-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثانى

 مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثانى من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثانى

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثانى

 على لوح خشبٍ متهالك، بدا وكأنه طوفِ نجاةٍ، يصارع للبقاء بثباتٍ وسط أمواجٍ عاتية، تمدد جسدها المرتعش عليه، شعرت أنه لا يكفي لحملها، بين لحظة وأخرى سيميل على جانبه، ليقذفها وسط تلك الدوامات الجائعة، المتلهفة لابتلاعها، بذلت "فيروزة" أقصى ما تستطيع لتتمسك بحافتيه، تشبثت به وارتجافتها المذعورة تتصاعد مع حدة الأمواج، لم تتمكن من إزاحة الماء العالق برموشها، أحست بحرقة تأكل عينيها، منعتها من الرؤية، ولم تقوَ على فركهما، فإن أبعدت يدها؛ لربما سقطت عن قشتها المُنجية، وبين تلك المعاناة، لمحت شيئًا قادمًا في اتجاهها، لم تتبين في البداية ماهيته، أطبقت على جفنيها وفتحتهما عدة مرات، حتى تتضح لها ملامحه، بعد مجهودٍ لا بأس به، استطاعت أن ترى قاربًا متوسط الحجم يدنو منها، اتسعت عيناها على آخرهما، وقد رأت "آسر" يقف بوجهه الشامت على سطحه، يرمقها بتلك النظرة الدونية، حرقة عظيمة اشتعلت في قلبها، دققت النظر في الواقف خلفه، والذي تقدم خطوتين ليقف إلى جواره، انقبض قلبها المعذب لرؤية شبح "فضل" وشفتاه ترسم ابتسامة حاقدة، ومن خلفهما انضم خالها إليهما، ليشترك الثلاثة في ازدرائها؛ كلٌ على شاكلته، وبطريقته المهينة.

هاجمتها موجة عنيفة، كادت تقلب اللوح على ظهره؛ لكنها نجت في اللحظة الأخيرة، ورغم آلام عينيها رفعتهما "فيروزة" نحو ثلاثتهم، تنتظر تحرك أحدهم لإنقاذها، لم يحركوا ساكنًا! ظلوا يشاهدون معاناتها المهلكة ببرودٍ شديد؛ وكأن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، يبتسمون لأنفسهم وهم يشيرون بأيديهم نحوها، وحده من التقطت أذناها ندائه البعيد، أجبرت رأسها على الاستدارة للجانب، لتسمع صوته الرجولي المألوف ينادي مجددًا:

-"فـيروزة!".

غمرها رغم الخطر المحدق بها إحساسًا مطمئنًا بإمانٍ لا حدود له، دق قلبها بقوةٍ، وقد رأته يسبح في اتجاهها، ذراعاه يضربان الأمواج باستماتةٍ، كما لو كان يقاتلها، في حلبة للمصارعة، سعى جاهدًا ليصل سريعًا إليها، ابتسمت تلقائيًا رغم كل شيءٍ لوجوده، شعرت بدفءٍ ينساب من طرفيها، أدركت لاحقًا أنها دموع سعادتها لحضوره المصحوب بأسمى معاني الشهامة، سماتٌ افتقدت وجودها في محيطها الذكوري، انفرجت شفتاها لترد النداء، ليعلم مكانها؛ لكن انحبس صوتها داخلها، كررت المحاولة، ولا استجابة من أحبالها! تلاشى الأمان، وحل الخوف كبديلٍ عنه، صرخ قلبها يناديه، بما عجز اللسان عن النطق به:

-ماتسبنيش!

.....................................................................

مسحت آثار النعاس العالقة بجفنيها، حين رأت ابنتها ما تزال متكومة أمام باب المنزل المنغلق، بمفتاحٍ احتفظت به معها في غرفتها، منذ أن تركتها بالأمس على تلك الوضعية، تضم ركبتيها إلى صدرها، وتحاوطهما بذراعين معقودين عند كفيها، مع اهتزازة ثابتة لكامل جسدها. ألصقت "خلود" ظهرها بالكتلة الخشبية، ما زالت تبكي بنحيبٍ رغم جفاف الدموع في مقلتيها، منحتها "بثينة" نظرة إشفاقٍ على حالها البائس، زمت شفتيها أولاً في تأفف قبل أن تحرك فكها قائلة، بشيء من الرجاء:

-يا بنتي حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده.

لم ترفع عينيها نحوها، وقالت بوجهٍ بائس، تعكس نظراتها قهرًا عميقًا:

-ده "تميم" يامه.

ردت والدتها في عصبية، مستنكرة موقفها العطوف نحوه:

-أهوو ربنا خدلك حقك منه، ده بدل ما تفرحي فيه؟

اعترفت لها في لحظةِ صدقٍ:

-حق إيه بالظبط؟ يامه ده احنا اللي جنينا عليه!

غمغمت والدتها في تبرمٍ:

-وهو ماصنش العِشرة...

حقدٌ مضاعف غلف نظرات "بثينة"، كما تحولت نبرتها للمزيد من القساوة، وهي تتابع:

-ده بدل قلبك ما يبقى حجر، طالعة خايبة بالشكل ده؟ احنا في غابة، "تميم" واللي من عينته ياكلوكي لو اديتهم ريق، اتعلمي تدوسي على الناس، ومحدش يدوس عليكي!!

للحظةٍ شردت عينا ابنتها؛ وكأنها تستحضر صورته في ذهنها، ظهرت بحة مختنقة في صوتها، عندما أخبرتها بتملكٍ واضح:

-هو غير أي حد، ده بتاعي أنا، قلبه ملكي لوحدي، مش من حق حد يزعل عليه غيري

زفرت قائلة في ضجرٍ من امتنهانها لنفس الطريقة في استجداء مشاعر الآخرين:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، يا بت اعقلي بقى.

ضمت "خلود" شفتيها في غيظٍ، بينما خاطبتها والدتها بلومٍ، مستشعرة تقصيرها في تنفيذ ما ظلت توصيه بها طوال حياتها:

-كان عندي أمل تعملي إنتي وأخوكي اللي معرفتش أعمله زمان بعد موت أبوكي، بعد ما خدوا كل حاجة مني، وسابوني للهم لوحدي...

تردد بداخلها صوتًا حاقدًا، لم تتمكن من البوح به علنًا:

-أختي خدت كل حاجة حلوة، وأنا كان نصيبي الشقى والحرمان، ويا ريت عيالي طلعوا عدلين، إنما واحد دلدول مراته، تحركه بصوباعها الصغير، والتانية فاضلها تكة وتدخل السرايا الصفرا.

ارتفع صوت نهنهات "خلود"، فصاحت بها والدتها على مضضٍ، رافضة السماح لقلبها بأن يرأف بحالها:

-كفاية بقى يا بت، عيطي على حد يستاهل، ده أنا لو جرالي حاجة مش هتعملي ربع المناحة دي عليا.

هسهست ترد عليها:

-بعد الشر يامه، بس...

بترت باقي جملتها، وأرخت ساعديها لتزحف على ركبتيها في اتجاهها، تعلقت بساقهان ورفعت عينيها المتورمتين –من كثرة البكاء- نحوها تستعطفها بتوسلٍ لم تمانع في إظهاره:

-وديني عنده يامه، أبوس إيديكي ورجليكي خلينيي أكون جمبه.

نظرة يائسة كست عيناها نحوها، كانت مدركة أن ابنتها لن تتوقف عن إذلال نفسها في سبيل استعادة طليقها، والظفر بحياةٍ تعيسة، فرضت عليها منذ البداية، لن تحظى فيها مهما مرت بها الأيام، سوى بالمزيد من القهر، والشقاء. بوجهٍ غائم تطلعت إليها "بثينة"، لتنفخ بعدها في سأم وهي تعلق مستسلمة أمام إلحاحها المريض:

-ماشي يا "خلود"، هوديكي عنده...

لكن ما لبث أن تحول صوتها المستاء للصرامة:

-بس إياكي تعملي حاجة مترضنيش واحنا هنا، عززي نفسك، وخلي عندك قيمة وكرامة.

قفز قلبها طربًا لاستجابتها لها، استندت على كفيها، لترفع جسدها عن الأرضية، وهتفت بفرحةٍ فاقت أي تصور:

-حاضر يامه، اللي إنتي عايزاه، المهم أبقى معاه.

راقبتها والدتها بنظرات مشمئزة مزعوجة؛ لكنها رغم كل شيء انصاعت لها، على أمل أن تسترد عقلها المغيب، بسبب رغباتها الجنونية.

......................................................

اكتظ المشفى بتواجد العشرات من معارف عائلة "سلطان"، الكل تهافت لتقديم العون، الدعم، وأيضًا الوقوف بجانب قطبي العائلة في مصابهما العظيم، فمن يرقد بين الحياة والموت معروفٌ بأصالته في عالم يفتقر لرجالٍ من أمثاله، كان على رأس هؤلاء عائلة "حرب"؛ "طه"، وابنيه؛ "منذر" و"دياب". صمتٍ جليل سيطر على الردهة المزدحمة، لم يقطعه إلا أنفاس مشحونة، أو نهنهاتٍ مكتومة. تحرك "منذر" في اتجاه "سراج"، سحبه من ذراعه ليسأله مستفهمًا، بعد أن انضم إليهما الحاج "عوف":

-إيه اللي حصل بالظبط؟ "تميم" كان لوحده في الدكان؟ ولا مين كان معاه؟

أجابه "سراج" بتعابيرٍ واجمة:

-الظاهر مكانش معاه حد.

في حين أضــاف "عوف" باستهجانٍ شديد:

-ولاد الحرام شكلهم كانوا مرقدينله.

علق عليهما "منذر" بتوعدٍ مهدد، قاطعًا على نفسه وعدًا نافذًا، وبنظراتٍ تحولت للشراسة:

-ولاد الـ ....، قسمًا بالله ما سايب اللي عمل فيه كده، لو كان في المريخ هاجيبه.

مال "سراج" نحو "منذر" برأسه ليقول له، بصوتٍ شبه خافت، وإشارة ضمنية من عينيه:

-بأقولك يا ريس "منذر"..

فهم الأخير تلميحه غير المنطوق، وتحرك معه بعيدًا عن الحاج "عوف" الذي عاود أدراجه لينضمن للبقية. تساءل "منذر" بقسماته الجادة:

-خير يا "سراج"؟

جاوبه بكلماتٍ مستريبة:

-وأنا بأطلع "تميم" من قلب النار في دكانه، كان بينادي على "محرز".

في ذهولٍ ردد اسمه:

-"محرز"؟!!!

أومـأ برأسه مضاعفًا التأكيد على هويته:

-أيوه، حتى أنا فكرته محبوس معاه.

جاب "منذر" بنظراته على أوجه المتواجدين في الردهة المزدحمة، وقال وهو ينظر مرة أخرى في اتجاه "سراج":

-أنا مش شايفه موجود وسط الناس اللي هنا.

عقب عليه بشكٍ:

-ما هو ده اللي أنا مستغربه، والست جماعته قالت إنها متعرفش حاجة عنه من ساعة اللي حصل!

حملق في بصمتٍ، وكأنه قد استغرق في أفكاره التحليلية العميقة، ليضيف بعدها "سراج"، مفصحًا عما يساوره من شكوكٍ،

-بيني وبينك، أنا حاسس كده إن ليه علاقة باللي حصل لـ "تميم".

هتف "منذر" من بين أسنانه، بكراهيةٍ معكوسة كذلك على ملامحه:

-الواد ده طول عمري مابستريحلوش، لِوَني (متلون/مخادع) كده، ومش صريح...

كادت نبرته القاسية ترتفع حين أكمل بعدائية:

-بس لو كان وراها، محدش هيرحمه من إيدي.

اقتضب "سراج" في الرد، فقال:

-هيبان.

توحشت نظراته معقبًا عليه بلهجته الصارمة:

-واحنا مش هنستنى لما يبان، حق "تميم" لازمًا يتجاب.

أمّن على كلامه قائلاً:

-وأنا معاك، صحيح النفوس كانت شايلة من بعض زمان، بس إنت عارفني، مابخونش، ولا أضرب راجل في ضهره.

ربت على كتفه يشكره في امتنانٍ:

-عارف يا "سراج".

تحرك "منذر" للجانب قليلاً، عندما أقبل عليه شقيقه، ليقف في المنتصف بينه وبين "سراج"، سأله "دياب" مستفهمًا، ونظراته المتفحصة تتوزع عليهما:

-الكلام على إيه دلوقتي؟

أجابه شقيقه مباشرةً؛ وكأنه يأمره:

-عايزين نشوف "محرز" متاوي فين.

تقلصت عضلات وجهه في استغرابٍ، وضاق ما بين حاجبيه متسائلاً:

-"محرز"؟ ليه؟

لم يجبه "منذر"، ففهم على الفور مقصده، ونطق يسأله بحذرٍ، وكامل نظراته عليه:

-أوعى يكون آ...؟

هز رأسه بإيماءة مؤكدة، قبل أن يتابع بهدوءٍ:

-"سراج" شاكك في ده، بس مش عايزين نسيح في المكان لحد ما نتأكد.

فرك "دياب" كفيه معًا، ورد على الفور، كما لو أن الأمر يروقه:

-اشطا.

تساءل "سراج" بغرابةٍ:

-هتعرف تجيبهولنا؟

ابتسامةٍ واثقة أنارت زاوية فمه عندما أجابه:

-بسيطة، عندي اللي يقلب الدنيا عليه، حتى لو كان مستخبي في أوم أوم.

رد "سراج" بتشكيكٍ، مستخدمًا يده في الإشارة:

-هتدوروا عليه فين؟ ده زي ما يكون بندور على إبرة في كوم قش.

غمز له بطرف عينه، وهو يخبره بثقة تامة:

-دي لعبتي.

وضع "منذر" يده على كتف شقيقه، وجال بنظراته على الاثنين مشددًا من جديد:

-خلاص يا رجالة، اتفقنا، والكلام ده هيفضل بينا.

استجاب لأمره الصارم "سراج"، وقال:

-ماشي يا ريس.

...............................................................

انحنى أمام باب منزله، ليتمكن من سحب حذائه القديم، من مجموعة الأحذية المتراصة على وحدة الأدراج البلاستيكية، وضعه على الأرضية، واعتدل في وقفته، ثم مد قدميه ليضع واحدة تلو الأخرى فيه. استقام "خليل" واقفًا بعد أن ارتداه، لف ذراعه خلف ذراعه، ليتفقد محفظته الموضوعة في جيب بنطاله الخلفي، ثم صــاح عاليًا، وهو يشرأب بعنقه قليلاً:

-يالا يا "حمدية"، شهلي أوام، كده هنتأخر على الجماعة.

أتت إليه زوجته على عجالةٍ، وهي تضم طرفي حجابها عند عنقها، شبكتهما بدبوس معدني وهي ترد بأنفاسٍ شبه متهدجة:

-على طول أهوو، أنا بألبس الطرحة.

غمغم في خفوتٍ، بنبرة مستهجنة، ونظراته الممتعضة تتباعد عن وجهها:

-يا مسهل، يومك بسنة.

سألته "حمدية" بتعجبٍ، ووفق ما تربت عليه من أعرافٍ:

-بأقولك إيه، هو احنا مش هناخد في إيدينا حاجة واحنا رايحين؟

استدار نحوها بوجهه العابس، معقبًا في تهكمٍ ناقم:

-يعني هما مستنين منا كيلو البرتقان ولا الجوافة؟ ولا هيفرق معاهم هنجيب إيه؟ دول يشتروا السوق برجالته يا "حمدية"!

ببساطةٍ اقترحت عليه بديلاً:

-طب ما نجيب ورد، ولا آ....

قاطعها بسخرية صريحة منها:

-ورد؟ ليه رايحين نخطب؟ وبعدين إنتي عايزانا نرمي فلوسنا في الأرض؟ هو احنا لاقينها بالساهل، خلينا كده نروح خفاف!

هزت رأسها متمتمة:

-ماشي.

لوهلةٍ بدا مترددًا، في مفاتحتها في نفس الموضوع المتكرر، والخاص بتكليفات عمله المفتعلة؛ لكن لا مفر من إخبارها، فزوجته الأخرى وابنته، ألحتا عليه للمكوث معهما لبعض الوقت، ولم يستطع الرفض أو التأجيل، استنشق الهواء بعمق، وتحاشى النظر نحوها، قبل أن يستطرد قائلاً:

-على فكرة، المدير عندنا احتمال يبعتني مأمورية بتاعة أسبوع ولا 10 أيام.

رمقته بتلك النظرة الحاقدة الفاضحة لكذبه؛ وإن لم ينظر نحوها، تحركت في اتجاهه، ووقفت قبالته، رأته يهرب بنظراته عنها، ومع هذا سألته بهدوءٍ، مدعية تصديقها لادعائه الملفق، رغم نيران الغضب المستعرة بصدرها:

-هو إيه مافيش غيرك اللي شايل الشغل على دماغه؟ مايشوف أي حد تاني.

تنحنح قبل أن يبرر لها بمزيدٍ من الكلام المخادع:

-إنتي عارفة مابيثقش في حد غيري، الباقيين مابيعرفوش يمشوا الشغل زي ما هو عايز.

هزت رأسها بإيماءة صغيرة مُؤمنة عليه:

-أها.. قولتلي.

حاول أن يبدو مقنعًا معها، فلا ترتاب في أمره، لهذا وعدها:

-وأنا مش هتأخر، بعد المأمورية دي هاخدك يومين مع العيال تغيروا جو في البلد.

سخرت منه قائلة بابتسامة صغيرة متهكمة، ارتسمت على جانب فمها:

-لا والله شهم بصحيح.

-طب يالا بينا.

ردد تلك الكلمات بنبرة سريعة وهو يخرج من باب منزله، لتتبعه "حمدية" بخطواتٍ متمهلة، متوعدة إياه بشراسةٍ مهلكة في نفسها:

-اصبر عليا يا "خليل"، وأنا هاخليك تقول حقي برقبتي!!!

................................................................

الخسيس عديم الرحمة، والذي لا يملك قلبًا، تركها تقضي ما تبقى من ليلها الموحش، طريحة الأرضية الباردة، فاقدة للوعي، وغير قادرة على الحركة، لم يرأف بها، ولم يكلف نفسه عناء تفقد أحوالها، بل على العكس نام في الفراش بمفرده، هانئًا، وممنيًا نفسه بتدفق أموالٍ جديدة إلى حسابه البنكي، معوضًا ما تكبده من خسائر؛ وإن كان ذلك بأرخص الوسائل، وأكثرها حقارة! تضاعف أنين عظام "فيروزة" حين بدأت تستفيق من غيبوبتها، بقي طيف "تميم" عالقًا في مخيلتها، إلى أن تبخر مع استعادتها لكامل إدراكها.

لم تقوَ في البداية على التقلب على جانبها، فشلت محاولتها البسيطة لتحريك أطرافها، لتؤكد لها حواسها أنها لم تكن تحلم، وما عانته فعليًا كان كابوسها الجديد، مع فارق أنه ألصق بها ريبًا، تعرضت فيه لنوعٍ لم تختبره من قبل، يمتاز بأنه أشدُ حقارة وظلمًا، ويختلف كليًا عن أي شيء جابهته منذ اندلاع حريق الدكان؛ لكن تلك الإرادة القوية بداخلها مدتها بقدرٍ من الطاقة، حفزتها على الصمود، وإن لم تكن كافية للتخلص من آلامها الحديثة.

بصعوبة تمكنت من رفع جسدها، لتعتدل في وضعية الجلوس، حركت ذراعها على مهلٍ، لترفعه إلى وجهها المكدوم، تحسسته بحرصٍ شديد، تأوهات مصحوبة بارتجافةٍ قوية خرجت من جوفها، كردة فعلٍ طبيعية لما أصاب غالبية جسدها من كدمات وتورمات مختلفة، ما زالت تئن من تأثير تعنيفه البدني الأعمى عليها، قشعريرة قارصة نالت بشراسةٍ من جلدها، وجعلت شعيراتها القصيرة تنتصب على طول بشرتها، عندما جاءها صوته المقيت من خلفها يأمرها باشمئزازٍ:

-غطي ضهرك ده، مش ناقص أشوف قرف على الصبح.

رغم أنها لم تكن سوى عارية الكتفين والظهر، إلا أن نظراته الوضيعة جردتها من قطعة الثياب التي تحجب مفاتنها عنه، لفّت رأسها ليبدو وجهه المنفر في مرمى بصرها، وهتفت تلعنه، بأنفٍ مرفوعٍ في إباء أغاظه:

-إنت أحقر واحد آ ...

ما زالت تحتفظ بشموخها، وذلك ما استفزه رغم تحطيمه الموحش لأنوثتها، قاطعها "آسر" محذرًا بسبابته المرفوعة أمام وجهها:

-قبل ما تتهوري تاني بلسانك، افتكري إني معايا اللي أطير بيه رقبتك، وبالعكس كل الناس هتشكرني على ده.

ضغطت على أسنانها تنعته بهمسٍ، خرج بأنفاسٍ مغلولة منه:

-إنت شيطان.

سمع هسيس صوتها، وقال ساخرًا وهو يعقد ذراعيه أمام صدره

-شكرًا على ذوقك، وقومي يالا روقي المكان...

لو كانت النظرات تقتل، لأردته نظراتها المميتة قتيلاً على الفور، ببرودٍ تطلع إليها، وأخبرها كمن يَمنُّ عليها بإحسانٍ:

-على فكرة أنا مش جاي النهاردة على الغدا، هتلاقي في بواقي أكل من امبارح على التربيذة، ده لو ليكي نفس تاكلي.

لم تتحمل احتقاره، فصرخت ببقايا كبرياءٍ محطم:

-إنت بتعمل معايا كده ليه؟ أنا أذيتك في إيه؟

أجابها بتنهيدة بطيئة، وتلك الابتسامة السمجة تحتل ثغره:

-الصدفة أو حظك بقى وقعك في طريقي، وأنا متعودتش أخسر حاجة حطيت عيني عليها، بس المرادي خيبت معايا...

توقف عن إتمام جملته، ليسدد لها نظرة استحقار أشد، وزاد الطين بلة بقوله المهين:

-توقعت هاتجوز واحدة كاملة الأوصــاف، مش نص ست!

وضعت "فيروزة" يديها على أذنيها لتصمهما عن سماع كلامه الحقير، وهدرت بصدرٍ ناهج:

-كفاية، مش عايزة أسمع الكلام ده.

دنا منها أكثر، فبات على بعد خطوتين منها، ناظرًا نحوها بدونيةٍ، قبل أن يحرك فكه ليهددها علنًا:

-اتعودي من هنا ورايح على كده، وبأحذرك من تاني لو فكرتي تأذيني، بأي شكل أنا مش بس هاطلعك زانية، وإني راجل مظلوم، لأ هاحمل الفيديو ده على النت، هاخلي فضيحتك عالمية، ما هو أنا عامل منه نسخ كتير بوشوش رجالة مختلفة، مش بس زي ما شوفتيني معاكي في الموبايل اللي كسرتيه، يعني من الآخر محدش هيصدق إنك بريئة، ووريني بقى هاتقدري تعملي إيه.

كسرةٌ أشد وطأة نالت من روحها المهزومة، فسألته بقهرٍ، وهي تكافح لكبح دموعها أمامه:

-مش خايف من ربنا؟

تجهم كليًا من سؤالها، وهتف في عصبيةٍ وهو يركل قدمها بحذائه:

-يوووه، صدعتي دماغي وأنا لسه بابتدي يومي.

تأوهت من الألم الشديد، قبل أن تدعو عليه في حرقةٍ:

-منك لله يا "آسر".

كان على وشك نعتها بلفظٍ حقير، لولا سماعه لدقاتٍ على باب منزله، فتركها في مكانها، وانصرف خارجًا من الغرفة، تتبعه عينان تلفظان الغضب منهما، وسبابٍ خافت يلعنه. بجهدٍ أكبر تمكنت من النهوض بمفردها، كاتمة أنينها الموجوع، حتى استطاعت أن تقف مجددًا على قدميها، كالعنقاءِ، من الرماد تُبعث وتنهض من جديد، لم تفقد "فيروزة" بعد، بقايا شخصيتها القوية، والتي لطالما تم اختبار صلابتها، دمدمت بصوتٍ خفيض، قاطعة وعدًا نافذًا عليها، عبّرت من خلاله عن احتراقها داخليًا:

-بس لو ده آخر يوم في عمري، هاقتلك قبل ما تمس شرفي، وتوطي راس عيلتي وتحطها في الطين، وده وعد مني بكده!

............................................................

خيّم السكوت على الموجودين، بغرفة الطبيب المعالج للابن البكري والوحيد لعائلة "سلطان"، بعد أن طلب ملاقاتهم للحديث عن تفاصيل حالته الحرجة، والتي أجبرته على وضعه بالعناية الفائقة، لبضعة أيام، ريثما يتجاوب مع العلاج المكثف، وتظهر حالته المتأخرة أي استجابة، ولو كانت طفيفة، خاصة بعد التدهور المفاجئ الذي هاجمه فجأة .. بصعوبةٍ كتمت "ونيسة" آناتها الموجوعة على وليدها؛ لكن صوت نحيبها ظل مسموعًا، وإن جاهدت لخنقه، ولم تختلف ابنتها عنها، شاركتها في بكائها الحارق، ولم تتوقف عن لوم نفسها عن تقصيرها في حق شقيقها، في حين بقي الجد ملازمًا للصمت، ولســان حاله يدعو سرًا لحفيده بالنجاة من كل سوء، أما "بدير" فهتف يسأله بلوعة أبٍ مكلوم:

-خير يا ضاكتور؟ جايبنا هنا ليه؟

قال كلماته الأخيرة وهو يتلفت تلقائيًا نحو الأوجه الواجمة، إلى أن استقرت نظراته على وجه الطبيب، استطرد الأخير حديثه مستهلاً، بحيطةٍ واضحة في نبرته:

-طبعًا يا حاج إنت مؤمن بقضاء ربنا وقدره

هوى قلبه جزعًا، تزعزع تماسكه الزائف، وانعكس خوفه الشديد على ملامحه، فعلق عليه بصوتٍ شابه الاضطراب:

-ونعم بالله، بس تقصد إيه بكلامك؟

بلهجةٍ هادئة لم تخلُ من القلق في بعض المواضع، خاطبه الطبيب موضحًا:

-اللي اتعرضه ابنك مش سهل، ده شروع في قتل، مش مجرد خناقة، ولا حاجة عادية...

لهنيهة توقف عن الحديث، مظهرًا بعض التردد، ثم أكمل أخيرًا، بأسفٍ انتشر في تعابيره:

-اللي ضربوه، كانوا قاصدين يموتوه، وعارفين إزاي يضربوه وفين.

شهقات مليئة بالرعب انفلتت من المتواجدين، أعلاها كانت لوالدته المفطور قلبها. لم يجرؤ الطبيب على المضي قدمًا في حديثه، إلا بعد أن خبت الأصوات، فتابع:

-الكسور سهل تتعالج مع الوقت؛ لكن قلقي دلوقتي من الغيبوبة اللي دخل فيها!

كل ما انعكس في عيني "بدير" لهفةٍ وجزع، حين نظر إليه وردد ببطءٍ، مستشعرًا صعوبة خروج الكلام من جوفه:

-غيبوبة؟

صرخت "ونيسة" في ارتعابٍ، بنواحٍ باكٍ، وهي تلطم على صدرها:

- آه يا حرقة قلبي عليك يا "تميم"، كان مستخبيلك ده كله فين؟!!!!

استدار "بدير" نحو زوجته يحدجها بنظرة صارمة، آمرة، تمنعها من العويل على ابنها؛ وكأنها فقدته، استجابت الأخيرة لأمره غير المنطوق، واضعة يدها على فمها، التفت بعدها نحو الطبيب، وسأله بتلعثمٍ غلف صوته:

-طب.. احنا.. مطلوب مننا إيه؟ نسفره برا؟ نجيبله أحسن حُكما (أطباء) في البلد؟

استغرقه الأمر لحظة ليقول:

-احنا عملنا هنا كل حاجة نقدر عليها، ومافيش قدامنا دلوقتي غير ندعي ربنا يلطف بيه.

خرجت "هاجر" عن صمتها، وتوسلت والدها ببكاءٍ شديد:

-اتصرف يابا .. ده أخويا، وابنك، هاتسيبه كده يضيع مننا؟

إن كان يبدو صلبًا من الخارج، فداخله متصدع على الأخير، أليس ابنه أيضًا؟ تماسكه الظاهري لأجل عائلته، عجز عن ضبط هدوئه، مع جملتها المحملة باللوم والتقصير، لهذا صاح بها في عصبيةٍ:

-أنا بإيدي إيه أعمله؟

ارتفعت نبرة الطبيب وهو يرجوهم، بعد أن رأى بوادر احتدام وشيك بين أفراد العائلة:

-يا حضرات مافيش داعي للخناق، وإنت يا حاج لازم تعذرهم، الحاجة أم، وأكيد قلبها واجعها على ابنها، وعلى فهمت المدام تبقى أخته، وأكيد نفسها تشوف أخوها واقف على رجله، لكن لازم تبقوا واثقين إن احنا هنا عاملين كل اللي علينا وزيادة، والباقي على ربنا.

بثباتٍ وقوة، دق الحاج "سلطان" بعكازه على الأرضية، لافتًا الأنظار إليه، ثم نطق بثقةٍ لا حدود لها، تحوي تفائلاً عميقًا، بعد سكوت طويل:

-حفيدي عضمه ناشف، وهيعدي منها إن شاءالله، ده "تميم سلطان"، مش أي حد والسلام، ادعوله من غير بُكا ولا نواح.

ابتسامة لبقة ظهرت على محيا الطبيب لنجاح الجد في ضبط زمام الأمور، وقال برجاءٍ لا يقل عن المتواجدين شيئًا:

-يا رب.

..........................................................

"كيدهن عظيم"، قولٌ متعارفٌ عليه بين العامة، مشتق من الآية القرآنية "إن كيدكن عظيم"، كدلالة عن مكر المرأة شديد التأثير في الآخرين، راود عقلها تلك الكلمات؛ وكأن بها حافزًا عبقريًا، لتثبيط مشاعر القهر السلبية، فكرت في هذه الجملة مليًا، لتذكر نفسها بأنها لم تكن من النوع الضعيف المستسلم، ذاك الذي يركع عند الأقدام بعد مذلة وازدراء مستديم، عليها ألا تحني رأسها مهما اشتدت عليها الصعاب، بل وجب عليها المقاومة، والصمود لتنأى بنفسها من شرور أشباه البشر، هكذا استعادت "فيروزة" عزيمتها! مستعيدة قدرتها غير العادية على إعادة تطييع الأمور لما فيه نجاتها.

سحبت روبها لتغطي به جسدها، وأحكمت ربطه على خصرها، تهادت في خطواتها وهي تستند على طول حواف الفراش، لتقف عند أعتاب باب الغرفة الموارب قليلاً، حيث وصلها صوتًا ذكوريًا غريبًا يتحدث بصرامةٍ، وباللغة الانجليزية. استرعى الأمر انتباهها، واقتربت أكثر، دون أن تظهر نفسها. تبينت من كلمات الرجل المقتضبة أنه قد جاء للحديث بشأنِ شكوى ما، أرهفت السمع جيدًا، حابسة أنفاسها، فقد بدا الأمر غير عادي، وربما من خلاله تستطيع أن تخلق فرصتها لاستدراج الملعون "آسر"، نحو نفس فخ الخديعة المحكم الذي أوقعها فيه؛ هذا المسمى برباطِ الحب العميق .............................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثانى من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة