-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والخمسون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الحادى والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والخمسون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الحادى والخمسون

 الذهاب إلى هناك، واستحضار أسوأ ما جابهته لكسر نفسها، وكشف سترها لم يكن مستحبًا على الإطلاق؛ لكنها مرغمة على ذلك، ليس من أجلها، وإنما لخاطر من جاءوا معها للقيام بهذا الواجب الضروري. انقباضة غير مريحة عصفت بقلبها والسيارة تقترب من حدود بلدتها، شعرت بوخزاتها القاسية تزداد في حدتها كلما تقلصت المسافة، انعكس تأثير تلك الزيارة على تعابير وجهها، فأصبح شاحبًا، ممتعضًا، يكسوه النفور.

سحبت "فيروزة" نفسًا عميقًا تستجمع به شتاتها المبعثر، وراحت تجاهد لضبط أنفاسها المضطربة. رغمًا عنها اضطرمت النيران في صدرها، وبدأت أفكارها السوداوية في التزاحم بداخل رأسها المشحون .. نعتته في سرها بالمقيت، النجس، النذل، وغيرها من الألقاب غير المستحبة على الأذن، فقد استباح ما ليس له متناسيًا صلة الدم والقرابة، ولم يتوقف أذاه عند هذا الحد، بل امتدت لأكثر من مرة كلما سنحت له الفرصة بهذا.

أطبقت على جفنيها بقوةٍ، مقاومة سحبها لدوامة مظلمة، لن تجني منها سوى إهلاك أعصابها، وزيادة حجم الشروخ بها. ضمت أنامل يدها لتشكل قبضة متشنجة، والصقت يدها الأخرى بحقيبتها الموضوعة في حجرها، ظلت تكرر في نفسها بجملةٍ مُحفزة:

-إنتي رايحة تعملي الواجب وبس، إنتي أقوى من جبان زيه.

راحت تردد شبيه تلك العبارات في رأسها، لتستعيد انضباطها، وتحجم من الثورة المهددة بالانفجار إن التقت به وجهًا لوجه.

لم يخفَ على "تميم" تبدل أحوالها، وانقلاب سحنتها بشكلٍ مرئي للعيان، خاصة بعد أن أصر على الذهاب مع عائلتها في هذه الزيارة الاستثنائية، استقل جميعهم سيارته: خالها يجلس إلى جواره في المقدمة، وهي بجوار والدتها وابنة خالها في المقعد الخلفي، أما عن توأمتها وزوجها ورضيعهما فقد ركبوا في سيارتهم الخاصة، وتحركوا خلفهم ليلحقوا بهم. حانت منه نظرة مدققة في المرآة العاكسة أمامه، بمجرد أن تباطأت سرعة السيارة عند مفترق الطرق، تأمل ملامحها العابسة بشدة في غضبٍ يشوبه التوعد والوعيد لمن أذاها. أقسم على نفسه بألا يسمح له بأن يمسها بسوء، سينحر عنقه إن ضايقها بكلمةٍ أو بنظرة!

انتبه لصوت خالها عندما أشار له قائلاً:

-خـ..ش يمين من هنا.

ألا يعلم الأخير عن معرفته الطريق إليه جيدًا؟ كأنما يحفظه عن ظهر قلب، ظل "تميم" على سكوته وهو يدير المقود لينحرف بالسيارة نحو زقاقٍ ضيق لا يتجاوز المترين، واصل الحركة بها في تؤدةٍ حتى خرج إلى طريقٍ آخرٍ تمتد على جانبيه مساحات مزروعة، تباينت في درجة اخضرارها. لدهشته تعجب "خليل" من عدم سؤاله، فنظر إليه متسائلاً بتحيرٍ:

-هو إنت عـ..ارف السـ..كة؟

أجاب بنظرة خاطفة إليه قبل أن ترتكز عيناه على المرآة الأمامية ليحدق في وجه طاووسه الحزين:

-أيوه.

الفضول تسلل إلى داخل "فيروزة"، رفعت رأسها لتنظر إليه، والتقت العينان التعيستان بالعينين المتحفزتين، أومأ برأسه ليطمئنها، فاستحضرت في ذهنها لحظة أن أطلعها باسترداد حقها ممن تجرأ عليها، لن تكون وحدها، هو معها، لن يتركها لمصيرٍ تجهله، سرعان ما غطى الألم حدقتيها، ولم تخبئ ذلك عنه، فقرأ في نظرتها العميقة إليه طلبًا خفيًا للسند، للدعم، وللمُلْتَجأ، منحها نظرة عطوفة حنون تخللها وعدًا بحمايتها، نظرته المجردة من أي أطماعٍ شهوانية –في هذه اللحظة- عنت لها الكثير. ابتسمت ابتسامة باهتة، ولم تنبس بشيء، فقال بصوتٍ شبه متحشرج مُعلمًا الجميع:

-أنا معاكو لحد ما نخلص مهمتنا ونرجع.

دعت له "آمنة" وهي تمسح عبراتٍ متأثرة بفاجعة الموت عن صدغيها:

-ربنا يباركلك يا ابني.

عاد لينظر إلى وجهها؛ لكنها كانت قد غاصت في سكونها المستريب، فأبعد ناظريه ليحدق في معالم طريقه المعروف، وصدره يتضرج بالحقد المبرر.

.....................................................

تاهت منها لفظة البدء في الحديث، حين رأتها جالسة على المصطبة تضرب بكفيها على جانبي رأسها وهي تهز جسدها باهتزازة متكررة حزنًا وحسرةً على فقيد سنوات عمرها الطويلة. بدت "سعاد" وكأنها ازدادت أعوامًا على أعوامها، وتمكن منها العجز عن آخر مرةٍ رأها فيها أحدهم، أيفعل شعور الفقد لعزيزٍ هذا التأثير المؤلم بالأحياء؟ نعم، ويزيد!

تقدمت "آمنة" ناحيتها لتواسيها –وسط المعزيات من النساء- بصوتٍ منتحب:

-قلبي عندك ياختي، والله العظيم ما مصدقة اللي حصل.

رفعت رأسها المحني لتنظر إليها وسط غيمة الدموع التي تغطي عينيها، ثم استطردت تخاطبها بحرقة وهي تلطم على صدرها:

-"إسماعيل" راح يا "آمنة"، خلاص راح ومعدتش راجع.

وقفت قبالتها، وكفكفت عبراتها المنسابة بمنديلها قبل أن تنطق في نوعٍ من المواساة:

-دي مشيئة ربنا، هو راح عند ربنا، وهيشوف "علي"، ربنا يرحمهم هما الاتنين.

تقطع صوتها واختنق وهي تضيف:

-أيوه، بس راح وهو غضبان، محسور على اللي جراله.

استرعت جملتها الغاضبة انتباهها، وسألتها في فضولٍ تلقائي:

-هو حصل إيه؟

قبل أن تفسر مقصدها، ظهر "فضل" في المشهد، وصاح في صرامةٍ جافة خالية من أدنى إحساس أو تأثر:

-كفاية ولولة يامه، وخلينا نجهز للدفنة، وقت صلاة الضهر أزف.

حدجته والدته بنظرة مليئة باللوم، كأنما تحمله الذنب بأكمله لموت أبيه قهرًا، واصلت نواحها الباكي متجاهلة إياه، بينما أولى "فضل" وجهه نحو الضيفة متسائلاً بملامح مكفهرة:

-إنتي اللي جتي بس يا مرات عمي؟

ردت نافية وهي تشير بيدها للخلف:

-لأ، باقي الجماعة جوم معايا، هتلاقيهم بيعزوا برا.

علق في عدائيةٍ وقد حلت الشراسة في عينيه:

-اللي مات أبويا أنا، مش أبو حد تاني.

اندفع كالثور الهائج نحو باب المنزل قاصدًا الاشتباك معهم دون أي مراعاة للظرف الحزين؛ كأنما كان يتحين الفرصة لإظهار بغضه وكراهيته. لحقت به "آمنة" تناديه:

-يا "فضل" استنى، مايصحش كده.

لم تستطع مجاراة خطواته الراكضة، فتوقفت عند العتبة تردد في توجسٍ وقد أُحيطت بمجموعة من النساء اللاتي امتلأ بهن بهو المنزل:

-عديها على خير يا رب.

...........................................................

ارتجفت يدها وهي تدير المقبض لتترجل من السيارة، حاولت التغطية على رهبتها المنبعثة من رواسب الماضي الموجعة، والتسلح بشجاعة تدعمت بوجوده، نفسًا تلو الآخر سحبته بعمقٍ لتهدئ به من روعها. مسحت "فيروزة" الباحة الخارجية للبيت بنظرة شاملة، رأت فيها تجمعات متفرقة لغالبية رجال بلدتها، تعرفت على معظم الأوجه المألوفة، وعزفت عن تحيتهم، كانت في قرارة نفسها قد عقدت العزم على نسيان كل ما له صلة بهذا المكان الذي شهد على واحدةٍ من مآسيها القاسية؛ لكن هذا الظرف تحديدًا أجبرها على المجيء إليه، لملمت شتاتها المهتز، وبدأت تدنو من البيت بخطواتٍ ثقيلة، شبه متراجعة، تستحثها على الارتداد والعودة من حيث جاءت.

بذلت كل جهدها لتبدو جامدة، صلبة، شديدة البأس وهي تواصل السير، وحده من كان يعلم بترددها الخفي، استبقها "تميم" في خطواته ليعترض طريقها قائلاً بلهجةٍ جادة للغاية:

-لو مش حابة تدخلي خليكي واقفة هنا.

تلألأ في حدقتيها نظرة غريبة، غير هادئة، في عمقها تعكس غضبًا وكرهًا، وكل المشاعر الحاقدة. حافظت على جأشها وهي تخبره:

-عشان مرات عمي متزعلش، ده غير الناس آ...

قاطعها في صوتٍ متزمت غير مرتفع:

-ملكيش دعوة بالناس، محدش هيجبرك على حاجة مش عاوزاها.

بقيت تنظر إليه وهو يؤكد عليها من بين شفتيه:

-ولو حد من اللي هنا فكر يضايقك بحرف مش هايشوف طيب.

الحماية، كانت ما ترجوه، وها هي وجدتها معه، ظهر خوفه عليها واضحًا عندما تابع:

-أنا هنا جمبك وسندك.

تدثرت بعاطفته الحقيقية، وارتخت تعابيرها المشدودة نسبيًا، قبل أن تقول في النهاية:

-شكرًا على إنك هنا.

عاتبها في لطفٍ، وكامل نظراته المتلهفة عليها:

-أنا مش محتاج شُكر يا ..

انخفضت نبرته للغاية عندما أتم جملته مناديًا إياها باسمها مجردًا، وبعذوبةٍ لفت رأسها:

-"فيروزة"!

في هذه اللحظة ارتعش قلبها، وارتج كيانها، لم ترَ سواه، فبدا وكأنه قد استحوذ على كل الفراغ حولهما، شردت في نظراته المثبتة عليها، تستمد منها القوة، الثبات، والشجاعة لمواجهة ما هو قادم، نجح بطريقته المثابرة في ترميم الشروخ غير الظاهرة فيها، قضى على الوَحَشة المخيفة في أعماقها، كان في عينيها يستحقها، لقد اكتفت به، واستأنست معه.

لمح "تميم" من طرف عينه خالها وهو يقترب منهما بابنته الممسكة بكفه، فقال بصوتٍ شبه مسموع:

-ماتجيش معانا الدفنة، خليكي في العربية .. وعشان "رقية" كمان.

كانت على وشك الرفض؛ لكن خالها أيده في الرأي:

-أيوه، مـ..افيش داعي تبـ..قي موجودة، اسـ..تني مع بنتي.

العبء الذي على صدرها خف قليلاً؛ لكنه لم ينزاح كليًا، ومع هذا كانت راضية عن القليل من السكينة التي نالتها في حضوره.

......................................................

للموت حُرمة، وهيبة، لم يعبأ بهما على الإطلاق، أعماه غضبه، وأفقده احترامه وسط الحاضرين، دفع "فضل" باندفاعه الأهوج أحد المعزيين عن طريقه، وخرج من باب منزله باحثًا بنظراتٍ نارية عن "فيروزة" تحديدًا، ما اعتبرها أكبر خسائره، وسبب جميع نكباته، تصاعدت الدماء إلى رأسه حين رأى أكثر من يمقته بجوارها، اشتاطت نظراته والتهبت على الأخير، لم يستطع كبح جماح نفسه، صاح مهللاً بزمجرة لفتت الأنظار:

-هي دي الأصول يا بنت عمي؟

تحولت الأعين ناحيتها، فشعرت "فيروزة" بالخوف يتسرب إليها، ورغم هذا ثبتت، ولم ترتجف، بل أدارت رأسها لتحدق في وجهه القميء بكل بُغضٍ واستعلاء، أحس "فضل" بنظرتها المزدرية تصفعه على وجهه، فلم يجد سوى اتهامها علنًا:

-جاية وجايبة الغريب معاكي؟ خلاص مافيش خِشا ولا حياء؟!!

حذره "تميم" بغلظةٍ، وبإشارة من سبابته، بعد أن تحرك خطوتين ليقف بجسده كالسد المنيع أمامها:

-إياك تغلط!

قال أحد الأشخاص المتواجدين في محيط البيت:

-بالراحة يا "فضل"، مايصحش كده.

التفت ليخاطبه موجهًا بكلامه اللاذع إهانته المتعمدة نحو "فيروزة" ومن معها:

-ما هو إنت طلع العيب من أهل العيب ما يبقاش عيب.

توقع "تميم" ما كان متوقعًا بتواجده الثقيل السمج، إحداث الفوضى، وإثارة البلبلة، فتكلم في جديةٍ لا تخلو من تهديد:

-أحسنلك تحفظ أدبك، وتصون لسانك، بدل الدفنة ما تبقى اتنين!

انتفضت عروقه غيظًا منه، وصاح مصفقًا بيديه:

-سامعين يا ناس، هما دول اللي جايين ياخدوا بخاطرنا، شايفين.

تعمد قلب الحقائق وتشويهها ليغدو في نظر الحاضرين المجني عليه لا الجاني، لم يكترث "تميم" بتصرفاته الغبية، وواصل تحذيره القاسي:

-بلاش النمرة دي علينا، بدل ما تتهزق.

تدخل "فتحي" قائلاً بوجهٍ جاد، وقد وضع يده على كتف "فضل" ليضغط عليه:

-لِم الدور يا "فضل".

انتفض ثائرًا في غضبٍ مُضاعف:

-لأ يا حاج "فتحي"، أنا مسمحش للغريب اللي جه هنا، وأهاني سابق يحضر جنازة أبويا كده عادي.

ردد أحدهم من الخلف في استنكارٍ:

-لا حول ولا قوة إلا بالله.

بينما أضاف آخر معاتبًا:

-يا جدعان صلوا على النبي، بدل ما نشوف اللي راح مننا، واقفين نتخانق، ده حتى مش أصول، والميت ليه حرمته.

جاء تعليق "فضل" وقحًا للغاية وهو يشير بيده نحو خصمه:

-قولوا للدغوف ده.

بادله "تميم" الإهانة بأخرى أشد إيلامًا لشخصه المُهان دومًا:

-ماتغلطش يا (...)!

اشتعل وجهه بحمرة الغيظ، وهدر يولول كالنساء المكلومات:

-شايفين يا ناس؟ سامعين؟ أديني بتشتم عيني عينك أهوو.

واحدٌ من رفاق "فضل" تحرك خطوة نحو ابنة عمه التي تَرْقُب المشهد بنظرات ساخطة، ثم لوح لها بيده كأنما يطردها وهو يهتف بصوتٍ مرتفع:

-بت يا "فيروزة"، خدي الجدع ده وامشي من هنا.

اغتاظت من طريقته الفظة، وردت عليه بعنادٍ:

-واحنا مش هنمشي.

كان كمن يدعو لإلقاء حتفه، حيث نطق "فضل" بنزقٍ ناعتًا إياها مما أثار حفيظة الجميع:

-فَجَرت بعد ما مات جوزها، وعينها بقت بجحة.

لم تتحمل "فيروزة" صفاقته وكذبه، فصرخت به في حدةٍ:

-احترم نفسك.

ظاهره الهادئ تلاشى مع إهانتها المتعمدة، فتهيأ "تميم" للانقضاض عليه، بعد أن أخرج مديته من جيب بنطاله الخلفي، أشهرها في الهواء، وصاح بصوتٍ جهوري مخيف:

-إنت لسانك هيتقطع النهاردة.

شهقت "فيروزة" فزعًا وخوفًا على "تميم"، خاصة حين رأته يهجم بشراسةٍ مباغتة على غريمه ينتوي الفتك به، وتمزيقه إربًا، خلال ثانية واحدة تحول المكان إلى دائرة صغيرة مغلقة على من فيها؛ فـ "تميم" قابض بكفه القوي على عنقِ "فضل"، والأخير يحاول المناص من قبضته الضاغطة على مجرى تنفسه بكلتا يديه، وفي نفس الوقت يخشى أن يمسه نصل المدية، فيُحدث به قطعًا أو ندبة تنضم لسابقاتها المتروكة في وجهه منه. بالكاد نجح من حولهما في الفصل بينهما، وتخليص رقبة "فضل" الذي راح يسعل بحشرجةٍ مزعجة.

...........................................................

طبقًا للأعراف المتبعة، حين يأتي أجل أحدهم، وينتقل إلى جوار المولى عزوجل، تُترك الخلافات والمشاحنات جانبًا، ويتكاتف الجميع من أجل تقديم الدعم لأسرة المتوفي، من المفترض أن يكون الأمر هكذا، إلا معه! كان الوضع على النقيض، الغالبية في حالة تحفز وغضب، مشاعر الكراهية والعداء تعم الأرجاء.

لم تبقَ "فيروزة" في مكانها، أبعدها "تميم"، وأبقاها بجوار السيارة، مع الصغيرة "رقية" لينأى بها عن أي خطرٍ قد يحيق بها. كانت معترضة على إقصائه لها؛ لكنه أخبرها مؤكدًا:

-ده أحسن ليكي.

احتجت بوجهٍ متقلص في عضلاته:

-وأسيبك لوحدك معاهم؟

قال بهدوءٍ واثق وهو ينظر إليها ملء عينيه:

-متخافيش عليا، أنا أدهم.

بداخلها عاصفة على وشك أن تنفلت من خوفها عليه، كانت في أقصى مراحل صدقها مع نفسها حين رجته:

-خد بالك .. أنا لو أعرف إن ده هيحصل مكونتش جيت.

ما لمسه منها جعل عالمه يهتز، ينتفض، يثور لأجل الذود عنها، رد عليها دون سكينةٍ:

-كله مقدر ومكتوب، المهم عندي إنتي وبس.

طمح في رؤية نفس المشاعر المهتمة في عينيها، ولم تبخل عليه، رأى مرة ثانية في دُرتيها عاطفة حقيقة موجهة إليه وحده، نبعت من قلبها، ونفذت إلى قلبه، فأوجدت بينهما جسرًا غير مرئي، تركها مضطرًا ليعود إلى حيث يقف الرجال، فأبصر "فتحي" وهو يفرد ذراعيه على استطالتهما لجانبيه بعد أن علق رأس عكازه على معصمه صائحًا في ضيقٍ:

-ماينفعش كده، اهدوا يا جماعة، احنا في حداد، واللي راح غالي.

ضم "فضل" شفتيه في تأفف ناقم، ونظر إلى "تميم" شزرًا، قبل أن يبعد عينيه عنه ليحملق في رفيق والده الذي أكمل حديثه مخاطبًا الجميع:

-استعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، واقرأوا الفاتحة على روح حبيبي الغالي الحاج "إسماعيل".

ظلت أنظار "فضل" المستشاطة مسلطة على خصمه، وقال بزفيرٍ ثقيل:

-أعوذ بالله منك يا شيطان ..

ثم حاول إظهار القليل من الاحترام بختام عبارته:

-ماشي كلامك يا حاج "فتحي".

هتف الأول في استحسانٍ رغم امتعاض تعابير وجهه:

-ربنا يهديك يا "فضل".

حاول "خليل" التدخل، وأردف قائلاً بعتابٍ مستتر:

-احنا واجـ..بنا نكـ..رم الضيوف، مهما كانوا مـ..ين، مش نِقل منهم، ومن جـ..الك بيتك، جــ..اب الحق عليك.

احتقره "فضل" بإهانةٍ قاسية استنكرها المتجمهرين:

-بلاش إنت تتكلم يا عم "خليل"، هتتعبنا معاك.

صاح "فتحي" في استهجانٍ صارم:

-"فضل"!

برر وقاحته النكراء بقوله:

-ده أنا خايف عليه، نفسه قصير.

ليكتمل مشهد استفزازه، ظهر في الأرجاء "رشيد"، وحفنة من أقاربه، تلون وجه "فضل" بحمرةٍ حاقدة، وانعكست كذلك في نظراته إليه، نأى بنفسه للجانب ليهينه، وراح يرمقه بالمزيد من النظرات الازدرائية، لمحه وهو يمد يده لتعزية "فتحي" أولاً:

-البقاء لله.

رد عليه الأخير مبديًا عرفانه بقدومه:

-شكر الله سعيك، ابن أصول طول عمرك.

ثم ربت على ظهره يستحثه على السير معه:

-تعالى يا "رشيد".

حينئذ أولاهما ظهره لتحقيره، ولم يستدر إلا عندما سمع صوته يردد:

-البقاء لله.

بترفعٍ وتعالٍ غير لائقين به، نظر "فضل" إلى يده الممدودة ناحيته وهو يدير رأسه في حركةٍ بطيئة، ثم استطرد هازئًا به بأسلوبه الفج رافضًا مصافحته:

-وإنت كمان جاي عشان تاخد اللقطة؟!!

أبعد "رشيد" ذراعه، ورد إهانته بحنكةٍ:

-لأ يا فلحوس، أنا جاي لأن الحاج "إسماعيل" يستاهل نزعل عليه، ده قبل ما يكون جد ولاد مراتي ...

تقوس جانب فمه في بسمة ساخرة ساخطة، تلاشت قبل أن تكتمل مع إكمال "رشيد" لعبارته بإهانةٍ ضربته في مقتل:

-ولو كنت إنت مكانش حد وقف على تُربتك.

اتسعت عيناه ذهولاً من رده المهين، وصاح في إنكارٍ:

-سامعين قلة الأدب؟

علق عليه "رشيد" في وقفته السامقة:

-إنت اللي جبت التهزيق لنفسك.

لم يتحمل سحق كرامته والدعس عليها من حاقديه، فصرخ في الواقفين:

-بقولكم إيه، اللي يحضر يكون بأدبه، يا يغور في ستين داهية.

موقفه الفاقد للاحترام جعله محط انتقاد المعظم، حيث احتج أحدهم على سلوكه المشين قائلاً:

-الحاج "إسماعيل" لو كان عايش مكانش خلصه اللي حصل ده، وخصوصًا من ابنه.

التفت "فضل" باحثًا عن مصدر الصوت، وقبل أن يبادر بإهانته كغيره، جاءت "سعاد" إليه، وصرخت فيه بمشاعرٍ ملتاعة وبقلبٍ مفطور:

-بتعمل إيه يا "فضل"؟ بتطرد أهل أبوك وناسه وحبايبه؟ عايز تحرمه في رقدته الأخيرة من اللي يقف يترحم عليه ويدعيله دعوة طيبة؟ خلاص مبقاش ليك كبير ولا رادع!!!!!

اِربد وجهه بالغضب من استمرار وصلة إذلاله، رفع يده أمام وجهها يأمرها:

-خشي مع الحريم جوا يامه.

ثم اندفع ناحيته بعنفوانه الحانق ليُبعدها، فانتفضت رافضة لمسته وهي تصرخ به في ألمٍ:

-ابعد إيدك ماتلمسنيش ...

تفاجأ الحاضرون بتصرفها، ونظروا لها مدهوشين، والفضول يزداد بداخلهم لمعرفة سبب هذا النفور، لم تتوقف "سعاد" عن لومه علنًا:

-أبوك مات غضبان عليك، إنت هتشوف أيام سودة.

جاءت إحدى النساء لاصطحابها لداخل المنزل وهي ترجوها:

-تعالي يا "أم فضل" معايا.

صاحت في صوتٍ صارخ:

-اللي يقهر أبوه ويموته مش ابني.

أشــار فضل للمرأة بعينيه لإبعاد والدته، فحاوطتها بذراعيها لتسحبها معها، جرجرتها عنوة؛ لكن ظل صوتها يردد في حرقةٍ شديدة وهي تقاومها:

-منك لله يا "فضل"، حرقت قلبه وقلبي، عمرك ماهتشوف طيب.

انضمت أخرى إليها قائلة بتفهمٍ:

-تعالي يا حاجة معانا.

ما يحدث الآن كان مُهينًا للغاية، مرفوضًا بشكلٍ قطعي، فاتفاقه معه كان يُلزمه بعدم افتعال المشاكل إلى أن يصير قانونيًا المتصرف الوحيد في أملاك والده، وسكوته عما يحدث قد يجعل أصابع الاتهام تشير إليه، ويصبح معلومًا للجميع أنه المتورط في اقتراح منع "إسماعيل" من التصرف في أمواله، حاول "فتحي" تحجيم "فضل"، فدنا منه، وأوصاه بقسمات وجه مزعوجة على الأخير:

-لِم الليلة يا "فضل"، كده الناس هتتقلب ضدك.

كز على أسنانه مغمغًا في تبرمٍ:

-يا حاج "فتحي" ما أنا مستحمل البهدلة وساكت ...

اتجهت نظراته الحسود نحو "تميم" وهو يكمل في نقمٍ:

-بس أني مش عاوز الطِحش ده يحضر جنازة أبويا، دي للعيلة وبس.

سمع "تميم" إهانته، وتحفز ضده مرة ثانية؛ لكن تلك المرة أراد إحراق دمه، واستثارته بتصريحه الهادئ:

-ومين قالك إني غريب؟ ما أنا من العيلة، ولا مبلغكش إني خطيب ستك وتاج راسك؟!!

كان كمن ينفث دخانًا من أذنيه، أصاب هدفه في مقتل، وجعل رأسه يحترق من الغيظ والكمد، لا من الحزن والأسى، دمدم في هديرٍ مغتاظ:

-سامع.

ولتزيد من إحراق أمثاله من معدومي الكرامة والأخلاق، بصب الزيت على النار لتأجيج ألسنتها الملتهبة، وقفت "فيروزة" إلى جوار "تميم" تنظر إليه بنظرة المحبين المعروفة لأرباب العشق، لم تحد بلؤلؤتيها اللامعتين عن ملامحه الرجولية وهي تخبر الجميع بفخرٍ مُطعم بالعزم:

-أيوه، ده خطيبي، وكلها كام يوم وهيبقى جوزي ............................................................ !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الحادى والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة