-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس

 ساد لأقل من دقيقة سكون مشحون بمشاعر مختلفة في حدتها؛ لكن اشتركت جميعها في خوفها، لحظة بدت حاسمة، جعلت القلوب تقفز رعبًا، والأعين تشخص هلعًا، من المشهد المحمل بكل معاني الارتياع، امتلأت حلوقهم بأغبرة لا حصر لها، بعد أن تحول كل شيءٍ للإظلام فجأة، قبل أن تتضح الرؤية وسط ركام التصدعات التي طالت من المبنى. ظل المحاصرون بالداخل يسعلون بحشرجةٍ مؤلمة، ويتفلون ما التقطته أفواههم، هذه الأصوات المتحشرجة، أعطت بارقة أمل، بأنهم لا يزالون على قيد الحياة .. صوتًا صارمًا تخلل الجدران ذات الشقوق الكبيرة يأمر المتواجدين، بتحذير شديد اللهجة:

-كله يطلع من هنا، وحاسبوا النار يا جدعـــــــان.

بدت كريشة يتقاذفها الهواء العنيف، مع قوة الانفجار؛ لكن لحسن حظها تكومت على كتلٍ من اللحم البشري، كانت كالدرع لها، حيث دفعتها الأجساد المسرعة نحو طريق الخروج، والذي بدا بعيدًا للغاية، رغم الأمتار المعدودة التي تفصلها عن المدخل. لم تعرف "دعاء" أي يدٍ جذبتها لتنجدها؛ لكن سعادتها بنجاتها من هذا الجحيم المستعر فاقت خوفها الحقيقي، نظرة زائغة ألقتها على عمارتها المعبقة بالأدخنة والغبار، اتسعت عيناها على آخرهما، وقد رأت ألسنة اللهب تنطلق من نافذة منزل "سماح"، تأخيرها للحظات عن الصعود إليها، كان السبيل لإنقاذ حياتها من موتٍ محتوم. خارت قواها مع عظم المُصاب المفجع، أيادٍ أخرى تلقفتها، وأبعدتها عن محيط الخطر، تذكرت والدتها فجأة، كانت تتحدث إليها قبيل الانفجار المدوي، انخفضت أنظارها نحو يدها، هاتفها المحمول ليس بها، ربما سقط منها سهوًا خلال انشغالها باللحظات المميتة التي مرت بها، أصابها القلق الشديد، فوالدتها حتمًا ستموت فزعًا إن ظنت أنها لقيت حتفها، آملت أن تستطيع الوصول إليها لطمأنتها، عل أحد الجيران يتكفل بهذا.

.....................................................

تعاون أهالي المنطقة على إخراج السكان المحتجزين بالداخل، عائلة وراء الأخرى، لضمان سلامة الجميع، وبقيت فقط أسرة "خليل" المحتجزة داخل منزلهم، بسبب النيران المنبعثة منه. تجرأ أحدهم -ممن يملك سمات الشجاعة والإقدام- على اقتحام المنزل، قفز فوق كومة تحترق، ليقف في بقعة تخلو من الألسنة الجائعة، غطى فمه وأنفه بذراعه، ثم تلفت بعينين تحرقهما الحرارة العالية باحثًا عن ناجين، انتفض في صدمة، عندما تجمد بصره على الأريكة، حيث رأى مشهدًا تقشعر له الأبدان، وجعله يشعر بالغثيان، ورغبة عارمة في التقيؤ، عجز لدقيقة عن إبعاد أنظاره عن جسد "سماح" المتدلي عليها، تفحم معظم جلدها، وطُهي جزء آخر؛ وكأن جثتها كانت معلقة عل حاملٍ في حفلٍ للشواء، هلل مستغيثًا في ارتعابٍ:

-رحمتك يا رب.

فقد جزءًا من شجاعته أمام هول المنظر، وسعل في ألمٍ، بسبب الدخان الخانق، غطى بذراعه أنفه ليمنعه من اختراق رئتيه، وبخفةٍ لا تخلو من حرصٍ كبير تجول وسط النيران، باحثًا عن ابنتها، وصل إلى غرفة مغلقة بباب خشبي، النيران تسعى بنشاطٍ للوصول إليه لإحراقها، تراجع للخلف شاحذًا قواه، ثم اندفع بكامل قوته للأمام، راكلاً الكتلة الخشبية بقدمه، ليفتحه على الأخير. ولج إلى الداخل، ولحسن الحظ وجد الصغيرة ملاقاة على الأرضية في غرفتها، بجوار فراشها، لم تمسها النار بعد، رغم احتراق ما بالخارج، جثا على ركبته، ووضع يده على عنقها، باحثًا عن نبضها فيه، وصوته يتضرع برجاءٍ شديد:

-عديها على خير يا رب.

تنفس الصعداء حينما وجد قلبها مازال ينبض بالحياة، لعل المولى كتب لها النجاة، همس في ارتياحٍ طفيف:

-لطفك يا كريم.

دون ترددٍ، انحنى ليحملها على كتفها، وسحب غطاءً من على فراشها، ليلف جسدها الساكن به، وليحميها من الألسنة المتعطشة لتناول المزيد من اللحم والخشب .. ومثلما دخل في سرعةٍ وخفة، بحث عن طريق عودته بنفس الطريقة، التقى أثناء خروجه بآخرين ممن تشجعوا لمساعدة العالقين، ناولهم الطفلة، وواصل طريقه صعودًا لطابقٍ آخر، عله يجد من يمد له يد العون.

..........................................................

هاجسٌ موتر انتابها بشكلٍ قوي، حينما طرقت على باب منزلها، لتتفقد أحوالها، ولم تجد استجابة منها، فليس من عادتها أن تختفي هكذا دون أن تعلمها مسبقًا بذهابها، ولو كان لمحلٍ قريب. ظلت باقية في مكانها لبضعة لحظاتٍ، معتقدة أنها ربما تكون قد غفلت هي وأولادها؛ لكن ليس مع هذا الطرق المتواصل على الباب، دعا الأمر للاسترابة. تساءلت "آمنة" مع نفسها في اندهاشٍ:

-هاتكون راحت فين كده من غير ما تقولي؟

تركت حيرتها جانبًا، واستبشر خيرًا، تحركت من مكانها، وهبطت الدرجات لتعود إلى منزلها، حيث ما تزال ابنتها باقية معها، سألتها "همسة" بحاجبين معقودين:

-برضوه مش موجودة؟

هزت رأسها بالنفي قبل أن ترد:

-لأ...

تطلعت إليها ابنتها في اهتمامٍ، حين استكملت باقي جملتها:

-وحتى موبايلها مقفول.

بررت "همسة" غيابها، وقالت بوجهٍ عادت عضلاته للارتخاء:

-ما جايز تكون في مشوار وواخدة العيال معاها!

ردت نافية بتعابيرٍ متوجسة:

-"حمدية" متعملهاش، طول عمرها بتسيب العيال عندي لو راحت في حتة، هي بتحب تتحرك خفيفة.

حركت ابنتها كتفيها في عدم اكتراث، وأضافت:

-الله أعلم بصراحة...

ثم صاحبت والدتها بعينيها وهي تتجه نحو النافذة، لتتطلع منها للمارة، صمتت لبرهةٍ، قبل أن تقول كنوع من التعليق على غرابة تصرفات زوجة خالها:

-هي بقالها فترة مش زي تملي، تحسيها على طول ساكتة، وواخدة جمب، زي ما يكون في حاجة مهمة شاغلة تفكيرها.

استندت "آمنة" بوجنتها على كفها، تراقب كل شاردة وواردة، تحدث في الطريق أمامها باهتمامٍ مبالغ فيه، علها تلمح زوجة شقيقها وهي قادمة. تنهيدة مهمومة تحررت من بين شفتيها، تبعها همسها القلق:

-ربنا يستر بقى.

استقامت فجأة في وقفتها عندما لمحتها تترجل من إحدى سيارات الأجرة، على ناصية الطريق، ترتدي ثيابًا لا تشبه ما تضعه على الأغلب. صاحت تلقائيًا، لتُعلم ابنتها بمجيئها، وكامل نظراتها عليها:

-أهي جت ..

اكتسب صوتها رنة قلق غريبة، وقد رأتها تسير بمفردها، لا تصطحب أحدًا، فهتفت بقلبٍ يغمره الخوف:

-دي جاية لواحدها، مش معاها العيال.

استغربت "همسة" من خوفها الزائد، وعلقت على كلامها قائلة:

-مش يمكن سيباها مع خالي؟

دون تفكيرٍ نفت هذا الاحتمال:

-لأ، خالك نازل من أول النهار، وكان لواحده.

سألتها في دهشة، انعكست على ملامحها كذلك:

-أومال العيال فين؟

ردت بوجهٍ شبه شاحب:

-مش عارفة، وقلبي قلقان عليهم.

حاولت "همسة" بث الطمأنينة إليها، فأردفت بابتسامةٍ لم تكن في محلها:

-دلوقتي نعرف، هما هيروحوا فين يعني.

على الفور، وبخطواتٍ متعجلة ابتعدت "آمنة" عن النافذة لتتجه إلى باب منزلها، وقفت قبالته، تنتظر صعود "حمدية" عليه، وما إن رأتها هتفت تسألها بلهجةٍ مزعوجة:

-إيه يا "حمدية"؟ كنتي فين؟

استنكرت نبرتها تلك، وردت بتذمرٍ:

-هو تحقيق ولا إيه؟

تغاضت عن سؤالها عن ثيابها الغريبة، المتناقضة مع ما اعتادت الخروج به، لتجيب عن سؤالها معللة:

-لأ، بس أنا طلعت أخبط عليكي محدش فتحلي.

حررت "حمدية" حجاب رأسها قليلاً، وفتحت حقيبتها لتبحث عن مفتاح المنزل، أسفل البرقع المدسوس بداخلها، تابعت صعود درجات السلم، وصوتها يقول في إرهاقٍ لا يخلو من البرود؛ وكأنها لم تقترف ما تقشعر له الأبدان:

-كنت في مشوار ياختي، عايزة حاجة مني؟

لحقت بها تسألها:

-طب والعيال فين؟ مش معاكي ولا إيه؟

بنفس الصوت البارد أخبرتها:

-ليه؟ هما مش فوق؟ أنا كنت سيباهم نايمين.

عاتبتها بجدية مغلفة بالقلق:

-بس مقولتليش يا "حمدية"، لأني خبطت ومحدش فتح.

لم تلتفت برأسها نحوها، وقالت وهي تتجه نحو منزلها:

-ما أنا قافلة عليهم الباب ونزلت.

بانزعاجٍ ما زال يظهر في صوتها، تكلمت "آمنة" قائلة:

-إنتي متعودة تسيبهم معايا لما تخرجي.

استدارت للجانب لتنظر إليها بتأفف، وردت على مضضٍ، بكذبة بدت مقنعة:

-محصلش حاجة يا حبيبتي، كنت في حتة هنا جمبنا مش مستاهلة.

تحركت أنظار "آمنة" مع حركة يدها وهي تدس المفتاح في قفله، متابعة قولها:

-طيب أنا عملتهم أكل، دلوقتي أخلي "همسة" تطلعه.

تجاهلت "حمدية" الرد عليها، وتعاملت معها بنوعٍ من التعالي والاحتقار؛ وكأنها خادمة تعمل لديها، وليست شقيقة زوجها التي لا تتوانى عن رعاية صغارها، أسندت حقيبتها على الطاولة، وهتفت تنادي بصوتٍ مرتفع، حينما لاحظت الصمت المريب السائد في منزلها:

-يا عيــال، إنتو فين؟

انتظرت للحظة عل أحدهم يأتي من الداخل مسرعًا، ليشكو لها سوء تصرف أحد الأشقاء؛ لكن ما زال السكون المخيف هو سيد الموقف، لوهلةٍ انقبض قلبها، وصاحت بصوتٍ أكثر علوًا، فيه زجرة منزعجة:

-يا واد إنت وهو؟! مش سامعيني ولا إيه؟

ازداد خوف "آمنة" على الصغار، ولطمت على صدرها مدمدمة بهلعٍ أكبر عن ذي قبل:

-يا نصيبتي، هايكونوا راحوا فين؟!!!

هرولت "حمدية" ركضًا نحو غرفة أبنائها، الغريب في الأمر أن باب الحجرة كان مفتوحًا على أخره؛ لكن المفزع حقًا أن ثلاثتهم كانوا يفترشون الأرضية بأجسادٍ فاقدة للوعي. صرخة مرعوبة انطلقت من جوف والدتهم، وهي تراهم على تلك الحالة الهامدة. جثت على ركبتيها أمام الأول، تهزه بعنفٍ، وهي تناديه:

-قوم يا واد رد عليا، إيه اللي حصلك؟

بينما انحنت "آمنة" نحو الثاني تحاول تحريكه بكل ما فيها من خوف وارتعاب؛ وكان مماثلاً لشقيقه، لا يتحرك، مجرد جسد لا يتنفس، متصلب العضلات، يميل للزرقة، وبرودة مخيفة تنتشر في أطرافه، وكأنها قد باتت فاقدة للإحساس. لم يختلف حال الثالث كثيرًا عنهما، ارتفعت أصوات الصرخات المكلومة فزلزلت أرجاء المنطقة. انضمت إليهما "همسة" بعد أن ركضت صعودًا على الدرج، تجمدت في مكانها، وعيناها تبرزان من محجريهما في فزعٍ، انخلع قلبها لوعةً عندما تفاجأت بالمشهد المروع، لم تستطع هي الأخرى كتم صرخاتها المصدومة.

رفعت "حمدية" جثمان طفلها إلى صدرها، ضمته بشدة وهي لا تولول في قهرٍ وحسرة، رأت أسفله قطعة من العجين الذي أعدته لخبز الكعكة المشؤومة، تذكرت أنها تركت باقي الكمية في علبة بلاستيكية صغيرة، كانت قد احتفظت بها في درج الثلاجة الخاص بتخزين الخضراوات والفواكه، لتظل حالتهم طازجة، لم يطرأ ببالها مطلقًا أن يقوم أحد أبنائها بفتح ذلك الدرج، والتفتيش فيه لإيجاد تلك العلبة اللعينة؛ وكأن القدر يعاقبها على جريمتها النكراء. تناست أثناء تخطيطها لفعلتها أن أولادها يحبون تناول العجين هكذا نيئًا؛ وكأنها دون أن تعي ذبحتهم بنفس السكين الذي قتلت به أناس أبرياء غيرهم.

لم تفهم "همسة" ما الذي أصاب الصغار ليفقدوا حياتهم، في غمضة عينٍ، وغفلة عن الجميع، هتفت بصوتٍ متقطع الأنفاس، وعيناها تفيضان بالدمع الحارق:

-خلينا نطلب الإسعاف عشان نلحقهم، أكيد هما هيبقوا كويسين.

بينما رددت "آمنة" بصوتٍ باكي، وقلبٍ مفجوعٍ:

-يا حرقة قلبي عليهم، دول لسه صغيرين.

لوهلةٍ تجمد إدراك "حمدية" العقلي عما يحدث حولها، تخشبت في جلستها، تضم أحد صغارها إلى حضنها، شاخصة لأبصارها؛ وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، قبل أن يقتحم عقلها سيلاً من مشاهد متقطعة لزيارتها مع ضرتها، وطفلتها الصغيرة، تردد صوتها المرحب بها في عقلها:

-نورتي يا ست "آمنة".

بقي الاسم يتردد بقوة في عقلها، وابتسامة "سماح" المستفزة تزداد اتساعًا، وكأن روحها تخاطبها، تزيد من غيظها، خاصة مع تذكرها لكلامها المهين عنها. تلقائيًا تحركت أبصارها الزائغة نحو "آمنة"، لتنهار بعدها، ملقية بكامل اللوم على عمة أبنائها، في صراخٍ هيستري مقطوع الأنفاس:

-إنتي ..السبب، إنتي... اللي.. قتلتيهم!

لم تنتبه لها أيًا منهما، فكلتاهما كانتا مشغولتان بحمل اثنين من الأشقاء، وصوتها المتقطع لم يكن مفهومًا وسط الصراخ المتكرر، تحركت "همسة" أولاً، محاولة الركض بمن تحمله خارج المنزل، اعترض طريقها زوجها، رفع أنظاره نحوها متسائلاً في قلقٍ كبير:

-في إيه اللي حصل؟ وإيه الصويت ده؟

أجابته بصوتها المنتحب، وهي تحاول أن تخرج جملها مرتبة:

-الحقنا يا "هيثم"، العيال مش عارفين حصلهم إيه، مابيتحركوش.

انخفضت عيناه نحو الصغير الساكن في أحضانها، لم يكن هناك وقتًا كافيًا لإضاعته، كل ثانية تشكل فارقًا، لذا دون ترددٍ، حمل عنها الطفل، وأخبرها بصرامةٍ:

-هننقلهم المستشفى بعربيتي، ده أسرع.

ركض به الدرجات هبوطًا للأسفل، على أمل أن يكون في حضوره غير المتوقع، نجاة لهؤلاء الأبرياء.

.......................................................

لبوا أوامره بحذافيرها، بشأن التأكد من سلامة شقيقته، وعودتها للإقامة الكلية في منزل عائلته، لتكون تحت أعينه مباشرة، وبعيدًا عن أقل احتمال من تعرضها هي أو رضيعها للتهديد بسبب زوجها الوضيع "محرز"، في حين لم تفهم "هاجر" سبب إصرار والدها على إحضار الهام من متعلقاتها الشخصية، وما يكفيها من ثيابٍ ومستلزمات، من أجل المكوث لفترة طويلة بصحبة العائلة، استرابت من الأمر، رغم أنه من الطبيعي أن تظل لفترة، لتكون إلى جوار شقيقها الذي نجا بأعجوبة من حريق الدكان. صعدت لمنزلها، بعد تأكد كلاً من "منذر" و"دياب" من خلوه من أي تهديد، وذاك ضاعف شكوكها أيضًا، كان "بدير" على وشك اللحاق بهما؛ لكن طلب منه "سراج" بلطفٍ:

-خليك إنت مرتاح يا حاج، احنا موجودين، هانقوم بكل المطلوب.

ابتسم له في امتنانٍ وهو يشكره:

-تسلم يا ابني

نظرة خاطفة، بالكاد تكون محسوسة، ألقاها على وجه "هاجر" التي كانت مشغولة في التطلع لهاتفها المحمول؛ وكأنه بهذا يريد تذكر ملامحها، وجد نفسه يتصرف مثلما فعل بالماضي، نظرات خلسة، لا يشعر بها من حوله، خلال لقاءات عابرة، تعطيه طاقة لا حصر لها، ربكةٍ موترة انتابته حينما اتجهت إليه، حيث يقف مع والدها، لم ينظر إليها، وأخفض رأسه في أدبٍ، بينما قالت بتنهيدة بطيئة:

-مش هتأخر يابا فوق، على طول هاجيب المهم.

أومأ برأسه سامحًا لها بالصعود، وقد رأى الشقيقين مقبلين نحوه:

-ماشي يا بنتي.

ثم وجه حديثه للقادمين في اتجاهه يشكرهما:

-كتر خيركم يا ولاد، والله أنا ما عارف أقولكم إيه، وقفتكم معايا دي...

قاطعه "منذر" مبتسمًا، قبل أن يتم جملته:

-ماتقولش حاجة يا حاج "بدير"، ده "تميم" أخونا، وكلامه واجب يتنفذ.

رد عليه "بدير" في ضيقٍ:

-كده أحسن، محدش ضامن ممكن يحصل إيه، وخصوصًا بعد ما عرفنا قلة أصل المأسوف على عمره.

علق "دياب" بنبرة متوعدة، وهو يفرك كفيه معًا:

-ده حسابه كبير، مش هايتعتق من إيد حد فينا.

غمغم "بدير" بوجهٍ مال للعبوس:

-يا ريت نوصله قبل ما الحكومة تمسكه.

احتفظ "منذر" بابتسامته الواثقة، ثم أخبره بعزمٍ غير قابل للتشكيك:

-ولو مسكوه، زي ما لينا إيد طايلة برا، حبايبنا كتير جوا.

في استحسانٍ قال له موجزًا:

-الله كريم.

وبنفس الأسلوب الهادئ تابع "منذر" موجهًا حديثه لثلاثتهم:

-هستأذن أنا ورايا كام حاجة هاخلصها، وهتابع معاكو الجديد في التليفون.

رد عليه شقيقه بإيماءةٍ من رأسه:

-وماله يا "منذر"، متعطلش نفسك.

ظلت أنظاره الجادة عليه، قبل أن يخاطبه بلهجته الجادة:

-مش هوصيك.

لاحت ابتسامة غرور على شفتي "دياب"، وهو يرد:

-عيب عليك.

انسحب شقيقه الكبير من وقفتهم، ليدعو بعدها "سراج" الحاج "بدير" للجلوس والانتظار في السيارة، كبديل عن الوقوف الطويل على قدميه، فاستجاب لطلبه، واستراح على المقعد الأمامي، بينما بقي الاثنان يراقبان الطريق في اهتمامٍ، إلى أن تفرغ "هاجر" من تجهيز ما ينقصها.

بعد برهةٍ، لمحها "دياب" وهو قد قارب على إنهاء سيجارته، ألقى عقبها أسفل قدمه ليدعسه، وهتف قائلاً، كنوعٍ من التنبيه:

-شوف يا "سراج"، الجماعة نازلين بالشنطة.

اعتدل الأخير في وقفته المستريحة على جانب السيارة، لينظر نحو المدخل، رأى "هاجر" تحمل بيدها حقيبة سفر ثقيلة، هرول في اتجاهها ليحملها عنها، وهو يصر بشدةٍ:

-عنك يا ست الكل.

تحرجت من ذوقه، وتركتها له وهي تشكره:

-كتر خيرك.

لحظة تجرأ فيها على رفع عينيه إلى عينيها، لينظر لها عن قربٍ، وسألها بتلعثمٍ طفيف، رجا الله في نفسه ألا يبدو مكشوفًا أمامها:

-في حاجة.. ناقصة تانية؟

أجابت وهي تدير رأسها للخلف، ومشيرة بيدها أيضًا:

-أه، في شنطة فوق، هاطلع أجيبها.

أخبرها بعتابٍ لطيف، وملامحه لا تبدو مازحة أبدًا:

-وإنتي عدومتي الرجالة؟

ضاقت عيناها قليلاً، بينما أكمل وهو يخشى النظر نحوها:

-خليكي مرتاحة في العربية، وأنا هاجيبها بنفسي...

لم تنكر "هاجر" أنها استحسنت الفكرة كثيرًا، وابتسمت لإعفائه لها من مشقة الصعود والنزول لإحضار الحقائب، طلب منها "سراج" بجديةٍ بعد أن وضع حقيبتها في صندوق السيارة:

-هاتي المفتاح عشان أقفل الشقة ورايا.

بحرجٍ بسيط تحدثت قائلة:

-هتعبك معايا يا معلم "سراج".

وللمرة الأولى يتخلى عن تعابيره الجادة، ليبدو مبتسمًا بسرورٍ واضح وهو يقول:

-تعبك راحة.. يا ريتها تيجي على أد كده، احنا سدادين يا ست البنات.

لم تجد ما تعلق به على كرمه الزائد، سوى مبادلة ابتسامة صغيرة معه، قبل أن تتحرك وتتخذ مقعدها بالسيارة. تطلع إليها "دياب" من مرآته الأمامية، والتفت ناظرًا إلى الجالس بجواره يُعلمه بجدية بحتة، قاصدًا بهذا تضييق الخناق على "محرز"، فلا يستطيع الوصول إلى منزله:

-لازمًا تغير الكالون يا حاج في أسرع وقت.

أخبره بهدوءٍ، وكأنه يعي مراده:

-هاكلم النجار يعمل ده.

أضاف كذلك بنبرته العازمة:

-لو عايزيني أكون معاه فأنا فاضي، متقلقش.

تحرج من اهتمامه الكبير، وقال ممتنًا:

-تسلم يا "دياب"، مش عايز أشغل أكتر من كده، إنت بردك وراك مصالح والتزامات.

رد عليه بمرحٍ، مظهرًا عدم اعتراضه على تقديم كل الدعم المطلوب لضمان سلامة جميع أفراد العائلة:

-اشغلني براحتك، أحسن ما "منذر" يطلع عيني.

ربت على جانب ذراعه يدعو له:

-ربنا يخليكم لبعض.

تابعت "هاجر" ما يدور بينهما من حوارٍ غير مفهومٍ بالنسبة لها، فحركت جسدها للأمام قليلاً، وتساءلت في فضولٍ:

-هو إيه الحكاية يابا؟ ليه كنت عايزني ألم حاجتي وأرجع البيت بسرعة؟ ما أنا كده كده قاعدة معاكو؟!!

كان هادئًا في رده الحازم إليها:

-مش وقته، هنحكي في ده بعدين يا "هاجر".

لم تناقش والدها في رغبته، وردت بانصياعٍ واضح، رغم الحيرة التي انتابتها

-ماشي، اللي تشوفه يابا.

...........................................................

فرغ لتوه من صلاته وهو قعيد، حامدًا الله على نجاته العظيمة، من مأساةٍ أقل أضرارها ربما العجز الدائم، وأخطرها غيبوبة تامة تقضي على شبابٍ لم يتنعم به بعد. طيفها الناعم زاره مجددًا، فوجد نفسه يغمض عينيه في استسلامٍ، مستمتعًا بتلك اللحظة المميزة، لم يعد يحصي عدد المرات التي يستدعي فيها عقله ملامحها، كما لو كانت السلوى الوحيدة وسط محنته الشديدة. لفظ "تميم" دفعة من الزفير مرة واحدة، وهمس متسائلاً مع نفسه:

-يا ترى عاملة إيه دلوقتي؟

جلَّ ما شغل تفكيره، أنه يعلم جيدًا في قرارة نفسه، وعن صِدامٍ مباشر معه، أن من تزوجته لا يستحقها أبدًا، لا يرتقي –بطباعه الوضيعة- لأن ينال زوجة فريدة مثلها، بها كل ما كان يحلم به في امرأته، من سمات أنثوية لا تقارن مطلقًا مع غيرها من النساء، تلك التي تمتلك سحرًا يسلب العقول بشخصيتها التي لا تُعوض. لم يقدر تلك المرة على لوم نفسه على استغراقه في التفكير فيها، دومًا مشاعره تُغالبه، فينكث الوعود لأجل لمحة من طيفها .. كان وحيدًا في حُضورها، ومُعذبًا في بُعادها.

اعتدل بقوةٍ مفاجئة في رقدته على فراشه، فألمته تلك الحركة، وجعلت عظامه تئن بقوة، ضاقت عيناه على الأخير، وقد ولج إليه من لم يتوقع قدومهما، هتف مرددًا في اندهاشٍ:

-خير يا بشوات؟

مسح بأنظاره على وجهي ضيفيه غير الاعتياديين؛ "ماهر"، و"وجدي". لم تكن تلك حتمًا بزيارة عادية، فالعلاقات بينهما ليست من النوع الودّي، استطرد "وجدي" متسائلاً دون استهلالٍ تمهيدي:

-"محرز" كان ورا اللي حصلك يا معلم؟

ادعى عدم تذكره، فقال بنبرة شبه متعبة، متجنبًا النظر نحوهما:

-مش فاكر يا باشا، أصل كل حاجة جت بسرعة، وولاد الحرام خدوني على خوانة.

هتف "ماهر" قائلاً بجديةٍ، لم تخلُ من نظرات القلق:

-يا "تميم"، كلامنا معاك مالوش علاقة بأقوالك في المحضر بتاع الدكان، ده ليه علاقة بموضوع تاني خالص، هو شغال فيه من زمان.

نظر نحوه بعينين لا ترمشان، وسأله:

-موضوع إيه؟

لم يتردد في إخباره مباشرة؛ قاصدًا أن يرى وقع الصدمة عليه:

-تهريب المخدرات .................................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السادس من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة