-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية أفيندار بقلم صفية الجيار - الفصل الرابع والثلاثون (الأخير)

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة والقصص الرومانسية مع رواية اجتماعية واقعية ومثيرة جديدة للكاتبة صفية الجيار علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الرابع والثلاثون (الأخير) من رواية أفيندار بقلم صفية الجيار

رواية أفيندار بقلم صفية الجيار - الفصل الرابع والثلاثون (الأخير)

اقرأ أيضا: روايات رومانسية

رواية أفيندار بقلم صفية الجيار

رواية أفيندار بقلم صفية الجيار - الفصل الرابع والثلاثون (الأخير)

 إن سُئل المرء ما مفهوم الطفولة من وجهة نظركَ؟ ترى بما سيجيب؟ هل المرحلة العمرية الأولى من حياة الانسان، أو تلك المرحلة التي لا يستطيع بها الاعتماد على نفسه دون ذكر مرحلة عمرية معينة، إن كان كذلك إذًا الانسان يمر بمراحل عدة من الطفولة، في بداية عمره أوحين تطرق الشيخوخة بابه، وحين يمرض أو يضعف أو يصاب بالعجز، أو يمر بحالة من فقد الشغف بالحياة، أو إن كان ذو شخصية ضعيفة لا يعتمد عليها، يفتقر للعقل والتعقل، باختصار بداخل كل منا طفل يحتاج للرعاية والاهتمام مهما تقدم بنا العمر، أي أن مريم طفلة كصغيرتها تحتاج لمن يرعاها ويقدم لها الحب التي تفتقر له ولم تحصل عليه رغم زواجها، وسمية حالها كحال شروق ونجيب تقدم بهم العمر ويحتاجون لأيدي محبة يستندون عليها، حتى كرم حُرم أن يعايش فترة الطفولة الخاصة بطفله أو طفلته لكنه يحتاج أن يستيقظ ليجد من تبتسم له بحبٍ، تشاركه حياته واحتياجاته، يحتاج أن يسمع أحد آهاته، دومًا ما كان يسمع للآخرين ألن يأتي اليوم ليشكو هو ويجد من يطبطب على روحه؟ حمزة أيضًا مؤكد بداخله طفل بحاجة للتدلل والشعور أنه مرغوب به ويحصل على الاهتمام، حاله كحال صغيرته التي كسرت جميع الأرقام القياسية في ممارسة الطفولة لأكثر من عشرون عامًا، نعم رهف طفلة بمعنى الكلمة تحتاج لمن يرعاها ويدللها وتعتمد عليه، إن بكت تبكي معه وإن ضحكت تضحك على مزحة طريفة منه، حتى قراراتها لا تستطيع اتخاذها بمفردها تحتاج لمن يساندها بذلك، أما طفلتنا التي تحاول قتل الطفلة التي بداخلها أكثر من يحتاج للمعاملة كطفلةٍ بجانب طفلتها، تحتاج لمن يغدقها بحبه وحنانه، تحتاج لمن يعوضها السنوات التي قضتها في تحمل مسؤولية الآخرين، تحتاج لمن يبتسم بوجهها دون أن يكذب مشاعرها، تحتاج لمراد أن يمارس أبوته معها قبل أن يفعل مع ابنته، لكن كيف سيحدث هذا ومراد نفسه طفل يحتاج ليسر ليستشعر اهتمامها، ليرها لأول مرة كزوجة تهتم بزوجها باحتياجاته ومتطلباته، تلك الصغيرة التي لم تأت إلى الدنيا بعد ستحتاج لوالديها كي تعيش أجمل فترة تحت كنفهما معًا فترة طفولتها، لا حنان كحنان الأم ولا عز كعز أبيها، فكيف سيحدث هذا في ظل قرار يسر الغير عادل بالمرة؟ وكما أن أفيندار تُعني عاشق وبداخل كل منا عاشق وكل منا أفيندار، بداخل كل منا طفل يحتاج لمن يعامله كطفل يحتاج اهتمامه ورعايته، يحتاج أن يشعر أنه نقطة ضعف واهتمام لمن حوله.

في طريق عودة الفتيات من التسوق لشراء ما تحتاجه رهف خاصة أنها لم تُنهي التجهيزات الخاصة بزفافها بعد ومازال ينقصها القليل رغم تبقي أربعة أيام فقط على زفافها، لقد عملن على قدم وساق للانتهاء من التجهيزات خاصة أن سمية ومريم يشاركونهن التسوق، بينما يتكفل الرجال في انهاء الأعمال بالشركة، خاصة بعد قرار حمزة بإقامة حفل الزفاف في أحد المنتجعات السياحية بالعين السخنة واقتصاره على عائلة الدالي وعائلته وأسرة مراد فقط، قالت يسر وهي تبسم لخالها بانعكاس صورتها في المرآه بعد أن تطوع ليقوم بمساعدتهن في التجهيزات الخاصة برهف:

"لولا مساندتكِ يا مريم لما استطعنا شراء كل هذا الكم"

أجابتها مريم بعفوية:

" لا عليكِ يا يسر نحن عائلة، كما أنني تركت ليان بالمنزل وأمي تهتم بها، أنا متفرغة تمامًا لكم"

زادت ابتسامتها بشكل ملحوظ وقالت:

"سنردها لكِ أنا ورهف عند زواجكِ لا تقلقي، لن نترككِ بمفردكِ، حتى أنني أثق أن أمي هي من ستشرف على التجهيزات كما تفعل مع رهف"

عم الصمت في السيارة بعد ما قالته، وتسارعت نبضات قلب مريم أكاد أجزم أن جميع من بالسيارة سمعوا نبضاتها، قالت مريم بارتباك:

"أي زواج يا يسر لا تمزحي"

دارت بنظراتها العابثة إلى أن تقابلت مع نظرات خالها وقالت:

"زواجكِ يا قطة إن واصلتِ الخروج معنا بدون ليان سيهترأ بابنا من كثرة المتقدمين لخطبتكِ"

إلى هذا الحد وكفى، ما تفعله يسر أسعد كرم كثيرًا لكن إن يصل الأمر لزواجها بغيره لا وألف لا، سيضع النقاط على الحروف قبل أن يأتي أحدهم ويسرق منه طفلته الرقيقة، فقال منهيًا الحديث:

"رهف أرى أن مزاج ابنة عمكِ جيد في الآونة الأخيرة، ترى هل انتهت لعبة القط والفأر أم ماذا؟"

حاولت رهف مجاراته في مشاكسة يسر وإلقاء الدعابات المستفزة لها بينما تابع ابتسامات وردود أفعال محبوبته بعشق لم يستطع اخفائه عن أعين الجميع.

**

انتهت من الاستمتاع بحمامٍ دافئٍ تزيل به آثار اليوم المرهق كالأيام الثلاث الماضية التي قضتها بصحبة رهف رغم تحذيرات الطبيب، لكن ماذا يفعل منذ الوهلة الأولى وهو لا يرفض لها طلبًا فما الحال إن طلبت الذهاب مع رهف للتسوق في أكثر أيامهما حبًا وسعادةً، جلست بجواره على الفراش وهي تجفف خصلات شعرها المبتلة بالمياه، دون أن تتطلع به خوفًا من أن يلمح نظرات الحزن بعينيها، أو القلق من قرارها الهادم لسعادته وحياتهما الزوجية، لكنه باغتها على غفلة منها وجذب منشفتها من يدها، وتطلع بها بعشقٍ فتاهت ببحور عينيه الساحرة والتي دومًا ما جذبتها لدروبه، منذ الأزل وعينيه قادرة على فعل ما لم يستطع أحد فعله من قبل، دومًا ما ينجح في التأثير عليها دون أن ينبس ببنت شفة، ارتجفت شفتيها بارتباك على إثر قربه الغير معهود منه، فابتسم لها تلك الابتسامة المدمرة لحصون قلبها وقال:

"لا تبتسمي هكذا"

أجابته بتحدٍ وهي تقلص المسافة بينهما وترفع جانب حاجبها:

"لماذا؟"

"عواقب ما تفعلينه وخيمة، هل تتحملين نتائج تهوركِ؟"

ابتعدت عنه قليلًا وقالت بارتباكٍ ملحوظٍ:

"مراد تأدب"

تنهد بسعادةٍ بعد أن عاد لمكانه، استند بظهره على طرف السرير ثم تنهد براحةٍ وهو يتفحصها بإعجاب لم يستطع انكاره أو إخفاءه ثم قال:

"يسر هل فكرتِ بيومٍ كيف سنضع علاقتنا على بداية الطريق؟"

أجابته ببلاهة فهي لم تضع بالحسبان أنه سيفكر ببدايتهما لعلاقة زوجية قائمة على أسس صحيحة بينما هي قررت أن يكون هذا اسبوعهما الأول والأخير في سعادتهما كزوجين:

"ماذا تقصد بوضع علاقتنا على بداية الطريق؟"

"أقصد أن نكون زوجين طبيعيين، استيقظ صباحًا على ابتسامتك وقبلة تجعل يومي أجمل قبل أن أبدأه، أتناول وجبة الافطار برفقتكِ وتنتهي جلستنا أيضًا بقبلة على جبينكِ أثناء ذهابي للعمل، و طوال اليوم أتلقى منكِ الرسائل النصية المحفزة لإكمال يومي دون أن أركض إليكِ تاركًا الكثير من الأعمال خلفي ولا آبه بما تكدس فوق رأسي من أعمال، وأعود إليكِ بآخر الليل متلهفًا للحصول على عناق دافئ يزيل شوق ساعات مرت كالأيام، ثم نقضي الليل نروي قصص عن العشق، نسجها قلبين اجتمعا بعد سنوات عجاف، هذا بالطبع قبل أن تطل علينا صغيرتنا وتزيد حياتنا بهجةً وسعادةً"

تذكرت اتهامه لها بالخيانة وكلماته اللاذعة التي ألقاها بوجهها من قبل، فتجمعت العبرات بمقلتيها وقالت:

"هل سيحدث كل هذا دون أن ينتابك الشك أو تتملك منك غريزتك الرجولية وتنسج قصص لا أساس لها من الصحة؟"

انقض عليها ورمقها بنظراتٍ معاتبةٍ، ثم أحاط خصراها بذراعه بتملكٍ في جرأة لم تعتد عليها منه، طأطأت رأسها بخجلٍ على إثر قربه إلى هذا الحد، وبيده الأخرى رفع وجهها له لتتلاقى نظراتهما، فابتسم لها بودٍ زاد من خطورة الموقف وقال بصوتٍ رخيمٍ:

"أنا لن أنسج معكِ من بعد الآن سوى قصص عن ملحمة عشقنا التي سنرويها لأبناءنا"

"أبنائنا!"

قالتها باندهاش فأومأ لها بجرأةٍ أيقنت بعدها أنها سقطت بين براثنه لا محالة، فقال وهو يضع يده على أسفل معدتها:

" على الأغلب لن أكتفي بهذه الصغيرة، مستقبل آل عزام متوقف علينا أم أن لديكِ رأي آخر"

ارتبكت أكثر وآثرت الابتعاد عنه والهرب من قبضته فأحاديثه ونظراته تدل أن القادم سيأخذهما لمنحنى آخر بعلاقتهما، لكنه عبث بمشاعرها أكثر وانحنى إليها مطوقًا جسدها بذراعيه، تطلع بها لتصرخ نظراته بعشقها، وقال وقد أصبحت المسافة بين وجهيهما معدومةٍ:

"هل قلت لكِ أنكِ ازدتِ جمالًا بالآونة الأخيرة"؟

**

مرت الساعات كالأيام والأيام كالأشهر على الجميع خاصة على ذلك العاشق الذي يعد الدقائق حتى يجتمع بفراشته الصغيرة، وما زاد الأمر صعوبةٍ رفضها لقائه بالأيام التي تسبق يوم زفافهما، متعللة أن رؤيته لها فأل شؤم، ومن الممكن أن تحدث أمور تعرقل اتمام زواجهما، لكنها فاجأته في صباح اليوم الأخير له بدونها أنها ستذهب لزيارة والدتها بعد أن نجح والدها في ترتيب موعد لها، وأنها تحتاجه ليقلها إلى مكان الزيارة، لم تفصح له عن سبب احتياجها له، لقد ورادتها مخاوف من نتيجة هذا اللقاء، فكيف ستكون حالتها إن واجهت والدتها خاصة أن عقاب منار الأكبر سيكون زواج ابنتها بدونها، لم يقصر يتوانى حمزة عن مساعدتها والوقوف جانبها، ووعدها أنه سيكون أسفل بنايتها في خلال ساعة.

كان من الصعب عليها مواجهة والدتها بعدما اكتشفته، فلم تتقبل بعد فكرة أن والدتها حرضت على اغتصاب ابنة عمها، وهي السبب في تدمير عائلتها وفقدانها لأبناء عمها وشقيقها، نعم والدتها لا تفقه شيء عن الحنان والأمومة لكن لم تتخيل أن الأمر سيصل بيوم إلى الاغتصاب والقتل، تذكرت أن كرم أخفى الحقيقة وسمح بمحاكمة ياسين على جرم لم يرتكبه، ولم يبرأ ياسمين حتى بعد موتها؛ فارتاحت بداخلها وعلمت أن الكل لقى جزاء ما قام به.

أمام الغرفة المخصصة للزيارات بسجن النساء، وقفت رهف تزفر بحزن وضيق وجميع حواسها تتأهب لهذا اللقاء الذي انتظرته منذ أسابيع، وعلى الرغم من تشجيع ودعم حمزة لها طوال الطريق إلى أنه فشل في طمأنة روحها، فالجالسة بالداخل رغم كل شيء والدتها من تمن طوال عمها أن تتلقى منها الاهتمام والحب كما تفعل مع شقيقها، وشخصية كشخصية رهف، لا تتحمل الفراق أو الابتعاد عمن تحبهم بسهولةٍ، لذا قلبها يئن من شوقها لوالدتها، زفرت بهدوءٍ ثم وضعت يدها على مقبض الباب لتدلف إلى الغرفة ففوجئت بهيئة والدتها المزرية، أين منار سيدة المجتمع صاحبة الجاه والمال من تلك السيدة ذات الشعر المجعد والبشرة الشاحبة وتلك العباءة البيضاء! فور رؤيتها لها تحطم غضبها منها وذهب مع الريح، وحضر بدلًا عنه اشتياق جارف من طفلة لأمها فما كان منها سوى الركض إليها والارتماء بين ذراعيها، وبدء مشهد يتمزق له نياط القلب، مشهد طفلة يتيمة سمح لها القدر العودة مرة أخرى بين ذراعيّ والدتها التي فقدتها في حرب على المال والانتقام، اختبأت بصدرها بعد أن تعالت شهقاتها، وراحت تتمتم بكلمات غير مفهومة التقطت منار بعض منها:

"أحتاجكِ بشدة، احتاجكِ أكثر من أي وقت مضى"

"لا تبكي يا صغيرتي، كوني قوية، فخسارتكِ لا تعوض، و لن ينفع بكائكِ من بعد الآن"

ابتعدت عنها وقالت بعتابٍ قاتلٍ:

"ومن السبب بتلك الخسارة، ما ذنبي لأدفع ثمن خداعكما وجرائمكما؟"

حدقت بها بجدية وكأنها تملي عليها وصيتها الأخيرة:

"وقت العتاب قد فات يا رهف، من الأفضل لكِ أن تنسي ما حدث وتكملين حياتكِ، كوني قوية وواجهي الحياة ارضي بما حدث لا تنقمي على قدركِ"

أرادت رهف تذكيرها بخسارتهما الفادحة فقالت:

"وكرم هل أنساه، هل باستطاعتكِ نسيانه؟ إن فعلتِ أنتِ سأفعل من بعدكِ"

صرخت منار وهي تضع يدها على وجهها تُخفي دموعها التي لم تسيل من قبل أو سالت ولم تسمح لأحد رؤيتها خاصة ضحاياها ومنهم رهف ضحيتها الأولى وليست الأخيرة:

"لا يا رهف لا، لا تتحدثي عنه، كرم لا يُنسى، كيف لي أن أنسى عمري وقطعة من روحي"

" لا تنسيه، كما لم تنسى ماما سمية أبنائها، هل تتذكرينهما ياسمين وياسين الذي خسر حياته، ياسين الذي صرخ أمام أعيننا ولم يصدقه أحد؟"

"رهف إن جئتِ لتعاقبيني أو تحاسبيني، بي ما يكفيني يا ابنتي"

رق قلب رهف لها خاصة أنها لأول مرة تراها بهذه الحالة، فقالت:

"لا جئت أخبركِ بأنني سأتزوج غدًا، كنت أتمنى أن أحضر لكِ دعوة لكن كما تعلمي الظروف لم تسمح لنا بزفاف أو بطبع الدعوات، حفل عائلي بسيط، لن تحضره أمي، لن يقبل أخي جبيني قبل أن أذهب مع زوجي، لن تكتمل فرحتي، لن أشكو حمزة لكرم عندما يُحزنني، ولن يوبخه بعدها مهددًا إما يُحسن معاملتي أو يأخذنني منه، أخبريني يا أمي متى ستكتمل فرحتي؟ متى سأبتسم وقلبي يرفرف فرحًا دون أن يشوب فرحتي حزنًا لن أستطيع التخلص منه، متى سأتخلص من هذا الحزن الذي يحتل قلبي، أختنق يا أمي أشتاق إلى كرم، وتمنيت أن تكوني كماما سمية أو العمة شروق"

قلصت المسافة بينهما وتابعت:

"لِمَ أنتِ هكذا، من أين أتى سواد قلبكِ، كيف طاوعكِ أنتتركي ابنتكِ بليلة كهذه؟"

احتدت نظراتها، وتبدلت نبرة صوتها لأخرى قوية أشبه بتلك التي كانت تحدثها بها من قبل وقالت:

"رهف بي ما لا يتحمله أحد، أختنق ألا تدركين ذلك؟ إن جئتِ لدعوتي كما تلاحظين لن أستطيع الحضور، وإن جئتِ لعتابي فات الأوان يا ابنتي، أما ان جئتِ لتسمعي نصيحتي إياكِ يا رهف أن تضعي عينيكِ على ما لا تملكين، إياكِ أن تهدري فرصة لسعادتكِ وسعادة من حولكِ، إياكِ أن تجعلي أحد يسرق منكِ عمرًا ستقضيه بجانب عائلتكِ، إياكِ أن تكوني كوالدتكِ"

أنهت كلامها بعناق كفيل أن يسقط رهف ضحية الاشتياق والاحتياج، كفيل أن يقتل منار ندمًا وشوقًا لابنها وحزنًا على ما حرمت منه ابنتها، ندمت وهل ينفع الندم بعد أن تدفن أرواح بريئة تحت التراب؟.

**

غادرت رهف تاركة من خلفها أم يقتلها الندم على ما اقترفت بحق من حولها عامة وأبناءها خاصة، غادرت لتبدأ حياة جديدة وتنفذ ما نصحتها به والدتها دون أن تلتفت خلفها، يكفيها وجود حمزة وأن يكون والدها بخير.

في إحدى المنتجعات السياحية بمدينة العين السخنة تحديدًا بشرفة غرفة مراد ويسر، وقفت يسر تتحدث مع مريم عبر الهاتف تؤكد عليها أن تحضر فستانها معها، بعد أن أتت مع رهف وعائلتها وسبقت عائلة زوجها في الحضور، وتركت حقائبها ليحضرها مراد حيث أن سيارة مراد لم تسع كل هذه الحقائب، أو هذا ما قاله لها عندما طلب منها الذهاب مع خالها وسيلحق بها بنهاية اليوم، قالت لها محذرة:

"مريم إياكِ أن يرى مراد فستاني، سأقتلع عينيكِ وأكسر يديكِ إن فعل"

قالت مريم وهي تبتسم إلى شقيقها الذي يستمع لحديثهما بسعادة:

"لا لن يحدث لا تقلقي فور مجيء مندوب شركة التوصيل وضعته بالسيارة وأتينا، حتى أنا لم أره للآن"

"هذا أفضل أين أنتم الآن؟"

"نصف ساعة ونصل إليكم، هل اشتقتِ إلى حبيب القلب"

" يا قليلة الحياة اصمتي، بل السؤال لكِ هل اشتقت إلى حبيب القلب"

تلعثمت مريم بالحديث ثم تظاهرت أنها فقدت الاتصال وأنهت المكالمة، ودعت ربها أن لا تلتقط أذان أسرتها لمَ قالته يسر.


هربت يسر فور مجيء مراد واكتفت بالاستئذان للذهاب والمبيت مع رهف بحجرتها فهي تحتاجها الليلة وانضمت إليهما مريم والصغيرة ليان، بالحقيقة كانت تهرب من قربه فإن تلاقت نظراتهما ستعترف له بما تنتوي فعله وتضرب بقرارها عرض الحائط، تخللت جلستهن الطويلة والتي استمرت للصباح مكالمات ورسائل نصية تنم عن مدى شوق الصديقين إلى زوجتهما، وفي الصباح الباكر بدأت التجهيزات للزفاف، في سعادة بالغة من جميع الأطراف قطعها صراخ يسر المستمر، عندما تفحصت فستانها لتكتشف أنه ليس هو الفستان الذي اختارته وطلبت تعديله ليتناسب مع قياسها، علم مراد بما حدث من مريم؛ فذهب إليها طالبًا من الجميع تركهما بمفردهما، ذرفت عبراتها بقلة حيلةٍ وهي تمسك الفستان بين يديها، تطلع بها متعجبًا من حالة الحزن التي تملكتها فقال:

"ماذا كان لون فستانكِ؟"

أجابت ولم تعلم أن إجابتها ستعيد فتح دفاتر تم غلقها منذ أيام:

"أسود"

"وهذا أبيض، برأيي الأبيض سيكون أجمل"

كانت قد قررت ألوان مساحيق التجميل التي ستضعها مع الحلي التي سترتديها، ومع تبديل لون الفستان كل تحضيراتها ذهبت هباءً فبكت وقد أثرت عليها هرمونات الحمل وقالت:

"لكنني لن أستطيع ارتداء هذا الفستان"

عقد ما بين حاجبيه وقال:

"لماذا هل نحن بحالة حداد وليس لدي خبر بذلك!؟"

فهمت ما يقصد فقالت بعتابٍ:

"أي حداد يا مراد نحن نقيم حفل زفاف، فقد أحضرت معي الحلي التي ستليق باللون الأسود ماذا سأرتدي الآن؟ كما أنني لم أرتدي فستان باللون الأبيض من قبل ولم أجربه، ماذا إن كان لا يليق بي؟"

تفحص معالم وجهها وردود أفعالها وقال هاربًا منها:

" يسر إن ارتديتِ ملابس منزلية ستليق بكِ وبشدة، لا تبعثري الأجواء رهف مرتبكة لا تزيدي من ارتباكها"

التفت ليغادر فقالت:

"نسجت قصص الشك من جديد، لن تتغير يا ابن عزام"

قال متعجبًا:

"أي قصص"

أشارت بيدها ليصمت وقالت:

"لا عليكَ دعنا لا نربك رهف أكثر"

غادر قبل أن تكتشف حقيقته وهو يبتسم لمدى تأثير الحمل على أفعالها، متخيلًا حالتها عندما تكتشف مفاجأته، بينما هي أيقنت أنه لن يتغير وشبح عشق كرم سيبقى بينهما طوال العمر، والتراجع عن قرارها كان سيكون خطأ فادح لن تستطيع تداركه.

وفي القاعة المخصصة لحفل الزفاف، جلست سمية وشروق التي كانت تحمل ليان بين يديها، رفقة مراد وكرم، وعائلة حمزة ينتظرون وصول العروس ووصيفاتها، تابع كرم ليان عن كثب شيء بها يجذبه إليها ليس كونها ابنة مريم فقط أو كونها طفلة لكن نظراتها جذبته لها، جعلت السعاة تغمر صدره فتسائل إن كانت السعادة تطرق بابه في وجودها ووجود أمها لِمَ يحرم نفسه منهما فهب واقفًا دون أن يفكر لحظة واحدة بتبعات قراره، وقال وهو يوزع نظراته بين مراد وليان:

"مراد أنا أطلب منك يد شقيقتك على سنة الله ورسوله"

تفاجئ المتواجدون من طلبه، أي رجل يفكر بثانية بالزواج وبالثانية التي تليها يطلب يدها من شقيقها، بينما ابتسمت شروق وهل تتمنى زوج لابنتها أفضل منه يعوضها سنين الحزن التي قضتها مع هذا الحقير المدعو أمجد؟ حدق به مراد بذهولٍ فتابع:

"مراد أقول لكَ هل تزوجني مريم؟"

لوهلة لم يدرك مراد طلبه المباغت، فلكزته سمية وقالت:

"أخي يعشقها حد الجنون، وافق ولن تندم على مسؤوليتي، وإلا أخذت منكَ ابنتي"

ابتسم على دعابتها ولم يعلم أن ابنتها قررت الرحيل بالفعل وقال:

"حسنًا موافق لكن لننتظر رأيها أولًا"

قال كرم بغباء لا مثيل له:

"لا تقلق ستوافق"

طالعه بغضبٍ وقال:

"وما يدريك؟"

تطلع به ببلاهةٍ وقال:

"ها لا أعلم مؤكد ستفعل"

قطع حديثهما تلك الموسيقى الهادئة التي تعلن عن وصول العروسين، لتظهر رهف تتأبط ذراع حمزة بفستانها الأبيض الناعم مثلها لقد اختارته بسيطًا يتماشى مع طبيعة الحفل، وباقة الورد الزهرية كتلك التي تتوسد وجنتيها خجلًا، بينما ظهرت يسر من خلفهما، بطلتها الساحرة كأجمل عروس تراها الأعين خطفت الأنظار بالحفل وعن جدارة، نجح من اختار هذا الفستان، فالأبيض لا يليق إلا بها حتى ولو لم يسمح لها القدر بارتدائه كعروس، ها قد كُتب لمراد أن يراها بطلتها الساحرة تلك حتى وإن كانت تحمل طفلته بأحشائها وتظهر بطنها المنتفخة قليلًا لتقدمها بشهور الحمل، تقدم حمزة ورهف من الحضور، يتلقون التهاني والمباركات وعيون كرم لم تغفل عن محبوبته بفستانها الفيروزي الخاطف للأنظار والقلوب كحال قلبه التي خطفته من الوهلة الأولى، فذهب نحوها وقد تلبسته حالة من التهور ستجعله ضحية مراد هذه الليلة لا محالة، ابتسم لها وتطلع بها بإعجابٍ صريح ينم عن مدى جمالها، كانت نظراته كفيلة أن تخبرها ما عجز لسانه عن قوله منذ أشهر، انحني بالقرب من أذنها وهمس لها:

"جميلة اليوم كعادتكِ، لكن ترى من العروس أنتِ أم رهف؟"

ابتعدت عنه خطوتين وقالت وهي تلتفت نحو مراد خوفًا من رؤيتهما بهذا القرب، فابتسم لها وهو يتفحص وجهها بسعادةٍ:

"لا داعي لخوفكِ، طلبت يدكِ منه منذ قليل هل توافقين؟"

قالت ببلاهةٍ:

"على ماذا؟"

ابتسم لعفويتها التي لا تتماشى مع سنها أو وضعها وقال:

"على أن أعانق يدكِ وأسير بكِ بين الجميع دون نخشى أو نخجل من أحد"

وأثناء انشغالهم لم يلحظ أحد زوجين من الأعين حالهم لا يتم وصفه سوى باللقاء الأسطوري لملحمة عشق حقيقة، فلقد وقفت يسر تطالع بمراد متعجبة من حالته ومعجبة بطلته الرجولية فائقة الجاذبية، بينما خانته مشاعره وعبراته وراحت تنهال على وجنتيه دون توقف، رق قلبها له، جزء بها صرخ باسمه عقلها صارع قلبها يقول هذا الغيور تملك منه الشك والحياة معه لن تحتمل ولن تستمر، وقلبها صرخ إنه عاشق والعاشق لا يتخلى عن غيرته، وهذه الغيرة جزء من الحب، ظل بينهما صراع لدقائق إلى أن قطعه مراد وهو يقبل وجنتها والمسافة بين شفتيه وطرف شفتيها تكاد تكون معدومة وقال:

"وقعت بعشقكِ للمرة الثالثة الآن"

همست له بصوتٍ مبحوح:

"ومتى كانت المرتان السابقتين؟"

"الأولى عندما رأيتكِ للمرة الأولى وحدث سوء الفهم بيننا، والثانية عندما عانقت يدكِ ونحن نسمع نبضات قلب صغيرتنا"

لم تستطع كبح دمعاتها، كيف لها أن تذهب وتتركه، كيف تفعل ذلك؟ لقد اتخذت القرار سترحل فور انتهاء الحفل، لاحظ دمعاتها فأزالهم بأنامله وقال:

" ممنوع عليكِ البكاء الليلة"

تعجبت فقالت:

"ولمَ؟!"

جذب يدها يصطحبها للانضمام إلى العائلة وقال بعد جلس بجانبها:

"ستعلمين بعد قليل"

**

توسطت رهف وحمزة القاعة وراحا يتراقصان على أنغام موسيقى رومانسية ساحرة، سافرت بهما إلى بلاد العشق والعشاق متناسيان وجود من حولهما، ولم تخلو رقصتهما من الهمس والكلمات الساحرة من قبل حمزة والخجل حد الموت من قبل رهف، طوق خصرها بذراعيه بحبٍ وقال وهو يميل إلى أّذنها:

"فوفي"

"همممم"

"يكفي عليهم هذا الوقت سأخطفكِ إلى جنتنا"

تطلعت به بخوفٍ وقالت:

"إياك أن تفعل مازال هناك وقت"

"بعد انتهاء الرقصة سنذهب، فقد سننتظر أن يفجر مراد قنبلته أولًا"

"أي قنبلة؟"

" ما شأننا بهما أخبريني هل أنتِ سعيدة؟"

تجرأت ولأول مرة تفعل ذلك فعانقته بسعادةٍ وتوسدت صدره برأسها وقالت:

"كما لم أكن من قبل"

وبعد انتهاء رقصتهما وانشغال الجميع بالحديث، اختفى مراد دون أن تلاحظ يسر ذلك، اطفأت الأنوار فجأة ليعم الظلام، أول شخص لجأت له كان هو رغم وجود عائلتها، أدركت أنه أمانها وإن كانت تحت كنف والدتها فقالت:

"مراد"

التفتت تبحث عنه فلم تجده، لكن صدح صوته في الأرجاء فجأة وهو يقول:

"أفيندار"

التفتت بصدمةٍ لتجده يقف بالقرب منها وتحيطه هالة من النور ويمد يده لها، ماذا أسيكشف سرها الآن؟ توسعت دائرة الضوء لتشملها معه عندما وقفت، فأومأ برأسه يحثها على الاقتراب منه، لكن ألجمتها الصدمة فتابع:

"أفين أيتها العاشقة ألن تأتِ إليّ؟"

وصلت إلى مسامعها شهقات الجميع، وأخيرًا تم التوصل إلى هوية تلك الساحر أفيندار والتي سحرت الجميع بكلماتها وروحها، تطلعت به بصدمةٍ، أشار لها بيده فتقدمت بضع خطوات لتقف أمامه مباشرةً، عانق يدها ثم قبل جبينها وقال:

"مبارك يا عروس"

قالت بذهول:

"أي عروس!"

تفحص فستانها وقال:

"أنتِ ألستِ عروسي التي طلت بالأبيض"

فكرت لوهلة وقالت:

"أنتَ من أبدلت الفستان؟"

"كانت ستبقى حكايتنا ناقصة بدون فستان الزفاف والرقصة الأولى باقة الورد البيضاء الخاصة بالعروس"

إقترن كلامه بباقة الورد التي يمدها لها، فشهقت ووضعت يدها على فمها لا تصدق ما يحدث، حاوط خصرها مجددًا وقلص المسافة بينهما وقال:

"أفيندار لا يوجد بكاء، الليلة ليلة عشق وسعادة"

قالت بصدمة:

"كيف علمت؟"

قال بمشاكسة:

"بماذا؟"

تطلعت به بنظرات ذات مغذى فقهقه متابعًا:

"منذ أشهر حتى قبل زواجنا، بالبداية كانت شكوك قلبي أخبرني أن هذه الكلمات لا يقولها سوى قلبكِ، وبعد زواجنا تأكدت عندما رأيت بعض الأوراق الخاصة بخواطر أفيندار والمكتوبة بخطكِ المميز، وصرت أراقبكِ أثناء كتابتك للخواطر، لكن السؤال الذي راودني دومًا، لمَ وكيف فعلتِ هذا؟"

ابتسمت له وأيقنت أنها سقطت في شباك عشقه ولا يوجد لها مخرج، اتخذت القرار لن تهرب من بعد الآن، فقالت:

" لأساعد من يحتاجني وأداوي جراح المظلومين وأنصح من يحتاج إلى نصيحة، لأربت على كتف من يشعر نفسه وحيدًا، لأفعل ما لم يفعله أحد معي إلى أن أتيت أنتَ، بعد موت إخوتي صرت وحيدة جدًا، خاصة بعد سفر خالي، كل ما أقوم بفعله هو الاهتمام بأسرتي ورهف، فقررت أن تتوسع دائرة من أساعدهم لتشمل آلاف المتابعين، أردت أن أنشغل بالمدونة بدلًا من التفكير طوال الوقت بما حدث، أما كيف فعلت ذلك؟ كانت تأتي الرسائل اقرأها وأكتب الخاطرة بيدي ثم أرفع الملفات على المدونة وباستخدام خاصية الجدولة كنت اختار الوقت الذي أريده وهو الثامنة من كل ثلاثاء وجمعة"

"ولما أفيندار تحديدًا؟"

"بداخل كل منا عاشق"

أجابها مبتسمًا بهيامٍ:

"وعاشق تُعني أفيندار"

عانقها وسط أنظار المحيطين بهما، وتفاجئهم مما يحدث ثم همس في أذنها:

"لنرقص"

"الآن!"

أشار لأحدهم فبدأت كلمات أغنيته المفضلة، وظل يتحرك بها على مهلٍ مراعيًا ظروف حملها وهي لا تصدق ما يحدث كل ما تصدقه أنها لن تبتعد عن هذا الرجل إلى أن ترحل عن هذه الحياة، وأثناء شروده في عينيها قالت:

"مرادي"

ابتسم لها وأخيرًا شعر أنه امتلك قلبها فقال:

"عيونه وقلبه"

"قلت أن اخترت اسم ابنتنا، ولم تخبرني به"

فقال:

"أفين"

لم تفهم ما يقصد فتابع:

"أفين اسم ابنتنا أفين"

ابتسمت له وفكرت قليلًا لتقول:

"سأترك الاختيار لكَ لكن المرة القادمة أنا من سأختار"

قال بدلالٍ:

"وهل هناك اسم معين بخاطركِ"

"نعم، سأنجب صبي وفتاة سأعيد ياسين وياسمين مرة أخرى"

شدد من قبضته عليها ونظر لها وكأنه امتلك سعادة الدنيا بين راحة يده وقال:

"أفين وياسمين وياسين، حسنًا يا ابنة الدالي أعدكِ أن ياسمين وياسين سيكملون عائلتنا الجميلة لاحقًا"

بادلته العناق وصاحت على مرئى ومسمع من الجميع:

"وأنا سأحبكِ لأخر عمري يا مرادي"

تمت بحمد الله

*********************
إلي هنا تنتهي رواية أفيندار بقلم صفية الجيار
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة