-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس عشر

 مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس عشر من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس عشر

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس عشر

 بحركةٍ رتيبة متكررة ظل يمرر يده أعلى رأسه الذي حلقه مؤخرًا ليفركها كأنما قد استغرق في التفكير في أمرٍ ما، خاصة بعد أن نما إلى مسامعه إلقاء القبض على المشعوذ الذي لجأ إليه على أمل فعل شيء خارق لإيذاء "فيروزة". آنذاك تخلص من شريحة الهاتف غير المسجلة وألقى بها في المصرف ليقطع أي صلة قد تدينه، وبفرض أن انتشرت بعض الشائعات والأقاويل سينكرها تمامًا كعهده مع الكذب.

لم يسلم "فضل" من التفكير في هذا الموضوع حتى استحوذ على عقله ذكرى رؤيته لطليقته السابقة وهي تزف إلى غيره في حفل زفــاف لم تشهده بلدتهم من قبل، وكأنها تُزوج للمرة الأولى، فـ "رشيد" لم يدخر وسعه في دعوة كل المعارف والأقارب والأصدقاء للحضور، وأنفق بسخاء على هذا الحفل.

وقتها أراد أن يفتعل فضيحة مُحرجة للجميع، أن يفسد على المدعوين فرحتهم الواضحة، خاصة "سها"، فيصيبها الكدر، وتصبح نذير شؤم لزوجها السمج –كما ينعته، لهذا دون إعادة تفكير اقتحم السرادق المقام فيه العُرس، وصاح مهللاً:

-فين عيالي؟ أنا مش هاسيبهم لغريب يربيهم.

وكأنها رأت شبحًا للتو، تصلبت "سها" في مكانها تتطالع بعينين مذعورتين وجه "فضل" الحانق، ورددت في توترٍ وهي تهم بالنهوض:

-إنت جاي آ..

أمسك "رشيد" بيدها ليجبرها على الجلوس، وقاطعها في صوتٍ خفيض مسموعٍ لها؛ لكنه في نفس الوقت صارم:

-استني!

هتف فيه أحد المدعوين ينهره عن تصرفه الفظ:

-عيب اللي بتعمله يا "فضل"، مايصحش كده.

زأر عاليًا بصوته المزعج وهو يلوح بذراعه:

-محدش يقولي عيب، أنا عاوز عيالي، أنا مش نطع عشان أسيبهم لواحد زي ده!

هنا نهض "رشيد" من مقعده يهدده بوجهٍ غائم التعبيرات، وصوت جهوري مرعب:

-غلط هنا ماسمحلكش، وإلا هبهدلك قصاد أهل البلد كلهم، مش هاخليك تعرف ترفع عينك في أصغر عيل هنا!

أحس "فضل" بالحرج من تذكيره علنًا بواقعة إهانته، وهدر في غيظٍ وقد برزت عروق وجهه المحتقنة:

-إنت بتقول إيه؟

توسلت "سها" لزوجها ترجوه:

-عشان خاطري يا "رشيد".. مش عايزين فضايح.

التفت ناظرًا إليها ليخاطبها بلهجة قوية:

-الفضايح ليه هو ...

ثم استدار ناحيته ليكمل كلامه بنبرة متهكمة:

-ولا نسى العلقة اللي كانت قصاد داره.

همهمات جانبية ارتفعت في الأرجاء، أعقبها صياح "فضل" المتذمر، وهو يشير بسبابته نحوه، كنوعٍ من حفظ ماء الوجه أمام هذا الملأ:

-إنت خدتني غدر.

تحفز "رشيد" في وقفته، وابتسم من زاوية فمه قائلاً:

-أنا فيها، هعدمك العافية قدام الكل، وأرجع أقعد جمب مراتي، ولا كأن حاجة حصلت.

تلون وجهه بحمرة متوترة، واشتاطت نظراته على الأخير، كان يعلم جيدًا أنه إذا تورط معه في شجار –ولو بالأيدي- لهُزم شر هزيمة، وأريق ماء وجهه وأصبح علكة في ألسن الجميع. ظهر الاضطراب على محياه، وأصبح كالتائه للحظاتٍ، لولا أن جاءته نجدة من السماء حين تدخل أحد أهالي البلدة يسأله في عقلانية:

-هو حد منعك عنهم يا "فضل"؟

ادعى انشغاله بالنظر إليه، وحول أنظاره نحو آخر يخاطبه:

-خدهم يا "فضل" وامشي، دول لحمك.

أصعب ما اختبرته الآن هو ابتعاد صغارها عنها، فغمغمت "سها" ترجوه في ألمٍ:

-"رشيد"، عيالي.

إن كان الأمر بيده لمنعه من أخذهم؛ لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن خطة هذا الدنيء الظهور بمظهر الشهامة والرجولة أمام الجميع لاكتساب بضعة نقاط يحسن بها من موقفه المتخاذل، لهذا مال "رشيد" على زوجته وأخبرها بهدوءٍ:

-اصبري، هاجيبهملك بالعقل.

ولأنها تثق في قراراته التزمت الصمت، وهزت رأسها بالإيجاب، لتشير بعدها لصغارها بالتحرك. صعد "فضل" على المسرح الخشبي ليختطف أولاده وهو يدعي محبة أبوية زائدة عن الحد:

-تعالوا يا عيال، تعالوا يا حبايبي.

قالت واحدة من الصغار ببراءة:

-عاوزة ماما.

وكأنها رمته بالشرر فصراخ بها وهو يدفعها:

-بس يا بت، ويالا انجروا كلكم قدامي.

لم يعجب "رشيد" معاملته غير الآدمية مع الصغار، وكور قبضة يده بتحفزٍ، استطاع أن يلمح الدموع الرقراقة في عيني زوجته، قبل أن تسأله بقلبٍ موجوع:

-هتسيبهم ياخدهم؟

امتدت يده لتمسك بيدها، ضغط برفقٍ بإبهامه على ظهر كفها، ثم نظر إليها قائلاً وهو يجلس مجددًا في مقعده:

-اللي زي ده مش هيستحملهم، هيبعتهملك تاني، اسمعي مني.

دمدمت في حرقةٍ ودموعها تنفر من طرفيها:

-حسبي الله ونعم الوكيل فيه.

صاح "رشيد" عاليًا بنوعٍ من التفاخر، كأنما يقصد استفزازه:

-اطمنت عليهم، نكمل بقى فرحتنا الكبيرة، عشان ألحق أخد عروستي ونتفسح.

من بين أسنانه هتف لاعنًا:

-الله يحرقكم، إياكش تتقلب بيكم العربية!

أفــاق من الذكرى على صياح أطفاله وهم في غمرة لعبهم الحماسي، اِربد وجهه بالغضب، وهدر في خشونة أرعبتهم:

-ما كفاية دوشة بقى، خوتوا دماغي.

جاءت والدته على صوت صراخه تسأله في استنكارٍ:

-في إيه يا "فضل"؟ مالك مش طايق نفسك ولا العيال ليه؟

هدر في صبر نافذ وهو يضرب مقدمة رأسه:

-صدعت يامه.

أشــارت "سعاد" لأحفادها تأمرهم بنبرة حانية لكنها في نفس الوقت حازمة:

-خشوا يا عيال العبوا جوا.

انتظرت ذهابهم لتعاتب ابنها:

-بالراحة عليهم شوية.

لم يكترث بما قالته، واشتاطت نظراته مغمغمًا في غيظٍ:

-هي مفكرة كده إنها ارتاحت لما رميتهم عندي.

صححت له من تلقاء نفسها:

-يا ابني ده إنت اللي جبتهم وآ...

قاطعها في عصبيةٍ:

-كنت بأكيد فيها، بأحرق دمها ...

نظرت له في ضيقٍ، فأكمل متوعدًا:

-بس والله ما سايبها، ده أنا هقرفها قرف الليمون على الشجر.

وقبل أن يكمل وصلة وعيده الأهوج جاء "إسماعيل" من الخارج بتعابيرٍ ناقمة للغاية، ضرب بعكازه على الأرضية، وصاح فيه بزمجرةٍ غير مبشرة بخير:

-واد يا "فضل".

اعتدل في جلسته، ولم ينهض، ثم تساءل بسماجةٍ:

-أيوه يابا.

لكزه بطرف عكازه متسائلاً بوجهٍ مشدود، ونظراتٍ مشتعلة:

-إنت ليك علاقة بالدجال إياه اللي اتمسك من كام يوم؟

لطمت "سعاد" على صدرها قائلة:

-دجال، يا ساتر يا رب!!

ادعى الغباء، وتساءل في سخافةٍ:

-إنت بتكلم على مين يابا؟

هدر أباه في نفاذ صبرٍ:

-يا واد ماتستعبطش عليا، الحكومة ناشرة صور الحاجات اللي لاقوها معاه بعد ما قبضوا عليه، وكان فيهم صورة بنت عمك، واللي قابلني من أهل البلد عرفني بالحكاية دي.

تمسك بكذبه، وأنكر معرفته به بانفعالٍ مفتعل:

-وأنا مالي، هو كل بلوى تحصلها يبقى "فضل" السبب؟ ما أنا أهوو كافي غيري شري وقاعد في حالي.

لم يبدُ والده مقتنعًا بهذا الاستعراض الهزلي، وعلق في نقمٍ:

-أنا حاسس إن الموضوع ده مخرجش براك.

حاد بنظراته عنه، ونطق في نفورٍ:

-أنا مش فاضي للعب العيال ده!

لكزه "إسماعيل" مجددًا في ساقه وهو يعنفه:

-أومال فاضي لإيه؟ ده إنت ليل نهار قاعد زي الحريم كده في البيت، لا شغلة ولا مشغلة.

هب واقفًا، واحتج في سقمٍ:

-ما بلاش قلة قيمة يابا.

تدخلت "سعاد" للتلطيف بينهما، فقالت برجاءٍ وهو تضع يدها على كتف زوجها:

-بالراحة عليه يا حاج.

نفض يدها عنه، وقال في يأسٍ:

-أنا استعوضت ربنا فيك.

انصرف وهو يبرطم في سخطٍ، فتبعته نظرات "فضل" الحانقة، ليهتف بعدها متذمرًا؛ كأنما يشكو شدته:

-هو ماله حاطط نقره من نقري ليه؟ ما يسيبني في حالي!

ردت عليه "سعاد" قائلة وهي تربت على صدره:

-أبوك بيتفك معاك بكلمتين، اسمعله وإنت ساكت.

تشنج ملوحًا بذراعيه:

-يامه أنا زهقت، محدش حاسس بيا.

-يا حبيبي بكرة ربنا يرزقك ببنت الحلال، ويعوضك خير، ده إنت لسه شباب، وفي عزك ...

أصدر صوتًا محتجًا كتعبير عن عدم اقتناعه، فأخبرته بنظراتٍ ثعلبية:

-إيه مش مصدقني، طب شاور على أي واحدة وأنا أجوزهالك.

نطق فيما يشبه التحدي:

-هتقدري؟

قالت عن ثقة:

-جرب.

عاود الجلوس على الأريكة الخشبية، وثني ساقه للأعلى ليستند بمرفقه على ركبته، ثم قال مبتسمًا في ازدراء:

-طب أنا عاوز "فيروزة".

صمتت مليًا، فرمقها بنظرة ساخرة منها؛ لكنها عادت لتسأله بتعابيرٍ غامضة:

-هي دي اللي هتريحك؟

رفع حاجبه قائلاً:

-أيوه.

قالت عن يقين مريب دون أن تفكر:

-خلاص .. هجوزهالك.

أخفض ساقه، واعتدل مرددًا في ذهول مصدوم:

-إيه ده بجد؟

ابتسمت وهي ترد بعد أن مسحت برفقٍ على جانب ذراعه:

-أيوه، طالما هي دي اللي هتريحك .. وعلى رأي المثل الضفر عمره ما يطلع من اللحم.

تجدد الأمل بداخله للانتقام من شخصها بهذا العرض غير المتوقع من قِبل والدته، فأصابته نشوة غريبة، جعلته في قمة غروره الواهي.

..........................................

اعتبرته –مجازًا- سرًا من الأسرار الكونية، والذي لا يجب الإطلاع عليه مُطلقًا، أو حتى التطرق إلى تفاصيله، ليس لأنها تخشى من إفشائه، وإنما لرهبتها من إحساس تسببها في إيذاء غيرها دون قصدٍ، وإلا لكانت نطقت منذ البداية بما عرفته. نظرت "فيروزة" إلى "هيثم" بنظرات غلفها القلق والخوف، لعقت شفتيها، وطلبت منه بأنفاسٍ شبه مضطربة:

-مافيش داعي، خلاص آ...

قاطعها بإصرارٍ:

-أنا عايز الكل يعرف عشان أرتاح.

ردت رافضة بعنادٍ، وبؤبؤاها يتحركان في عصبيةٍ:

-مالوش لازمة ننبش في الماضي.

قال بعندٍ يفوقها:

-لأ لازم، أنا مش هافضل عايش كده.

فشل مسعاها لمنعه من الكلام، وانطلق يسرد تفاصيل جريمته في الصغر، متجاهلاً توسلاتها الصامتة، تطلع إلى الأوجه المحدقة به قبل أن يخفض رأسه نادمًا، بينما تهاوت "فيروزة" جالسة في مكانها ودقات قلبها ترتفع في صخبٍ. كانت "ريم" واقفة بالخلف تراقب وتسجل ردات الفعل المتباينة، أرادت لمريضتها أن تتخلص من كافة ما يثقل كاهليها، أن تتجاوز كل البقاع المظلمة القابعة بها، لتتحرر من كل القيود التي تعيقها عن المضي قدمًا في طريق شفائها، وها قد بدأت خطتها العلاجية تؤتي بثمارها عن طريق المواجهة المحتومة.

رغمًا عنها تدفقت العبرات من عينيها بغزارة، لم تعرف سبب هذا البكاء، هل لتعرية الماضي الأليم؟ أم إشفاقًا على شخص بات في نظر المحيطين به مدانًا؟ وللمفاجأة وجدت دعمًا غريبًا لشخصه، حيث قال "سلطان" أولاً:

-يا ابني محدش معصوم من الخطأ، وإنت كنت عيل، مش لاقي اللي يوجهك صح.

نطق "هيثم" بصوت ظهر فيه اختناقه:

-أنا بتعذب كل ما افتكر اللي عملته.

رد عليه الجد في هدوءٍ:

-ربنا غفور رحيم، هو مكتوبله يكون شهيد، ولعل ده يشفعله زلاته زمان.

أكد عليه "بدير" بنفس النبرة الهادئة:

-صح يابا، ربنا ليه حكمة في كل حاجة بتحصلنا.

لم يشارك "تميم" في التعليق، اكتفى بالإصغاء لاعترافات ابن خالته، وعيناه مثبتتان عليها، أراد بكل جوارحه حين رأها تبكي أن يحتضنها، أن يحتويها بين ذراعيه ويهون عليها الأمر، أن يهمس في أذنها بكلماتٍ مطمئنة تبث لها الأمان، وتطيب من روحها المعذبة، بدت في عينيه رقيقة للغاية، هشة ككعكة لذيذة المذاق، أطال النظر متناسيًا كافة الوعود، ومتجاوزًا عن الأعراف، ويا ليته ما أطال! فقد أحرجه والده عمدًا:

-ما تقول حاجة يا "تميم"، ولا إنت مش معانا؟!

حمحم مرددًا بتحرجٍ، وقد أمسكت به "فيروزة" ينظر إليها بتلك النظرة الحانية:

-لا إزاي يا حاج، كل اللي بتقولوه تمام.

سأله في تحدٍ:

-طب احنا قولنا إيه؟

وضع يده على مؤخرة عنقه هاتفًا بتلعثمٍ:

-آ.. كلام .. كبير.

استطرد "سلطان" ملطفًا من الأمر وبابتسامته الوقورة:

-ابنك مايحبش يكرر كلامك يا "بدير"، بيسمعه وينفذ من أول مرة.

ثم وجه أنظاره إليه متسائلاً:

-مش صح؟

على الفور أيده حفيده:

-أيوه طبعًا.

تقدمت "ريم" في خطواتها لتقف إلى جوار "فيروزة" خلال حوار أربعتهم معًا، وضعت كلتا يديها على كتفيها، وأخبرتها بصوت شبه خافت:

-أنا عايزاكي ترمي الماضي ورا ضهرك، معدتش في حاجة تقلقك.

انكشاف أمرها أمامهم لم يكن من السهل عليها، خاصة صاحب النظرات النافذة إليها، تصدع الحاجز الأخير بينهما جعلها في موقفٍ متردد وحرج، همست بصوتٍ بالكاد وصل إليه:

-أنا خايفة.

حملق فيها بلهفةٍ، وتأملها وهي تعترف لطبيبتها:

-مش عايزة أتأذى من حد تاني، تعبت.

وجد "تميم" نفسه يرد بتلقائيةٍ، وقد اتخذ وضعية دفاعية عنها:

-محدش هيسمح بكده.

اتجهت الأنظار إليه، فتابع بجرأة غريبة وهو يشير بيده:

-بصي شوفي اللي حواليكي دول بيحبوكي أد إيه، مش محتاجين سبب لده.

وافقه الجد الرأي، وأضاف عليه:

-مظبوط .. وبعدين يا بنتي كل حاجة بتحصل في حياتنا لسبب، واللي بنمر بيه مهما كان صعب ده ابتلاء واختبار من ربنا، يا يشوفنا هنصبر ونقول الحمدلله، يا إما نعترض وساعتها مش هنلاقي إلا السخط وزوال النعمة.

مسحت "فيروزة" دموعها التي تبلل خديها، بينما استمر "سلطان" في مخاطبتها بابتسامة اعتزازٍ:

-إنتي حبك اتحط جوا قلوبنا كده من عند ربنا، غلاوتك في غلاوة عيالنا ...

ثم تحولت أنظاره نحو "تميم" وهو يكمل بنبرة ذات مغزى:

-ويا عالم بكرة تلاقي عوض ربنا ليكي إزاي، مش كده يا "تميم"؟

تنحنح قائلاً بتحرجٍ:

-أه .. طبعًا.

رددت "ريم" على مسامعها من جديد قائلة بتفاؤلٍ:

-سمعتي يا "فيروزة"؟ حبهم ليكي تلقائي.

وزعت نظراتها بينهم، وقالت في ترددٍ:

-أنا ...

قاطعها الجد قائلاً بنبرة جمعت بين اللين والحسم:

-احنا عاوزينك تخرجي من هنا قريب، الدكان موحشكيش، كفاية كده.

صحح له "تميم" بابتسامةٍ عريضة:

-اسمه محل يا جدي.

هتف معاندًا، وبنوعٍ من التهديد المبطن:

-لأ هو دكان، ولا آ...

تراجع قائلاً في طاعة أضحكت من حوله:

-ماشي يا جدي، اللي تقوله يمشي علينا كلنا.

انتقلت الأعين نحو "هيثم" بعد أن صرح "بدير" بهدوءٍ:

-قولها يا "هيثم" على المفاجأة اللي محضرها لمراتك.

رمقته "فيروزة" بنظرة متسائلة وهي تكرر:

-مفاجأة؟!

أكد عليها "بدير" بإيماءة من رأسه:

-حاجة بقاله فترة بيجهزها.

توقف عن الكلام ليشير بعينيه إلى "هيثم"، فقال الأخير بترددٍ ملحوظ:

-أنا مكونتش عايز أجيب سيرة إلا لما كل حاجة تخلص ...

وقبل أن يساء فهمه تابع:

-بس إنتي مش غريبة، وهتحفظي السر.

تلك الكلمات المنتقاة بعناية أشعرتها بالتقدير المعنوي، وبأن هناك بادرة احترام طيبة ستسود بينهما في المستقبل. عفويًا تحولت عيناها نحو "تميم" الذي صاح يمتدحها بكلمة بدت كغزلٍ أكثر منها لقبًا:

-طبعًا دي الأبلة.

توردت وجنتاها في ربكةٍ، وحاولت تجاوز هذا التلبك الحرج بالتركيز مع "هيثم" حين أردف موضحًا:

-أنا جبت شقة تانية لـ "همسة"، هي مش جديدة أوي، بس اتفقت مع "تميم" أخد بيته القديم وهو ياخد بيت أمي، وأدفعله الفرق، وأوضبه عشان تسكن فيه.

ارتفع حاجباها في دهشةٍ وهي تقول:

-معقولة!

استأنف مكملاً الإفصاح عن باقي مفاجآته السارة:

-ده غير المحل اللي اشتريته عشان أقف فيه لوحدي، وكلها كام يوم ويشتغل، ويجيلنا منه رزق حلو.

أدركت مع عزمه الواضح نواياه الطيبة لتأسيس حياة أسرية مستقرة تختلف عما تهيأت له سابقًا، لكونها بكده، وتعبه، واجتهاده الشخصي، ابتسمت لسعيه الدؤوب في تحقيق هذا، وهتفت تهنئه في حبورٍ:

-مبروك، ربنا يوفقك.

حك طرف ذقنه، وهو يضيف:

-أنا مش عايز حد يقول بعد كده إني اعتمدت على غيري عشان الجوازة دي تكمل.

أصغت إليه "فيروزة" باهتمامٍ يتخلله الإعجاب، خاصة وهو يعترف بصدقٍ:

-"همسة" ربنا بعتهالي نعمة في وقت أنا كنت ضايع فيه، خدت بإيدي، وطلعتني من القرف، وربنا يقدرني وأسعدها بالحلال.

رد عليه "سلطان" يدعمه عن ثقةٍ:

-هتقدر طالما نويت، واستعنت بالله.

حمحم "بدير" هاتفًا وهو يجمع طرفي قفطانه:

-احنا طولنا عليكي النهاردة.

نظرت إليه، وقالت بابتسامةٍ صغيرة ناعمة:

-أنا فرحانة بوجودكم.

تنهد الجد معقبًا بمكرٍ، وعيناه تتحولان عن قصد نحو حفيده:

-واحنا أكتر يا بنتي، بس لو تعرفي.

يا لسعادته! جده بشحمه ولحمه يمهد له السبل لترى عِظم الحب في عينيه، فقط لو تفتح الباب لقلبها وتتأمل ما يحويه من عشقها. أضاف "بدير" مبتسمًا:

-عايزين المرة الجاية نيجي نشوفك في بيتك.

هزت رأسها بالإيجاب، بينما استطرد الجد متابعًا بما بدا له وكأنه استمتاع من نوع مختلف:

-بالمناسبة، "تميم" كل يوم بيروح الدكان بتاعك يقف على إيد العمال ينضفوه، ويخلوه زي الفل، عشان ترجعي تنوريه، الزباين مستنينك، وأولهم بنتنا "هاجر"، حلفانة لتعملي الزواء عندنا في البيت، واحنا مابنكسرش لبناتنا كلمة.

تلقائيًا عرفت عيناها الطريق إلى وجهه، فنظرت إلى تعابيره المبتهجة بتأمل، ورأت ذلك الوهج الفرح الذي يزداد وضوحًا في عينيه كلما تطرق أحدهم إلى سيرتها، رمشت بجفنيها، وهتفت معترضة بخجلٍ:

-بس أنا أصلاً الفترة اللي جاية مش مرتبة أموري ولا آ...

قاطعها "سلطان" رافعًا يده أمام وجهها، وبتعابير شبه عابسة:

-إنتي برضوه بنتنا، هتزعليني؟ ودي أول حاجة أطلبها منك.

ابتسمت في نعومة وهي ترد نافية:

-لأ.

بادلها الابتسام ملمحًا بلؤمٍ:

-ومش هاتبقى آخر حاجة.

التفت "سلطان" برأسه نحو حفيده يسأله بصيغة آمرة:

-فين مفتاح الدكان يا "تميم"؟

امتدت يده داخل جيب قميصه الأزرق، وأخرجه منه ليناوله إياه قائلاً:

-أهوو يا جدي.

كان المفتاح معلقًا في ميدالية الطاووس التي أهداها لها، بريقها الفضي انعكس في نظرات "فيروزة"، وزاد لمعانًا عندما تابع الجد "سلطان" عن قصدٍ وهو يغمز له:

-أيوه كده خليك حاطه جمب قلبك عشان ما يضعش، ما هو اللي متشال في القلب دايمًا متصان.

أحست "فيروزة" بأن الكلام موجه لها، وإن كان مستترًا، فوجدت نفسها ترتبك، وشعرت بتشعب حمرة دافئة في بشرتها، على الأغلب كانت ملحوظة للمتواجدين، حاولت الحفاظ على ثبات تعبيرات وجهها، ونظرت إلى الجد عندما قال وهو يمد راحته بالمفتاح:

-اتفضلي .. ربنا يجعله فاتحة الخير عليكي وعلينا.

أخذته منه متمتمة بصوتٍ أظهر حرجها:

-يا رب.

هتف "سلطان" قائلاً وهو يوزع أنظاره عليهم:

-مش يالا بينا، ولا الأعدة هنا عجبتكم؟

رد عليه "تميم" مبتسمًا بابتسامةٍ عريضة:

-أعدة الأبلة مايتشبعش منها.

غازلها الجد عن عمدٍ وهو مسلط كل أنظاره عليها:

-هي كلها على بعضها حلوة وزي القمر.

تحرجت للغاية من عذب كلماته، وأخفضت رأسها متحاشية النظرات المتجهة إليها، بينما قالت "ريم" في تهذيبٍ وهي تشير بيدها:

-اتفضلوا يا جماعة.

شدد "سلطان" بلهجةٍ مزجت بين العطف والجدية:

-خلي بالك من نفسك.

ردت بإيماءة من رأسها:

-حاضر يا جدي.

وضع يده على كتفها متابعًا بنفس اللهجة المؤكدة:

-ومن غير ما تقولي إنك عايزة حاجة، احنا معاكي، وجمبك، وفي ضهرك، هنفضل على طول وياكي لحد ما نقابل وجه كريم.

لم تستطع كبح مشاعرها ولا منع نفسها من الارتماء في حضنه الدافي بعد كل ما قيل، وكل ما شعرت به في حضرتهم؛ وكأنهم أعادوا لها ما ظنت أنها أضاعته للأبد! ألقت "فيروزة" برأسها على صدر الجد "سلطان"، ورددت بصوتٍ كان متأثرًا للغاية، وعيناها تلك المرة تحتويان على دموع الفرحة:

-ربنا يخليكوا ليا ............................................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الخامس عشر من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة