-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والثلاثون

 مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والثلاثون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم


رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والثلاثون

 عند تلك المنطقة النائية، وتحديدًا على الشاطئ الرملي الفاصل بين الحيد الصخري، الذي تتكسر عليه الأمواج العتية، والطريق السريع للسيارات، وقف عدد من العمال متأهبين أمام إحدى العشش المصنوعة من البوص، من يتطلع إليهم من مسافة بعيدة يظن أنهم قد جاءوا صحبةً، للقيام برحلة صيدٍ للأسماك، خاصة أن الأكواخ في تلك المنطقة مهجورة من ساكنيها، فلن تثير الريبة. انتظر العمال الجديد من الأوامر لتنفيذها في التو، خرج أحدهم من الداخل، وتساءل وهو يفرك كفيه معًا:

-هنعمل إيه في الأشولة اللي جوا؟ هنسفرهم ولا إيه النظام؟

أجابه آخر وهو ينفخ في يده ليبعث الدفء في راحته المتجمدة:

-مافيش جديد لسه، مش إنت سايبهم في الطل؟

قال وهو يستحضر في ذهنه تجريدهم من معظم ثيابهم الخارجية:

-أيوه، مروق عليهم، ده غير إن الهواء هنا ملتم، مخليهم يرصرصوا من البرد.

هتف في استحسانٍ:

-زي الفل.

أضاف ثالث بلهجة آمرة:

-جهز شوال الملح، جايز المعلم يحتاجه.

أدار رأسه ناحيته، وقال:

-محطوط جوا...

سعل قليلاً ثم تابع في سخرية:

-عيب البهايم دول إنهم لعبوا مع الناس الغلط.

ضحك رفيقه، وعلق:

-على رأيك، صحيح عملت إيه في البأف إياه؟

شاركه الضحك الهازئ قبل أن يجيبه:

-مش قادر أقولك بقى عامل إزاي، خرقة! معدتش نافع ببصلة.

أخبرهما الثالث بتحمسٍ:

-ولسه لما المعلم "تميم" يجيله، ده هياخده على الرايق رايح جاي.

تبدلت تعابير الأول للتوتر وهو يعقب عليه:

-ربنا يكفينا شره لما بيقلب.

أيده في رأيه قائلاً:

-أه والله، الوش التاني بيطلع، ومحدش بيعرف يوقفه.

صفق الثالث بكفيه يستحثهما:

-كفاية كلام يا رجالة، وراقبوا بس الطريق، مش عايزين لبش.

أخبره الأول بثقةٍ وهو يومئ برأسه:

-عيب عليك، عدة الصيد اتنصبت، ومحدش هيركز معانا.

شدد عليه من جديد وهو يشير له بنظراته الجادة:

-الحرص واجب برضوه.

..........................................................

لو كان الأمر بيده، لتسلط على رقبته بتجبرٍ لا مناص منه مطلقًا، وأذاقه من العذاب ألوانًا، فلا يتعافى أبدًا من شروره المستطيرة! أثناء وقفتها الشامخة في بهاءٍ عظيم، شملها "تميم" بنظراته المتفرسة الدقيقة، آملاً أن ينجح ولو لمرة في النفاذ إلى داخل رأسها، لاكتشاف ما عانته وسبب لها كل هذه المعاناة. استمر في تطلعه إليها وهي تسأله من جديد بصوتٍ مازال مكتسبًا القوة والثبات:

-هتوديني عنده؟

أجاب بردٍ قاطع، وعيناه تتعهدان لها أيضًا:

-أيوه.

لامس "تميم" اعتراضًا ظاهرًا في وجه أبيه، فأخبره بجدية، وبإشارة ذات مغزى من رأسه:

-خليها تاخد حقها، جايز ده يريحها...

-وأنا موجود معاها.

قال كلماته الأخيرة وهو ينتظر إليها مجددًا لتتأكد من جديته، في حين نهض "بدير" واقفًا، وتقدم بخطواته نحو "فيروزة" ليخاطبها:

-أنا خايف عليكي يا بنتي، مرضالكيش البهدلة.

ردت وهي تقتل غصة عالقة في جوفها:

-كتر خيرك، أنا أدها.

هتفت "ونيسة" في استنكارٍ شديد، وقد نهضت بدورها من مقعدها:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، منهم لله الظلمة اللي عملوا كده.

بينما احتجت "آمنة" على ما يحدث بخوفٍ كبير، وعيناها تبحثان عن المساعدة بينهم:

-إنتو هتسبوها تروح لقضاها؟ ما تمنعوها يا جماعة.

أمسكت "همسة" بيد توأمتها، ورجتها بارتعابٍ:

-عشان خاطري يا "فيروزة"، والله العظيم مايستاهل.

أزاحت قبضتها عنها بهدوءٍ، وقالت بإصرارٍ:

-محدش يقولي المرادي لأ.

ثم أسرعت في خطاها متجاوزة "تميم"، ومتابعة اندفاعها نحو الخارج دون تريثٍ، وغضبها مستبد بها. هتف" بدير" يأمر ابنه بصرامةٍ:

-معاها يا "تميم"، ماتخليهاش تعمل حاجة غلط تضرها.

أومأ برأسه مؤكدًا له:

-اطمن يابا...

انخفضت نبرته ليواصل ختم جملته بين جنبات نفسه، وهو يهرول ركضًا خلفها:

-مش هاسمح لحد يمس شعرة منها طول ما فيا النفس!

............................................

خروجها من المنزل كان محفوفًا بغضبها المبرر؛ لكنه كان حتميًا لاسترداد كامل حقها، ومع هذا تسرب إليها شعورًا مغايرًا لاستبسالها العنيد، قاومته في مهده محافظة على اتقاد مشاعرها الغاضبة. لم تكن "فيروزة" على استعدادٍ للتنازل أو التراجع عما تريد تنفيذه، واصلت هبوط الدرجات بتحفزٍ شديد، مقاومة مشاعر الألم، الخذلان، القهر، وكل ما قد يدفعها نحو الغرق في همومها العميقة، والاستسلام للضعف والهوان.

حاولت توجيه ما يضطرم في صدرها في اتجاه واحد؛ الانتقام وبقسوة. لم تعبأ بمن يلحق بها، فلن يمنعها أحدهم عن تأديبه مهما كلفها الأمر، حانت منها التفافة جانبية من رأسها عند انحرافها عند الطابق السفلي، لتجد "تميم" يلحق بها بخطواته المتعجلة، أبعدت عينيها عنه، وواصلت نزولها السريع؛ لكن تجمدت قبضتها على حافة الدرابزون قبل أن تصل لنهايته، وتسمرت في مكانها عندما رأت عمها يتجه صعودًا عليه، رفع الأخير رأسه ناحيتها، ولهث قائلاً في ارتياحٍ:

-كويس إني لحقتك.

رددت بدهشةٍ لا تخلو من انزعاجٍ حانق:

-عمي!

سار في اتجاهها حتى بلغ الدرجة الأولى من السلم، تلك التي تقف عليها، بينما توقف "تميم" على بُعد أربعة درجات منهما، ووزع نظراته بين الاثنين مراقبًا في صمت ما يحدث بينهما. راح "إسماعيل" يطالعها بنظرة فاحصة قبل أن يقول بنوعٍ من التمهيد:

-أنا شايف إنك بخير الحمد لله...

اختلج وجهها علامات الغضب بالتدريج، أكان يريد رؤيتها مذبوحة مثلاً ليشعر بالإشفاق نحوها؟ استشاطت سريعًا، وفشلت في تخبئة نقمها الظاهر على قسماتها. زادت حدة غيظها مع سؤاله المستفز:

-فين "فضل"؟ هو عملك حاجة؟

احتدت نظراتها نحوه، وغامت ملامحها بشكلٍ كبير، أهو أعمى لتلك الدرجة فلم يستطع أن يرى الضمادة التي تلتف بها يدها؟ تجاهلت منحه الإجابة على الجزئية الأولى، وردت بكتفين منتصبين في استعلاءٍ وقوة:

-لأ اطمن، مقدرش عليا، وأنا واقفة قصادك أهوو.

أصابه التخبط من كلامها الغامض، وتابع مستفهمًا:

-أومال هو فين؟ أمك قالتلي إنه عِرف سكتك، وكان جايب ناس أغراب معاه، وآ...

قاطعته بصوتٍ مال للعصبية:

-عشان ياخدني غصب عني.

كز على أسنانه ناعتًا إياه في ضيقٍ:

-غبي.

وضع يده على كتفها ضاغطًا بلطفٍ عليه، فلم تهتز من لمسته الخشنة، بدت قادرة على مجابهته في ردودها بشجاعة واستبسال واضحين، كرر ربته برفقٍ على جانب كتفها قبل أن يستطرد معتذرًا:

-حقك عليا يا بنتي...

ربما كانت لانت نسبيًا إن كان اعتذاره عن طيب خاطر، ومحاولة أبوية منه لاسترضائها؛ لكن سرعان ما أفسده بباقي حديثه المعلل:

-ده طيش شباب، واستعجال مالوش لازمة ...

احتقنت نظراتها بشدة، وبدأت أنفاسها في الانفعال، في حين كان "تميم" على نفس شاكلتها وأكثر، تضاعف الغليان المستعر في صدره، وأطبق على أصابعه مكونًا قبضة فولاذية تود الإطاحة به في الحال، حدجه بنظرة مميتة عندما تابع تبريره الواهي، أو ما اعتبره مجازًا بالقشة الأخيرة التي قسمت ظهر البعير:

-أصله عشمان إنك توافقي تتجوزيه لما تخلصي عدتك، وآ...

لم يتحمل "تميم" المزيد من هرائه الباعث على غضبه الشديد، هبط الدرجات مقاطعًا سخافته المثيرة للغثيان:

-لا مؤاخذة في قطع كلامك...

تعمد التباطؤ في التلفظ بباقي جملته؛ وكأنه يهزأ به:

-يا كبير حتتك، يا كُبارة البلد.

تطلع إليه "إسماعيل" بنظراتٍ غير مريحة، بينما أضاف "تميم" من بين أسنانه بازدراءٍ، ومستخدمًا يده في الإشارة:

-في كلمة أصلها محشورة في زوري.. ومش قادر أبلعها.

استمر في هبوطه، ليجبر "فيروزة" على النزول للأسفل قاصدًا إبعادها عن مواجهة عمها، وأصبح يقف مكانها فأظهر ذلك فارقًا في الطول، والقوة، والمهابة. نظر "تميم" في عينيه، وسأله بزفيرٍ ثقيل:

-هو إنت بتسمي اللي عمله البغل ده طيش شباب؟

وقبل أن يختلق كذبة مستفزة بادر بالهجوم عليه محولاً النقاش لحربٍ كلامية:

-ده اتهجم على بيوتنا ومرعاش حرمتها، قل أدبه على كبير عيلتي، ولسانه طال على حريمنا...

تلون وجه "إسماعيل" بأكثر من لونٍ، وحملق فيه بعينين شاخصتين، لم يتوقف "تميم" عن تهديده الصارخ له:

-يعني أقل واجب معاه يتكسر إيديه ورجليه ده بعد ما يتقطع لسانه النجس، فبلاش يا حاج تبرر اللي عمله الكلب ده، عشان الزعلة هتبقى معاك إنت.

لكونه على علمٍ بطباع ابنه المشبعة بالجبن، بدا "إسماعيل" مذهولاً للغاية مما يسمعه، فأنكر عفويًا ذلك:

-مش معقول يكون عمل كل ده؟ هو بردك بيراعي الأصول.

استفزه هرائه، فصاح به في تشنجٍ، وقد انطلقت صافرات الإنذار لتؤهب كامل قواه:

-يعني أنا بافتري عليه؟

لعق شفتيه، وبرر بحجة ضعيفة:

-مقولتش كده، بس هو مش أهبل عشان يودي نفسه في داهية عشان يتجوز.

من منظورها فقد كل شيء قيمته بعد ما رأته بأم عينيها من ردة فعل عمها المدافعة عن سلوك ابنه القميء تجاهها؛ وكأن ما فعله بها حقًا مشروعًا ومكتسبًا له، بل ولا يحق لها الاعتراض عليه، ربما افترض أنها ستتغاضى عن إساءاته المتكررة إكرامًا لصلة الدم والقرابة، أحست بثقل الهواء يطبق على صدرها، بعدم انتظام أنفاسها، وبانفلات أعصابها الوشيك، قبل أن تنفجر فيه كان "تميم" الأسبق عنها، حيث اهتاج من أسلوبه المهترئ في تبرير تصرفات ذلك الحقير، وهدر بانفعالٍ:

-ما هو جاب اللي يسنده، لأنه خرونج، مش أد مواجهة الرجالة لواحده، تمامه كده.

رد عليه مكررًا على مسامعه نفس السخافات المستفزة التي لا معنى لها:

-يا ابني قولتلك مايقصدش، أه هو مندفع شويتين، بس غرضه شريف.

صاح به "تميم" في غيظٍ لم يستطع كبته أكثر من هذا:

-اللي غرضه شريف يخش البيت من بابه يا حاج!

احتقنت نظرات "إسماعيل"، وتابع "تميم" هجومه عليه بدفاعٍ مستميت، شعرت خلاله "فيروزة" أنه يسترد لها كرامتها بشكلٍ غير مباشر:

-يحترم أهله، يقدر قيمة الإنسانة اللي هيطلبها للجواز، يصونها، ومايهينهاش لا بكلمة ولا بنظرة تجرحها، يعززها، يعلي من قيمتها، مش جايب شوية شمحطجية معاه يعمل نِمرة قصادها، ومسمي دي رجولة.

تطلعت "فيروزة" إليه مليًا باستغرابٍ يشوبه القليل من الدهشة؛ وكأنها تكتشف جانبًا آخرًا في شخصه، يجبرك على الاعتزاز بوجود مثله إلى جوارك. انفرجت شفتاها عن المزيد من الاندهاش عندما أخبره بحمئةٍ:

-أنا دخلت السجن عشان كام كلمة اتقالوا بالغلط عن أختي، ماستحملتش حد يمس طرفها بسوء، فما بالك بقى باللي اتهجم على أهل بيتي، وكشف ستر ناسي؟!!

بصوتٍ لم يهتز مطلقًا، وثبات يدعو للفخر أضاف أيضًا:

-معنديش مشكلة إني أروح فدا اللي بحبهم، المهم مايطاطوش راسهم أبدًا لحد!

خفق قلبها متأثرًا لعباراته الرنانة التي مست روحها، وأشعرتها بالأمان المفقود في حياتها. شتت نظراتها عنه لتحملق في وجه عمها حينما خاطبها بلهجةٍ منزعجة، بعد أن أدرك أنه وصل إلى طريقٍ مسدود في النقاش معه:

-لمي الدور يا بنت أخويا...

اختلج بشرتها حمرة غاضبة، وتضاعفت مع لومه الفج:

-مش ناقصين فضايح زيادة، ولا عايزين نُحشر الغُرب معانا.

ردت عليه في حرقةٍ:

-الفضايح ابنك هو اللي عملها بنفسه، وهيتحاسب على غلطه.

تحرك "إسماعيل" من مكانه ليقبض على ذراعها، سحبها معه نحو مدخل البناية وهو يأمرها:

-تعالي معايا.

انتشلت ذراعها من قبضته، وصاحت في غضبٍ:

-ماتمسكنيش كده.

نظر لها باستهجانٍ، واستطرد يعنفها بغلظةٍ:

-خلاص صوتك علي وعيارك فلت، إيه مافيش حد قادر عليكي؟

لم تقبل أن تبتلع لسانها وتسكت توقيرًا لمكانته وعمره، ناهيك عن شعورها العميق بأنه يحملها اللوم كاملاً، لذا دافعت عن موقفها بتحفزٍ، وبأنفاسٍ منفعلة:

-صوتي عالي في الحق على طول يا عمي، وإنت عارف ده كويس عني، لا بأقبل الغلط، ولا هارضى بالظلم ...

غلفت نبرتها لمحة من الازدراء وهي تتابع:

-ولا إنت ماتعرفش تقول كلمة الحق عشان الزفت "فضل" قل منك؟

اعتبرها إهانة فجة أن تتطاول عليه هكذا، وفي حضرة هذا الغريب، كأن لا قيمة له، لذا ردًا لاعتباره رفع ذراعه للأعلى مهددًا بصفعها وهو يصرخ بها:

-اخرسي.

لم يرف لها جفن متوقعة أن يتورم صدغها من الألم؛ لكنها كانت عاقدة العزم ألا تحني رأسها لمخلوق، ومع هذا اتسعت عيناها ذهولاً وقد رأت قبضة "تميم" تستوقفه قبل أن يمسها، تبعها صوته الأجش المهدد:

-لأ عندك، كده مش حلو خالص.

أجبره على إخفاض ذراعه في مذلةٍ، ولم يترك قبضته، ظل محكمًا أصابعه حولها، ليعجز عن الإفلات منه، اشتاط "إسماعيل" غضبًا، وعنفها مجددًا:

-جيبالي واحد كمان يفرد عضلاته عليا؟ هي دي أخرتها؟

رد عليه "تميم" بخشونةٍ تتضمن التهديد، وقبضته لا تزال تعتصر رسغه:

-مش أحسن من اللي بيتشطر على اللي أضعف منه.

تلوى "إسماعيل" بمعصمه محاولاً تخليص نفسه من قبضته، وحين يئس من نجاحه صاح في ضيقٍ:

-نزل إيدك، مش عارف محشور معانا ليه؟ إنت مالك أصلاً؟

استقام بكتفيه، وأخبره بنفس الصلابة المهيبة:

-لأ مالي ونص، والموضوع بقى عندي أنا.

تحولت كافة الأعين نحو "هيثم" الذي أقبل عليهم متسائلاً في غرابة:

-في إيه اللي بيحصل هنا؟

أرخى "تميم" أصابعه عنه، وأخبره بلمحة من السخرية:

-تعالى يا "هيثم"، سلم على عم مراتك الأول.

تقدم في خطواته متسائلاً بقلقٍ:

-خير؟ حد جراله حاجة؟

رد عليه ابن خالته بغموضٍ ليستثير فضوله:

-كان .. بس ربك سترها معانا.

التفت ناحيته متسائلاً في توترٍ، وقد جال بخاطره أن تكون زوجته قد تعرض للأذى خلال غيابه، خاصة مع تعذر اتصاله بها:

-ما تفسر كلامك يا "تميم"، "همسة" جرالها حاجة؟

أجابه نافيًا:

-لأ، اطمن .. بس آ...

بتر كلامه عن عمدٍ ليستحوذ على كامل انتباهه، وأضاف:

-مش تشوف الحاج اللي جاي يأدبنا، إكمن احنا عايزين ناخد حقنا من البغل ابنه.

تجهم وجه "هيثم" للغاية، وتساءل في نفورٍ:

-الطاعون الأزلي ده، هو عمل إيه تاني؟

استطرد موضحًا له، وعيناه تراقبان إيماءات "إسماعيل" المتوترة:

-قول ماعملش إيه، ده اتهجم على بيوتنا، وكسر باب شقتك على مراتك وأختها، وهما كانوا لوحدهم، وبالعافية رجالة دكانا لحقوه بعد ما بهدلهم ورفع عليهم السلاح، وكان ناقص بس يمد إيده على جدك "سلطان" لما وقفله.

قست ملامحه للغاية، وهتف غير مصدق جراءته:

-نعم؟ وأنا معرفش.. وقعة اللي جايبنه سودة.

تدلت ابتسامة هازئة على زاوية فم "تميم" وهو يتم باقي عبارته:

-وفي الآخر نطلع أغراب مالناش عين نرفعها، ولا حق نطالب بيه.

توعده "هيثم" بشراسةٍ متضاعفة:

-ده أنا هانفخ أمه.

توتر "إسماعيل" من التهديدات الخطيرة المحدقة بابنه، شعر بأنه هالكٌ لا محالة إن لم يبذل ما في وسعه لإخراجه من تلك الورطة الشنيعة، بالطبع وجد أن الجانب الملائم لتحميله الذنب كان في شخص "فيروزة"، اتجه إليها بحنقه، وعنفها:

-عجبك كده؟ مبسوطة إنك قلبتي الدنيا على بعضها؟

اعترض "تميم" طريقه بجسده مفتول العضلات، وهدده بلهجةٍ لا يستهان بها:

-ماتكلمهاش، كلامك معايا أنا دلوقتي.

تراجع عنها خطوتين، وهو يضغط على شفتيه، ومع ذلك حاول "إسماعيل" إظهار شجاعة غير موجودة فيه، وهتف فيهما مشيرًا بسبابته:

-اسمع يا ابني إنت وهو، أنا مش بتاع مشاكل، ولا حوارات، ليكم حق هتاخدوه بالأدب وبالأصول، وأنا مش هقصر معاكو، بس هاتولي ابني قصادي.

علق عليه "تميم" بابتسامة أرعبته:

-ده لو لسه عايش.

ارتفع حاجباه مصعوقًا، وصاح في جزعٍ:

-بتقول إيه؟

أخبره وهو يفرك قبضته المضمومة في راحة يده:

-ما هو احنا رجالتنا دمها حامي، ماتقبلش حد يفكر يمد إيده على حريمنا من غير ما تقطعاله.

زاد صوته صخبًا وهو ينطق مهددًا:

-أنا عايز ابني حالاً، لأوديك إنت وهو في داهية، يا شوية عصبجية!

لاحت على جانب شفتي "تميم" ابتسامة مستخفة به، فشعر بالمزيد من الرهبة من أسلوبه غير المتسامح، جلَّ ما كان يخيفه حاليًا ألا يعثر على ابنه مطلقًا، فأمثال هؤلاء القساة العتاة، لا يتهاونون في التفريط في حقوقهم! حادت أنظاره عنه ليحدق في وجه "هيثم" وهو يتساءل بتشنجٍ:

-الكلب ده وديته فين؟

بصوتٍ هادئ أخبره:

-سفرته عند المطار.

لهنيهة شرد في التفكير قبل أن يقول بإيماءة من رأسه:

-خلاص عرفت مكانه...

تطلع إليه "إسماعيل" في عجزٍ، وأحس بانقباضة مؤلمة تضرب صدره و"هيثم" يصيح آمرًا بغضبٍ:

-ابعتله "دنجل" على هناك.

مرر "تميم" يده على رأسه ليدعكها قبل أن يقول:

-شديد عليه.

أصر على إرساله إليه مرددًا في اقتضابٍ:

-يستاهله.

تحركت "فيروزة" لتقف أمام "هيثم"، وأخبرته بنبرتها العنيدة:

-أنا رايحة قبل.

لم يبدُ مهتمًا بالاحتجاج على ذهابها، واكتفى بإلقاء نظرة حانقة عليها، لا يعني أنها المقصودة بها؛ لكنه كان مستاءً من الموقف برمته. بدأ ثلاثتهم في الخروج بخطواتٍ متلاحقة من المدخل، ومن خلفهم "إسماعيل" يصيح متوعدًا في حدة، وذلك لحفظ ماء وجهه:

-مين ده كمان؟ والله لو مروحتش عند "فضل" لأطربأها على دماغ الكل.

توقف "تميم" عن السير، ليلتفت نحوه، رمقه بنظرة غامضة، ثم أخبره بهدوءٍ وتره، وتلك البسمة الماكرة تتدلى على شفتيه:

-من غير حلفان يا .. حاج، هنوديك عنده.

بلع ريقًا غير موجودٍ في جوفه، وقال مسرعًا في خطاه:

-وأنا مش سايبكم النهاردة.

أشـار "تميم" بيده لـ "فيروزة" ليوجهها:

-تعالي في العربية عندي...

وقبل أن ترفض طلبه أوضح لها:

-هتقعدي في الكرسي الوراني، لأن "هيثم" معاه الربع نقل، مش هتبقى مريحة ليكي، عفشتها عايزة تظبط ...

ثم أدار رأسه نحو عمها، وأكمل بصوتٍ لم يخفِ فيه تبرمه:

-وعمك هيركب معايا، ماينفعش أسيب اللي في سنه يتبهدل.

استحسنت اقتراحه، واتجهت نحو سيارته لتستقر في المقعد الخلفي، غير مكترثة بحديثه الموجز مع عمها، سددت أذنيها عن أي هراء ينغص صدرها، ويجعلها تكره صلة الدم التي ربطتها بمن يخذلها، حدقت في السماء بنظرات شاردة، متوقعة أن تكون المعاناة والألم رفيقتا دربها في الفترة القادمة.

..............................................

أين المأوى من أناسٍ يجيدون اغتيال روحك بشرورهم الخبيثة في كل فرصة تسنح لهم لفعل هذا؟ لقد بذلت الغالي والنفيس لتحافظ على نظافة سريرتها، نقاء سمعتها، وفي لمح البصر يأتي من يدنس ذلك الطهر بأقبح الاتهامات، ليلتصق بها هذا الظلم حتى فناء عمرها، فما أسهل تصديق الافتراء عن تكذيبه! تطلعت "فيروزة" إلى ظهر عمها الجالس أمامها على المقعد بعينين حبست فيهما دموعها الرقراقة، إن كان السند الحقيقي غير موجود فيه، فكيف تستجدي منه عطفًا وداخلها يؤكد لها أنه لن ينصفها لحظة المواجهة؟

لم ترغب في معايشة تجربة الخذلان مجددًا، يكفيها ما ذاقته في السابق من صنوفه المؤلمة، فروحها لم تتعافَ بعد من آثار الماضي المهلكة، تصدع ما ظنت أنه يجعلها صلبة كالفولاذ، وانتشرت الشروخ فيه ليتهشم في الحال مع انتقال السيارة للطريق السريع، عادت لتصبح هشة، مجوفة، ومهيضة الجناح، لذا صاحت فجأة، وكأن مسًا طالها:

-مش عايزة أروح، رجعوني البيت.

قطب "تميم" جبينه مصدومًا، فطوال قيادته كان يراقبها باهتمامٍ تارة، وبفضولٍ تارة أخرى، كانت غائبة بذهنها عمن حولها، كما لو كانت روحها قد انتقلت بالزمن لعصور سابقة، فلم تعد تسمع أو ترى سوى السراب، ظل باله مشغولاً بها، ولاحظ لأكثر من مرة تبدل تعبيراتها بشكلٍ جعله حائرًا في فهم ما الذي يدور في رأسها، لن ينكر أن قرارها المفاجئ أصابه بالدهشة والتخبط، فمن يرى إقدامها قبل برهة لا يظن أنها بمثل هذا الجبن لتتراجع في اللحظة الأخيرة! كررت عليه طلبها حينما وجدته صامتًا:

-أنا عايزة أرجع البيت، لف بالعربية.

سألها ليتأكد وهو لا يواري دهشته:

-إنتي متأكدة؟

ردت بإصرارٍ زاد من تعجبه المُحير:

-أيوه، مش عايزة أشوف الحيوان ده.

أومأ برأسه معلنًا امتثاله الكامل لرغبتها دون استفسارٍ:

-تمام.

أحس "إسماعيل" بأن هناك أمرًا يُحاك في الخفاء ومن وراء ظهره، فاستدار بجسده نصف استدارة ليواجه ابنة أخيه، حدجها بنظرة مشتعلة، وبادر بتعنيفها في استياءٍ حانق:

-هو احنا جايين نهزر هنا؟ هو إيه اللي مش عايزة؟

ردت بصوت حاولت جعله هادئًا:

-زي ما حضرتك سمعت، تقدر تروحله من غيري.

اتهمها زورًا وهو يلوح بذراعه:

-قولي بقى إنك عاملة فيلم عليا إنتي والأفندي ده؟ هتستفادي إيه من بهدلتنا كلنا؟ إيه اللي مفرعنك كده علينا؟

برزت عيناها في استنكارٍ جلي، وأنكرت إجحافه بحرقةٍ:

-بعد ده كله مش عايز تطلع ابنك غلطان؟

علق عليه بدمدمةٍ ساخطة:

-أنا مقولتش إنه عمل حاجة عِدلة، صحيح هو مابيوزنش الأمور الأول بعقله، بس آ....

احتدت نظرات "تميم" لسماعه ترهاته، كما اشتدت قبضته على عجلة القيادة، لم ينتظر تزييفه المشبع بالضلال فقاطعه محذرًا:

-إوزن الكلام يا حاج قبل ما تقوله، وخليك فاكر إن زعلي وحش أوي!

عاد "إسماعيل" لينظر إليه، فاخشوشنت نبرة "تميم" وهو يكمل، دون أن يخلو كلامه من التهديد:

-وبعدين قول الحمد لله إنها طلبت ده، عشان رجوعها البيت رحمة ليه من اللي كنت هاعمله فيه.

كز على أسنانه معترضًا:

-إنت آ...

قاطعه مرة ثانية وهو ينذره:

-قبل ما تقول حاجة تانية، أنا حابب أعرفك إن قلبي ميت مع اللي يأذي عيلتي، ولو حد لجألي وهو مظلوم ...

اِسودت تعابير وجه "إسماعيل"، وانعكس الخوف في نظراته نحوه، بينما أخبره الأول بلهجته الشديدة:

-فأنا سنده، مابعرفش أسامح، ولا بأفوت وأنسى، فاتقي شري.

انزلق معقبًا عليه في قهرٍ:

-حسبي الله ونعم الوكيل.

سدد له نظرة قاسية، وقال بجفاءٍ:

-وفر الدعوات دي لابنك، هيحتاجها جامد.

حدق أمامه في عجزٍ وهو يخفت من صوته ليردد:

-لله الأمر من قبل ومن بعد.

تطلع "تميم" إلى المرآة الأمامية مانحًا "فيروزة" نظرة حانية، فبادلته حينها –وللمرة الأولى- نظرة امتنانٍ حقيقية، أظهرت عرفانها بصنيعه؛ لكنها جعلت ثغره يتقوس ببسمة صغيرة تلاشت في لحظة لتحل الجدية على تعبيراته وهو يتحدث هاتفيًا:

-ألوو، أيوه يا "هيثم"، أنا هاوصل الجماعة البيت وراجعلك..

تعمد الالتفاف برأسه نحو "إسماعيل" وهو يتابع:

-ماتتهورش لحد ما أجيلك، ماشي؟

سأله الأخير في ذعرٍ:

-هو ناوي على إيه؟

أنهى "تميم" الاتصال، وابتسم من زاوية فمه قائلاً:

-ادعي ربنا إن جوز بنت أخوك يسمع الكلام، أصله دماغه أنشف من الحجر.

ابتلع لعابه المُر، وتضرع في خيفةٍ:

-استرها علينا يا رب.

مكالمةٌ أخرى أجراها "تميم" لوالدته أخبرها فيها:

-أيوه يا ست الكل، احنا راجعين...

صمت لوهلة، وقال نافيًا:

-لأ اطمني، بس خلي الحاجة "آمنة" تسبق على البيت عشان تستنى الأبلة.

أدار رأسه مجددًا نحو "إسماعيل"، وتعمد التشديد على كلماته وهو يقول، كأنما يخاطب شخصه بشكلٍ غير مباشر:

-كويس، يعني أبويا هيبقى هناك؟

لحظة من الصمت أتبعها تصريحه:

-وأنا هخلي كام واد من بتوعنا الشُداد يقفوا تحت البيت عشان لو حد احتاج حاجة من الجماعة.

التهى "إسماعيل" عن الإنصات لتلك المكالمة ليبحث عن هاتفه الذي رن في جيبه، امتدت يده لتخرجه من جلبابه، نظر إلى شاشته بتمعنٍ، ثم أجاب بعد زفيرٍ منزعج:

-أيوه يا "أم فضل".

سألته "سعاد" في لهفةٍ تبينها من صوتها المسموع للجميع:

-وصلت لابنك؟ لحقته؟ طمني بالله عليك.

أجابها نافيًا باقتضاب:

-لأ لسه، ادعيله.

لاحقته بأسئلتها التالية:

-و"فيروزة" كويسة؟ عملها حاجة؟ دي غلبانة ومالهاش حد إلا احنا.

ظهر الكدر في وجهه، وحمحم متهربًا من الإجابة عليها:

-بعدين يا حاجة، سلام.

نظر إليه "تميم" من طرف عينه في ازدراءٍ لم يخبأه، أراده أن يرى مدى جديته في ردعه، ليتقين أنه لا نجاة تلك المرة من العقاب الحتمي. مضى بعض الوقت إلى أن عادت السيارة إلى منزل "فيروزة"، تمالكت الأخيرة قواها حتى ترجلت منها، حينها فرت ماشية بخطوات بدت أقرب للركض غير ناظرة خلفها تختفي بالداخل. شيعها "تميم" بعينين تتلهفان للذهاب ورائها، وتضميد جراحها غير الظاهرة، اضطر آسفًا أن يرحل بعد ركوب والده للسيارة، غادر وقلبه يؤلمه لبعاده عنها، انطلق بالسيارة وهو يطلق زفرة مزعوجة، كابحًا قدر استطاعته ما يتقد في صدره من كافة مشاعر العداء تجاه عمها المنكمش على نفسه.

.............................................

لمسةٌ من يد والدتها الحنون كانت كبلسمٍ مسكن لجراحها النابضة، احتوتها "آمنة" في أحضانها بمجرد عودتها إلى المنزل، وذهاب الحاج "بدير" مع ابنه، لتبقى تحت حراسة بعض من عمال الدكان الذين تواجدوا بالأسفل. أغدقت عليها بفيض حبها الأمومي، لعل القلب الشقي يهدأ وتسكن أوجاعه. ارتمت "فيروزة" على صدرها طالبة منها بصوتٍ مال للبكاء:

-ماتسبنيش يا ماما، محتاجة حضنك أوي.

ضمتها بقوةٍ لتشعر بدفء أحضانها عليها، وأخبرتها بنبرة مختنقة:

-أنا جمبك يا بنتي، ماتخافيش يا حبيبتي، أنا معاكي أهو.

رفعت "فيروزة" عينيها الدامعتين نحو والدتها تسألها:

-هو ليه كل ده بيحصلي؟ ليه حظي كده؟

لم تجد ما تخبرها به سوى قولها الملطف:

-جايز يكون ده ابتلاء من ربنا، بيمتحنك عشان يشوف صبرك، وإن شاء الله تعدي منه على خير.

أطبقت على جفنيها، وانكمشت داخل حضنها مرددة بتعبٍ تمكن منها:

-أنا عايزة أنام، بس خليكي جمبي.

ربتت على جانب ذراعها، وقالت:

-حاضر يا ضنايا، أنا هافضل معاكي.

أخذت "آمنة" تمسد على رأسها برفقٍ، وتمسح على جبينها بلمساتٍ رقيقة، ولسانها يتلو في خشوعٍ:

-بسم الله الرحمن الرحيم، " اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ".

ظلت تردد عددًا من الآيات القرآنية لبعض الوقت حتى استغرقت ابنتها في نومٍ آملت أن يكون هانئًا، وخاليًا من الأوجــاع والأثقال.

............................................

سرت في بدنه رجفة خوفٍ قوية فاقت في تأثيرها البرودة السائدة في هذا المكان النائي، جال "إسماعيل" بنظراته المذعورة باحثًا عن ابنه، فقط نباحًا مسعورًا لكلبٍ جائع كان يسود في الأرجاء، مرر عينيه على الرجال المرابطين في حالة تحفزٍ، لم تظهر على وجوههم أي بوادر شفقة أو تهاون، حينها استدار ناحية "تميم" يخاطبه بلهجة متشنجة، محاولاً إظهار شجاعة مفقودة:

-فين "فضل"؟ وديتوه فين؟

أجابه "هيثم" باحتقارٍ وهو يشير بيده نحو الكوخ الظاهر على مرمى البصر:

-ملحق مع البهايم اللي جابهم هناك...

ثم قست نبرته وهو يضيف:

-ما يستهلش نزفر إيدينا بدمه، احنا هنسيب "دنجل" عليه.

وأشـار بيده نحو الكلب الشرس المربوط بسلسلة بالكاد تحول دون إفلاته، ارتاعت نظرات "إسماعيل" أمام الأنياب الحادة، واللعاب السائل على جانبي فكه، بدا وكأن الكلب يتلهف لافتراسه حيًّا إن رأه قبالته. لم يتحمل تخيل المشهد في رأسه، وهدر مهددًا وهو يلوح بعكازه:

-والله لو أذيتوه ما هسيب حد فيكم، هوديكم في داهية.

كان "تميم" على وشك الاشتباك معه لولا تدخل والده لإسكاته بإشارة من يده، فكبت انفعالاته توقيرًا لحضوره المهيب، خاصة أمام رجاله. استمر "إسماعيل" في صراخه ملوحًا بعكازه في عصبيةٍ:

-إنتو عالم ظلمة، ده يرضي ربنا يا ناس؟ الواد هيموت في إيدكم، اعتقوه لوجه الله!

رد عليه "هيثم" بسخطٍ:

-هو لعب مع اللي مش أده.

صاح فيه بصوتٍ حانق:

-هو يعني كان كفر لما فكر يصون لحمه؟

لم يتمكن من كبح لسانه تلك المرة، فعلق عليه "تميم" بغلظةٍ:

-يصونه بالأصول، مش بالغصب يا حاج.

انفجر هادرًا فيه:

-تقوموا تخطفوه؟!!

بقساوة رد عليه "تميم"، وعيناه تطلقان الشرر:

-زي ما كان هيعمل، العين بالعين والسن بالسن، والبادي أظلم.

أحس "إسماعيل" بالكارثة التي هبطت على رأس ابنه، لم يكن أمامه سوى استجداء مشاعر "بدير" لعله يفعل معجزة ما توقف قطار الهلاك المنطلق، اتجه إليه يرجوه:

-ما تقول كلمة يا حاج، اعمل اعتبار للشيبة دي، ولا ملكش كلمة على عيالك؟!

راح يرمقه بنظرة طويلة، وقال بلهجة آمرًا دون أن يحيد بعينيه عنه:

-هاتوا الواد ده من جوا.

لم يجرؤ أحدهم على الاعتراض على أمره، حتى ابنه البكري، بل أظهر طاعته واحترامه له، وكان في طليعة الرجال الذين ذهبوا لإحضاره من الكوخ؛ لكنه لم يمسك به، ترك تلك المهمة لغيره، فجروه جرًا طوال المسافة إلى أن ألقوه عند قدمي "إسماعيل"، جثا الأخير فور أن رأه مسجي على ركبته أمامه، رفع رأسه النازف إليه، وتأمل وجهه المشبع بالجروح الغائرة، صرخ في اهتياجٍ مصدوم:

-يادي المصيبة، إيه اللي عملتوه فيه ده؟ حرام عليكم!

رد عليه "تميم" بنبرة تبين فيها عدم ندمه على ما ارتكب:

-ماهو مرعاش الأصول، واتهجم على حريمنا، ولو دمك حامي زينا مش هاتقبل بده.

تأوه "فضل" بأنين وخوار وهو ينظر إلى أبيه في عجز، يتوسله بعينيه أن ينجده من حافة الموت، زمجرة "تميم" المهددة جعلته يبول على نفسه عندما قال علنًا:

-في عُرفنا اللي زيه لازم يتقطع دابره.

بنحيبٍ من فمه المجروح غمغم "فضل"، محاولاً التشبث بيده في ذراع والده:

-أبا، خدني من هنا.

رد عليه "إسماعيل" بقلبٍ يعصره الألم:

-حاضر، مش سايبك ليهم.

ثم رفع أنظاره إلى "تميم" يهدده:

-أنا هوديكم في داهية.

أخبره "تميم" بنصف ابتسامة هازئة:

-وماله ودينا...

ما لبث أن اختفت البسمة ليضيف بلهجةٍ مليئة بالتهديد، وأشد قسوة:

-بس اعمل حسابك قبلها إن تسجيلات خطف بنت أخوك معانا، ماهو احنا مركبين كاميرات في كل العمارة، سهل أوي نسلمها للبوليس نثبت بيها التهمة، ده غير بقى إنه مش هايبقى محضر واحد، لأ خد عندك سرقة كمان، وسب وقذف، واعتداء على أنثى، وغيره وغيره، من الآخر كده مش هاسيبه إلا في السجن ...

جحظ كل منهما مصدومًا، وزاد ارتعابهما وهو يختتم كلامه قائلاً برنة استمتاعٍ:

-وهناك بقى أنا داخله بنفسي، هاروقه على الهادي!

ثم فرك كفيه معًا ليظهر تشوقه لمجيء تلك اللحظة، فاستبد المزيد من الخوف بـ "إسماعيل" وابنه. صاح "بدير" فجأة منهيًا ذلك الصراع:

-كفاية عليه كده يا "تميم"، محدش يعمله حاجة.

استدار ناظرًا لوالده محتجًا في صدمةٍ:

-يا حاج آ...

قاطعه بإشارة من كفه:

-هي كلمة.

على مضض نطق، ووجهه محموم بعلامات الغضب:

-مش هراجعك يابا.

تنفس "إسماعيل" الصعداء، وشعر بأن الحبل المطبق حول عنق ابنه قد ارتخى قليلاً؛ لكن سرعان ما ضاق صدره، وأصابه التوتر عندما استطرد "بدير" يخبره بغموضٍ:

-احنا متنازلين عن حقنا، بس حق "فيروزة" لأ!

تفاجأ "تميم" من حديث والده، وشعر بالفخر والرضا لكونه يعيد إليها كرامتها المسلوبة بحنكته المعروفة، في حين هتف "إسماعيل" مستنكرًا بشدة:

-نعم؟ حق إيه ده كمان؟

أجابه بصوتٍ هادئ:

-تعويض عن البهدلة اللي شافتها.

سأله وكأنه يستكثر عليها هذا الأمر:

-هي قالتلك كده؟ عشان إيه يعني؟

بنفس الهدوء الرزين أكد عليه:

-من غير ما تقول، ده مراضية ليها.

صاح "إسماعيل" يسأله بصبرٍ نافذ:

-يعني عايزين إيه؟

دس "بدير" يده في جيب جلبابه، وأخرج ورقة مطوية، ناولها إياه وهو يجيبه:

-ابنك يمضي على وصل الأمانة ده، ومعاه مهلة 6 شهور يجهز المبلغ، وإلا هيتسجن بيه.

ضاقت عيناه في تذمرٍ عندما قرأ المبلغ المدون فيه، وهتف معترضًا:

-ده كتير أوي.

شدد عليه بلهجةٍ لم تكن لينة أبدًا:

-عشان يتربى، ويعرف إن الغلطة بفورة...

لم يمنحه فرصةً للتفكير، وحصر عليه الاختيار قائلاً:

-وده لمصلحته، لأني حايش ابني عنه بالعافية، بس ماضمنش لو سبته يعمل إيه فيه.

احتاج "إسماعيل" لشجاعة تضاهيه ليواجهه؛ لكن ابنه خذله برعونته المستمرة، لذا لم يكن أمامه بدًا أمام توسلاته ورجاواته الصامتة والمنتحبة أن يضغط عليه قائلاً:

-امضي يا "فضل".

بكى في قهرٍ محاولاً الرفض:

-أبا ..

أخفض من صوته وهو يلح عليه:

-امضي وإنت ساكت، بدل ما تروح مني.

أعطاه أحد العمال قلمًا حبريًا كان بتابلوه واحدة من السيارات، فاضطر بيده المرتعشة أن يوقع على الورقة الصغيرة، استعادها منه العامل، وأعطاها لـ "بدير" الذي طواها واحتفظ بها في محفظته، تطلع بعدها إلى الاثنين، وقال:

-خد ابنك وامشي يا حاج "إسماعيل"، بس هاقولك كلمتين تحطهم حلقة في ودنك.

نظر إليه الأخير وهو يحاول إجبار ابنه على التعلق بذراعه ليساعده على النهوض، تكلم "بدير" قائلا بتعابير صارمة بمجرد أن وقف ذلك الدنيء على قدميه:

-بنات أخوك أمانة عندي ...

احتقنت نظراته، فواصل بتهديد صريح:

-واللي هيقرب من الأمانة دي مايلومش إلا نفسه.

سأله "إسماعيل" في استهجانٍ:

-إنت هتخاف عليهم أكتر مني؟

ببساطة أجابه وبين شفتيه ابتسامة متهكمة:

-أيوه، بدليل أنا واقف هنا بأتوسط عند ابني يسيبه بدل ما يجزر رقبته.

صاح في غلٍ:

-ربنا ينتقم من الظالم.

أمن عليه بهدوءٍ:

-يـــا رب.

ثم وجه خطابه لأحد العمال:

-وصله يا واد.

أذعن العامل لأمره مرددًا بإيماءة من رأسه:

-عينيا يا حاج.

ساد الصمت المشحون بالتساؤلات لبعض الوقت –فيما عدا صوت نباح الكلب- حتى غادر الاثنين المكان، حينها التفت "هيثم" نحو "بدير" يسأله في ضيقٍ:

-سبته ليه يا جوز خالتي؟ حقنا كنا رميناه في المالح وهو نصيبه.

بعد زفرة طويلة متعبة أخبره:

-كده أريح للكل، خليه يغور ببلاويه.

دمدم "هيثم" في تزمتٍ:

-في 60 داهية.

تحرك "تميم" ليقف أمام والده، وسأله بنظراتٍ متفرسة:

-رأيك إيه في اللي حصل يابا؟ الحكاية لغفنت على الآخر.

بهدوءٍ واثق قال وهو يربت على كتفه:

-سيبها على الله، ربك عليه تيسير الأمور، وهيفرجها لما تضيق.

رفع "تميم" عينيه إلى السماء، والرجاء يملأ نظراته، نجاه كعادته سرًا بتنهيدات الشوق:

-ماليش غيرك يا رب، حلها من عندك يا كريم ........................ !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة