-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية عصفورة تحدت صقراً بقلم فاطمة رزق - الفصل الرابع والأربعون

مرحبا بكم متابعين قصص 26 موعدنا في قسم روايات رومانسية كاملة والكاتبة فاطمة رزق والفصل الرابع والأربعون برواية عصفوره تحدت صقراً 

وَعَـىَ على مُر الحياهِ ، حين إِصطَدم بواقِعِــهِ .. فنشأَ على كُره حــواءَ ، فلم تكن يوما منزلُــهُ .. وبنفورِهِ جعلَ الجواري تَشتهى قُربَــهُ .. فعُزِزَ الغُــرور في نفسهِ ، بأنُ لا مِثل لـهُ .. فأتتْ هي قبل أن ينخدِعَ بِظَنــهِ .. لتُريهُ مدى ضآلة حجمــهِ .. فليست من الجــَواري، ولا أَمـه يروق لها منزلــُه .. هي سيـدةٌ فى قصرٍ من الحيــاءِ تزينت جُدرانُـهُ .. هي سيـدةُ حسنـاءٌ ، تملك من الكـِبْرِياءِ ما تَكبَح بـِهِ غـرورَهُ .. فقطعَ العهــودَ والمواثيــقَ على نفســهِ .. بأن أيامها القادمــةُ ستكونُ داخلَ جحيمــهِ .. ولِتـَـرى ابنه حــواء ذاك الذي قَـللتْ من شأنِــهِ .. كيف يَسوقهـا إلى هاويةِ الهـلاكِ بنفسـهِ ..! هل ستقاوم سَبيـهُ ، أَم هل ترضـخُ لــهُ ؟ هل ستعيش حبيسَــةً ، أَم سيُجّــلِي قَيــّدَهُ ؟ اللي مشفش الفصل الرابع يقدر يشوفه من هنا رواية عصفوره تحدت صقراً "الفصل الثالث والأربعون"

روايات رومانسية كاملة | رواية عصفوره تحدت صقراً "الفصل الرابع والأربعون"

عصفوره تحدت صقراً

الفصل الرابع والأربعون

أمام ذاك البحر الهائج، وتلك الأمواج العاتية، وبين اختلاط أصوت الهدير مع تلاطم الأمواج، هناك تلك الواقفة بثبات. تنظر بجمود له وكأنه منجاة، منجاة من الوحدة والألم، منجاة من المواساة. تجذب الرياح شعرها بلطف بين الحين والآخر، فيتطاير للخلف أو يهتاج.

أخذت نفسًا عميقًا من نسيم البحر المنعش، وأغمضت عينيها لتحظى ببعض السكينة التي فارقتها منذ زمن. وبإبتسامة باهتة تحسست بطنها المنتفخة، ثم نظرت للبحر بوجوم وبدأت تتحدث بالأجنبية، وإليكم الترجمة:

-ولدي العزيز، أنت امتزاج بيني وبين رجلٍ أكرهه، ومع ذلك لم أستطع أن أكرهك وأنبذك مثلما فعلت مع والدك، ربما لأن نصفك الآخر مني، أو لأنك داخلي أنا!

نظرت للأمام بشرود، وتابعت وأنظارها متعلقة بإحدى الموجات الضخمة:

-سألت نفسي مرارًا، لما لم أتخلص منك،لكني لم أجد الجواب، أنا أحبك، وأكرهك في آنٍ واحد، ولأجل حبي لك احتفظت بك، ولأجل كرهي لك، أظل ألوم نفسي على احتفاظي بك.

أريدك أن تعلم أني لست شريرة أو تلك المتسلطة عديمة الرحمة، أنا فقط صرت أفتقد المشاعر. لقد فقدتها وصار عندي القليل فقط لأحيَ به، أصبح لدي فتور تجاه كل شيء.

صمتت قليلاً قبل أن تنظر لموضع يديها فجأة وتقول بهدوء:

-أتصدك! أمك التي كانت تخشى قطف فرع من غصن عتيق، صارت الآن ترمي بالقلوب عرض الحائط ولا تشعر بأي تأنيب للضمير!

بلى، لا أزال أتذكره حتى الآن وهو يترجاني أن أغير رأيي، أن أعطف عليه بفرصة واحدة لكنني رفضت ووضعت الحساب على المائدة ورحلت، وأيضًا لا أشعر بالذنب!

اختفت ابتسامتها تمامًا، وظهر العبوس والقتامة على وجهها وهي تتابع حديثها بجمود:

-ليس ذنبي، لقد صنع مني ذاك المتجبر مسخًا، يسير على القلوب المسكينة فيحطمها تحطيمًا.

خفت حدة ملامح وجهها تدريجيًا وهي تقول:

-ربما أنت من ستشعرني بالتحسن، فكلما تخيلت قدومك شعرت بالسعادة التي لا أفهمها.. أتعلم؟ أتمنى ألا تكون ولدًا، أتمنى ألا تكون إلا أنثى رقيقة تحب الجميع، مثلي في الصغر. زهرة في فصل الربيع تأخذ بتلاتها اللون الوردي. فهلا تكون أنثى وتحقق لأمك ما ترجوه!

-أو يكون رجلاً شديد الحنان كعيني والدته، وليس كأبيه!

أخرجها هذ الصوت من شرودها، فالتفتت سريعًا لتنظر لقائل تلك العبارة، وما إن رأته حتى سألته بحمرة الغضب:

-إنت مين، و..و واقف هنا من إمت؟!

نظر لها الرجل باسمًا، ليجيبها بعدها بهدوء:

-أنا لؤي، وأكيد انتي متعرفينيش، أما واقف هنا من إمت.. فصراحة واقف من ساعة ما بدأتي الكلام مع نفسك ومع ابنك!

زاد وجهها غضبًا وشراسة وسألته بانفعال:

-طب أنا بكلم نفسي، إنت إيه دخلك؟!

ببرودٍ أجابها:

-فكرت إن إحنا لما بنكلم نفسنا، بنسمع نفسنا بس مش إللي حوالينا.

أخذت نفسًا عميقًا لتحاول السيطرة على هدوئها، فمعنى أنه أجابها بنفس اللغة، أنه فهم كل حرفٍ نطقته. وعلى الرغم من ذلك بذلت مجهودًا لتجيبه بصوتٍ أقل حدة:

-وإنت عاوز إيه!

رفع حاجباه للأعلى وسألها متهكمًا:

-لأ، إنتي فهمتيني غلط، أنا جاي أشم هوا، مش أعوز من حد حاجة، وأنا حبيت المكان هنا جدًا، ووقفت فيه، ومش ذنبي إنك اتدايقتي إني سمعتك!

نظرت له بضيق، ومادت تستير لتذهب، إلا أنه أردف يستفزها وهو ينظر للبحر:

-أنا فكرتك هتفضلي لحد ما تمشيني!

فأدارت هي وجهها لتنظر له، في حين تابع هو باسمًا:

-القاعدة الأولى في الحياة دي، لازم تكون قوي عشان تعرف تعدي.

تابعت النظر له باهتمام لما يقول، وأكمل هو بنفس الإبتسامة الخفيفة:

-دة مكانك، وأنا أخدته، مفيش رد فعل؟!

فاجأته بردها البارد:

-آجي أضربك مثلاً!

هز رأسه نافيًا مرتين، ثم اقترب منها ثلاث خطوات، فبذلت هي كل ما لديها من جهد لكي تظل ثابتة، لكنها لم تقدر، فتراجعت ضعف الخطوات، حينها استمر هو بالتقدم، وهي بالسير للخلف، إلى أن دخلت قدمها داخل حفرة من الرمال، فوقعت، حينها تقدم هو حتى وقف أمامها، وسرعان ما جثى على ركبتيه ليصير في نفس مستواها، فنظرت هي له برعب، وكادت تزحف للخلف لكنه أمسك فكها بإصبعين وشعر بها وهي ترتجف، فبدأ يتحدث بنفس الهدوء:

-مش بس نظهر القوة دي، لأ لازم نبقى أقوية من جوا بجد.

تركها هو حينها، ثم تابع بتهكم:

-تحبي أصورلك نفسك الوقت، وأوريكي إنتي خايفة مني ازاي!

لمعت عيناها بالدموع، ونظرت للرمال أسفلها بأسف، فهي بالفعل برغم تلك الشجاعة التي تدعيها، إلا أنها جبانة لا تقوى على حماية نفسها.

رفعت بصرها لتنظر له، فلم تجده، وقفت سريعًا وظلت تبحث عنه بنظرها في كل مكان، لكنها لم تبصره. وحين يئست، سارت حتى وصلت إلى سيارتها، ثم اشتقلتها وذهبت.
.................

كان مستند الظهر على تلك الشجرة، تلك الشجرة التي حملت الكثير من المشاعر المتناقضة في الأيام السابقة. كان حزين الوجه ينظر بوجوم لكل ما حوله، وعيناه تلمعان ببريق الألم.

لقد كُشف كل شيءٍ، وأصبح هو في نظره الأب الفاسد الكريه.

لم يفعل ما فعله إلا لأجله، فهو يحبه.. لا بل يعشقه ولا يستطيع رؤيته يتألم من حقيقة الأمر.

كيف كان يريده أن يخبره أنه هو والده الحقيقي! كيف يستطيع اخباره أن من يكرهها هو كانت حبيبته وكادت أن تصبح زوجته لولا تخليها الظالم عنه!

وكيف كان ليخبره أنه ابن غير شرعي! كيف، كــيف..؟!

وضع يده بين خصلات شعره بانفعال، وكل ما يسيطر على تفكيره، كيف سيسامحه ولده؟

وقف فجأة وأسرع في خطاه نحو الخارج، قاصدًا سيارته، ثم ركبها، وقادها سريعًا نحو الأمام.

بعد مدة من الزمن، توقف أمام منزل عتيق، برغم تصميمه الفريد من الخارج، إلا أنه يحمل لمحة من الماضي. ترجل هو من السيارة بعد أن أخرج مفتاحًا فضيًا من درج السيارة، ثم سار نحو البوابة وقد بدأ سيلٌ من الذكريات المطوية تلاحقه، وصوتها ينفذ من خلال أذنه وهي تقول:

-أنا حياتي في مذكراتي، أنا لو مكتبتش يوميًا ممكن أموت.

ثم تكرر الجملة من جديد "أنا حياتي في مذكراتي" "أنا حياتي في مذكراتي" "أنا حياتي في مذكراتي"..

هذه الكلمات هي ما قالتها له في حلمه في الأيام السابقة، فقد كان يحلم بها باستمرار وهي تردد بهدوء تلك الكلمات.

أسرع أكثر حتى وصل إلى باب المنزل، فتحه بارتجال وكاد أن يلج للداخل، إلا أن رائحةً الذكريات تسللت إليه، حاول نفض جميع الأفكار عن عقله، ثم أغلق الباب خلفه، وفتح الضوء. وها هو المنزل الذي منع نفسه طويلاً من زيارته، هو فيه الآن، وينظر في كل ركن من أجزائه المشبعة بالذكريات.

أخذ نفسًا عميقًا، وسار قدمًا نحو الغرفة المواجة له، ثم بدأ يبحث بين الأرفف وتحت الوسائد، وحتى وفي كل أنحاء الغرفة، وحين لم يجد شيئًا، وبدأ يهده التعب، جلس متهالكًا وهو يحدث نفسه بحزن:

-مش معقولة، هتكون حطاها فين يعني، وبعدين دي كل يوم تجيلي في الحلم.

زفر بضيق، وقرر أن يبحث في الخارج، ثم وقف وكاد يسير إلا أنه تذكر شيئًا، فاستدار سريعًا إلى السرير، وبدأ بسحب المرتبة بكل ما يملك من قوة، حتى أوقعها أرضًا. ثم بدأ يزيل الألواح الخشبية واحدًا تلو الآخر، حتى إذا ما نزعها جميعًا، ظل ينظر جيدًا بداخله، فشعر بخيبة الأمل حين لم يجد شيئًا، لكنه مالبث أن تحول إلى بارقة أملٍ حينما وجد ذلك الدفتر الوردي مخفي ومستندًا على ظهر السرير لكي لا يراه أحد. وبدون أدنى تفكير، أمسك بذاك الدفتر، ونفض بعض الغبار الذي تراكم فوقه، بيفتحه سريعًا بدون حتى أن يفكر.
قصص رومانسية | حب لايجوز شرعا "الفصل التاسع عشر " عشق ورومانسية بدون وجه حق

حل المساء، وها قد انتهى توًا من صلاته، نعم، فهو يصلي منذ أكثر من ثلاث ساعات، ثلاث ساعات استشعر فيها كم الذنوب التي ارتكبها في حياته، ثلاث ساعات حاول أن يتوب فيها، أحيانًا قد نتعلق بشخصٍ من أول مرة نراه فيها، ما بالك بربٍ عفو كريم استشعر لذة عبادته فقط في هذه الساعات الثلاث، وتعلق قلبه به كما لم يتعلق من قبل.

لقد تركت له مصحفًا، وورقة دونت له فيها كيفية الصلاة، وبسمة رقيقة تجلت على محياها قبل الذهاب، لقد تركت له الحبل ليصعد من الهوة الساقط هو فيها.

استند على السرير خلفه وهو ينظر للأعلى بشرود. ود لو ذهب وشكرها فقد تحسن كثيرًا، تحسن لدرجة أنه بدأ يرى الأمر بطريقة أقل حدة وألمًا. وما لبث أن انتصب واقفًا، ممسكًا بالمصحف الشريف بين يديه، ثم سار مبتعدًا عن فراشه، وأرض غرفته.

ظل يسير في الرواق حتى وصل إلى غرفتها، وكاد أن يطرق الباب إلا أنه لاحظ ظلام الغرفة. لحظات تردد فيها أيلج للغرفة أم لا! ولكن سرعان ما اتخذ قراره وفتح الباب بهدوء، وكما توقع وجدها نائمة، دلف عليها ثم أغلق الباب خلفه بحرص، ودنى منها.

كانت نائمة في بداية الفراش، وقد تركت شعرها الأسود ليحل محل غطاء الوسادة، يا إلهي حتى وهي نائمة لا تشبه الملائكة أبدًا، بل لها هيبة وغموض يغلف ملامحها حتى أثناء نومها. ابتسم لها برفقٍ ثم جلس على الفراش بجانبها، ومسح برفق على شعرها، ثم تحدث بخفوت شديد:

-على فكرة، أنا بقيت أحسن من الصبح.

صمت لبعض الوقت وهو يتابع سكونها، وانتظام انفاسها، ثم تابع هامسًا بهدوء:

-تعرفي، مهما حاولتي تتظاهري بالقسوة مش هتعرفي، أو ممكن تعرفي بس مش عليا أنا.

مسد على شعرها بابتسامة حانية وهو يكمل:

-عارفة ليه إنتي مختلفة في نظري يا جويرية، عشان مبتخافيش، بتقولي الحق دايمًا ومش بتخافي من النتايج، صريحة ومبتلفيش، قوية، والأهم من كل دة إني اتعلقت بيكي من يوم ما شوفتك، حتى لما كنت بحلم، كنت بحلم بيكي، ولحد الوقت مش مصدق إني اتعلقت بيكي كل دة في الوقت دة بس!

استلقى على الفراش قليلاً معدلاً من جلسته، ثم أمسك يدها الموضوعة على الوسادة بجانبها وشبك أصابعه بأصابعها وهو ما يزال يربت على شعرها باليد الأخرى. ثم حاول نفض كل الأفكار عن رأسه حول ماضيه وحاضره ومستقبله، وحول كل ما يضايقه، ليقول فجأة بغموض:

-صح أنا معرفش إنتي ولا مرة فاتحتيني بموضوع جوازنا، وواثق إنك بتخططي لحاجة، بس قسمًا بالله أفكارك لو ودتك بعيد عني.

صمت قليلاً وهو يغمض عيناه، ويتابع بهدوء بعدها:

-هودي أفكاري قريب منك.

ظل ينظر لها صامتًا لدقائق طوال، حتى لم يعد يشعر بنفسه وأغلق عيناه ليغفوا بجانبها.

..............

اللهُ أَكبَرُ اللهُ أكبَرُ. أشْهدُ ألاَّ إِلاهَ إِلا اللهُ أشْهدُ ألاَّ إِلاهَ إِلا اللهُ...
فتحت عينيها على صوت أذان الفجر، وكادت أن تقوم من على الفراش إلا أنها لاحظت شيئًا غريبًا. رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد مما تراه، أهو حقًا نائمٌ بجانبها الآن!، رفعت حاجباها بدهشة وتساءلت مع نفسها بخفوت:

-دة إجى إمت دة؟!

حاولت أن تقوم من جديد، لكنها وجدت إحدى يديه فوق شعرها، والأخرى ممسكة بيدها، متخللة أصابعها بإحكام. ظلت تنظر له بدهشة، وتابعت مردفة بهدوء:

-يعني أنا لو ههرب يا صهيب أكيد مش ههرب دلوقت!

ثم تبعتها بضحكة خافتة على طريقتها التحليلية، وبحذر نزعت يده من على شعرها، والأخرى من بين يديها، ثم نزلت من على الفراش بهدوء شديد.

دلفت إلى الحمام، وتوضأت، ثم ارتدت عباءتها واتخذت القبلة وبدأت تصلي.

وما هي إلا لحظات، واستيقظ هو الآخر، فتح عينيه فوجد نفسه في غرفتها، ولم يجدها بجانبه، فلام نفسه على نومه المفاجئ بجانبها، فهو لم يدرِ بنفسه وهو يغفوا ممسكًا بيدها.

اعتدل جليسًا ليتفاجأ بها أمامه تصلي، وفي نفس الوقت سمع صوت إقامة صلاة الفجر، فنزل هو الآخر واتجه للحمام، ثم توضأ، وسار حتى وقف في مكان بعيدٍ عنها، وبدأ يصلي، بعد أن تذكر عدد ركعات هذا الفرض،

أنهت هي صلاتها قبله، ثم بدأت تخلع حجابها، وعباءتها وهي تنظر له باسمة بهدوء، فهي لم تنوِ إيقاظه حتى لا يمل من العبادة سريعًا، لكن بعد أن استيقظ هو بنفسه أشعرها حقًا بالسعادة. ذهبت نحو الفراش ثم استلقت عليه، وهي ما تزال تنظر له، حتى أنهى صلاته هو الآخر، حينها نظر لها هو أيضًا وهو يحاول أن يستشف ما بها، لكن تعابيرها لم تظهرشيئًا، الشيء الذي دعاه للحديث متسائلاً بهدوء:

-صح كدة؟

لم تدرِ بنفسها وهي تبتسم له تلقائيًا وتجيبه بنفس الهدوء:

-صح.

وقف حينها واقترب منها وهو يردف ببساطة:

-طب اتاخري

رفعت حاجباها سارخة وهي تسأله بتهكم:

-ودة من إيه!

بنفس بساطة عباراته، أخذ هو الجزء الأيسر من الفراش، ورد عليها ببرود:

-من بعض ما عندكم.

هزت رأسها للجانبين بيأس منه، ثم أدارت نفسها للجانب الآخر، فالأمر ليس بالمعقد، بسيطة إن أراد أن ينام هنا، فهي تعرفه جيدًا، صهيب لن يقترب منها إلا إن سمحت هي له، وطالما أنه لن يسبب لها الإزعاج فلا ضير إن أراد أن ينام هنا. وقبل أن تغمض عينيها قالت محذرة:

-لو حتى بس جة في تفكيرك بس انك تشخر، هتصحى تلاقي نفسك في الشارع.

أجابها بإستفزاز:

-أنا برضوه اللي بشخر!

قاومت رغبتها في قتله بصعوبة، وكأنه نعتها بسباب لاذع للتو، ثم ردت بهدوء غريب:

-لأ أنا.

ابتسم لنفسه فهي أهدأ من الهدوء وهي يقظة فما باله وهي نائمة، حتى أنه لا يسمع صوت أنفاسها!

لكنه صمت قليلاً، وهو ينظر لها وهي توليه ظهرها. وأغمض عينيه لينام بعدها.

خمس ثوان فقط، وفتح عينيه من جديد، ليسألها بهدوء وترقب:

-جويرية، هو إنتي وافقتي نتجوز ليه؟!

أخذت نفسًا طويلاً قبل أن تجيبه بشرود:

-ما أنا قولتلك قبل كدة، مكنتش عاوزة براء يـ..

قاطعها متضايقًا:

-مقصدش، أنا أقصد إنك شكيتي إني ممكن أعمله حاجة زي كدة، أنا يوم ما خطفتك مشكتيش حتى إني ممكن أعمل حاجة؟!

بدون تفكير أجابته:

-أنا مكنتش بفكر ساعتها يا صهيب، أنا كنت عاوزة براء يبقى كويس وبس، وإنت صوتك كان مبين انك بتخطط لحاجة مكنتش أنا قادرة أتحملها في الوقت الراهن.

سألها بسرعة:

-يعني مكنتيش هتوافقي لو مكنش حصل حاجة!

نظرت له بوجوم للحظة، ثم ردت بجمود:

-أكيد.

زاغت عيناه وحول نظره بعيدًا عنها، رغمًا عنه شعر بالإنزعاج، بالرغم من أنه كان واثقًا من إجابتها تلك. ومع ذلك تابع بهدوء جاد:

-طب ومستنية إيه!

صمتت قليلاً، وظلت عيناها شاردة في نقطة بعيدة، لتجيبه بثبات بعدها وهي تبتسم باستنكار:

-ماما قالتلي مرة، لو في يوم خدتي قرار لازم تبقي أده، ولو منتيش أده متاخديهوش، وأنا يا صهيب مقدرش أكسر كلمة ماما قالتهالي، ولا معملش بنصيحة كان أملها بيها تصلح حياتي.

نظر لها لثوانٍ وقد بدأ يندم على فتحه لهذا الموضوع، لماذا كل الطرق تقود للموتى! لما كل شيء في الحياة متعلقٌ بالماضي! أما يستطيع المرء أن يحيَ يومًا دون تذكر ما حدث في الماضي!

-أمك كانت بتحبك!

وبدون أن يشعر بنفسه، سألها ذاك السؤال الذي أدرك غباءه بعد تفوهه به.

حينها أجابته هي بسكون:

-ماما، مكنتش مجرد أم يا صهيب، كانت كل حاجة، كانت الأم والصديقة، والحبيبة، كانت القدوة، والمعلمة، كانت الحياة.

اندهش هو من طريقتها في التعبير عن والدتها، وكأنها تعبر عن حبيبها مثلاً، لكنه أدرك في ذلك الوقت فقط أنه قد بدأ يضغط عليها، لقد ذكرها بالكثير..

حاول الإبتعاد عن هذا الموضوع، فأردف بترقب:

-أنا رايح الشغل النهاردة.

لم يظهر الإهتمام في نبرتها وهي تجيبه بفتور:

-صح

ضيق حاجباه وسألها بحيرة:

-صح إيه؟

نهضت من على الفراش بهدوء، ثم نزلت فجأة من عليه، و نظرت له بثباتٍ لتردف:

-طيب، نام إنت وأنا هقف فوق شوية.

سارت عدة خطوات بعيدًا عنه، وسلط صهيب أنظاره المشدوهة عليها قبل أن يسألها بترقب:

-أنا ممكن أقوم لو...!

قاطعته باسمة وهي تستدير له:

-مقصدش، بس أنا فعلاً حاسة إني محتاجة أشم هواء.

وبدون أن تضيف حرفًا تركته عاقدًا حاجبيه بحيرة، وذهبت.

خرجت من الغرفة بخطًا هادئة، متجهة إلى السُلم الذي يقودها للأعلى، كانت متجهمة الوجه شاردة الملامح إلى حدٍ كبير. فبعدما ذكَّرها بزواجهما، تلقائيًا تذكرت والدها الحبيب، وليس هذا فقط بل بدأت تستعيد ذكرى وفاة والدتها أيضًا وكأنه أحيا ذكرى كانت تحاربها منذ الصباح.

بدأت تصعد الدرج وهي تتذكر تلك اللحظة التي لن تنساها ما حيِيَت..

الفصل الرابع ... إغتصاب ولكن تحت سقف واحد

كانت جويرية واقفة أمام الفراش الذي تنام عليه والدتها، وكان والدها جالس بجانبها، وها هو براء واقف على عتبة الباب مستند بظهره يرنوهم بحزن.

توقف الجميع عن الحديث، صمت رهيب يطبق على كل بقعة من الغرفة، فهم جميعًا مدركون أن هذه سكرات الموت. جميعهم يبكون في داخلهم وينزفون الألم، ولكن أحدًا لم يتجرأ على إظهار دموعه تلك. نظرت ميادة لهم بعتاب وأردفت بصوتٍ خفيض منهك:

-مالكم كلكم، أنا عاوزاكم بتضحكوا في وشي!

ثم وجهت عينيها نحو ابنتها وهي تتابع:

-أنا عازة أتكلم مع جويرية شوية لوحدنا.

استسلم كلاهما لطلبها وخرجا من الغرفة بعد بضع نظراتٍ حزينة وواجمة، وسرعان ما جلست جويرية مبتسمة رغم ما فيها، وأمسكت يدها وهي تسألها بخفوت:

-نعم يا حبيبتي!

نظرت لها ميادة بعطفٍ، وهي تجيبها مبادلة إياها الإبتسامة:

-كنت عارفة إنك الوحيدة إللي هتضحكي في وشي حتى لو بموت.

صمتت قليلاً تأخذ أنفاسها التي بدأت تتقطع، وتتابع بصعوبة:

-إنتي إللي كنت بفتخر بيها دايمًا يا جويرية، بقوتك وبأدبك وأخلاقك، وبدينك، بكل خاجة فيكي، عشان كدة اوعديني، موتي ميغيركيش، افضلي بنتي إللي أعرفها لحد ما نتقابل تاني.

لمعت عيناها، ومع ذلك حافظت على ابتسامتها النقية، واحتضنت يدها بكفيها، لتجيبها بعدها بدفئ النبرات:

-ماما، حبيبتي، أنا مش عاوزاكي تشيلي هم لأي حاجة، بنتك هي بنتك مهما حصلها. بنتك خدت منك كل القوة دي، ومش هتفرط في حاجة جاية منك.

ضحكت ميادة بسعادة، ودمعت عينها هي الأخرى، تعلم هي تمام العلم أن موتها سيؤلمها لحدٍ رهيب، كما آلمها موت أختها، لكنها تعلم إلى أي درجة يصل العشق في قلبها لها. ومع ذلك، وبرغم كل ما تعانيه، تبث لها الإطمئنان بحنو عباراتها. تحاول جعلها لا تشعر بالذنب لتركها إياها، أي ابنة تلك، أي حبٍ هذا!

مدت يدها لتتلمس وجهها، فساعدتها جويرية على ذلك، في حين أردفت ميادة بهدوء:

-أنا عاوزاكي تخلي بالك منهم، وتخلي بالك من عبد القدوس، إنتي عارفة إن كل دة صعب عليه. وبراء، أنا أخدتوا ورضعته مخصوص عشان يوم زي دة، افضلوا بتحبوا بعض كدة دايمًا زي ما أنا عودتكم.

أومأت جويرية رأسها بثبات، فتابعت الأم وكأنها تلفظ عباراتها الأخيرة:

-وقبل أي حد، عاوزاكي تخلي بالك من نفسك.

ثم لفظت أنفاسها الأخيرة وهي تردد:

-أشهدُ ألاَّ إِلاهَ إِلا اللهُ... وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ و رسولهُ.

أشهدُ ألاَّ إِلاهَ إِلا اللهُ... وأشهد أنَّ محمدًا عبدهُ و رسولهُ.

ثم سقطت يدها، ومعها سقطت عبرة ابنتها، ثم قبلت رأسها لتمسح بعدها على شعرها وهي تردد بألم:

-إنا لله وإنا إليه راجعون.

أمسكت يدها، ووضعتها على صدرها في الأعلى، ثم وضعت الأخرى عليها، وغطتها بالغطاء. ثم خرجت إليهم بكل قوتها وأردفت بهدوء عجيب:

-إنا لله وإنا إليه راجعون.

بعد أن توفت والدتها لم تبكِ يومًا أمام مخلوق، وصارت أكثر جمودًا، لكنها ومع ذلك كانت تبكي حين تختلي بنفسها، ظل بكاؤها فقط لثلاث أيام، وبعدها بدأت تجمع شتات نفسها الضالة وتمنعها من إظهار ضعفها حتى أمام نفسها. وبدأت تنفذ وصية والدتها وتعتني بوالدها كأنه الحياة وما فيها.. لكن حين كان يشتد بها الألم كانت تفقد وعيها مباشرةً، وكأنه تعويضٌ عن البكاء أو ما شابه.. وهاهي تقضي باقي عمرها على ذاك النحو..
اقرأ ايضاً ... الحب والقدر بين الحياه والموت أجمل قصص الحب الواقعيه

أفاقت من شرودها، ونظرت للسماء فوقها، لم تشرق الشمس بعد، والسماء ما تزال كما هي، يتوسطها قمرٌ مضيء، وجانبه ازدان بأجمل النجوم. بدأت تشعر ببرودة الجو فضمت نفسها بيديها، وهي تحاول الإبتعاد عن أي ذكرى مؤلمة أخرى..

أحيانًا تخرج باكية القلب من ذكرياتها، وأخرى تشعر وكأن الذكرى تواسيها بعد الشوق والحنين. مدت يدها إلى شعرها، وأرجعته للخلف لتطايره على وجهها، وتوقفت عيناها عند اسطع نجمة رأتها، وتوقفت عن التفكير.

ولكنها شعرت بالدفئ فجأة، وكأن أحدهم قد دثرها للتو، وبالفعل لقد رأت هذا الوشاح الأحمر الذي وُضع عليها، وتبعها صوته الهادئ:

-الجو برد، تعالي ننزل تحت

بهدوء مماثل سألته، وهي لا تنظر له:

-منامتش ليه!

أجاب بروية:

-مجاليش نوم.

أومأت رأسها، ولم تعقب، وكان الصمت سيد الموقف لدقائق، إلى أن قال هو بخفوت:

-بتفكري في إيه.

-مش بفكر

ثم أخذت نفسًا عميقًا، وزفرته بروية وهي تردف بسكون النبرات:

-تعرف إن عمري ما فضلت الفترة دي كلها قاعدة في البيت.

سألها مستفهمًا:

-يعني عاوزة تخرجي؟

هزت كتفها، وهي تنظر له، ففهم ما تلمح إليه، وتابع ببساطة:

-كنتي تقدري تقوليلي في أي وقت حابة فيه!

تلقائيًا أجابت:

-بسيطة.

رفع حاجباه مستنكرًا وهو يردف ساخرًا:

-صح نسيت، كل حاجة عندك بسيطة.

ثم وقف خلفها ووضع يده على كتفاها وهو يتظاهر بأنه يعدل موضع الوشاح، ليتابع بجدية:

-بس فعلاً بسيطة، حضري نفسك النهاردة الساعة ٨ بالليل هنخرج، بس اعملي حسابك مش هنرجع النهاردة.

أجابته بببرود مستفز دون أن تنظر إليه:

-ماشي.

نظر للسماء يلتمس الصبر، لقد توقع حتى أن تسأله إلى أين، ثم عاد ينظر لها وهي توليه ظهرها، ويسألها بصبرٍ قدر الإمكان:

-طب يلا

حلت ساعديها، ثم استدارت تنظر له، وتجيبه بفتور:

-مش عاوزة أنزل، هقف هنا لحد ما الشمس تطلع.

سار هو أمامها بضجر وهو يردف غير آبه:

-خلاص انتي حرة، أنا هنام شوية قبل ما أروح.

زفرت جويرية بحنق، ثم اختارت مكانًا تتخذه مجلسًا، وجلست ناظرة أمامها بشرود، وصمت..

أما هو فقبل أن يذهب استدار لينظر لها لآخر مرة، ثم ابتسم بهدوءٍ وذهب..........!!!!

.........................................!!!!!

يتبع ....

يارب تكون حلقة النهارده عجبتكم وأستنونا كل يوم في نفس الميعاد فصل جديد من رواية عصفورة تحدت صقرا وعلشان تجيلكم الفصول بتسلسلها تقدروا تتابعونا من خلال صفحتنا علي الفيس بوك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة