكمشت في جلستها، وتضاعفت رجفتها وهي تعترف لها بعد صمتٍ قليل:

-أنا خايفة.

مالت نحوها، ووضعت يدها على ركبتها متسائلة بتعابيرها الهادئة:

-خايفة من إيه بس؟

تهدل كتفاها، وتوقفت عن الضغط على أصابعها لتخبرها:

-من حاجات كتير.

أراحت "ريم" ظهرها للخلف، ولم تحد بنظراتها عنها وهي تطلب منها:

-قولي حاجة واحدة بس من الحاجات دي، عشان أقدر أساعدك نواجه اللي إنتي خايفة منه.

ثم شبكت كفيها معًا، وتابعت ببساطة:

-غير كده هنفضل عند نقطة الصفر.

الهروب، ثم الهروب، والمزيد من الهروب لم يعد يجدي الآن، بل بدا وكأنه قد تحول لطوق يخنقها، يطبق على أنفاسها، يُحيل حياتها إلى جحيمٍ مستمر، يمنعها من الانطلاق، من استعادة ما افتقدته وتفتقده. أرادت التحرر من شوائب الماضي ورواسبه؛ لكن لن يتحقق ذلك دون إرادة حقيقية منها، عليها أن تهدم الجدران التي تخفي خلفها سرها المؤلم. وقفت "فيروزة" عند مفترق الطرق، وقررت ألا تدع الماضي يتحكم بها، لهذا جمعت جأشها، وراحت تتكلم في تلعثمٍ أظهر مدى الصراع الذي تخوضه في رحلتها نحو الخلاص:

-يا دكتورة، أنا .. من وقت ما اتجوزت "آسر"، وأنا زي ما أنا.

حل اللغز عندها؛ لكنها لن تفصح عن ذلك إلا بعد أن تنهي اعترافها بنفسها، حافظت "ريم" على جمود تعبيراتها، فكان وجهها غير مقروءٍ لها وهي تستطرد متسائلة:

-مش فاهمة، يعني إيه الكلام ده؟

عضت على شفتها السفلى، وازدردت ريقها، لتخبرها بتوترٍ كبير، وعيناها تنظران للأسفل في نقطة وهمية تركز عليها:

-أنا لسه .. بنت ...

تحلت بالصبر، ولم تقاطعها، منحتها كل الوقت الذي تريده لتكمل توضيحها بألمٍ محسوس في صوتها، وظاهر في نبرتها:

-لأن العيب فيا، فمش عايزة أخوض نفس التجربة، وأعيش نفس إحساس الألم، والذل، وفي الآخر اتساب وآ...

قاطعتها "ريم" قائلة في ثباتٍ وهدوء، وكامل نظراتها عليها:

-ومين قال إنك إنتي السبب مش هو؟

اشتدت تعبيراتها آلمًا، كما اختنق صوتها إلى حد كبير وهي تجيبها:

-عشان دي الحقيقة، أنا نص ست، مشـ..

استخدامها للغة الانهزام لم يكن محبذًا لها، لهذا عمدت إلى مقاطعتها لتصحح بتأكيد:

-ماتكمليش، إنتي جميلة من جوا قبل برا، مش ذنبك إن حد طلع عيوبه عليكي.

سمعت نهنهة بكائها الوشيك وهي تعقب عليها:

-يا دكتورة دي الحقيقة.

ردت محتجة بجديةٍ تامة:

-لأ إنتي غلطانة.

لم تكن "فيروزة" مقتنعة بعباراتها المستهلكة على الأذن لبث الدعم، وتعزيز روح المقاومة بداخلها، نظرت لها باستخفافٍ وهي تخبرها بكلماتٍ غامضة:

-ولعلمك، ودي يمكن الحاجة الوحيدة اللي إنتي متعرفيهاش عنه، على عكس الباقيين.

ضاقت نظراتها في استرابة، فتابعت "ريم" بوجهٍ ما زال على جدية تعبيراته:

-"آسر"، مش زي ما إنتي فاكرة يا "فيروزة".

رمقتها بنظرة مليئة بالشك وهي تسألها:

-يعني إيه؟

لم تهتز نظراتها المثبتة عليها وهي تُعلمها:

-"آسر" عنده مشكلة كبيرة، ومن زمان، ومكانش اتعالج من الأساس منها، بالعكس كانت وسيلته لحاجات تانية حقيرة.

أحست بسحابة من الغباء تغيم على تفكيرها، فقالت في يأسٍ:

-مش فهماكي يا دكتورة، إنتي عايزة تقولي إيه؟

استنشقت "ريم" الهواء بعمقٍ، ولفظته على مهلٍ، لتشحذ قواها للقادم، فهو يحتاج كل تركيزها للاعتراف به بأسلوبٍ رزين، ليسهل على عقلها تقبله، وفهمه. حلت الصدمة على تقاسيم وجه "فيروزة"، أربكها تدافع الاعترافات الصادمة، وشوش ذهنها، شردت في ذكريات الماضي كأنما يتم إعادة تجسيد ما خاضته بشكلٍ سريع ومتواتر، مما جعلها في حالة جمودٍ لحظي؛ كأنما انفصلت عنها بذهنها لا بجسدها، لترى هذه النظرات الدونية المستحقرة وهو يسددها لها، ليس لأنه الكسير المنهزم، بل لتحميلها ما لا تطيق لإخفاء تشوهه.

لا تستطيع "فيروزة" وصف مشاعرها في تلك اللحظة، فهي خليط من الحقد، الكراهية، والغضب،. كيف سمح لنفسه بخداعها بتلك البشاعة؟ بجعلها تُعايش أسوأ الذكريات؟ بتدمير بساطة أحلامها الوردية عن الزواج والاستقرار؟ والأفظع أن يهشم روحها بلا ذنب! انقبض قلبها بقوةٍ، واستبد به الألم، لهث صوتها وهي تنطق بصعوبةٍ:

-معقولة؟

واصلت "ريم" الكلام معها بتريثٍ:

-كل الأوهام اللي عيشك فيها كانت مجرد وسيلة عشان يغطي بيها على عجزه، خدعك بالكدب وبالحيلة، واستغل وجود شيء عندك لصالحه، بحيث يطلعلك إنتي السبب، ويداري على نفسه.

كان صوتها مشروخًا ونظراتها غريبة وهي تسألها لتتأكد أكثر:

-يعني كل ده كدب؟

ردت بنفس النبرة القوية الهادئة:

-كدب وتضليل وخداع ليكي، زي ما خدع اللي قبلك، وأظن إنك عارفة إنك مكونتش أول واحدة في حياته، ضحية ضمن ضحايا تانيين وقعهم في شباكه.

لم تنكر أن إحساس الثقل الذي جثم على صدرها لوقتٍ طويل قد خبت تدريجيًا، حتى باتت تشعر بالارتياح يحل محله. نهضت "ريم" من مكانها، وتحركت مقتربة منها لتحادثها بهدوءٍ، وبين شفتيها بسمة صغيرة:

-صدقيني إنتي طبيعية، ولما هتتجوزي هتتأكدي من ده، إنك كاملة من كل حاجة.

ظهر على وجهها علامات الحزن وهي تخاطبها:

-أنا مبقتش عارفة حاجة.

وضعت يدها على كتفها تضغط عليه قليلاً وهي تستحثها:

-"فيروزة" ارمي الماضي ورا ضهرك بكل القبح والتشوه اللي فيه.

ما زالت الأخيرة محدقة أمامها بنظراتها التعسة المصدومة، بينما استمرت "ريم" في درأ الغشاوة الحاجبة لرؤية ما ينتظرها من آمال واعدة بترديدها الواثق:

-دي صفحة اتقفلت في حياتك، ابدأي من جديد، وركزي في الحاضر والمستقبل.

واصلت الضغط بقبضتها على كتفها وهي تقول بعزمٍ باعث على التفاؤل:

-بصي حواليكي، ما جايز موجود فعلاً اللي بيحبك لشخصك إنتي، وعايزك كده زي ما إنتي.

رفعت "فيروزة" رأسها لتنظر إليها في ضعفٍ وهي تكرر:

-أنا؟

هزت رأسها بالإيجاب وهي تؤكد من جديد بحماسٍ متزايد:

-أيوه، إنتي تستاهلي الأفضل، إنتي أكيد غالية عند حد معين، بس مش منتبهة لده.

تحرك بؤبؤاها في توترٍ ملحوظ، حيث امتلأ فراغ عقلها بصورة لـ "تميم" وهو يردد على مسامعها جملة قلبت كيانها، خفق قلبها للذكرى، وشعرت بتسارع دقاته. انتبهت لـ "ريم" وهي تردد على مسامعها بنفس الابتسامة المؤكدة:

-الحد ده موجود قصادك دايمًا، بيساعدك من غير شروط، عايزك معاه، تكوني جمبه، وإنتي مش واخدة بالك منه ...

اتسعت ابتسامة "ريم" بشكلٍ لافت وهي تصحح عن قصدٍ:

-أو خلينا نقول مش عايزة تديله فرصة، وتقربي منه.

كانت قادرة على النفاذ إلى داخل رأسها لتقرأ ما يدور بداخله، أمامها كانت مكشوفة الأوراق، لا تحتاج للاختباء وادعاء ما ليست عليه .. زمن اجترار الآلام في صمتٍ قد مضى! سارت "ريم" عائدة إلى مقعدها، وجلست من جديد في مواجهتها، نظرت إليها مباشرة قبل أن تخبرها بنبرة ثابتة:

-"فيروزة" إنتي كنتي شجاعة كفاية عشان تواجهي كل ده لواحدك، وهاتبقي أكتر حد يستحق السعادة لو بس قررتي ده.

اعتبرت لقائها معها – بما شمله من تداعٍ حر هذه المرة- إشارة صريحة لانقضاء فترة الأحزان الراسخة في حياتها، لن تنسحق بين رحى الماضي وأوهامه، لن تبقى أسيرة أكذوبة أجبرها على العيش تحت وطأة ذلها، وتصديقها لعِلة فيه لا فيها. اعتلى ثغر "فيروزة" ابتسامة نمت عن ثقةٍ كبيرة استعادتها، لتومئ بعدها برأسها وهي تتكلم أخيرًا، وطيف وجه "تميم" يحتل فضاءات خيالها:

-معاكي حق، أنا استاهل الأفضل ............................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الخامس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة