-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والأربعون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الحادى والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والأربعون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والأربعون

 ريثما يترجل أفراد عائلته من السيارتين، كان "تميم" قد تحرك ليقف خلف صندوق سيارته، حتى يخرج الحلوى التي اشتراها للعروس وأسرتها كهدية تعزي من روابط الود، وتأصل من العلاقات الطيبة بين العائلتين. التفت برأسه للجانب ليتطلع إلى والدته التي أقبلت عليه، ثم ألقى نظرة عابرة على شقيقته وزوجها "سراج"، حيث كان كلاهما مشغولان بتدليل الصغير "سلطان"، عاد ليحدق في وجه أمه متسائلاً:

-شكلي حلو يامه؟

تأملت "ونيسة" ابنها في قميصه الكحلي، وبنطاله الجينز، بنظرات فخورة، لتجيبه قائلة في مدحٍ واضح:

-الصلاة على النبي مافيش بعد كده.

ابتسم في استحسانٍ لرأيها الداعم، فتابعت في نبرة داعية:

-ربنا يجعل في وشك القبول، ويزرع محبتك في قلبها.

أمن من ورائها برجاءٍ شديد:

-يا رب، يا رب.

ما إن تأكد من وقوفها إلى جوار والده، حتى سبقهما في خطاه ليقف بجوار جده، ثم استطرد هاتفًا في نبرة جادة وهو يمد ذراعه إليه:

-تعالى يا جدي، اسند عليا.

تعلق الجد "سلطان" في ذراعه، واستدار ناظرًا إليه وهو يسأله في نبرة مهتمة:

-ها جبت الحاجة الحلوة لعروستك؟

رفع "تميم" ذراعه الآخر معلقًا في حماسٍ:

-أيوه، شيكولاتة، ومن أفخر الأنواع كمان.

امتدح اختياره قائلاً:

-الله ينور، دلعها عشان تشوف أيام حلوة.

قبل أن يفكر حفيده في الرد عليه؛ وإن كان بنوعٍ من المزاح، تدخل "بدير" محذرًا بلهجةٍ متشددة:

-بيبقى يدلعها ويناغشها براحته بعد الجواز يابا، قبل كده هيتسك على دماغه.

أدار "سلطان" رأسه للناحية الأخرى ليخاطبه في مرحٍ:

-الكلمة الطيبة صدقة يا "بدير"، خليه ياخد ثواب فيها، ويسمعها كلمتين حلوين.

وافق "بدير" أبيه الرأي، وأبدى تبريره الحازم موضحًا:

-وماله، طالما في وجود حد مننا أو من أهلها، غير كده هيتحسب الكلام ضده مش ليه.

امتثل "تميم" لأمر والده الصارم، فقال في طاعة غير منزعجة:

-حاضر، هبقى أخلي معايا محرم.

...........................................

تلكأت في خطواتها نسبيًا وهي تسير نحو الرصيف، بعد أن تركت رضيعها لزوجها يحمله. رفعت "هاجر" طرف عباءتها، لئلا تتعثر في مشيتها بسبب طولها الزائد، أنزلتها بمجرد أن صعدت على الرصيف، واستدارت تكلم "سراج" بوجهٍ مبتسم:

-لو عودته على الشيل هيتعبك، اسمع مني.

بادلها ابتسامة عذبة وهو يرد في سرورٍ:

-خليه يتعبني هو وأمه، على قلبي زي العسل.

حذرته مشيرة بسبابتها أمام وجهه:

-مترجعش تشتكي بعد كده!

قال في عفويةٍ وهو يرمقها بنظراته المحبة:

-الشكوى لغير الله مذلة.

عبست من رده التلقائي، وهتفت محتجة بتبرمٍ:

-بقى كده .. ماشي.

أدارت رأسها للأمام، وأسرعت في خطاها لتسبقه؛ لكن التف ذيل عباءتها حول كعب حذائها، وكادت تُطرح أرضًا، لولا أن قبض "سراج" على ذراعها، ليحول بينها وبين السقوط هاتفًا في خوفٍ شديد:

-حاسبي.

ساعدها على استعادة اتزانها، ثم أبعد يده، فعاتبته في دلالٍ:

-أهوو شوفت، كنت هقع على وشي بسبب زعلي منك.

حملق فيها مدهوشًا، ورفع حاجبيه للأعلى متسائلاً في استهجانٍ:

-هو أنا قولت حاجة غلط؟

ضمت قبضتها، وثنيت ذراعها، ثم وضعته أعلى منتصف خاصرتها لتعلل له بتعابيرها المتجهمة:

-المفروض لما حاجة تضايقك تقولي، مش تكتم في قلبك وتسكت، أنا محبش كده.

حافظ "سراج" على نقاء ابتسامته وهو يخبرها بغير كذبٍ:

-عينيا.

عادا للسير مجددًا بتلكعٍ وهما يتهامسان في محبةٍ لا يمكن إنكارها، زجرتهما "ونيسة" في حزمٍ:

-يالا يا ولاد، بلاش عطلة.

عندئذ مال "سراج" على زوجته يهمس لها في أذنها بتنهيدة محملة بالشوق:

-بكرة لما يتقفل علينا باب هاقولك أحلى كلام، ومش هاخلي حد يقاطعنا.

خفضت من صوت ضحكاتها النضرة، وأنذرته بعبثية متراقصة في نظراتها إليه:

-طب بس بقى لأحسن المرة الجاية أبويا يشوفنا، ويزعقلنا.

تصنع الجدية وهو يعقب عليه:

-كله إلا الحاج "بدير"!

..................................................

انفتح الباب على آخره، وبدأ الضيوف في الولوج واحدًا تلو الآخر، و"آمنة" تقف عند الجانب تستقبلهم في حرارة شديدة، انتظر "تميم" حتى النهاية ليطأ أعتاب المنزل، اختلس النظرات سريعًا علَّه يُبصرها عند أي زاوية؛ لكنها لم تكن في الأرجاء، غامت ملامحه قليلاً، ثم قدم الهدية الشهية إلى حماته، مصحوبة بابتسامةٍ لبقة، فمنحته الأخيرة ترحيبًا زائدًا، ليلحق بعدها بأفراد أسرته، وصوتها من خلفه يكرر:

-يا مراحب بالناس الغالية، تسلم إيديكم ورجليكم.

تساءلت "ونيسة" في لطافةٍ:

-إزيك يا "آمنة"؟ عاملة إيه؟ وأخبار صحتك إيه؟

أجابتها بعد تنهيدة سريعة:

-الحمدلله في أحسن حال.

رددت في ودٍ:

-دايمًا يا رب.

حرك "خليل" كرسيه المدولب ليدنو من ضيوفه الأعزاء ملقيًا عليهم التحية:

-سـ..لام عليـ..كم.

أسرع "تميم" ناحيته ليدفعه وهو يقول في أدبٍ:

-خليك زي ما إنت يا عم "خليل"، احنا جايين لحد عندك.

علقت "آمنة" كنوعٍ من المجاملة وهي تستقر في واحدة من الأريكتين الشاغرتين:

-شرفتونا يا جماعة والله، ونورتونا .. ده احنا زارنا النبي.

تفاوتوا في سرعة ردودهم؛ لكنهم قالوا جميعًا:

-عليه الصلاة والسلام.

أحضر "هيثم" مقعدين من مقاعد السفرة ليضعها بغرفة الصالون، في المساحة الخالية، وتنحى للجانب حتى تمر زوجته، وتجلس على واحدٍ منهما، أحنى رأسه عليها يسألها، وقد لاحظ الإعياء على وجهها:

-إنتي كويسة؟

أجابت بإيماءة من رأسها:

-أه الحمدلله.

ضيق عينيه ناحيتها، كأنما يتفرس في قسماتها المتعبة، وقال بصوتٍ خافت في غير اقتناعٍ:

-بس لون وشك مش مريحني.

تنهدت في عمقٍ طاردة الإرهاق من داخلها، وأخبرته ببسمة لطيفة:

-معلش، ده تلاقيه من تعب الأيام اللي فاتت، إنت عارف ماما كانت قالبة البيت فوقاني تحتاني.

احتج على المبالغة في تصرفات والدتها قائلاً وهو يكز على أسنانه:

-مش عارفة إيه لازمتها حملة النضافة دي كل شوية، ما يراعوا ظروفك شوية، ولا لازمًا يعني أتكلم مع أمك.

اختطفت "همسة" نظرة سريعة على الحاضرين، لتتأكد من عدم متابعة أحدهم لنقاشهما شبه المحتدم رغم انخفاض صوتيهما، ثم مدت يدها ووضعته على قبضته المسنودة في حجره تستجديه برجاءٍ:

-خلاص يا "هيثم"، مش وقته، الناس هتاخد بالها.

ظل متمسكًا باعتراضه مبررًا سبب تشدده:

-معلش يعني محدش هينفعني لو جرالك حاجة، إنتي ولا اللي في بطنك.

مسحت براحتها على يده المضمومة، وهمست في نعومةٍ:

-حبيبي، حصل خير.

رمقها بنظرة حادة قبل أن يحرك فكيه لينطق منذرًا:

-عمومًا ليا لي كلام مع أمك بعد الليلة دي ما تتفض.

لم تجادله، وتطلعت إلى الأوجه المحيطة بها؛ لكن ما إن وقعت عيناها على والدتها حتى هتفت بها تأمرها في جديةٍ:

-الحاجة الساقعة بسرعة يا "همسة".

أومأت برأسها متمتمة بابتسامةٍ صغيرة وهي تنهض مجددًا:

-عينيا يا ماما.

انزعج "هيثم" من إرهــاق زوجته بالكثير من الطلبات، خاصة أنها باتت في أشهرٍ متقدمة من الحمل، نهض بدوره ليتبعها وهو يقول بصوتٍ عكس القليل من تجهمه:

-منورين يا جماعة.

فقط تولت "آمنة" الرد عليه بضحكة مفتعلة:

-تعيش يا جوز بنتي، دايمًا تعبينك معانا.

تجاهل التعليق عليها، ولحق بزوجته وهو يبرطم بكلماتٍ مبهمة إلى أن اختفى عن الأنظار.

.................................................

دقائق من الثرثرة الفارغة في عدة مواضيعٍ روتينية عمت بين الحاضرين، تخللها الكثير من النظرات الشاردة المتعلقة بالباب، على أمل أن يكون "تميم" أول من يراها وهي قادمة؛ لكنها أطالت في الظهور، مما ضاعف من الأشواق بداخله، يا ليته ما وافق على اقتراحها المعذب له، أما كان الآن يتنعم بنعومة ودفء أحضانها؟ أطلق زفرة بطيئة محبطة، وأدار رأسه في اتجاه شقيقته التي تساءلت بمكرٍ؛ كأنما قرأت ما يدور في خلده:

-أومال فين عروستنا القمر؟

قبل أن يعاتبها بنظرته الصارمة، جاءه صوتًا يشتاق لسماعه في كل ثانية:

-أنا موجودة.

نبض قلبه بشدة، واستدار في لهفةٍ ليتطلع إليها ملء عينيه، وهو لا يدرك أنه يبتسم لها في ابتهاجٍ ونشوة. التقت نظراته الساهمة بنظراتها الضاحكة، في لحظة توقف فيها الزمن عن الدوران، لتنفذ من خلالها إلى القلوب. في خلال تلك اللحظة العابرة، كانا –عن طواعية ورغبة حقيقية- قد سرقا منها ذكرى أول ملاطفة بصرية بينهما، ودا لو دامت للأبد!

تشتت حدقتا "فيروزة" اللامعتين ببريق عاطفة لا تكابر لإظهارها حين وقفت "هاجر" للترحيب بها، فأخذتها الأخيرة في أحضانها، وقالت في ألفة شديدة، وتلك النظرة الماكرة تنطلق من عينيها، لتصوبها نحو شقيقها:

-يا أهلاً بخطيبة أخويا العسل.

تراجعت عنها "فيروزة" وسألتها في هدوءٍ رغم الضجيج الصادح بداخلها:

-إزيك يا "هاجر"؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟

ردت بضحكة مرحة:

-الحمدلله في أحسن حال، وخصوصًا لما شوفتك.

حافظت على رقة بسمتها وهي تعقب على مجاملتها اللطيفة:

-دايمًا يا رب.

أكملت دورها في تحية كافة الموجودين، فيما عدا "تميم"! ضنت عليه عن عمدٍ، وبقليل من الدلال، بترحيب يشبع الجوع المتزايد بداخله للارتشاف من نهر عشقها. تلفتت "فيروزة" حولها لتنتقي المكان الذي ستجلس فيه؛ لكن الجد "سلطان" رشح لها الاختيار الأمثل بقوله الذي لا يرد:

-تعالي جمبي يا حبيبتي.

وكأنه يفعل المستحيل للتقريب بين قلبين أتعبتهما مشاق الحياة وخياراتها القاسية، لذا جعلها تجلس في المنتصف بينه، وبين "تميم" على الأريكة العريضة، بعد أن طلب منه التحرك للالتصاق بالمسند. نظرة امتنان سددها حفيده إليه، أعقبها نظرة متوترة لأبيه الذي احتفظ بصمته المحذر.

شمل "سلطان" العروس بنظرة أبوية حانية قبل أن يمتدح زينتها غير المبهرجة:

-ماشاءالله، زي القمر.

أخفضت رأسها قائلة في نبرة وديعة:

-شكرًا لحضرتك.

أصابتها لبكة فجائية حين سمعته يأمر حفيده في طرافةٍ:

-ما تديها الحاجة الحلوة يا واد، ولا عايزها تقول عليك بخيل؟

هتف "تميم" مدافعًا عن نفسه بابتسامته العريضة:

-هو أنا لحقت؟ على طول أهوو.

كان قد احتفظ بحقيبة كرتونية صغيرة، لا تتجاوز في حجمها حجم كف اليد، لم يعطها لـ "آمنة" عند ولوجه للمنزل، قدمها إلى عروسه الجالسة إلى جواره قائلاً بوجه ينيره وهج الحب:

-اتفضلي، يا رب تعجبك.

تناولتها منه دون أن تمس أصابعه أناملها، ونظرت إلى ما بداخلها، لتجد علبة من الشيكولاتة الدائرية الشهيرة ذات الأوراق الذهبية، ومعها بطاقة صغيرة، بالطبع لم تملك من الشجاعة أو الجراءة ما يجعلها تُظهرها للعامة وتقرأها علنًا، التفتت برأسها لتنظر إليه عن هذا القرب الخطير، وهسهست بخفوتٍ:

-شكرًا، هدية طعمها حلو.

علق مغازلاً إياها دون احترازٍ بصوتٍ خافتٍ مسموعٍ فقط لها:

-مش أحلى منك.

برقت عيناها مذهولة لجرأته، وقبل أن ينكشف أمر مداعبته المتوارية، ويتم إحراجه بشدة، كانت "آمنة" قد تكلمت عاليًا:

-على إيه التعب ده؟ ده خيركم سابق يا جماعة.

تنحنح "تميم" قائلاً في جديةٍ زائفة وهو يلصق جسده بمسند الأريكة:

-دي حاجة بسيطة للعروسة.

...............................................

العالم أمام سحر النظرات الفيروزية ما زال حائرًا! فكيف له أن ينأى ببدنه عن تعويذة جعلته أسير حبها؟ كانت في صمتها كالوقود الذي يحتاجه ليأجج من النيران المندلعة في صدره، وفي كلامها كالشلال الذي يغمر الأنهار الضحلة بفيض مائه، آه لو يلمس الشفاه ويتذوق الرحيق الكامن فيهما! تنهيدة تلو أخرى تحررت من رئتيه؛ لكنها زادت من أوج الرغبة بداخله.

من زاويته، جاهد "تميم" ليحفر في ذاكرته كل إيماءةٍ تصدر عنها، الابتسامة الرقيقة، الضحكة المهذبة، وحتى النظرة المثيرة التي تمنحها له من طرفها. لم يتوقف عن الابتسام لهنيهة، وكأن كل الأمنيات تحققت في قربها المُهلك! بالكاد حاد بعينيه عنها عندما نادت والدتها:

-يالا يا جماعة السفرة جاهزة.

ردت عليها "ونيسة" في ودٍ:

-ربنا يديم لمتنا وجمعتنا.

بعد دقيقتين تقريبًا، استقر الجميع في مقاعدهم حول المائدة المتخمة بصنوف الطعام الشهية، ولحسن حظه جلست "فيروزة" في مواجهته، ليتمكن من النظر إليها مباشرة، دون الحاجة للالتفاف. تحولت عينا "تميم" نحو "آمنة" التي استطردت تخاطبه:

-دوق كده يا ابني، وقولي رأيك في الأكل.

رد مجاملاً وهو يدس المعلقة في صحن الأرز:

-تسلم إيدك يا حماتي، كفاية تعبك.

رمقته بنظرة ذات مغزى وهي تؤكد له:

-ده "فيروزة" واقفة معايا من طلعة النهار عشان تساعدني في تحضير الأكل.

ما هذا الكذب الذي تسمعه علنًا؟ اتسعت عينا "فيروزة" في صدمة جلية بعد ادعاء والدتها غير الحقيقي، وتوقفت عن مضغ الطعام، لتسعل قليلاً، ثم ما لبث أن استدارت لتنظر إليها في استنكارٍ معكوسٍ على ملامحها. تجاهلت "آمنة" نظراتها المستهجنة، واستمرت تقول في ثقة لتدعم أكذوبتها:

-دي عليها حبة وصفات تجنن.

قالت "رقية" في تلقائية:

-بس دي كانت بتلعب معايا.

صححت لها "آمنة" بعد نحنحنة مسموعة:

-بعد ما نمتي يا "كوكي"، ويالا خلصي طبقك كله عشان يدعيلك.

حينئذ ضاقت عينا "فيروزة" أكثر بتحذيرٍ غير منطوق لوالدتها، لئلا تضيف المزيد من الادعاءات؛ لكن سرعان ما التفتت لتحدق في "تميم" وهو يردد مبتسمًا:

-أكيد هايكون نفسها حلو لأمها.

سددت له نظرة حادة فيها لمحة من الضيق، وقبل أن تنطق موضحة الحقائق، بادر الجد مازحًا:

-حتى لو غير، "تميم" هياكل وهو ساكت، بدل ما يقضيها نواشف.

أمنت عليه "فيروزة" بجدية غير ساخرة:

-بالظبط يا جدي ...

انخفضت نبرتها على الأخير، لتبدو وكأنها تكلم نفسها وهي تتم جملتها:

-بلاش سقف الطموح يعلى أوي.

ابتلع "تميم" ما في جوفه، وقال بنفس الوجه المبتسم:

-صح يا جدي، أنا هاكل عشان الطبق يدعيلي.

انفلتت منها ضحكة صغيرة، جعلتها تتحرج بشدة لتحول الأنظار إليها، مما اضطرها للتحديق في صحنها، وكأنها مشغولة بتناول الطعام، في أقل من لحظات التهى الجميع عن التحديق بها ليتحدثوا عن أمرٍ آخر؛ لكنها لم تتوقف عن اختلاس النظرات إليه. حقًا مقاومة تأثيره بات مستحيلاً، كيف له أن يفعل ذلك ببساطة؟ أن يحرك الماء الراكد أسفلها، لتصبح أخرى غير تلك التي كانت عليها، أنثى مليئة بالحيوية، الشغف، والرغبة في الحياة!

........................................................

تحول البلكون المتسع بعد انتهاء الغذاء، إلى حلقة عائلية اجتمع فيها أفراد الأسرتين للتسامر، في أجواء معبأة بالمودة والألفة. استغل "سراج" هذا الاجتماع –وبعد مداولة سريعة مع زوجته- ليقوم بالإعلان بصوتٍ شبه مرتفع، موجهًا كلامه إلى عائلة "فيروزة":

-إن شاءالله جوازي على "هاجر" الأسبوع الجاي، أنا قولت أعزمكم بنفسي على الفرح.

انطلقت زغرودة مجاملة من "آمنة"، أعقبها ترديدها الفرح:

-ألف ألف مبروك، ربنا يتمم على خير

في حين رد عليه "بدير" مصححًا زلة لسانه غير المقصودة:

-هما مش محتاجين عزومة، دول أصحاب فرح يا ابني.

لم تخبت ابتسامة "سراج" وهو يرد:

-أكيد طبعًا يا حاج "بدير"، هما من الأهل والأحباب.

وجهت "فيروزة" تهنئتها لـ "سراج" فقالت:

-مبروك يا معلم "سراج"، ربنا يتمم بخير.

رد يشكرها وهو يومئ برأسه:

-تسلمي يا رب، وعقبالك.

حادت بنظراتها عنه لتحدق في "هاجر"، وهنأتها هي الأخرى قائلة وهي تربت على جانب ذراعها:

-مبروك يا "هاجر"، تساهلي كل خير يا حبيبتي.

هدهدت الأخيرة رضيعها بين ذراعيها، وهتفت ضاحكة:

-الله يبارك فيكي يا حبيبتي، وعقبالك يا رب عن قريب، عاوزين الفرح يدق بابنا.

تورد وجهها قليلاً، فتجاوزت عما تشعر به من حرجٍ، لترد في هدوءٍ محايد:

-ربنا يسعد الجميع.

أحضرت "رقية" طائرتها الورقية، واخترقت أرجل الجالسين، لتتمكن من المرور والوصول إلى "تميم" المرتكن بظهره على حافة سور الشرفة، رفعتها إليه وقالت في مرحٍ طفولي:

-عايزة أطيرها, تلعب معايا؟

لم يرد طلبها، وانحنى جاثيًا على ركبته ليغدو في مستوى نظرها، وسألها مبتسمًا:

-تحبي نطيرها فين؟

أعطته الطائرة، وقفزت في مكانها مرددة في لهفةٍ:

-فوق، في السطوح.

هز رأسه ممتثلاً لطلبها:

-ماشي.

استدارت "رقية" تخاطب أبيها:

-هاروح معاه يا بابا.

هز رأسه بالإيجاب، وعلى وجهه ابتسامة متفائلة، بينما استقام "تميم" واقفًا، وشبك يده في كفها الصغير، ليبدأ السير معها من خلف المقاعد؛ لكن استوقفه اقتراح جده النزق:

-خد عروستك معاك، هتطلعوا لوحدكم كده؟

خفق قلبه بشدة لمجرد الفكرة، وانتفضت عواطفه تزأر للظفر بلحظات مميزة بتواجده معها، ابتلع ريقه، ونظر نظرة خاطفة نحو أبيه الذي تجهم قليلاً، فأمسك التردد بصوته وهو يقول:

-لو .. هي .. تحب؟

ثم حمم مضيفًا، وعيناه تنظران إلى والده، كأنما يستأذنه:

-إيه رأيك يابا؟

أجابه "بدير" بلهجةٍ جمعت بين الشدة واللين:

-طالما في حد معاكو معدنيش مانع.

أحرقت الرغبة في تحقيق ذلك اللقاء أوصاله، وألهبت عواطفه بشكلٍ لا يمكن تحمله، أخفى مشاعره تحت غطاءٍ من الهدوء، وكرر طلبه على "فيروزة" بأسلوبٍ لبق:

-تجي معانا يا أبلة؟

رمقته بنظرة غامضة قبل أن تمنحه جوابها:

-أكيد، بس "همسة" تيجي معايا.

امتقعت ملامح وجه "هيثم" لمجرد طرح الفكرة، وقبل أن يعترض سبقته زوجته رافضة بتنهيدة متعبة:

-لأ مش قادرة أتحرك، خلوني أعدة في مكاني، أنا كده كويسة.

أسندت "آمنة" أكواب المشروب الغازي بعد أن ملأتها، واقترحت في غير مبالاة وهي تجلس إلى جوار حماة ابنتها:

-ما تطلعوا لوحدكم، هيجرى إيه يعني؟

اِربد وجه "فيروزة" بالضيق لهذا القدر من التساهل المكشوف، بينما علقت "ونيسة" بابتسامةٍ مبتورة لتخفف من وطأة الأمر:

-بيتكسفوا يا "آمنة"، ومايصحش برضوه، خليهم على راحتهم.

جاءها مبررها فجًا بعض الشيء بعد ضحكة مصطنعة:

-ما هو لازم ياخدوا على بعض، أومال هيتجوزوا عمياني.

لم تكن "فيروزة" راضية عما يحدث، وكادت ترفض الاقتراح برمته، لولا أن استطردت "هاجر" قائلة في حماسٍ:

-خلاص أنا و"سراج" رايحين معاهم، خلينا نشوف المنظر من فوق.

ردت عليها "آمنة" في استحسانٍ وبحماسٍ زائد:

-ده تحفة، هيعجبك أوي.

غمغم "بدير" من بين أسنانه في خفوت:

-يكون أحسن.

من بين كل الحاضرين، كان يخشى –بشدة- قلبتها الوشيكة، رأى "تميم" الكدر بائنًا في وجهها، وتوقع أن ترفض التواجد معه، لكنه لم يمانع من المجازفة وسؤالها بحذرٍ:

-إيه رأيك يا أبلة؟ جاية معانا؟

دفعتها "هاجر" من كتفيها، وقد تولت الإجابة عنها:

-وهي هترفض ليه؟ تعالي معايا.

لم تترك لها الخيار، فاضطرت "فيروزة" أن تنساق معها نحو الخارج، والغيظ من تصرفات والدتها غير المستساغة ظاهرًا في عينيها. تلكأت في حركتها، وتعمدت التباطؤ خلال صعودها للأعلى، كما أنها لم تتوقف عن النفخ عاليًا كتعبير عن انزعاجها، حتى أصبحت الأخيرة في الوصول والانضمام إليهم. تسمرت قدماها عند المدخل، وكتفت ساعديها أمام صدرها لتراقب "تميم" بصمتٍ مشحون، لن تنكر أن الغيرة قد بدأت تتسلل إليها لانشغاله كليًا عنها، وإن كان مع الصغيرة، بدا مهتمًا بجعل الطائرة تحلق عاليًا وكأنها المهمة المستحيلة.

باعدت نظراتها عنه لتحدق في "سراج" و"هاجر" المشغولين بالتقاط بعض الصور التذكارية مع الرضيع، هسهست في غيظٍ:

-وأنا جاية أتفرج عليكم ولا إيه؟

لوت ثغرها متابعة تبرمها المغتاظ:

-شكلي أنا العزول اللي بينكم!

ظلت على تلك الحالة، توزع نظراتها على الجانبين، والكدر يتملك منها، سرعان ما انتفضت في وقفتها، وارتخا ذرعاها عندما سمعت "تميم" يناديها:

-تعالي يا أبلة، مستنينك.

حفظًا لماء الوجه، رفعت أنفها للأعلى، وادعت عدم اكتراثها، فقالت بفتورٍ وهي تداعب طرف حجابها:

-عادي، خدوا راحتكم.

نادتها "رقية" في تلهفٍ:

-يالا يا "فيرو"، عايزين نطيرها سوا.

أجلت أحبالها الصوتية، وقالت بكبرياءٍ في غير محله:

-علشان خاطرك بس.

ثم سارت بتكاسلٍ في اتجاههما، إلى أن وقفت في مواجهة "تميم"، نظرة سريعة منحتها له، متوقعة أن ينظر إلى ما سواها؛ لكنها وجدته يطالعها بإمعانٍ وتدقيق، وتلك الابتسامة العجيبة تنير ثغره، يا للوقاحة! ألا يكف عن التحديق أبدًا ناحيتها بهذه الطريقة؟!

حمحمت مجددًا، وتساءلت مستفهمة:

-المفروض أعمل إيه؟

أشار لها بعينيه نحو بكرة من الخيط السميك موضحًا دورها:

-امسكي طرف الخيط كويس، بس أوعي يفلت منك.

تطلعت إليه بنظرة مليئة بالثقة قبل أن تنطق في عنجهية أعجبته:

-لا أطمن، اللي بمسك فيه مش بسيبه.

أسبل "تميم" عينيه نحوها، وعمق من نظراته المتيمة وهو يتأملها عن لهفةٍ وتوق، كأنما يبحث عن المنفذ إلى حصونها المنيعة، لعله يجد في نهاية السعي السبيل للاستحواذ على قلبها وعقلها .. شعرت "فيروزة" بنظراته تخترقها كالسهام الصائبة، فنالت من تلك العضلة الكائنة بداخلها، وجعلتها صريعة لعواطف رائعة لم تتصور أن تبزغ بها، وتصرخ دون صوت؛ كأنما تريد منه ألا يتوقف عن إغراقها بهم، أحست بالدماء الدافئة تسري في عروقها، تمدها بترياق الحياة، وهو يؤكد لها بكلماتٍ موحية:

-وأنا مش عاوز إلا كده، ماتسيبهوش أبدًا ............................... !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الحادى والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة