-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والخمسون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والخمسون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والخمسون

 الموافقة المشروطة، وما على شاكِلتها، من مساومات مغرية، كان غير مستلذٍ له، رغم تلهفه الحارق لسماع تلك الكلمات المُعلنة عن قبولها بالزواج منه، إلا أنه لم يكن مقتنعًا بالأمر. أراد أن تكون موافقتها نابعة من داخلها، لرغبة حقيقية منها في ذلك، وليس محاولة أخيرة يائسة لاسترضائه بعد جرح رجولته مرة بعد مرة. وقف "تميم" مشدوهًا في شرفة غرفته لبعض الوقت، لا يعرف بماذا يجيب أو يرد بعد أن أنهت الاتصال، تاركة له حرية الاختيار.

حز في قلبه أن يراها مرغمة على حياةٍ لا تستسيغها، الموت أهون عليه من أن يشعر بأن حبه ميؤوس منه، ومن طرفٍ واحد. سحب شهيقًا عميقًا حبسه في صدره، قبل أن يحرره، وصوتٌ يتردد في رأسه:

-مش ده اللي عاوزه منها!

حملق في شاشة هاتفه متطلعًا في صورتها المحفوظة عليه، ووجهه يعكس حيرته وحزنه، وألمه، تساءل في مرارة:

-ليه مش عارفة تحسي بيا؟

بدأت سحابة من الدموع تزحف إلى حدقتيه وهو ما زال يسأل نفسه:

-أنا إيه بالنسبالك؟

أخفض الهاتف بعد ذلك، وهو يتنفس بعمقٍ ليسيطر على ما يعتريه من ضيقٍ متأثر، ثم تحرك عائدًا إلى الداخل، والهموم تثقل كاهليه. كان بحاجةٍ للمشورة، لسماع الرأي السديد، لما يرشده لفعل الصواب، لذا لم يتردد في الذهاب إلى جده، والاستعانة به، علَّ القلب الضائع يهتدي إلى مرسـاه.

................................................................

تقلبت على فراشٍ من الجمر طوال ليلها، وهي تترقب وصول أدنى ردة فعلٍ منه، مضت عليها الدقائق طويلة، كأنها لا تريد الانقضاء، وعلى عكس المتوقع، جاء انتظارها بلا طائل، لم يصدر عنه شيء، أي شيءٍ مُطلقًا، مما استدعى شعور الإحباط بها. اعتدلت "فيروزة" في نومتها، وأسندت ظهرها لعارضة السرير، حملقت للمرة المائة في شاشة هاتفها، وهتفت في تذمرٍ يائس:

-ده مافيش ولا أي ريأكشن منه؟!!

جال بخاطرها أمرًا مستبعد الحدوث، خشيت التفكير فيه؛ لكن لسانها نطق به بصوتٍ مهتز:

-معقولة.

بدأت الفكرة السوداوية من احتمالية عدم إتمام الزيجة تتوغل في رأسها، وزادت مع تفكيرها التحليلي الذي راحت تعبر عنه بكلماتٍ مقتضبة:

-في حاجة غلط، إلا لو ...

نفت شكوكها بقولها المذبذب:

-مش للدرجادي.

حاولت شَطف تلك الهواجس عن تفكيرها، وركزت في أمرٍ آخر بدا منطقيًا، فحدثت نفسها:

-طب افرضي إنه رفض أصلاً الاقتراح.

برقت عيناها في ارتياعٍ وهي تردد:

-معنى كده إنه ...

عجزت لوهلةٍ عن إكمال جملتها، وانعكست تعابيرها المفزوعة على وجهها، لتقول بعدها كإفصاحٍ خافت عن مخاوفها:

-غير رأيه خالص.

نفت ما راودها بادعائها غير الواثق:

-لالالا .. ماظنش، أكيد هو متمسك بيا.

لم تكن واثقة بالفعل من هذا الكلام، ربما لفترة الجفاء الأخيرة التي سادت بينهما التأثير السلبي عليه، فعدل عن فكرة الزواج كليًا. تهدل كتفاها، وانتشر الحزن على ملامحها وهي تُعطيه أسبابه:

-طب هيتمسك بيا ليه، وأنا عمري ما حسسته إني مهتمية بيه؟!

تركت الهاتف من يدها، وكورت قبضتها لتضرب بها على الغطاء بضعة مراتٍ متتالية، وهي توبخ نفسها:

-أنا غبية فعلاً، معرفتش أحافظ على الإنسان الوحيد اللي على طول واقف جمبي.

ما آخر ذلك السكون المستنزف للأعصاب؟ ألن يخرج عنه ليثلج صدرها الملتاع؟ ألم يحن بعد إليها؟ أم تراه اعتمد القسوة سبيلاً؟ اعتصر الألم قلبها لمجرد التفكير في هذا الاعتقاد، وراحت تسأل نفسها كأنما تعترف بما يتعذر عليها نطقه في العلن:

-هو أنا فعلاً بحبه؟

......................................................

منذ الساعات الأولى للنهار، كان "تميم" ماكثًا في غرفة جده، يريد منه النصيحة والمشورة، حكى له ما دار من مكالمة شبه حاسمة للقادم من حياته مع من يعشقها، بالطبع ليس بالأمر الهين عليه أن يبتعد عنها؛ لكن إن كان تواجدهما معًا مُقيدًا، فمع الوقت ستتحول براعم الحب النابضة في قلبه إلى مسوخ تقضي على كل ما هو طيب بينهما. لم يقاطعه "سلطان"، وتركه يفرغ ما في جعبته، إلى أن انتهى من الكلام، حينها جاء دوره، وسأله بهدوءٍ:

-إنت قررت إيه في النهاية؟

أخفض رأسه، وحدق في نقطة وهمية عند قدميه، ليجاوبه بعدها بعد زفيرٍ قصير:

-إنت عارف إني عايزها يا جدي، بس واضح إنها لأ.

لم يعلق الجد، وتركه يسترسل في إبراز دوافعه:

-بدليل إنها مطوحت في الميعاد من الأول، ودلوقتي الموضوع بقى مساومة عندها.

قتل غصة مؤلمة علقت في حلقه وهو يتابع بمرارةٍ:

-ودي الحاجة الوحيدة اللي ماينفعش أجبرها عليها.

طالعه "سلطان" بنظرةٍ متعاطفة وحنون، حافظ على صمته ليكمل حفيده بتنهيدةٍ موجوعة:

-لو غصبت نفسها على العيش معايا، مع الوقت هتكرهني، وده مش هتحمله.

رد عليه جده بهدوءٍ:

-سبيها على الله، محدش عارف الخير فين.

هز رأسه باهتزازة خفيفة وهو يرفع عينيه إليه، ليضيف الجد بتفاؤلٍ:

-بس وقت ما ربك يأذن، هتلاقي علامات التيسير قصادك.

تنهد مطولاً قبل أن يخبره "تميم" بتعبيرٍ مبهم غير مقروءٍ:

-كله خير... كله خير.

.................................................

قبيل الظهيرة، في هذا الوقت تحديدًا، تواجد في منزل عائلتها، وهو مُتيقنٌ من انشغالها بالعمل في محلها، لإطلاعهم على المستجد بشـأن "حُسني"، وما وصل إليه –عبر محاميه- من أخبارٍ بعد تجديد حبسه. دار بعينيه على المكان وهو يشعر بالاشتياق إليها، إلى نظرة ناعمة منها، إلى كلمة رقيقة تصدر عنها، مصحوبة بضحكة متدللة تداعب الأوتار؛ لكن كيف للحظة عابرة أن تُبدل هذه المشاعر السامية إلى أخرى مُوغرة. تجاوز "تميم" عن لهفته، وغطى عليها بملامح جادة متصلبة، ثم أكد له بثقةٍ كبيرة:

-مش عاوزك تقلق يا عم "خليل"، الموضوع عندي، وخلاص اتحل.

سأله في دهشة وهو يرمقه بتلك النظرة الحيرى:

-إزاي؟ ده الـ ..مفروض كنـ..ا نجمع الفــ..لوس، ونديهاله.

ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يخبره بغموضٍ:

-ربنا كريم، وبعدين لا يفل الحديد إلا الحديد، المهم ارتاح، وبنتك في أمان.

هتف "خليل" شاكرًا المولى:

-الحمـ..د لله.

ربت "تميم" على فخذيه استعدادًا للنهوض، وقال مستأذنًا:

-طيب يا عم "خليل"، هاقوم أنا، ونتقابل تاني على خير.

جاءت إليه "آمنة" تسأله في استغرابٍ:

-إنت لحقت يا ابني، ده القهوة لسه على النار.

اعتذر منها بلباقةٍ:

-معلش، أنا كنت جاي في كلمتين على السريع وماشي، تتعوض وقت تاني.

سألته بغتةً بما جعل دقات القلب تتسارع:

-طب و"فيروزة"؟

لاذ بالصمت مرغمًا، لا يريد الاعتراف لنفسه بأنه يتحين الفرص لرؤيتها بالرغم من ضيق صدره، لكنه قسا على شوق قلبه، وفعل ما لا يُحبذه، متحملاً تبعات اختياره المتجافي. عاد من شروده السريع، وتنبه إلى صوتها القائل بنوعٍ من العتاب اللطيف:

-دي هتزعل لما تعرف إنك جيت ومشيت من غير ما تشوفها، وبعدين مش كنت تستنى تعرف بالأخبار الحلوة دي معانا منك؟ ده حتى مزاجها مقلوب الأيام اللي فاتت، ومش على بعضها نهائي، فجايز ده كان يفرحها.

أحزنه سماع هذا، وتلقائيًا انقلبت تعابيره، ليردد بعدها في جديةٍ:

-هابقى أكلمها أطمن عليها.

تصنع الابتسام ليخفي ضيقه المتفشي فيه، وقال بأدبٍ:

-عن إذنك ..

خَفَّض من نظراته في احترامٍ، وتقدم في خطواته، ليصل إلى باب الشقة وهي من خلفه تهتف:

-إذنك معاك يا ابني.

أوصلته إلى الخارج وهي تدعو له بصدقٍ:

-ربنا يباركلنا فيك، ويخليك لينا.

منحها نظرة ممتنة قبل أن يهبط درجات السلم، والألم ما زال مستبدًا بقلبه، ألم يأن الوقت بعد لتشعر به بحق؟!

.................................................

حينما ضاقت بها السبل، وعجزت عن إيجاد الحل المنطقي لمعضلتها، لجأت إلى طبيبتها النفسية، إذ ربما مع استفاضتها في البوح بما يمتلئ به عقلها من مخاوف وهواجس، أرشدتها وسط دوامتها اللا متناهية إلى الدرب الصحيح. اتفقت "فيروزة" على لقائها في دار رعاية المسنين، وقت الظهيرة، في الحديقة المورقة. كانت المقابلة تسير على ما يرام، بها الكثير من التفريغ العاطفي للكبت المشحون بداخلها، إلى أن تلقت هذا الاتصال، خرجت عن مألوفها المعتاد، وراحت للحظاتٍ فيما يشبه الغيبوبة الذهنية، بعد أن أطلعتها والدتها هاتفيًا على زيارة "تميم" للمنزل، وفي غيابها، كأنما تعمد فعل ذلك ليتجنب الالتقاء بها، سرعان ما انتفض فيها الغضب وهتفت بكدرٍ متزايد في صوتها:

-كان موجود، ومسألش عليا؟!!

علقت والدتها في هدوءٍ:

-قال هايكلمك.

بالكاد سيطرت على نبرتها المحتدة، وقالت:

-طيب يا ماما.

سألتها "آمنة" مستفهمة:

-هتتأخري؟

ردت بوجومٍ شديد:

-لأ، هخلص اللي ورايا، وأرجع.

جاءها تعقيبها مختتمًا المخابرة:

-ماشي يا "فيروزة"، مع السلامة.

ألقت بالهاتف على الطاولة في عصبيةٍ، لتتطلع إلى طبيبتها بنظراتٍ مستشاطة، قبل أن تتابع شكواها إليها بتشنجٍ:

-سمعتي بنفسك يا دكتورة "ريم"، متجاهلني بشكل كامل، يعني خلاص خد القرار.

امتصت حنقها الظاهر عليها بسؤالها في نبرة هادئة وذات دلالة مباشرة:

-طب ليه ماتفسريش الموضوع على إنه حاجة تانية؟

على ما يبدو لم تستوعب وسط غيظها المغزى وراء هذا السؤال، فاستمرت على عصبيتها عندما ردت:

-حاجة تانية إيه؟ ده أنا قولتله موافقة نكمل الجوازة.

طلبت منها "ريم" بتريثٍ متعقل:

-من فضلك إهدي، ده مش أسلوب للنقاش، ولو اعتمدتي على الطريقة دي في الكلام معاه هتتفهم غلط.

نظرت إليها بعينين ضيقتين، وأطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التعليق، في حين بادلتها "ريم" نظراتٍ خبيرة وهي تواصل تعرية الحقائق لها:

-هيعتبرك بتقللي من احترامه، ومافيش تقدير ليه.

نفس العبارات المعاتبة تكررت على مسامعها بشكلٍ آخر، مع اختلاف الشخصية، بذلت جهدًا لتضبط من أعصابها، واعتذرت في عبوسٍ:

-أسفة.

ردت عليها بمنطقيةٍ:

-الاعتذار ممكن مايكونش مُجدي لو وصلتي في الخلاف لعدم الاحترام.

كانت كمن يتجرد من دروعه في إسقاطها الحر معها، احتدت نظراتها المستنكرة إليها، ومع ذلك استأنفت "ريم" كلامها اللاذع بأسلوبٍ رزين وهادئ:

-ده اللي عاوزة أوصلهولك يا "فيروزة"، صحيح إنتي قولتي موافقة فعلاً، بس موافقة مرهونة بشرط معين، يعني حطيتي حاجة قصاد حاجة.

رمشت بعينيها في ضيقٍ عارم، و"ريم" ما زالت تتكلم بغير تحيزٍ:

-وده طبعًا مرفوض عند راجل بطباع "تميم"، دمه حامي، وليه شخصية قوية ومستقلة، محتاج اللي قصاده يحترمه، ويديله التقدير اللي يتناسب معاه.

تصلبت في جلستها، واستقام كتفاها وهي تريح ذراعيها على الطاولة، لتقول بعدها في استياءٍ منزعج:

-أنا كده مابقتش عارفة أعمل معاه إيه.

لاحت بسمة رقيقة على ثغرها وهي تخبرها:

-الموضوع بسيط جدًا، حطي فيه ثقتك، وحسسيه بده.

عقبت على الفور في حمئةٍ ظاهرة في نبرتها:

-طب ما أنا بعمل كده.

أتاها تبريرها منطقيًا، ويحمل اللوم في طياته:

-أيوه، بس بعد إيه؟ لما الدنيا تكون اتعقدت.

اِربد وجهها بالمزيد من علامات الضيق، وتضاعف مع استمرارها في تقريعها بشكلٍ مهذب:

-وده يعتبر سوء تصرف منك.

ردت بشيءٍ من العجرفة:

-ماشي، بس يخليه يرفضني؟

الأسلوب المُعاند، والمتخم بنزعة التعالي المكروهة، كان غير مقبول في التعامل معه، لهذا أرادت "ريم" الإشارة إلى تلك السمة التي اتخذت مسارًا كبيرًا في الظهور ضمن طباعها المستحدثة مؤخرًا، عن طريق اللجوء لحيلة ذكية، لوضع يدها على ذلك العيب الخطير. لفظت الهواء من رئتيها، وأخبرتها ببسمة هادئة:

-وده مضايقك؟ ماهو عرض وطلب، ليه مستغربة؟

سادت رنة الغيظ في صوتها وهي تجيبها:

-يعني أنا بالنسباله واحدة بتفرض نفسها عليه؟ أومال فين المشاعر الحلوة، اللي كان بيلمح بيها؟ اختفت فجأة؟

زمت شفتيها للحظةٍ قبل أن تخبرها ببساطة:

-هتظهر، بس مش في وقت الأزمات.

كانت على وشك الاحتجاج عليها؛ لكنها أسكتتها بإشارة مرفوعة من يدها قبل أن تكلمها بهدوئها المعتاد:

-وبعدين ما تنسيش لازم المشاعر بينكم تكون متبادلة، مش من طرف واحد بس، والطرف التاني مستقبل فقط، أو يحسس اللي قدامه إنه بيمن عليه لما يتعاطف معاه، كده مش علاقة سوية، دي بوادر لعلاقة فاشلة.

أرجعت "فيروزة" ظهرها للخلف، وشبكت ساعديها وهي تمط شفتيها في تجهمٍ شديد، راقبتها "ريم" بنظراتها المتفرسة، وداومت على معاتبتها بأسلوبها الرقيق، فقالت:

-زي ما هو بيستوعبك وقت عصبيتك، هو متوقع منك إنك تعملي كده كمان معاه، مش تمني عليه، ولا تقابلي دعمه بعدم تقدير وإهانة.

هاجت مشاعرها من جديد، وانتفضت مدافعة عن نفسها:

-أنا مقصدتش، كان غصب عني، وفي نفس الوقت كنت بحميه من مصيبة كان هيقع فيها لو اتهور، ليه دلوقتي عاوز يبعد؟

امتد النقاش في تلك الجزئية لبعض الوقت، ما بين شدٍ وجذب، إلى أن تساءلت "ريم" في الأخير وهي تنظر في عين مريضتها مباشرة:

-"فيروزة" إنتي بتهربي من إجابة السؤال اللي سألتهولك أول ما تكلمنا، بتلفي وتدوري ومش عاوزة تجاوبي عليه، إنتي بتحبيه ولا لأ؟

تحاشت النظر إليها، لئلا ترى صراع التخبط الدائر في رأسها، سمعتها تقول في هدوءٍ:

-لو قدرتي تجاوبي على السؤال ده بصدق قصاد نفسك، هتعرفي إنتي عاوزة تعملي إيه معاه، وهتحددي هتكملي اللي جاي من حياتك إزاي ...

بلغ الحوار مُنتهاه معها، فأنهته بجملة تحذيرية لخصت اللقاء، ووضعتها عند أول الطريق:

-غير كده إنتي بتعملي حواجز، وهتفضلي عند نقطة الصفر، مع الفرق إنك هتفقدي الحب، والأمان، والسند اللي بجد.

..........................................................

لفتها مشاعر الغضب، الكدر، الألم، والحزن، بعد تلك المصارحة المتخمة باللوم والتوجيه؛ اللوم لإساءة التصرف في أمورٍ تتطلب حنكة وذكاء، والتوجيه لاستعادة ما هو على وشك الفقد بالحكمة والتروي. مكثت "فيروزة" في دكانها بمفردها، بعد أن صرفت مساعدتيها مبكرًا، لتنزوي مرة أخرى وسط دوامة أفكارها المتصارعة. تنهيدة سريعة لاحقتها بأخرى وهي تُعيد على نفسها ذلك السؤال بعينه؛ حيث نطقت به بصوتٍ خافت مهموم:

-ليه دخل حياتي من الأول لما هو مش عاوزني في الآخر؟

فركت جبينها بإصبعيها وهي تستند بمرفقها على سطح مكتبها، قبل أن تتساءل في جديةٍ:

-طب وأنا؟ عايزاه ولا لأ؟

وجدت الأفكار السوداوية طريقها إلى عقلها المرهق، فقالت في نبرة محبطة:

-هتفرق في إيه؟ كل اللي كنت بستناه وبحلم بيه بيروح قبل ما يبتدي.

لكن ما لبث أن قاومت ذلك الزحف المهلك بتأكيدها:

-بس هو غيرهم.

لمع في حدقتيها وميضًا حزينًا وهي تتمتم باشتياقٍ:

-على طول معايا، وفي ضهري.

تقوست شفتاها للأسفل ليتكمل مشهد العبوس على وجهها وهي ما زالت تُخاطب نفسها:

-أنا اللي اتصرفت غلط من الأول، عاملته على إنه غريب، وهو أقرب واحد ليا.

استوت على مقعدها، ولملمت أشيائها المبعثرة في حقيبتها، لتردد في عزمٍ شديد الجدية:

-لازم أتكلم معاه، مش هسيب الموضوع متعلق كده.

نهضت من مكانها، وتابعت استرسالها أحادي الجانب مقررة بحسمٍ:

-النهاردة هنهيه، يا نكون سوا، يا إما كل واحد يروح لحاله.

..................................................

أوصدت باب محلها، ووضعت القفل بين مقبضيه، لتنطلق بعدها سائرة في اتجاه دكان عائلة "سلطان" بخطواتٍ متحفزة، شبه متعجلة، وصوت دقات قلبها يصم أذنيها من فرط قلقها. تنفست "فيروزة" بعمقٍ لتضبط انفعالاتها المتوترة، واستعدت لتعبر من الزقاق الضيق إلى الشارع الواسع، حيث يتواجد الدكان على ناصيته، بدا الطريق خاليًا من السيارات؛ لكن أحدهم قطعه بغتةٍ ومن الاتجاه المعاكس، بالكاد نجت من اصطدام وشيك، وتراجعت للخلف وهي تسمع صوت صرير احتكاك المكابح بالأسفلت، تجمدت في مكانها مشدوهة، قبل أن تتحول نظراتها المرتاعة نحو السيارة، وقائدها الأرعن.

التقطت أنفاسها المضطربة من الصدمة المباغتة، واستدارت توبخ المخطئ بحدةٍ:

-مش تحاسب، في ناس ماشية على الأرض.

أطل صاحبها برأسه من النافذة، وصاح بها بفظاظةٍ أدهشتها كليًا، وألجمت لسانها للحظة:

-إنتي اللي غبية، وعامية، ما تفتحي وتبصي قدامك، ولا هو رمي بلا؟!!

استفاقت من ذهولها المؤقت لتهدر به في غضبٍ متصاعد:

-احترم نفسك، يعني غلطان وبجح؟ ده بدل ما تعتذر؟!!

ترجل من سيارته ليواجهها، وقال في إهانةٍ فظيعة جعلت الأنظار تتجه إليهما:

-اعتذر ليه يا (....)، يخربيت أبو اللي علمكم المشي.

على إثر نعته النابي، اتسعت عينا "فيروزة" في ذهولٍ، قبل أن تتبدل للقساوة، تجمع غضبها على الفور، وراحت توبخه في تشنجٍ:

-أما إنت واحد قليل الأدب، ومش محترم بصحيح.

لم ترده نظراته القاسية، بل إنه تقدم ناحيتها هادرًا بصوتٍ جهوري، وملوحًا بذراعه في وقاحة جريئة:

-تعالي علميني الأدب يا (...).

احتج أحد المتواجدين على أسلوبه غير اللائق في الحديث إليها، واقترب منه يعنفه في غير رضا:

-عيب الكلام ده ...

نظر له الرجل الغريب باستخفافٍ، فتابع ذلك الفرد تقريعه:

-مايصحش تتعرض لبنات الناس بالشكل ده؟

حاد بنظراته المتأففة عنه ليمنح "فيروزة" نظرة احتقارية مشمئزة وهو يخاطبه بطريقته الفجة:

-دي واحدة صايعة و(...).

شهقة أخرى مستنكرة انفلتت من بين شفتيها على إثر سبابها المهين لها، كان ذلك الرجل وقحًا للدرجة التي جعلت المتجمهرين يزومون في استهجانٍ شديد لوضاعته المتجاوزة معها.

......................................................

في تلك الأثناء، بين رجاله وقف شامخًا، صلدًا، حازمًا، يُلقي الأوامر هنا وهناك، ليتأكد من إنجاز المطلوب في وقتٍ وجيز. أعطاه أحد عماله ورقة ليتطلع عليه، فقرأها في إمعانٍ قبل أن يزيل آخرها بتوقيعه، استدار برأسه نحو آخر يناديه في جزعٍ:

-إلحق يا معلم "تميم"!

سأله بحاجبين معقودين:

-في إيه؟

جاوبه العامل بصوتٍ لاهث:

-جماعتكم بيتخانقوا على أول الشارع.

برزت عروقه وانتفضت في كامل جسده مع تلك الكلمات المستثيرة للأعصاب، اندفع كالثور الهائج ركضًا ولسانه يتوعد بحنقٍ جم:

-ليلته مهببة!

اختطف النظرات خلال اندفاعه الغاضب ليعي من المقصود بجماعته، فالعامل لم يفصح بشكلٍ مباشر عن هوية من تتعرض للاعتداء، أنبأه قلبه بأنها المقصودة، وصدق النبأ حين رأها تنفعل في وجه أحدهم، اخترق صفوف البشر التي أعاقته عن بلوغها بدفعهم لجانبيه بكلتا قبضتيه، سمع نعت ذلك الوغد الوقح إليها، فاشتد هياجه، وهدر بصوتٍ زلزل صداه في الأرجاء:

-إيه اللي بتقوله ده يا (...)، قسمًا بالله ما سايبك النهاردة.

لم يستطع أي فرد منعه من الوصول إليه، بل يمكن الجزم بأنهم اتفقوا فيما بينهم دون ترتيب على إفساح المجال له للانقضاض عليه. ترك "تميم" العنان لنوبة غضبه المندلعة لتنفجر في وجهه، لكمه بقساوةٍ، بعد أن أطبق بقبضته القوية على عنقه، تفاجأ الرجل بهذا الهجوم الغاشم عليه، وحاول صده إلا أنه فشل أمام سيل اللكمات العنيفة، حتمًا فسدت ملامحه، وامتلأت بالتورمات والكدمات المختلفة.

لم يستغرق الأمر سوى أقل من دقيقة لتدرك "فيروزة" أن حاميها على وشك زهق حياة أحدهم للذود عنها، لمجرد أنه سمع بالأمر، رغم الجفاء والتباعد بينهما. رأته في كامل غضبه واهتياجه، هوى قلبها جزعًا عليه، ونادته بصراخٍ مرعوبٍ وقد رأت الآخر يلكمه في فكه كمحاولة بائسة لحفظ ماء وجهه بعد بعثرته:

-"تميم"، خد بالك.

لف "تميم" ساقه حول ركبة الرجل، ثم ثناها في خفةٍ وسرعة ليطرحه أرضًا، فارتطم جسده بالأسفلت الصلب، وصاح متألمًا، لم يعبأ بصراخه الموجوع، وجثا على صدره بركبته ليثبته على وضعيته المستلقية، ثم أطبق على عنقه مجددًا، وأخذ يخمش في جلده بأظافره وهو يزيد من ضغطه القاسي على مجرى تنفسه. بصق عليه وهو يواصل تهديده العدواني الشرس:

-عامل فيها راجل على واحدة ست؟ طب قابل الرجالة اللي بجد.

قاومه الرجل قدر استطاعته رغم الألم المنتشر في بدنه، حاول النهوض؛ لكن "تميم" كان يعيده لاستلقائه الأول بتحكمٍ واضح، التقط الرجل بيده حجرًا لمحه من طرف عينه، وحاول إصابته به في لحظة غادرة؛ لكن "فيروزة" صرخت لتنبيهه:

-حاسب يا "تميم"!

تفادى الضرر الجسيم الذي كان من الممكن أن يصيب وجهه على إثر تحذيرها، وسدد بكوعه لكزة عنيفة كادت تطيح بفك الرجل؛ لكنها جعلت خيوط الدماء تتفجر من بين أسنانه. وجدت "فيروزة" نفسها تتراجع بشكلٍ لا إرادي للخلف، لتنخرط وسط النساء بعد أن تجمع بعض الرجال حول "تميم" لإقصائه عن الرجل الذي سيهلك بين براثنه، إن استمر على نفس النهج العنيف معه. نجحوا في إبعاده، وشكل البعض بأجسادهم حاجزًا يحول بينهما، ثم قال أحد عجائز المنطقة كمحاولة للسيطرة على الموقف قبل أن يتفاقم، ويتطور للأسوأ:

-صلوا على النبي يا معلم، اهدى كده.

توعده "تميم" بعدائيةٍ وهو يمسح العرق من على جبينه:

-مش هاسيبه ابن (...) ده!

رد عليه الكهل بهدوءٍ:

-إنت عرفته غلطه.

مضت "فيروزة" في طريقها إليه، إلى أن أصبحت بجواره، توسلته في رجاءٍ شديد:

-عشان خاطري، خلاص، سيبه.

التفت ناحيتها فرأى الخوف متجليًا على قسماتها، كررت عليه استجدائها:

-بلاش تضيع نفسك، ده واحد مايستهلش، عشان خاطري.

بالكاد استجمع نفسه، وصاح بهديرٍ غاضب:

-غور من هنا يا (...).

تنفست "فيروزة" الصعداء لاستجابته المحمودة، ورمقته بنظرة ممتنة دون أن تبتسم، بينما نهض الرجل من رقدته المهينة، بمساعدة أحدهم، عاونه على المشي إلى أن بلغ سيارته، استقلها بعدها هاربًا وهو يئن من الألم الشديد.

ما إن تأكد "تميم" من رحيله، حتى عاود النظر إلى "فيروزة" بعينيه المشتعلتين، لن تنكر أنه دبت في أوصالها رعدة خائفة، تجاوزتها بنظرة تقدير إليه، قابلها بجمودٍ، ثم أبعد ناظريه عنها، ليصيح في زمرة البشر المحتشدة:

-خلاص يا جدعان، الحكاية اتفضت.

بدأ أهالي المنطقة في التفرق والابتعاد، كلٌ ذهب في طريقه، لتخلو الساحة بعد أقل من دقيقة من الزحام. أصبحت "فيروزة" بمفردها معه، وقبل أن تفكر في الكلام، أمرها بلهجة من يقرر:

-تعالي!

تبعته في صمتٍ حكيم؛ لكنها لم تتوقف عن اختلاس النظرات إليه وهي تسير باعتزازٍ معه، غمرها ذلك الشعور الدافئ الذي افتقده -بوجوده- طوال فترة خصامهما، ودَّت لو رجعت بالزمن للوراء وتصرفت بتلك الطريقة، لربما فازت بأكثر من مجرد محاولة غير مضمونة للتصالح، ونيل الغفران.

أشار لها بالجلوس على المقعد المواجه لمكتبه بداخل الدكان، وسألها في اهتمامٍ، وعيناه تشملاها بنظراتٍ فاحصة لتتأكد من سلامتها:

-إنتي كويسة؟

ردت بعد ضغطة حرجة على شفتيها:

-الحمدلله..

غالبت التردد الذي أمسك بلسانها لتطمئن عليه، فسألته أيضًا باهتمامٍ يفوقه:

-حصلك حاجة؟

رد نافيًا وهو يتحرك مبتعدًا عنها ليقترب من مدخل الدكان:

-لأ.

بقيت نظراتها المتلهفة عليه، تفحص بعض الخدوش التي أصابت وجهه، وهو يعطي العامل أمره الصارم:

-قفل بقيت الطلبية، وماتسلمش الحاجة من غير إذن التوريد.

رد الأخير دون جدالٍ:

-حاضر يا ريس.

لم تكن إصابته تدعو للقلق، بضعة أيامٍ وستختفي آثارها بالكامل، كأنها لم تكن. أطالت النظر، واستطالت فيه باستمتاعٍ؛ كأنما تعوض ما فاتها من حرمانٍ بغيابه عنها، عاهدته رجلاً وهو يعمل، وأكثر رجولة وهو في أشد المواقف خصومة. أحست بفيضٍ من المشاعر الغريبة يجتاحها في تلك اللحظة، مشاعرٌ تتوق إلى الارتماء في أحضانه، الشعور بالقوة تحتويها وهي محاصرة بين ذراعيه، أفاقت من تماوج أفكارها الحالمة عندما اقترب منها، وسألها بلهجةٍ مالت للرسمية:

-جاية هنا ليه؟

رغم إحساسها بالحرج لأسلوبه المغلف بالجمود، إلا أنها تمسكت بهدوئها، وسألته في صوتٍ رقيق معاتب، وتلك النظرة التواقة تطل من لؤلؤتيها:

-هو إنت مش عاوز تشوفني؟

جلس على كرسيه، وقال مصححًا دون أن تلين نبرته:

-مش القصد، بس في حاجة حصلت عندكم؟

هذه الرسمية المستفزة جعلت الخيالات الحالمة تتلاشى، وتحل محلها ما خشيت الاعتقاد فيه من أفكارٍ سوداوية، تنهدت سريعًا، ثم عبست وهي تجيبه باقتضابٍ:

-أه .. في.

سألها بصيغة شبه آمرة:

-إيه؟ قوليلي.

أطلقت زفرة سريعة مغتاظة من جفائه، ونطقت مرة واحدة:

-إنت.

رفع حاجبه للأعلى متسائلاً في قليلٍ من الاستغراب:

-أنا؟!

أومأت برأسها مؤكدة في عتابٍ لم يصل للحدة:

-أيوه، طالما إنت مردتش عليا في اللي قولتله، فأنا فهمت إنت عاوز إيه.

مرر يده على رأسه، وسألها وهو يريح ظهره للخلف:

-إيه اللي فهمتيه؟

أجابته بشيءٍ من العصبية دون أن ترتفع نبرتها:

-إنك غيرت كلامك، ومش عاوز الجوازة تكمل، بس محروج تقولي كده، فأنا جاية النهاردة عشان أعفيك من الحرج ده.

نظر لها مليًا بلا تعقيب، فاغتاظت مجددًا من صمته، وسألته:

-كلامي مظبوط؟ صح؟

رفع ناظريه عنها ليحدق في العامل الذي جاء متسائلاً:

-نجيب إيه يا معلم؟

أشار بعينيه إليه وهو يجاوبه:

-هات ليمون للأبلة.

التفتت ناظرة للعامل تعتذر له:

-شكرًا، مش عايزة حاجة، فمافيش داعي تتعب نفسك.

وكأنها لم تنطق بشيء، أمر العامل بلهجته الحازمة:

-روح، هات الليمون، ومتتأخرش.

استدارت "فيروزة" تنظر إلى "تميم" بنظرات مغتاظة، فتجاهلها، وحدق في وجه العامل الذي هز رأسه في انصياعٍ وهو يرد:

-تمام يا معلم.

عاودت التحديق هي الأخرى في العامل، لتجده انسحب من محيطهما، سحبت شهيقًا عميقًا، حبسته لثوانٍ في رئتيها قبل أن تحرره وتدير رأسها في اتجاه "تميم"، تطلعت إليه مجددًا بثبات، ثم استطردت قائلة بغصةٍ محسوسة في صوتها:

-عمومًا أنا مش هاخد حاجة مش بتاعتي، المهر والشبكة جاهزين في أي وقت تقدر تبعت تاخدها، والفلوس اللي دفعتها لـ "حُسني" هرجعهالك معاهم.

بادلها نظرات جامدة، غامضة، لم تطرف عيناه، ولم ترتخِ ملامحه، بل راح ينقر بأصابعه على سطح المكتب وهو يسألها في إيجازٍ:

-وبعدين؟

اكتفت "فيروزة" من معاملته القاسية، وتعلمت درسها بحقٍ، هبت واقفة، وعلقت حقيبتها على كتفها لتخبره بتعابيرٍ مكفهرة:

-خلاص كده، وكتر خيرك يا معلم على اللي عملته معانا كلنا.

توقف عن النقر، واعتدل في جلسته، ثم سلط كامل أنظاره عليها وهو يأمرها:

-اقعدي.

زوت ما بين حاجبيها مرددة في استنكارٍ:

-نعم.

تحفز في جلسته، وخاطبها بهذه اللهجة الحازمة:

-اللي سمعتيه، اقعدي .. أنا مردتش عليكي لسه.

عاندته في غيظٍ:

-أنا محدش يديني أوامر، وخصوصًا لو مافيش بيني وبينه حاجة.

نهض واقفًا ليبدو أكثر مهابة عن ذي قبل بتعابيره الصارمة، ونظراته المهددة، أحست برعشة طفيفة تصيب ظهرها، وتنتقل سريعًا إلى أطرافها وهو يكز على أسنانه محذرًا:

-والحكاية مخلصتش يا أبلة، اقعدي بدل ما اعمل مصيبة تانية، أنا جايب أخري.

استسلمت على الفور، وتخلت عن عنادها، لتعاود الجلوس في مقعدها وهي تغمغم بخفوت:

-استغفر الله العظيم.

لم يجلس مثلها، بل دار حول المكتب وعيناها ترقبانه بتوترٍ متحفز، ابتعد عن محيطها ليتوجه إلى واحدٍ من عماله، أمره في صوتٍ قوي جعلها تخشى مجادلته في لحظات عصبيته:

-مش أنا قولت تحط الرصة دي هناك، الربع نقل هاتحملها كمان شوية، كفاية لكاعة، ولا لازم يعني أعملها شغلانة معاكو؟!!!

اندهش العامل من حمئته، ومع هذا قال في طاعة:

-حاضر يا معلم، هنخلصها في السريع.

أعطاه أمره التالي بنفس الأسلوب:

-وافتح سكة من الناحية دي، العربيات مش هتعرف تعدي.

قال وهو يسرع الخطى لتنفيذ ما تلاه عليه:

-أوامرك يا كبير.

رجع إليها "تميم" وهو يسير معتدًا بنفسه، فتنحنحت ناهضة لتخبره بوجهٍ شبه متورد:

-لو مشغول نتكلم وقت تاني.

جلس هذه المرة مواجهًا لها، وقال بغير ابتسامة:

-خلاص فضيتلك.

ظلت واقفة تحملق فيه من مستوى نظرها بتوترٍ حائر، أرادت النفاذ إلى داخل رأسه لتعرف ما الذي يفكر فيه بشأنها، الغموض المحاوط به جعلها في حالةٍ من التخبط، اللوعة، والرغبة! دبت فيها رجفة خفيفة عندما أمرها:

-اقعدي.

استجابت لأمره بامتعاضٍ ظاهر على ثغرها، وراحت تنظر إليه في تحفزٍ وقد بدأ يخاطبها من جديد بجديةٍ:

-شوفي يا أبلة، لما طلبت إني اتجوزك لأني عاوز ده فعلاً، لا بعتبر الموضوع زي أي جوازة والسلام، ولا شايفك واحدة كويسة، تنفع تبقى مراتي، إنتي أعلى وأغلى من كده بكتير.

أخذت تعابيرها المشدودة تلين جزئيًا، خاصة عندما تابع:

-مش عاوزك تبقي مجبورة ولا مغصوبة على الجواز، لمجرد بس ترضيني أو ترضي غيرك.

أحنت رأسها على صدرها قليلاً، وأصغت إليه وهو يواصل معاتبته لها بعتاب المحبين:

-زعلي منك معروف سببه إيه.

بترددٍ بائن على محياها، وواضح في نبرتها كذلك، أسبلت عينيها قائلة:

-أنا بعترف إني اتصرفت غلط، مكانش ينفع أكلمك بالشكل ده، بس والله كنت خايفة عليك تتهور.

سكت، وترك لها المجال لتتكلم، فأردفت في هدوءٍ:

-الواحد ساعة الغضب مابيفكرش كويس، وإنت عصبيتك صعبة حبتين.

رمقها بتلك النظرة الغامضة، العميقة، وهي ما زالت تخاطب ودَّه بلين الكلام:

-بس بعد كده لما راجعت نفسي اتأكدت إن كان ممكن أتكلم بأسلوب تاني، والنتيجة هاتكون أحسن.

عقب عليها بجملةٍ استرابت منها:

-ساعات اللسان بيسبق التفكير، وللأسف ده ممكن يضيع الحلو.

سألته بتوجسٍ، وقد خبا التورد الدافئ من وجهها:

-قصدك إيه؟

لم تهتز تعبيراته وهو يخبرها بصوته الجاد:

-قصدي إني مش هربط موضوع مسامحتي بالجواز، فلو إنتي عاوزة الليلة تنتهي لحد كده، فده عشانه اختيارك إنتي، مش لأني ماسمحتكيش.

انخلع قلبها مع قراره الصادم لتوقعاتها، واعترضت في ذهولٍ:

-بس آ...

قاطعها مؤكدًا بإشارة من يده أمام وجهها لتسكت:

-إنتي هتفضلي غالية، وليكي قيمتك مهما حصل.

تطلعت إليه بنظراتٍ مصدومة، قابلها بنظراتٍ تعكس كبريائه الجريح:

-وأنا عاوز الاحترام والود بينا يزيد بالجواز مايقلش.

بلعت غصة مريرة في حلقها، وردت بصوتٍ شبه خافت:

-تمام .. فهمت.

قام من مقعده ليتابع بنفس الصوت الجاد:

-خدي وقتك وفكري براحتك من غير أي ضغوط.

تبعته بنظراتٍ شبه تعسة وهو يتحرك مبتعدًا عنها عند مدخل الدكان، نظر مرة ثانية نحوها، بحزنٍ مناقض للجمود الذي استحوذ على نظراته قبل قليل، ثم خاطبها في صوتٍ هادئ مستسلم وهو يدس يديه في جيبي بنطاله:

-وأنا قابل بأي قرار ليكي.

نهضت بدورها، وعدلت من وضعية ذراع حقيبتها على كتفها، قبل أن تنطق في صوتٍ شبه مختنق:

-طيب .. شكرًا يا معلم على كل حاجة.

الخذلان، يا له من شعورٌ مؤلم! يسحب معه كل ذكرى طيبة وجميلة، فقط إن سمحت له بالاستحواذ على الجيد في حياتها. بدأت "فيروزة" بالسير؛ لكنها توقفت قبالته لتواجهه في وقفته السامقة، ثبتت عينيها عليه وهي تقول في تصميمٍ:

-قبل ما أمشي، أنا مابرجعش في كلمة قولتها طالما مقتنعة بيها، وإلا مكونتش قولتها من الأول ...

حدق في نظراتها إليه بتعاطفٍ خفي، فأكملت على نفس المنوال:

-بس لو الطرف التاني مش عايز أصلاً، وقتها يبقى الكلام مالوش لازمة.

لمعت عيناها بدمعاتٍ متسللة، حين تابعت بنبرة مالت للندم:

-وساعتها الحلو اللي جوايا مش هيظهر، ويروح زي حاجات كتير حلوة بنتمناها وتضيع مننا في لحظة عناد.

علق عليها بتنهيدةٍ خافتة:

-الغالي بيبقى غالي عشان اللي بيقدره.

أتاه ردها تلقائيًا، محملاً بالمشاعر العميقة:

-وإنت أكتر من غالي.

منحته نظرة أخيرة فجَّرت فيه ذلك الجمود القاسي، قبل أن تحيد بعينيها بعيدًا عنه استعدادًا لذهابها، تحرك "تميم" ليسبقها في خطواتها، اعترض طريقها بجسده، فارتدت بشكلٍ عفوي للخلف، نظرت إليه باستغرابٍ متحير، تلونت شفتاه ببسمة خفيفة، أتبعها نظرة دافئة في عمق جوهرتيها متسائلاً:

-موافقة تتجوزيني يا أبلة؟

وكأن وهج الحياة النابض قد أعاد النضارة إلى بشرتها، سرعان ما تبدل الحزن بفرحةٍ حيَّة لا يمكن إنكارها، ابتسمت في رقةٍ وهي تجيبه بمراوغةٍ يشوبها الدلال:

-إنت عارف الرد.

جاءها تعقيبه متحديًا، وبنظرة ذات مغزى:

-طب الشهر فاضل عليه 12 يوم، واخدة بالك من ده؟

أشرقت، وتفتحت، وظهر البهاء عليها. ضحكت "فيروزة" في صفاءٍ قبل أن تقبل التحدي بقولها:

-طبعًا، الرك بقى على اللي يعرف يخلص كل حاجة فيه، من توضيب شقة، وتجهيز عفش وآ...

أشعلت جمرات الحب بداخله، تلك الجمرات التي لم ينطفئ لهيبها يومًا، قاطعها "تميم" بثقةٍ، وهذه النظرة المغترة تسود في عينيه:

-كله بأمر الله هيخلص.

زادت من مستوى التحدي، فأخبرته بإشارة من حاجبها:

-وريني شطارتك.

انتصب في وقفته المهيبة، وازداد ثقة على ثقة وهو يؤكد لها بما لا يدع مجالاً للشك في قدراته:

-أنا أد القول .. يا أبلة.

ابتسمت في نعومة مغرية، جعلت القلب يرفرف في سماء الحب، لترد بعدها:

-متأكدة من ده ..

تقدمت في خطاها ناحيته، طالعته بنظرة شغوف أوحت بالكثير، والكثير مما ينتظره، بل إنها جعلت عاصفة من العواطف المحمومة تنطلق في كيانه، مالت نحوه قليلاً، فبدا صوتها قريبًا، دافئًا، تلفح حرارته صدغه، وهي تهمس له، بما بدا أقرب للاعتراف بهيمنته المستحبة إليها:

-ما هو ماينفعش حد غيرك يكون المعلم "تميم سلطان" .................................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السادس والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة