-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والستون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الحادى والستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والستون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والستون

 بدأ عبق الحب يفوح حقًا، ويملأ قلبه الهائم في رحاب هَواها، منذ اللحظة الأولى التي نطقت فيها بأنها تعشقه، ورغم صدمته المسرورة للغاية من اعترافها النزق بوقوعها في حبه، إلا أنه لم يتمكن من التعبير عن مدى فرحته العارمة بحقيقة إحساسها ناحيته إلا بصورة حسية، ملموسة، تترسخ في الوجدان، وتجعل الصخر يذوي أمام فيضانات المشاعر المتدفقة، كأنما حطت غيمات سحب محبوس عذب مائها على صحراءٍ قاحلة اشتاقت منذ أدهرٍ لما يروي عطشها.

لكن المفاجأة التي غطت على كل شيء، وجعلته لوهلةٍ عاجزًا عن التفكير أو الاستيعاب هو اكتشافه لمسـألة عذريتها، كيف يمكن أن تبقى هكذا بدون مساسٍ؟ ألم تعش لأشهر مع زوجها تحت سقفٍ واحد؟ أم تراه كان زاهدًا فيها؟ وكيف يزهد مثله بالظفر بمحاسن زواجه منها وهو على يقينٍ كامل برغبته فيها؟ هناك سر خطير بالأمر، سرٌ لا يعلم تفاصيله بعد، ربما كان السبب في انهيارها، في دفعها لحافة السقوط، في إغراقها وسط دوامات الألم والتعاسة، وبُغض الحياة، قبل أن تستعيد نفسها.

في أعماقه كان يشعر بالرضا الكبير، بالسرور العظيم، وبعوض المولى له، ومع ذلك لم يتجرأ وقتئذ على سؤالها، ليس خشية من المواجهة، أو الشك في أمرها، وإنما لطمعه في أن يحظى بكامل ثقتها، قبل أن تتطور علاقتهما المستجدة لما هو أعمق وأقوى، لذا عليه أن يصبر لبعض الوقت، وينتظر بلا تعجل، فيتخذ مكانه بدلاً من طبيبتها التي ناحت، وباحت، وراحت تحكي لها عن كامل أسرارها.

شعر بها وهي تتقلب على جانبيها، بالكاد غَشِيه النوم بعد غفلته العميقة قبل حمامهما الدافئ. على قدر المستطاع حافظ "تميم" على انتظام أنفاسه، ليبدو نائمًا وهي تتحرك بأريحيتها على الفراش، لئلا تشعر بالخجل، وتبتعد عنه، بعد أن تنعَّم بدفئها. امتدت ذراعه في حذرٍ نحو الكومود ليلتقط هاتفه المحمول، نظر إلى التوقيت، ما زال الوقت مبكرًا، همَّ بإعادته إلى موضعه الأول؛ لكنه شعر باهتزازة صغيرة، تعلن عن وصول رسالة نصية، تصلب قليلاً وهو يفتح ليقرأ محتواها، وجدها مرسلة من ابن خالته، فحرك شفتيه دون صوتٍ:

-لما تصحى من النوم كلمني ضروري.

بحدسه المستريب، أدرك وجود خطب ما، فسحب ذراعه بحرصٍ شديد، ونهض بلا صوتٍ من على طرف الفراش، ليسير على أطراف أصابعه متسللاً خارج الغرفة. أغلق الباب في هدوءٍ، ومشى بعيدًا ليهاتفه. بعد تحية سريعة، تساءل في صوت جاد وخفيض:

-في حاجة حصلت؟

أخبره "هيثم" دون تمهيدٍ:

-مرات عم "خليل" نفذوا فيها حكم الإعدام النهاردة الفجر.

بهتت ملامحه لحظيًا، ثم قال في أسفٍ:

-الله يرحمها، كل واحد بياخد جزاء أعماله.

تابع "هيثم" كلامه إليه بنفس النبرة الجافة:

-أنا قولت أعرفك عشان أنا موجود مع الجماعة، لأن بلغونا نستلم الجثة، وتصريح الدفن.

حك "تميم" مقدمة رأسه مرددًا في همسٍ:

-تمام.

أضاف أيضًا فيما بدا وكأنه تشدد طفيف:

-حماتي بتقولك كمان متجبش سيرة لمراتك إلا بعدين، مالوش لزوم تعكنن عليها وعليك.

رد في تبرمٍ:

-ربنا يسهل ..

سكت لحظيًا، وخاطبه وهو يلف في مكانه بحركاتٍ شبه عشوائية:

-عمومًا لو احتاجتوا لحاجة كلمني يا "هيثم".

رد عليه مؤكدًا:

-متقلقش، كله مقضي بأمر الله.

طلب منه "تميم" بنوعٍ من التعاطف:

-ابقى اطمن على عم "خليل"، وتابعوه.

علق عليه ببساطةٍ:

-ما احنا هنكون معاه اليومين دول.

استحسن رده، وقال:

-كويس.

اختتم "هيثم" مخابرته معه قائلاً:

-ماشي يا عريس قلقتك.

لم تتبدل نبرته الخافتة وهو يعقب منهيًا الاتصال كذلك:

-ولا يهمك، سلام.

أطلق "تميم" زفيرًا طويلاً، ليردد بعدها في إشفاقٍ:

-وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ .. ربنا يحسن ختامنا جميعًا

كان من الجيد بالنسبة إليه –ووفقًا لظروفه المستجدة- أن يتبع نصيحة "آمنة"، فلا داعي لإفساد صباحه الجميل بمثل تلك الأخبار التعسة، والتي حتمًا لن يكون مردودها محمودًا في بقية يومه.

.........................................................

على غير المتوقع، لم تأتِ، ولم تمر عليها، ولم تهاتفها حتى، كأنما تناست أمرها كليًا، ولأنها حادة الذكاء بطبعها في بعض الأمور، وشديدة الملاحظة في أمورٍ أخرى، كان من غير اليسير عليه أن يخدعها بسهولة؛ لكنه تحايل، وراوغ، وتحاور، واعتمد على الحظ في تسيير الظروف. مشطت "فيروزة" شعرها، وعقدت خصلاته معًا في ذيل حصانٍ، ثم التفتت –من مكانها على مقعد تسريحة المرآة- ناظرة إلى زوجها الممدد على الفراش تكلمه في استغرابٍ:

-أنا اتفاجئت إنها مشيت ومعدتش عليا، مع إنها مأكدالي ده من إمبارح.

وسَّد ذراعه خلف رأسه المستريح على عارضة السرير معللاً في هدوءٍ:

-جايز عشان تسيبنا على راحتنا.

ابتسمت وهي ترد:

-ممكن برضوه.

نهضت من مكانها، واتجهت إليه وهي تضم طرفي روبها الأحمر معًا لتغلقه، ثم جلست على الطرف الآخر من السرير، وتطلعت إليه وهو يواصل محادثتها:

-وبعدين "هيثم" موجود، يعني لو في حاجة حصلت هيتصرف.

بدت معالم الانزعاج تتسلل إلى محياها، ورددت في ريبةٍ تشعر بها تراودها في أعماقها:

-ربنا يستر، قلبي مش مطمن.

رمقها "تميم" بتلك النظرة المرحة وهو يمازحها:

-إنتي هتدوري على النكد من أول يوم، طب خلينا نقدم شوية في الجواز.

انقلبت تعابير وجهها إلى تجهمٍ شديد، وسألته بصيغة تحمل اللوم:

-يعني أنا نكدية؟

مال ناحيتها، ثم مد يده ليجذبها من ذراعها إليه، لتبدو أكثر قربًا منه، وقال باسمًا:

-لأ يا ستي أنا اللي بائس.

تبدد الوجوم، وحلت علامات الإشراق على وجهها مرة ثانية، أتبعها ضحكاتٍ قصيرة عالية، بعد بعض المداعبات والمغازلات الشقية، التي جعلتها تفيض حبًا وحنانًا، وتخرج عن طور التعاسة الملازم لها. اعتدل "تميم" في رقدته، وأمرها بودٍ وهو يشير إليها:

-تعالي.

استجابته له، فتبعته ناهضة من مكانها وهي تسأله بفضولٍ:

-هنروح فين؟

اتجه نحو الدولاب ليفتح الضلفة، وأجابها:

-مأجر يومين كده في شاليه، أهوو نغير جو، ونبقى على راحتنا أكتر.

رفعت حاجبها في دهشةٍ لا تخلو من إعجاب، ثم عقبت مبتسمة:

-ده إنت عامل ترتيبك لكل حاجة.

استدار ناحيتها، وقال متغزلاً، وهذه النظرة الناعمة تطل من عينيه:

-طبعًا، هو حد يبقى متجوز القمر ده كله، ومايدلعوش.

خفَّضت من ذراعها، لتضعه على منتصف خصرها، ثم خاطبته في دلالٍ:

-أنا هتغر في نفسي.

رمقها بتلك النظرة العميقة، قبل أن يؤيد كلامها بمزيدٍ من التملق اللذيذ:

-حقك، لو الطاووس متغرش، هايبقى مين تاني؟!

....................................................

كان شارد اللب، ساهم النظرات، تبدو في عينيه التعاسة جلية، كما تظهر عليه علامات الإعياء، والحزن. تحرك "خليل" مستندًا على عكازيه، بعد أن فُتح باب المنزل، ما إن بلغ أقرب أريكةٍ حتى ألقى بثقله عليها، تبعته شقيقته تواسيه وهي ترأف بحاله المهموم:

-دي مشيئة ربنا يا "خليل"، هي خدت جزائها.

لم ينظر إليها، بدا منفصلاً عمن حوله بذهنه، كان محدقًا في نقطة وهمية بالفراغ؛ كأنما مر على عقله شريطًا تسجيلاً –لا يراه سواه- يعرض عليه سنوات حياته مع زوجته الأولى، بكل ما فيها من حلوٍ ومُر، نزاع واتفاق، إلى أن وصل معها لمفترق الطرق. تنبه لصوت "همسة" وهي تردد في تعاطفٍ:

-معدتش يجوز فيها غير الرحمة دلوقتي يا ماما.

لم يطق البقاء ورأسه ممتلئ بعواصف أفكاره المتصارعة ومشاعره المتأرجحة ما بين لومٍ وحزن، وقهر وغيظ، تحامل على نفسه لينهض من أريكته، سألته "آمنة" في اهتمامٍ:

-خير يا خويا؟ عاوز حاجة أعملهالك.

استند مجددًا على عكازيه، وقال برأس مطأطأ في خزيٍ:

-سـ..يبوني لوحـ..دي شوية.

اعترضت على ذهابه قائلة بتوجسٍ:

-أسيبك وإنت في الحالة دي؟ خليك معانا.

رد بإصرارٍ:

-لأ.. أنـ..ا عاوز أفـ.ضل مع نفسي.

أشــارت لها "همسة" بالتوقف عن الضغط عليه، فهزت رأسها كتعبيرٍ عن تفهمها، ثم استطردت هاتفة على مضضٍ وهي تسير إلى جواره:

-حاضر يا خويا، ارتاح إنت ومتشغلش بالك بحاجة، المهم عندنا سلامتك.

تعلقت أنظار كلاً من "هيثم" و"همسة" عليهما، إلى أن غادرا محيطهما، فتساءلت الأخيرة في اهتمامٍ جاد:

-هنعمل إيه يا "هيثم"؟

تنهد سريعًا، وعقب وهو يدير سلسلة مفاتيحه في سبابته:

-خليكي معاهم النهاردة، وأنا هاخلص شغلي وأعدي عليكي آخر اليوم.

هزت رأسها متمتمة:

-طيب .. خلي بالك من نفسك.

التف متجهًا نحو الباب وهو يتابع كلامه إليها:

-حاضر، لو ناقصك حاجة كلميني أجيبهالك وأنا جاي.

تحركت خلفه مرددة بتهذيبٍ:

-ماشي يا حبيبي.

ودعته بابتسامةٍ لطيفة قبل أن تغلق الباب، ثم استدارت سائرة في اتجاه المطبخ بعد أن ألقت نظرة سريعة على "رقية" التي انشغلت باللعب مع دُميها. وقفت عند حوض غسل الصحون لتبدو قريبة من أمها، وهدهدت رضيعها متسائلة:

-بقولك يا ماما، أعرف "فيروزة" باللي حصل؟

أدارت الأخيرة رأسها ناحيتها ترد محتجة في تزمتٍ:

-لأ يا "همسة"، عاوزة تنكدي على أختك يوم صباحيتها؟ ده حتى يبقى فال وحش!

علقت بنبرة غير مبالية:

-هي مكانتش بتحبها من الأساس، فمظنش هتفرق معاها إن كانت "حمدية" عايشة ولا ميتة.

عبست "آمنة" بتعبيراتها قائلة في ضيقٍ:

-برضوه، خليها تتهنى مع عريسها يومين، مش كفاية معدتش عليها!

ضحكت بخفوتٍ، وقالت في عبثية:

-هي فايقلنا، تلاقيها غرقانة في العسل مع المعلم "تميم".

أنذرتها والدتها بإشارة صارمة من عينيها:

-بطلي نَبر، وتعالي نشوف هنعمل إيه في الأكل.

أومأت رأسها قائلة بطاعةٍ يشوبها القليل من الابتسام:

-حاضر، هنيم "خالودة" على السرير، وأجي أقف معاكي.

..................................................

لا يعرف ما الذي حدث رغم قيادته الحذرة على الطريق؛ لكنه شعر باضطراب حركة السيارة الاعتيادية بشكل دعاه للانتباه، ومن ثمَّ سماعه لصوتٍ غير مريح أقلقه للغاية، ليلاحظ بعدها وجود عطبٌ ما بالإطار الأمامي، فاضطر أن يتوقف على الجانب، وقام بتبديله. ظلت "فيروزة" باقية في السيارة، نزولاً عند طلب زوجها بملازمة مكانها إلى أن ينتهي من مهمته الطارئة، اشرأبت بعنقها محاولة رؤيته، ثم سألته:

-إيه الأخبار؟

نهض واقفًا، ومسح بخرقةٍ قديمة يديه، قبل أن يجاوبها بأنفاسٍ إلى حدٍ ما لاهثة:

-خلاص، بدلت الفردة النايمة بالاستبن.

استحسنت صنيعه، وعقبت:

-كويس إنها جت على أد كده.

هز رأسه قائلاً:

-الحمدلله، قضا أخف من قضا.

راقبته بنظراتها المهتمة، وهو يحمل الإطار المستبدل، ويضعه في صندوق السيارة، قبل أن يسحب زجاجة مياه يحتفظ بها كذلك بالصندوق ليغسل بها يديه. أغلقه ثم سار نحو المقدمة، واستقر إلى جوارها مرددًا:

-نتوكل على الله.

وضعت يدها على كتفه تضغط عليه في رفقٍ، لتوصيه بعدها بابتسامةٍ رقيقة:

-سوق على مهلك، خلينا نوصل بالسلامة.

ربت "تميم" على يدها الحانية، وأسبل ناظريه ناحيتها، ليرمقها بنظرة شغوفة، تواقة، مشتاقة، ثم استطرد هاتفًا في سرورٍ ينعش ثنايا القلب:

-عينيا.

................................................

أسكره حبها حد الثمالة، فحجب عنه ما سواها، وأسقطه في هوة الولع الشديد بها، تلك الهوة التي لا يريد الخروج منها ما عاش من عمره! وقف كلاهما يستندان إلى حافة الشرفة الفسيحة التي تقع في الدور الثاني من المصيف المستأجر، بحيث يتمكن الرائي من مشاهدة البحر وشاطئه الرملي دون عوائق. أراحت "فيروزة" مرفقيها على السور، وقالت بعد شهيق عميق معبأ برائحة البحر، ملأت به صدرها:

-حلو المكان، والمنظر من هنا تحفة.

امتدت ذراعه لتحاوط خصرها في رفقٍ، ونظر إليها ملء عينيه هاتفًا:

-الصراحة الحتة دي كنز للي يقدرها ...

اجتذبها إليه في تؤدةٍ، لتصبح ملاصقة لصدره، ثم شدد من ضمه لها، وبدأ في مغازلتها هامسًا بالقرب من أذنها:

-بس بقت أحلى وإنتي فيها.

ارتعش قلبها، وتلبكت وهي تتخيل ما يمكن أن يفعله معها وسط تأثير تلك الطبيعة الخلابة، تسربت حمرة طفيفة إلى وجنتيها، وجاهدت ألا تنظر ناحيته، ليظل بصرها معلقًا بالأمواج الهادئة. كأنما قرأ ما دار في خلدها من جموحٍ عابر، فبادر بتنفيذ ما تمنته في أحلامها، على طريقته المغرية. تأويهة ناعمة انفلت من بين شفتيها، وهو يمرر يده على خدها كأنما يدغدغه بلمساتٍ محفزة، حاولت الانسلال من حضنه المغري؛ لكنها كانت محاصرة بين جسده، وبين سور الشرفة، همست إليه بصوتٍ كان أقرب إلى الإغواء عن الرجاء:

-"تميم".

أتاها صوته خافتًا، عميقًا، ومؤثرًا بقوة على خلايا الحسية، والشعورية:

-عيون "تميم".

أطبقت على جفنيها، وتركت للخيال المحض الفرصة لمعايشة ما يفعله بكامل الوجدان، والإحساس، أخرجتها قبلاته الخبيرة من حالة الإدراك، ودفعتها نحو متاهات العشق، فتاهت الأحرف، وتبخرت العبارات، لتغيب في مزيج مشوق من العواطف الجياشة، كان كل جزءٍ فيها يناديه، يبتغيه، يريد منه المزيد، سحبها معه بهوادةٍ نحو الداخل، بعيدًا عن الأعين المتلصصة، وراح يغرقها بأضعاف ما حظيت من قبلات، كل واحدة منها توقد الكامن فيها من رغبة وتوق. بالكاد توقف "تميم" عن إكمال نوبة الحب التي أشرق معها القلب، وابتهجت بها الروح ليقول بصوتٍ لاهث:

-بحبك.

شاركته نفس المشاعر، فهمست:

-وأنا محبتش زيك.

مع عفوية اعترافها المتكرر، أيقن أن أسعد لحظات حياته ما زالت في الانتظار، ويا له من محظوظ لينال مكافأة صبره بعشقها! التف ذراعاه حولها، فشعرت بقوة ضمته المتملكة تأسرها، تخطفها، وتنقلها إلى هذا العالم الجديد كليًا عليها، توقف مرغمًا عن نيل مآربه منها حين سألته:

-هناكل إيه؟

قال في شيءٍ من الجدية وهو يرخي ذراعيه عنها:

-بصي .. أنا هنزل أجيب أكلك، وإنتي ارتاحي شوية، مش هتأخر عليكي.

هزت رأسها مرددة وهي تتحرر من حصاره:

-أوكي.

لم يترك يدها، بل جذبها مرة واحدة ناحيته لترتطم بصدره، فتحيط بها ذراعه الآخر، ليقول في عذوبة، وعيناه تجريان على صفحة وجهها:

-هتوحشيني الشوية دول.

ضحكت في ميوعةٍ عفوية، قبل أن تعلق وهي تضربه ضربة خفيفة على صدره بقبضتها المضمومة:

-ماتبقاش بكاش.

عقد حاجبيه مرددًا:

-بكاش!

حركت "فيروزة" شفتيها لترد؛ لكنه كان الأسبق في لثمهما بخاصته، ليعطيها قبلة مولعة، شغوفة، ذات تأثيرٍ أقوى وأعمق عليها، التقطت أنفاسها بصعوبة، ونظرت إليه من بين أهدابها المسبلة لتسمعه يردد:

-ده أنا صبرت صبر محدش صبره، عشان في الآخر ربنا يكرمني بيكي.

وكأن في عبارته لومًا مستترًا، فراحت تسأله في استغرابٍ مستنكر:

-وأنا كنت فين من ده كله؟ إزاي مخدتش بالي؟

قال ويداه تمسدان ظهرها في نعومةٍ ورفق:

-مكانش ينفع أقول حاجة من غير ما أكون متطمن إنك عاوزاني.

امتلأت نظراتها بالندم الواضح، فتابع متسائلاً في ترقبٍ:

-بس يا ترى كنتي حاسة بيا؟

أسبلت لؤلؤتيها لتجاوبه بعد صمتٍ مدروس، وبابتسامة ناعمة تزين شفتيها:

-كنت شاكة، حاسة بحاجات، وتلميحات، وكدبت نفسي، قولت احتمال تكون أوهام.

شعر بالنشوة لسماعه مثل تلك الاعترافات العفوية، وتساءل متشوقًا:

-ودلوقتي؟

شبت على أطراف أصابعه لتغدو أكثر طولاً، ثم لفت ذراعيها حول عنقه، وتعلقت به، منحته تلك النظرة اللعوب، المصحوبة ببسمةٍ ضحوك وهي تخبره في عبثية:

-ندمانة إني ضيعت الوقت اللي فات ده كله من غير ما نكون سوا.

كأنما أوقدت جمرات الحب، وأوصلتها في التو لأوج اشتعالها بهذه العبارة المفعمة بكل ما كان يرجو سماعه، أقبل عليها يُقبلها في شغفٍ، وهو يهمس مُجَدِّدًا اعترافه:

-بعشقك.

بادلته الاعتراف بآخر ضاعف من توهج مشاعره:

-وأنا بحبك أوي.

أرجع رأسه للخلف مهللاً في ابتهاجٍ عظيم:

-الله!

عاود التحديق في عمق عينيها الساحرتين، وتكلم في لوعة وشوق:

-ياما كان نفسي أسمع الكلمة دي منك، ومن قبل ما أسمعها، إنك تحسيها.

للحظاتٍ معدودات غابا مرة ثانية في آفاقِ سماء الحب التي تظللهما، بصعوبةٍ واضحة عليه، تراجع "تميم" عنها ملتقطًا أنفاسه وهو يهمس لها بنبرة موحية:

-شوفي أنا لو فضلت كده، مش نازل، ولا طالع، ولا رايح في حتة.

علقت في دلال الفتاة العاشقة للحب وتبعاته:

-وأنا عاوزاك جمبي.

سحبها إلى أعتاب موجة عاصفة مزلزلة للكيان، تجاذبا، تقاربا، تداعبا، تلاطفا، تعمقا، إلى أن غاصا فيها بكل ما اندفع في جسديهما من طاقاتٍ متواترة، ومتزايدة، فجرت كل خلاياهما بالرغبة والتوق، لتجعلهما في الأخير يحظيان بذكرى أخرى جديدة لن تنسى بينهما.

...............................................

استلقت باسترخاء على الأريكة المنبسطة الموضوعة في الشرفة، رافضة تناول المزيد من الطعام، بعد أن امتلأت معدتها بالشهي اللذيذ منه. تمنعت حين امتدت يد "تميم" لإطعامها بلقيمة أخرى، ورفضت بتهذيبٍ وهي تبعد رأسها عن أصابعه:

-والله شبعت، مش قادرة خالص.

قال في تصميم، وهو يرمقها بتلك النظرة الحنون:

-عشان خاطري، الحتة دي وبس.

أشارت "فيروزة" إلى بطنها المنتفخ، وقالت ممازحة:

-أنا طلعلي كرش خلاص.

ابتسم معلقًا في غير اكتراث:

-ما يطلع ويبقلل، إيه يعني؟

أشارت بيدها معترضة في لطفٍ:

-لأ برضوه، أنا أحب أحافظ على وزني.

لم تفتر ابتسامته وهو يخبرها بصدقٍ، بكلمات نفذت في التو إلى أعماق قلبها:

-وأنا حابك في كل حالاتك.

حانت منها نظرة دافئة إليه يغلفها التوق، وردت وهي تميل برأسها ناحيته لتتناول من يده ما يقدمه لها:

-ربنا يقدرني وأسعدك.

جعلها تقطم جزءًا صغيرًا مما في يده، وتناول البقية وهو يضحك باستمتاعٍ، لتشاركه الضحك هي الأخرى مبدية تمتعها بمداعباته الشقية قبل أن تتطلع مرة أخرى إلى الشاطئ. في هذه اللحظة تحديدًا، أراد "تميم" بشدة رفع حاجز الحذر بينهما، والاسترسال بلا قيودٍ أو معوقات، سحب نفسًا عميقًا لفظه على مهل، ثم استهل كلامه مناديًا في عذوبة:

-"فيروزة".

استدارت بوجهها المبتسم تجاهه، وردت:

-نعم.

لم يطرف بعينيه وهو يُحادثها بهدوءٍ:

-ممكن أسألك على حاجة.

بدت متحمسة لسماعه حين قالت:

-اتفضل.

تنحنح هاتفًا بمزيدٍ من الاحتراز:

-هي حاجة محيراني شوية ...

رمقته بنظرة ذكية متشككة قبل أن تتشجع للتوضيح في صيغة متسائلة:

-بخصوص إمبارح؟

بترقبٍ يحاوطه المزيد من الحيطة أوجز في رده:

-أيوه.

انتظر منها أن تتابع الحديث، وركز كل بصره عليها يتابع أدنى تغيير في ملامحها، وحدث ما ظنه، حيث بدأت بسمتها النضرة تذبل قليلاً، وحتى نظراتها ساد فيها حزنًا غريبًا. انتقى بعنايةٍ كلماته وهو يستطرد متسائلاً:

-هو الـ ... المرحوم مقربش منك؟

وكأن غضب الدنيا قد تجمع في عينيها وهي تقاوم اندفاع الذكرى المشؤومة إلى عقلها، هتفت في حرقة رافضة حتى الدعاء له بالرحمة:

-الله ينتقم منه، ويحاسبه على كل اللي عمله فيا، كان السبب الأساسي في انتكاستي.

لم يضغط عليها ليحصل منها على المزيد من المعلومات، بل انتقل من موضعه ليجلس بجوارها، مسح بيده على جانب ذراعها، وقال في صوتٍ اخشوشن قليلاً، وحمل بين طياته الوعيد:

-أه لو كان لسه حي، مكونتش سيبته للحظة يعيش فيها بعد ما أذاكي، الموت خلصه من اللي كان هيشوفه على إيدي.

خنقت "فيروزة" غصة مؤلمة أصابت حلقها، وتابعت بحدقتين اجتمعت فيهما العبرات المتأثرة:

-هو كان عنده عِلة، طلعها فيا، بحيث يداري على عيبه، ويا ريته اكتفى بكده ده كان ...

عجزت عن ضبط انفعالاتها الثائرة على إثر ما اقتحم مخيلتها من آثار وجيعته، فانفجرت باكية بشكلٍ هيستري وهي تستعيد ذكرياتٍ أخرى أشد إيلامًا على روحها، شعر "تميم" بالندم على تطرقه لهذا الأمر، وجذبها بحنوٍ نحو صدره ليحتويها بذراعيه، ترفق في ضمها، وراح يقبل جبينها معتذرًا في أسفٍ:

-حقك عليا، خلاص اهدي، كله ده انتهى.

بكت على صدره قائلة بصوتها يملأوه الشجن:

-"تميم"، أنا معاك ببدأ صفحة جديدة من حياتي، مش عاوزة أفتكر الماضي، أنا مصدقت عديته.

أراح الموت "آسر" من بطش شرير لا يعلمه سوى الله، زاد "تميم" من قوة ضمه لها، وكرر اعتذاره النادم:

-أنا محقوقلك، مكانش قصدي أفكرك.

بقيت لبرهة في أحضانه، تلملم شتاتها الذي تبعثر، إلى أن سكنت تمامًا، وهدأت أنفاسها المنفعلة، أبعدها عنه قليلاً دون أن يحررها، نظر إلى وجهها المبتل، ورفع يده نحو بشرتها يزيح عبراتها الساخنة عن وجنتيها قائلاً بابتسامةٍ غير واثقة:

-خلاص بقى، مش عاوزين نبوظ الأعدة الحلوة دي.

هزت رأسها توافقه الرأي، فاقترح بوجهٍ حاول جعله هادئ التعبيرات ليخفي ورائه ما استعر في قلبه من غضبٍ مبرر، لعجزه آنذاك عن درأ مصائب ذلك الوضيع عنها:

-إيه رأيك ننزل نتمشى شوية على البحر؟

حركت كتفيها مرددة في تحيرٍ:

-مش عارفة.

أصر عليها بلطفٍ:

-الجو حلو، وحرام نضيع الفرصة دي.

لم تبدُ في حالة مزاجية تسمح لها بالتجول؛ لكنه جعل الرفض خيارًا مستبعدًا بمنحها قبلة رقيقة على خدها وهو يطلب منها:

-عشان خاطري.

أزاحت "فيروزة" بظهر كفها العالق في أهدابها من دموعٍ تشوش رؤيتها، وأبدت قبولها بإيماءة صغيرة من رأسها، لانت تعابيره العابسة إلى حدٍ كبير، وأضاءت نظراته مع بسمتها الخفيفة .. أعاد "تميم" جذبها لأحضانه، فاستراحت برأسها على صدره، شعرت بالدفء يغمرها مرة أخرى، لتستعيد بهوادةٍ مرحها مع قدرته العجيبة على تطييب جراحها غير الظاهرة، فقد كان محترفًا بطريقة خاصة –للغاية- في ذلك الأمر، بل وله أسلوبه الشهي المثير في إعادة القلب لإشراقه، واستعادة الروح لابتهاجها ............................................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الحادى والستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة