-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الستون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الستون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الستون

 لم يَكُف، ولم يكتفِ بعد منها، أرادها بشدة، ورغبتها فيه صارت أشد، تلاحمت الأجساد، وتعانقت في تناغمٍ عجيب، كأنما يعزفان مقطوعة موسيقية في انسجامٍ واضح، قد استطاعت التوليف بين قلبيهما. حلقا، وغردا، وارتفعا، وتفردا في أفقهما الحالم .. بهذا السمو نالت الحب، وبهذا العلو ظفر بكامل الود.

ظلت "فيروزة" يقظة رغم استغراق زوجها في النوم، لم تستطع استدعاء سلطانه مثله، فعقلها لا يزال مشحونًا، بما اختبرته في الساعات الماضية، من تجربة حميمية وحسية، أعادت إليها كامل ثقتها في نفسها كأنثى، وحولتها في طياتها إلى امرأة مفعمة بالرغبة. أدارت رأسها في اتجاه "تميم" الذي كان نائمًا على جانبه وفي اتجاهها، كما لو أنه يريد أن تكون أول ما تبصره عيناه حين يستيقظ، أما ذراعه فكانت ملقاة عليها، لتضمن بقائها في أحضانه، وملتصقة به. تطلعت إليه عن كثبٍ بأريحية واضحة، ودون خجل، تأملت ملامحه عند هذا القرب المغري، كان وسيمًا للحد الذي يجعلها تظل محدقة فيه دون أدنى شعورٍ بالملل.

جال بخاطرها مشهدًا ما يزال حيًّا في مخيلتها، حين تطلعت إليه قبل عقد قرانهما ببدلته السوداء، وملامحه المبتسمة؛ كان أنيقًا، منمقًا، مُخالفًا للشكل التقليدي الذي كان عليه في عرسه السابق، بدا معها أكثر حبًا، حيوية، وانتشاءً. ذقنه كانت نابتة، لم يحلقها بشكلٍ كامل، على عكس خصلات شعره التي قَصُرت كثيرًا. ما أدهشها حقًا هو امتلاكه لنفس الندوب، كأنما تشاركا خفيةً في أمر اعتبره دليلاً على شجاعة باسلة، ورمزًا يدعو للافتخار لا الخجل.

لن تنكر أنها استلذت بإحساس قبلاته الدافئة على ندوبها، بدت وكأنها تمحو ما ظنت أنه لن ينمحق. تثاءبت في كسلٍ، وبالهدوء ذاته الذي بقيت عليه لبعض الوقت، أزاحت ذراعه عنها، ثم نهضت بتريثٍ من طرفها بالفراش، تريد الاغتسـال. تحركت تجاه تسريحة المرآة، نظرت إلى الحُلي المتناثرة على السطح الزجاجي، رتبتها بشكلٍ منمق في علبة القطيفة، وذاكرتها تتنشط بموقف جدالهما معًا لإصراره على ارتداء شبكتها في الحفل، وقتئذ عارضته في منزلها بعنادٍ غريب:

-أنا قولتلك مش هلبسها، مالهاش لازمة.

تحفز "تميم" في جلسته على الأريكة، وسألها بضيقٍ ظاهر في صوته:

-ليه بس؟ ده احنا مصدقنا نظبط حكاية الكوافير والقاعة، هنيجي على دي كمان ونعقدها؟

-ده كان اتفقنا من الأول إني هحتفظ بيها كأمانة، والمفروض أردها، وده وقته.

سكت للحظاتٍ كأنما يبحث عن الكلمات المناسبة لإقناعها، رفع مرة ثانية نظره إليها، وقال بعد زفيرٍ سريع:

-ماشي، جه وقته، بس أنا عاوزك تردهالي في بيتنا، بعد الفرح.

أراحت ظهرها للخلف، وعلقت بحاجبٍ مرفوع للأعلى، كما لو كانت تريد إغاظته:

-خلاص هسيبها هناك قبلها.

تحلى بالصبر، وتزين بفضائله وهو يصر عليها بلطفٍ يشوبه الهدوء:

-وتزعلي أمك، وأمي؟

تجهمت تعابيرها قليلاً، فواصل الضغط عليها بنفس الأسلوب المستعطف لقلبها:

-بلاش دول، جدي الراجل الكبير اللي متعشم يشوفك لبساها؟

مطت شفتيها في تبرمٍ، فسألها بتهذيبٍ، وهو يرمقها بنظرة عطوفة:

-يرضيكي تكسري بخاطر الناس دي كلها؟

لانت قسماتها العابسة، فابتسم في عذوبة وهو يرجوها:

-ده جبر الخواطر على الله، خدي فينا ثواب، اتفقنا.

تنهدت على مهل، وتكلمت أخيرًا:

-حاضر.

مع قبولها غير المشروط انفرجت أساريره، وضحكت عيناه وهو يمازحها:

-شوفتي لما بتقولي حاضر وشك بينور إزاي.

زوت ما بين حاجبيها مرددة في جدية:

-ده بجد؟

استمر في التغزل بها –وأيضًا بنظراته الدافئة- قائلاً:

-طبعًا، وبتبقي وإنتي مكشرة أحلى من القمر.

أفاقت من الذكرى على واقعٍ أكثر حلاوة، التفت ناظرة إلى "تميم" بعينين تعشقان النظر إليه، همهمت مع نفسها متسائلة، وهي لا تعرف أنها تبتسم:

-معرفش إنت إزاي بتخليني اعمل كل اللي إنت عاوزه بالسهولة دي؟

عادت لتنظر إلى سوار الجد "سلطان"، وضعته في مكانه بالعلبة إلى جوار البقية، ثم أغلقتها برفقٍ، وبدأت بالسير على أطراف أصابعها في اتجاه الحمام.

............................................................

لم يؤذن بعد لصلاة الفجر، وهي كانت ما تزال بداخل حمام بيتها الجديد، تتنعم بالماء الدافئ، أحست "فيروزة" بارتخاء عضلاتها، بإزاحة التوتر عن كامل جسدها المتعب من عناء يومها الطويل، انتهت على مهلٍ من الاستحمام، وراحت تلف جسدها بالمنشفة العريضة، تذكرت أنها نسيت إحضار ما ترتديه بالداخل، فهسهست في حرجٍ منزعج:

-إيه الغباء ده؟ مش كنت أخد بالي!

استخدمت المشط الموضوع في أحد أدراج مرآة الحمام، لتمشط شعرها المبتل وتعقده كعكة قبل أن تضع منشفة أخرى جافة عليه، انتفضت بارتعاشة مباغتة حين سمعت دقات خفيفة على الباب، تحشرج صوتها وهي تتردد:

-أيوه.

جاءها صوت "تميم" متسائلاً:

-خلصتي يا حبيبتي.

ردت بنفس الإيجاز الحرج، وهي تشعر بانبعاث الحرارة إلى وجنتيها:

-أيوه، طالعة أهوو.

وضعت يديها على خديها تتحسسهما، فشعرت باشتعالٍ متزايد عليهما، خاطبت نفسها في خجلٍ شديد:

-هايقول عليا إيه لما يلاقي وشي زي الطماطم.

تنفست بعمقٍ لتثبط من تصاعد خفقات قلبها، وراحت تكرر على نفسها:

-هتكسفي من إيه، ده جوزك.

استقامت في وقفتها، وانتصبت بكتفاها لتبدو كما دعاها مؤخرًا، طاووسه المختال، مع فارق أنها متلفحة بالمناشف القطنية البيضاء. تحركت نحو الباب لتفتحه، فأَلِفته منتظرًا عند عتبته، ما كان بها من اعتداد بالنفس تطاير مع نظراته الهائمة عليها، سرعان ما تهدل كتفاها، وانكمشت بشكلٍ أوحى بارتباكها الخجل، عندما رأته عاري الصدر أمامها، هي لم تعتد بعد على هيئته تلك، حاولت التحرك لتجاوزه؛ لكنه اعترض طريقها بمط ذراعه، وإسناده على إطار الباب، كأنما يفسد محاولتها للتملص منه. تراجعت خطوة خجولة للخلف، وتحاشت لهنيهة النظر إليه أو حتى الكلام معه، مستشعرة بداخلها أنه يضعها تحت مجهر عينيه، يُمتعهما بكل ما فيها من تفاصيل مشوقة وشهية.

أطال في صمته، وزاد من تأمله العميق لها، مما دفعها للتصرف، واستعادة جأشها الهارب، تشجعت للنظر ناحيته، رغم ما يتقد بمواطن أنوثتها من جمرات اشتعلت جذوتها مع نظراته القوية. رمشت بعينيها تستأذنه بصوتٍ خرج من بين شفتيها مهتزًا:

-ممكن أعدي.

تقدم بتؤدة خطوة ناحيتها، ودون أن يرخي ذراعه

-أنا ملحقتش أشبع منك.

حاولت الثبات في موضعها، مقاومة تيارات المشاعر المتدفقة في دمائها، كأنما أرضها الخصبة تتعطش للارتواء من جديد بفيض أنهاره العذبة، خرجت نبرتها ترجوه:

-"تميم"، لو سمحت.

أخفض ذراعه، ودنا منها، محاولاً تلمس جلدها المبتل، وصوته قد صار خفيضًا مؤثرًا عليها:

-هقولك بس كلمة.

لم تخمد حركة جسدها مع لمساته التي تدفع بالمزيد من التيارات الشعورية في كامل خلاياها؛ كأنما تستحثها على الانتفاض من سباتها الواهي، أبعدت نظراتها الكاشفة لأمرها عن مرمى عينيه، بدت كما لو كانت تتوسله وهي تحاول المرور من جواره:

-خليني أعدي.

أعاق سيرها، وتحرك ناحيتها في نفس التوقيت لتجد نفسها قد التصقت بصدره العاري، ومرمية في أحضانه، شهقت بأنين خفيض، ورفعت رأسها لتنظر إليه، وكفاها يستندان على عضلاته، وجدته يطالعها بحبٍ عميق قبل أن يهمس قائلاً بنبرة راجية رغم كونها آمرة:

-هتسمعيني الأول.

أحست بجفافٍ غريب يجتاح حلقها، بلعت ريقًا غير موجود بجوفها، ورددت في طاعةٍ غريبة وهي تسحب يديها:

-طيب.

مرر يده أعلى شعره القصير، واستطرد موضحًا ببسمة متأنقة في سحرها:

-شوفي، أنا كنت مستعجل شويتين، وماصبرتش لحد ما أصلي معاكي ركعتين نبدأ بيهم حياتنا.

نظرت إليه في غرابةٍ، فأكمل بنفس الوجه المبتسم:

-فمحتاج منك كده مساعدة بسيطة عشان أغتسل واتوضى.

حلت الحيرة على ملامحها وهي تسأله:

-مساعدة إيه دي؟

أشار بيده نحو الفراغ مجاوبًا إياها:

-توريني مكان الحاجة..

تسمرت في مكانها، والتفتت برأسها لتشير نحو الأدراج الموجودة في زاوية الحمام وهي تخبره بعفوية:

-ما إنت عندك هنا الفوط، وهنا الـ آ...

حين استدارت بوجهها لتنظر إليه، وتتم جملتها للنهاية، وجدته ينحني عليها برأسه، ليطبع قبلة عميقة على شفتيها، توقفت لحظيًا عن التنفس، ولفها دوار سريع، نقلها إلى مواضع السمو في علاقتها معه، احتضن صفحة وجهها براحتيه، لتشعر بمذاق الشهد يتسرب إليها، تراجع "تميم" بعد لحظات معدودات عن شفتيها –ودون أن يحرر وجهها المحاصر بقبضتيه- ليهمس بأنفاسٍ مشبعة بلهيب العشق:

-بحبك.

.............................................................

قبيل شروق الشمس، بوجهٍ مغبر، وقسماتٍ غلفها السواد، عاد إلى منزله مجرجرًا قدميه، ومصحوبًا بدعواتٍ مستهلكة على أذنيه، تدعو له بالعوض، والصبر على فيجعته العظيمة. فتح "فضل" الباب، ووطأ بيته يلقي باللعنات، وهو يتحسر على ما أنفق من مالٍ ذهب سداءً في لمح البصر. ألقى شاله المحاوط بعنقه أرضًا، وارتمى على المصطبة يضرب كفًا بالآخر وهو يبرطم بعباراتٍ مبهمة. اقتربت منه "سعاد" ترمقه بتلك النظرة الشامتة قبل أن تخاطبه بتقاسيمٍ منقلبة:

-شوفت ربنا عملك فيك إيه؟

هدر بها في عصبيةٍ بما اختلج صدره من غضبٍ مكبوت، وصورة احتراق الحقل عن بكرة أبيه تصدح في فضاء عقله:

-كفاية تعتيت في جتتي يامه، أنا مش ناقص حرقة دم بزيادة، وخليني أشوف النصيبة اللي حلت على نافوخي.

احتقن صوت أكثر وهو يضيف:

-ده خراب مستعجل!

بدت والدته غير متأثرة بحالة الهياج المستبدة به، لوحت بكفيها أمام وجهه تنذره بقساوةٍ:

-إياكش تتعظ، وترجع الحقوق لأصحابها، بدل ما إنت واكلها.

هبَّ واقفًا ليصرخ في وجهها بعنفٍ:

-في إيه يامه؟ ارحميني شوية!

ارتدت خطوة للخلف على إثر صوته القوي، لتنأى بنفسها عن بطشه يده الوشيك، وواصلت تقريعه بغير اكتراثٍ:

-دي لسه البداية، كفاية أبوك مات بحسرته، وقلبي غضبان عليك.

هاجت أعصابه، وانفلت زمامها ليصيح مهددًا في غليلٍ ما زال يشتعل فيه:

-بقولك إيه، يا تسكتي، يا تروحي تشوفي وراكي إيه.

شهقت "سعاد" في استنكارٍ عظيم، قبل أن تلطم على صدرها وهي تنهره:

-هتمد إيدك عليا؟ ما هو ده اللي ناقص يا ابن بطني.

كور "فضل" قبضته، وضرب بعنفٍ على الحائط، ليبتعد عن محيطها هادرًا في اهتياجٍ مخيف:

-يووه، كفاية بقى، ارحميني، وسبيني في البلوة اللي أنا فيها.

نظرت إليه بغير أسفٍ، ودمدمت في ملامحٍ مقهورةٍ ممتقعة:

-أنا ماشية من وشك.

شيعها بنظراته النارية إلى أن غابت عن محط أنظاره، فأخذ يدور في موضعه جيئةً وذهابًا، واضعًا يده أعلى رأسه الذي أوشك على الانفجار، ضغط على الأتون المشتعل بداخله، وراح يسأل نفسه في تحيرٍ بائس:

-طب العمل إيه؟ ده كله راح في غمضة عين!

كز على أسنانه في غضبٍ مغتاظ وهو يتابع بوعيدٍ:

-أه لو أعرف واد المحروق اللي عمل في أرضي كده!

اشتاط على الأخير، وهو ما زال يتوعده بعقابٍ شديد في شراسته:

-ده أنا هكله بسناني، ومش هيكفيني عمره كله قصاد الأرض اللي ولعت.

أطاح في غمرة عصبيته ببعض منقولات المنزل، غير عابئ بإفساد ترتيب مظهره العام، ووسط تلك الانفعالات الثائرة، برق عقله بفكرةٍ شيطانية، سرعان ما سطعت تفاصيلها كالداهية، لتستحثه على تنفيذها في التو، حط غضبه الهائج إلى حدٍ ما، وهدأ نسبيًا، توحشت نظراته، وقد تكلم مع نفسه مبررًا ما سيقدم على فعله:

-مافيش إلا كده، ما هو كله من فلوس أبويا، وفلوسه بقت حقي دلوقتي.

..................................................................

بالكاد كانت تستعد للاستلقاء قليلاً على سريرها بعد سهرٍ طويلة لم تتذوق فيها طعم النوم، حين اقتحم غرفتها باندفاعٍ غير مسبوق، احتدت نظرات "سعاد" نحو ابنها، واعتدلت في رقدتها تعنفه بغيظٍ:

-جاي ورايا ليه؟

تقدم نحو فراشها بكل عنفوانه، وسألها في نبرة خشنة للغاية:

-فين يامه الشكمجية بتاعة الدهب؟

اتسعت عيناها في توجسٍ ذاهل، وسألته بقلبٍ يدق في جزعٍ:

-عاوزها ليه؟

جاوبها في نبرة تُقرر لا تُخير:

-محتاج أبيع الدهب اللي فيها، عشان أفك بيه زنقتي، وأعوض الخسارة اللي قسمت وسطي.

نهضت من طرف سريرها تحتج عليه بحنقٍ:

-ده مالي وحالي، هتاخده غصب عني؟

نظر لها ببرودٍ قبل أن يخبرها بصفاقةٍ:

-مضطر، والمضطر يركب الصعب.

لم ينتظر تعليقها، واتجه نحو دولاب ثيابها قائلاً:

-إنتي شايلاه أكيد هنا.

حاولت اعتراض طريقه، وإيقافه قبل أن يصل إليه، فتعلقت بذراعه، وبذلت جهدها لمنعه من المساس بأشيائها؛ لكن قوة أطماعه جعلته يزيحها بعيدًا عنه، ويفتح الضلفة الخاصة بها، ليفتش بعبثيةٍ بين الرفوف، إلى أن وجد صندوق مجوهراتها العتيق، انتشله من موضعه بالأسفل، ففزع قلب "سعاد"، صرخت به بتوسلٍ:

-ابعد عن حاجتي يا "فضل"، ده أنا عيناه لإخواتك بعد ما أموت.

حاوطه بذراعه في قوةٍ، لئلا تختطفه منه، واستدار يصرخ في وجهه بغيظٍ شديد:

-كل حاجة إخواتي، إيه؟ ما بكفاية بقى!!!

فشلت والدته في استعادة ما يخصها، ونظرت إليه بنظرة العاجز المغلوب على أمره، لتهتف بعدها في استياءٍ عارم:

-إنت السواد اللي جواك عامي قلبك، ومخليك جاحد على أقرب الناس ليك.

لم يعبأ بها، وأولاها ظهره لينظر إلى وهج الذهب المغري الموجود بداخل الصندوق بعد فتحه، بعينين تتراقص فيهما شياطين الأنس، استغلت "سعاد" لحظة التهائه عنها، لتدور حوله، وتمسكت بقبضتين من حديد بصندوقها؛ لكنه –للوقاحة- زاد بأسًا على بأس، ودفعها بعنفٍ حتى كاد يسقطها على ظهرها، وهو يهدر في صوتٍ جهوري غاضب:

-حاسبي إيدك، ده حقي.

تماسكت قبل أن تفقد اتزانها، وتحدت طمعه بإصرارها العنيد:

-سيب دهبي.

في التو أغلق الصندوق، ولفه أسفل ذراعه قائلاً بتزمتٍ:

-لأ، هاخده ...

لمح ما يتدلى على صدرها من سلسلة عريضة، كانت مختبئة خلف حجابها الطويل، دون تفكيرٍ اختطفها عنوة، وهو يخبرها بتوحشٍ:

-وهاتي دي كمان.

شهقت لتجرؤه عليها، ناهيك عن سرقته الوقحة لما تملك، وهتفت في حرقةٍ:

-حرام عليك، ده إنت ناقص ترميني في الشارع عشان طمعك وجشعك.

ضم السلسلة إلى ما معه قائلاً بفجاجةٍ:

-كفاية الإسطوانات الفارغة دي، مسيري هرجعهوملك لما تُفرج معايا.

تهكمت على كلامه المستفز:

-هتُفرج إزاي معاك وإنت عليك غضب ربنا؟!!

نظر لها شزرًا قبل أن يعلق في أسلوبٍ فج مثير للاشمئزاز:

-كل الغارة دي عشان كام حتة دهب خدتهم؟ قولتلك هردهم، في إيه؟ ده بدل ما تدعيلي؟!!

اِحمر وجهها على آخره، وامتلأت عيناها بالدموع المقهورة وهي تتطلع إليه، جلست في وهنٍ على طرف فراشها تصرخ فيه بألمٍ وانكسار:

-منك لله يا "فضل"، ربنا يسلط عليك عباده.

سدد لها نظرة قاسية ساخطة، ليرد بعدها في قنوطٍ:

-يا ساتر، يامه بقولك الضرورات تبيح المحظورات، تقومي تدعي عليا؟

تحرك قبالة باب الغرفة متابعًا كلامه بجحودٍ كبير:

-الظاهر مخك تعب من بعد موت أبويا، ارتاحي أحسن.

سمعت ترهاته الفجة، ودمدمت في حرقةٍ أشد، وهي ترفع كفيها إلى السماء:

-حسبي الله ونعم الوكيل فيك، ربنا يخلص منك.

...........................................................

رمت شعرها بلا عنايةٍ خلف ظهرها -شبه العاري- بعد أن قامت بتجفيف خصلاته؛ لكن بقيت آثار حمَّامها ظاهرة على بشرتها المنتعشة، ركزت "فيروزة" كل أنظارها على انعكاس وجه زوجها في خلفية مرآتها، كان "تميم" قد ارتدى تيشرتًا بدلاً من إبقاء نصفه العلوي مجردًا من الثياب، أراحها تصرفه المهتم، إلى أن تعتاد على وجوده الذكوري في محيطها، وجدته يبادله نفس النظرات المفتونة، كأنه يراها للمرة الأولى، لذا لم تخجل من تغطية ندوبها، وتركت روبها النبيذي -المماثل لقميصها الحريري ذي الحملات الرفيعة الذي ترتديه- موضوعًا على طرف الفراش. ابتسمت في دلالٍ من مقعدها، وسألته وهي تضع مسحة من أحمر الشفاه على حبتي الكرز:

-بتبصلي كده ليه؟

تنمق في رده البليغ عليها:

-بملي عيني من القمر اللي معايا.

توردت أكثر، ودبت في بشرتها الكثير من مظاهر الحيوية والحماس، حاولت التغاضي عما يعتريها الآن من مشاعر مرهفة تعشق هذا النوع من التودد اللطيف، وسألته وهي تمعن النظر فيما تحتويه قبضته:

-معاك إيه؟

تقدم ناحيتها قائلاً وهو يظهر ما تخفيه راحته إليها:

-تفاح.

حاوطها من الخلف، فتقلص جسدها مع ضمته التي جذبتها، احتوتها، وأذابتها، بضعة لحظاتٍ وكانت حرارة جسده تغمرها، فبث إحساس الدفء فيها، سرعان ما تحولت رجفتها إلى وخزات لذيذة تستثيرها حين همس بالقرب من شحمة أذنها:

-جايبه للتفاح.

اقشعرت بتلذذ مع حُر أنفاسه، وبدأت في الذوبان أكثر بين حصار ذراعيه، خاصة وهو يدفن رأسه في منحنى عنقها ليمطرها بالمزيد من القبلات الشغوفة، التواقة دومًا إليها. سحبها لتنهض وهي بين أحضانه، وأدارها كليًا لتنظر إلى عينيه وهما تصرحان بحبه، زادت من دلالها عليه، ورفعت ذراعيها لتطوق عنقه، ثم ابتسمت قائلة في غنجٍ:

-ده إنت مقطعه بنفسك.

أبقى "تميم" ذراعًا حول خصرها، واستخدم يده الأخرى في وضع قطعة من ثمرة التفاح بين شفتيها قائلاً:

-وهأكلك كمان.

قطمتها بتؤدةٍ، وقالت وهي تلوكها في مرحٍ:

-إيه الدلع ده كله؟

انفرجت شفتاها عن شهقة خافتة، وقد شدد من جذبها إليه لتشعر بسطوة قبضته القوية على ظهرها، لامس ثغره زاوية فمها وهو يخبرها بصوتٍ بات أقرب للهمس:

-ولسه في كتير.

تأوهت معترفة له وهي على وشك الغرق في دوامات غرامه العاصف:

-أنا معرفش إنت خلتني أحبك إزاي.

جاءه جوابه هامسًا، مليئًا بالإغواء:

-عشان أنا أستاهل اتحب ...

غابت في لحظة من التيه وهو يمنحها كل الحب الذي تستحقه، سألها بخفوتٍ وهي تذوب بين ذراعيه من فرط الشوق والتحرُّق للانتشاء:

-صح؟

بالكاد سمع نبرتها من بين تنهيداتها وهي تجيبه:

-أيوه، إنت مافيش زيك.

غاصا معًا للحظاتٍ حميمية امتدت لدقائق معدودة فيما يشبه نوبة مفاجئة متخمة بطوفانٍ من المشاعر المحمومة، فأشعلت التوق، وأوجدت الوَجْد، وروت الظمأ. استكانت على الفراش، مستلقية على ظهرها، وذراعه من أسفلها تقربها إليه، مسدت بيدها على صدره في رفقٍ، واستطردت قائلة في ترددٍ:

-كان عندي ليك سؤال.

نظر إليها من موضعه متسائلاً باهتمامٍ:

-إيه هو؟

همَّت بالاعتدال من تمددخا؛ لكنه أعادها إلى استلقائها قائلاً بعبثية:

-تعالي في حضني شوية.

منحته تلك النظرة الشقية وهي تسأله:

-ماشبعتش؟

أجاب ويده تجوب على منحنياتها في حنوٍ:

-لأ.

حركت كفها لتضعه على يده، فتوقف حركته المدغدغة لجسدها، ثم تنهدت متسائلة بعد هنيهة من ترتيب الأفكار التي تدور في رأسها:

-اشمعنى صممت نعيش هنا؟ في البيت ده عن غيره؟ وخصوصًا إنه في نفس المكان اللي اتجوزت فيه قبل كده.

أصر على بقاء عينيه عليها وهو يخاطبها:

-هتصدقيني لو قولتلك إني حاسس إني لأول مرة بتجوز.

نطقت دون تفكيرٍ، وعيناها تؤكدان ذلك أيضًا:

-مصدقاك.

قرب شفتيه من جبينها، وقبله مليًا قبل أن يقول:

-وده عندي كفاية.

لحظات من الصمت الهادئ سادت بينهما إلى أن قطعته مكررة عليه سؤالها:

-بس مجاوبتنيش ليه هنا بالذات؟

قال بلمحة شبه حزينة رغم ابتسامته:

-عشان البيت ده ليه مكانة عزيزة وغالية عندي أوي.

تحمست للإصغاء إلى باقي حديثه، وانعكس ذلك على تعبيرات وجهها، ونظراتها نحوه. تنفس "تميم" بعمقٍ، ثم تابع:

-ده بيت جدي "سلطان"، اللي اتجوز فيه ستي، وعاش معاها لحد ما ماتت، مقدرش بعدها يقعد فيه ...

خنق غصة طافت في حلقه، وأضاف ببريق لامع في عينه جراء دموعه المتسللة:

-عز عليه يدخل مكان هي مش فيه.

بدت متأثرة بما قال، والتمعت عيناها كذلك بعبراتٍ خفيفة، طردتها بعدة رفرفات متواترة من جفنيها، لتتساءل في جدية:

-للدرجادي كان بيحبها؟

أكد عليها مبتسمًا:

-أيوه، زي ما أنا بحبك بالظبط، ويمكن أكتر مني، ما أنا مش عارف بصراحة، لأن معشتش الحب في زمانهم.

ما كان منها إلا أن قالت في لطفٍ:

-الله يرحمها، ويديله الصحة.

تنهد معقبًا وهو يحملق في سقفية الغرفة:

-يا رب.

استغرقه الأمر لحظةً ليستأنف الكلام بصوته الهادئ:

-زمان بقى كانت الناس بتأجر بيوت، بإيجار رمزي، محدش بيشتري، لأن الحال على الأد، وصاحب الملك لما مات ولاده حبوا يبيعوا العمارة باللي فيها، أنا اشتريت البيت ده، واحتفظت بيه، ولما ربنا كرمني خدت الشقة التانية، على أساس أفتحهم على بعض، بس حصل ظروف حبسي، وخرجت من السجن على جوازي بـ "خلود"، وملحقتش أعمل حاجة من اللي خططتلها في خيالي.

المجيء على ذكر سيرة ابنة خالته جعلها تشعر بالغيرة، وبالانزعاج، رغم أنها توفت إلا أن ذلك الإحساس بقي متحفزًا في داخلها. انتبهت إليه وهو يواصل حديثه إليها:

-وسبحان الله زي ما يكون ربنا مقدر إني أعيش في البيت ده معاكي.

على ما يبدو تركز تفكيرها حول "خلود"، وطبيعة علاقته بها رغم كونها معقدة في بعض التفاصيل التي ليست على علمٍ كامل بها، تصلبت قليلاً وهي تستجمع نفسها لتسأله:

-حبيت مراتك الأولى؟

شعر بتصلبها وهو يحاوطها بذراعه، استل يده من أسفل قبضتها الموضوعة فوقه، ليعاود الطوف على جانب جسدها بحنوٍ رقيق، قبل أن يبادر بالقول:

-الله يرحمها، هي كانت بتحبني، وأنا بحكم القرابة والعِشرة احترمتها، واتمنيت لما انفصلنا تراعي اللي كان بينا ...

لم يرغب في إضافة المزيد، فاستدار مستلقيًا على جانبه ليواجه "فيروزة"، حملق فيها بعمقٍ وهو يسألها في فضولٍ طفيف:

-هي عند ربنا دلوقتي، بس إيه اللي فكرك بيها؟

نظرت إليه في قليلٍ من الضيق، وقالت بتهربٍ:

-عادي يعني.

انتقلت ذراعه الأخرى لجانبها، فشكَّل طوقًا حولها، ثم رفع رأسه قليلاً مخاطبًا إياها:

-"فيروزة" عاوزك تتأكدي إنك اللي في القلب وبس.

ردت عليه في دلالٍ تشوبه لمحة من العنجهية:

-ما هو واضح، ده إنت طلع عينك عشان تتجوزني.

قابل ذلك بضحكة مرحة وهو يؤكد عليها:

-مقدرش أنكر، وإنتي تستاهلي كل التعب.

أعقب ذلك جذبة قوية لخصرها، جعلتها ملتصقة بكفيها في صدره، تلوت ببدنها محاولة الخلاص من قيده المُحكم وهي ترجوه:

-"تميم"، لو سمحت.

ضحك في استمتاعٍ وهو يرى مقاومتها الواهية بالمقارنة مع قوته، جاهدت لدفعه من صدره، وخلق مسافة بينهما وهي تتذمر من فشلها في إبعاده:

-إنت هتعمل زي ما كنا بنتصور، مصدقت تلزق فيا.

قال بتفاخرٍ، وهذه الابتسامة المغترة تنير ثغره:

-كله بالحلال يا أبلة، قبل كده مكونتش أقدر.

تصنعت الجدية، وزادت من مقاومتها له مرددة:

-طب حاسب شوية يا معلم.

كأنها استثارت غيظه بجملته تلك، فعَمِد إلى معاقبتها بأسلوبه الخاص جدًا، منحها نظرة غامضة أربكتها مرددًا:

-معلم، وأحاسب ..

تأوهت بغتةً عندما سحبها أسفله، ليطبق عليها بكله وهو يكلمها بنبرة عبثية:

-لأ تعاليلي شوية، ده أنا دوخت السبع دوخات عشان أوصل للحظة دي.

عرفت "فيروزة" هذه النظرة العابثة المطلة من عينيه، تلك التي تلتهمها، وتُعيد تشكيلها بطريقة لا تعرف كيف تصبح فيها هائمة بفَلَكه الفسيح، حاولت الفرار من تهديده المغري، فقالت بلجلجةٍ ترجوه:

-استنى بس.

رمقها من عليائه قائلاً بنبرة لاهية أوحت بالكثير والكثير:

-ده أنا ورايا توريد لازم أراجعه صنف صنف معاكي ...

كركرت ضاحكة في ميوعة، واجتهدت لتنسل من تحته، لكنه بدد مقاومتها الدؤوبة بقبلاته الشغوفة، كان قادرًا على استخراج كافة مشاعرها المكبوتة، بنظرة عميقة من عينيه، بكلمة رقيقة من بين شفتيه، بمداعبة خبيرة من أصابع يديه، أتاها أول علامات ذوبانها الكلي مع ترديده المبطن بسحر البسيط من عباراته:

-وهبدأ بالتفاح الأحمر ................................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة