-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والستون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس والستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والستون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الخامس والستون

 من قال أن لحظات السعادة ممتدة للأبد؟ هناك فترات إخفاق، وفترات تعاسة، فترات زهو، وفترات إحباط، فترات صحو، وفترات انكسار، فترات فرح، وفترات ألم ومعاناة. أربعة أشهر مضت عليها معه ذاقت فيها صنوف الحب، وأصناف الشوق، ربما تخلل تلك المدة بعض المشاحنات البسيطة، الخلافات في وجهة النظر، والقليل من المعارضات لبعض الأمور العادية؛ لكنها في المجمل لم تصل لهذا الحد الخطير مُطلقًا!

أمام سيل اتهامات "فضل" الباطلة حملقت "فيروزة" بعينين جاحظتين فيه، وقد بدأ جسدها في التصلب، تيبست قبضتاها على ذراع زوجها، غير مصدقة كم الافتراء الظالم المُلقى عليها، وهذه المرة الطعن المباشر في شرفها، مع فارق أنه قصد عن عمدٍ تلفيق هذا الاتهام الخسيس في وجود زوجها لتجعلها في موضع شك، واحتمالية ظنه السوء بها، وهذا جلَّ ما كانت تخشاه، أن ينساق وراء بذاءات لسانه النجس!

طفا بقوةٍ كل ما هو بشع، سيء، مهين، ومؤلم من ذكريات على سطح ذاكرتها، فتجسدت المشاهد حيةً في مخيلتها، وتزاحمت مع مثيلاتها، لتعود إلى نقطة البداية، إلى حيث بدأ كل شيءٍ من قساوة واتهام، ضرب واعتداء، كسرة وانهزام، فأصبحت على شفير السقوط في دوامة تدمير ذاتها. لم تكن "فيروزة" لتتحمل خسارة آخر من منحته ثقتها، من أعطته نفسها، ومن وهبته البقية المتبقية من روحها، فقط إن صدق للحظة أنها مُدانة، وأنها باعت جسدها لغيره، حتمًا ستكون النهاية؛ لكنها مُهلكة على كل الأصعدة. ماذا عن زرع الشكوك في نفسه؟ ألن يكون ذلك كفيلاً بزعزعة أي استقرار مهما بلغ الحب بينهما مبلغه؟

تحيرت، واحتارت، وتشتت، وانهارت، فعجزت عن النطق، ووصلت إلى حالةٍ من الجمود الإجباري، ذلك الحجاب الذي يفرضه عقلها قسرًا عليها، ليجعلها فاقدة للإدراك الحسي، فتصبح جسدًا بل روح، عادت "فيروزة" إلى تلك الحالة المرضية التي كانت تصيبها عندما لا تتحمل مواجهة حقيقة شديدة الإيلام تصدمها بالواقع، متوقعة أن النهاية قد باتت وشيكة، وشيكة للغاية، والخسارة حقًا لن تُحتمل مهما ادعت قدرتها على تجاوز الأزمة، الهروب كان سبيلها، وإن كان مؤقتًا!

أحس "تميم" بزوجته تتخشب وهي متعلقه بذراعه، شعر بانتفاضات متشنجة تصيبها، فالتفت ينظر لها سريعًا فرأى وجهها شاحبًا، تعبيراتها جامدة، ونظراتها متسعة في جحوظٍ، والأهم أنها فارغة من الحياة. أدرك حينئذ –وبعد معاهدته لمعظم نوباتها- أنها تمر بأزمة أخرى جديدة؛ لكنها أشد وطأة في شراستها، جذبها بتخوفٍ لم يظهره إلى صدره، وحاوطها بذراعه بعد أن استله من أسفل قبضتيها ليحول دون سقوطها. تابع "فضل" ما يفعله بتشفٍ، وهتف في استفزازٍ:

-شكلها قصرت معاك!

هدر به "تميم" لاعنًا بنظراتٍ توحشت على الأخير:

-أنا هدفنك بالحيا بعد ما أقطع لسانك ده يا (...).

تصنع الضحك، وعلق في سخريةٍ:

-ولا تقدر، بدل ما تتشطر عليا، وتعمل فيها راجل، لِم مراتك.

التقطت يد "تميم" الأخرى مطفأة السجائر في خفةٍ، ثم قذفها في وجهه بقوةٍ، فأصابت أنفه، وجعلته يتأوه من الألم، استغل التهائه ليبعد "فيروزة" عن مرمى بصره، وسحبها للخلف بذراعه المحكمة حول جسدها، كأنما يريد أن يؤكد لها بوجوده إلى جوارها، ومع هذا القرب الشديد، أنه ملاذها الآمن، ودرعها الحصين، والقادر على الذود عنها باستبسالٍ واستماتة، حتى الرمق الأخير. ظل يضمها في هذه الثواني الحرجة، كأنما يريدها أن تنزوي بين ضلوعه، فتختبئ من المخاطر المحاصرة بها، إلى أن يدرأ عنها الأذى بكافة أشكاله وصوره.

واصل "تميم" تهديده اللفظي له:

-نهايتك على إيدي النهاردة.

تحسس "فضل" التورم البارز في أنفه، وهتف هازئًا:

-إنت أخرك كلمتين وبس ...

صمت "تميم" لانشغاله بدفقةٍ أخرى من التشنجات الخفيفة التي نالت من جسد زوجته الغائبة عن الوعي، احتواها بذراعيه، وحاول السيطرة على نوبتها، فاعتقد "فضل" أنه في موضع قوةٍ بسكوت الأول، وغمرته حالة من الشعور بنشوة الانتصار، خاصة أنه اعتبر ما يردده من عبارات مهددة عن انتقامه الأرعن منه مجرد هذيان فارغ، لن يحدث أبدًا، فرك أنفه، ونفخ أوداجه مرددًا في حقارةٍ:

-عشان تحس إنك راجل قصاد واحدة آ...

لم يتم جملته الموحية بإهانة فجة للنهاية، فقد سبقته يد "تميم" التي أمسكت بمزهرية صغيرة، ليقذفها في وجهه بكل ما يعتريه في هذه اللحظة من غضب وغليل مشتعلٍ بصدره، فأصابته إصابة مباشرة في حاجبه، وجعلت خيطًا عريضًا من الدماء يتفجر فيه، وينزف بغزارةٍ، ليغرق صدغه، اعتقد "فضل" أنه قد أطاح بعينه، وراح يتحسسها بهلعٍ كبير، ناظرًا إلى الدماء المصبوغة على أصابعه، في حين اندفعت "آمنة" هي الأخرى مدافعة عن ابنتها، بغريزة أمومية انتفضت فيها:

-اتقي الله، إنت كداب وضلالي، أنا بنتي مش كده!

رد عليها بحرقةٍ:

-اقلب القِدرة على فومها.

شهقت مستنكرة بشاعة لسانه القاذف بالاتهامات الباطلة، وتطلعت إليه مصعوقة، غير مصدقة ما يردده ببذاءة مستبيحًا الخوض في الأعراض بمثل هذا الفجور. لم يكن "فضل" قد أفاق بعد من إصابته الأولى، إلا وقد تلقى أخرى جعلته يصرخ عاليًا من شدة الألم، حيث وجد مدية "تميم" مقذوفة في اتجاهه، وأصابت هدفها في التو، وغرزت بعمقٍ في كتفه، مما جعل صدى صراخته يبدو كعويل النساء المكلومات. لم يستطع كبح صوت صرخاته الموجوعة، ولم يقدر على المساس بالمدية المغروزة، تركها في مكانها دون أن يمسها، ليشرع بعدها مستدعيًا بعض الرجال المستأجرين، ممن اتفق معهم سابقًا على الصعود، والوقوف إلى جواره، عندما تتطلب الحاجة لذلك، وها قد أتى دورهم ليعينوه على شره!

.....................................................

استدعاهم "فضل" برنةٍ من هاتفه المحمول، فجاءوا ملبيين النداء في الحال، اقتحموا المنزل بعصيهم، وسلاسلهم الحديدية، مع بعض الأسلحة البيضاء، وتفشوا في أرجاء الصالة كالجراد المنتشر، ليحاوطوا بـ "تميم" وزوجته، ويشكلوا حائطًا بشريًا، يمنع كائنًا من كان من الاقتراب من ربِ عملهم الحالي، ارتاعت "آمنة" من هيئتهم الإجرامية، وفزعت بشدة لما وجدته في إيديهم من أدوات قتل بدائية، شهقت صارخة في هلعٍ، وانكمشت على نفسها، لتستحثها غريزة البقاء على التحرك، فأسرعت في خطاها مختبأة خلف ظهر "تميم"، الملجأ والملتجأ لكل من هو مستضعف .. كان الأخير ينظر باستهجانٍ حارق إلى ما يفعله هذا الوغد الحقير، يحاول تقييم الأمور في رويةٍ وتعقل، فحياة الأبرياء على المحك!

تخطى "فضل" في فجوره أي تصورٍ، وفاق في تنديسه حرمات المنزل أي تخيل، كيف بلغت به الجراءة أن يقوم بهذه الأفعال المستنكرة مع من تجمعه صلة الدم المباشرة؟ فماذا إن كان غريبًا عنه؟ أي انحطاطٍ وصل إليه بتصرفاته الماجنة؟!

وكأنه استعاد شيئًا من كرامته المبعثرة بتواجدهم حوله، فنطق "فضل" بتفاخرٍ:

-جيتم في وقتكم.

رد عليه "تميم" بهديرٍ مجللٍ، قاصدًا إهانته، رغم احتمائه وسط هؤلاء المجرمين:

-جايب اللي تتحمى فيه يا (...)؟!!!

اشرأب بعنقه ليتمكن من النظر إليه من خلف أظهر عتاة الإجرام، ورد عليه في نبرة يشوبها الألم:

-ما أنا عارفك، إيدك طارشة، والصراحة مش ضاربة معايا أتخرشم، وأنا راجل داخل على وش جواز، من بنت بنوت، لسه بشوكتها، مش واحدة طريقها سالك لكل حد ماشي عليه.

هدر به "تميم" بصوتٍ مجلل به كل الوعيد:

-هتموت على إيدي، وهفصل رقبتك عن جسمك.

استمر "فضل" في استفزازه علنًا وفي حضرة هؤلاء، معتقدًا أنهم يمنعون بطشه عنه:

-بدل ما تقطعلي رقبتي، ادبحها هي، تلاقيها مقرطساك.

لو كانت النظرات تحرق لأصبح "فضل" في التوِ رمادًا متناثرًا، تعصف به الرياح، فيتبخر في الهواء، ولا يبقى له أي أثر، هاج "تميم" متوعدًا بشراسةٍ منقطعة النظير:

-إنت ساعاتك في الدنيا معدودة!

تساءل أحد المجرمين في تحفزٍ، وهو يرفع عصاه الغليظة في الهواء، كتهديدٍ صريح:

-أؤمر يا ريس ونجيب خبر كل اللي هنا.

ضحك بافتعالٍ، وقال مدعيًا عدم اكتراثه:

-سيبوه يهلفط، ما هي الشيلة تقيلة ...

ثم أمسك بقطعة الثياب التحتية، وقذف بها عند قدميه، بعد أن أشار لأحد الرجال بالتحرك جانبًا، كأنه يعطيه دليل الإدانة، ليضيف بعدها في تهكمٍ سافر:

-خده، جايز ينفعك.

لولا وجود زوجته في أحضانه، ووالدتها المغلوبة على أمرها خلفه، طالبة لحمايته، لانقض في الحال عليه، زاهقًا روحه، ولما تركه على قيد الحياة، غير عابئ بمن حوله من أكثر البشر شرًا. نظرات "تميم" وحدها كانت كفيلة بإفزاع "فضل"، ففر هاربًا ومختبئًا خلف الحائط البشري، وهو غير قادرٌ على إخراج المدية من لحم كتفه، ظل يردد بصوتٍ شبه ساخر رغم حشرجته:

-ياما كان نفسي فيك يا بلح، بس طلعت لا مؤاخذة آ....

افتعل الضحك قبل أن يختفي عن المشهد، متعمدًا إتلاف أعصاب "تميم" بصوته المنفر، وجعل حمئته الذكورية كرجلٍ شرقي تثور، ويثأر لنفسه بقتل زوجته اعتقادًا منه أنها غارقة حتى النخاع في الخيانة .. هكذا أوهم نفسه، وظن أنه نجح في ذلك.

.......................................................

كل شيءٍ قابل للتغير إلا شرور النفس وخبثها، حين تتمكن من الشخص، وتصبح سمة متأصلة فيها، حينئذ يتحول لكتلة ملعونة تُفسد من تطالها! كانت لحظات سريعة في مرورها، عصيبة في الإحساس بها! بمجرد أن غادر "فضل" ومن معه من معتادي الإجرام منزلها، هرولت "آمنة" نحو باب المنزل توصده، كأنما تخشى بشدة من احتمالية عودتهم، وتهديدهم مرة أخرى بشكلٍ أوقع وأقسى.

تنفست الصعداء، وراحت تسحب شهيقًا وراء الآخر، لتثبط به من كم انفعالات الرهبة المسيطرة عليها، ثم كفكفت دمعها المنساب بكفيها، لتستدير بعدها ناظرة إلى "تميم" الذي انحنى حاملاً زوجته بين ذراعيه، لم تجد أثرًا لقطعة الثياب التي ألقاها أرضًا، نفضت حيرتها، وانتبهت مجددًا إليه، شيعته بنظراتها الملتاعة وهو يدخلها إلى غرفتها، لتبدأ بعدها في السير المتعجل واللحاق به، تسمرت عند سريرها وقد رأته يمددها عليه، شملته بنظراتها الحزينة هاتفة بنبرة مدافعة:

-والله العظيم ده واد كداب، بنتي مش كده، هي مظلومة.

سكت ظاهريًا، ولم يسكن ما بداخله من عواصف مهتاجة، كررت كلامها من جديد بتوسلٍ:

-ماتصدقوش يا ابني، عُمر ما "فيروزة" تعمل الغلط، هو ضلالي، وعاوز يخرب عليكم!

كأنها تُحادث الفراغ، لم يلتفت "تميم" ناحيتها، وبقي يوليها ظهره، نادته بصوتٍ أمومي يحمل كل الرجاء في طياته:

-"تميم" يا ابني.

لم يكن بحاجة لسماع كلامها هذا ليصدق من هي زوجته، هو يعلم تمام العلم مدى نقاء سريرتها، ومدى طُهرها، ناهيك عن معرفته بسر عفتها، هذا الأمر الذي أبقاه طي الكتمان رغم فرحته العارمة بكونه أول رجلٍ في حياتها. استقام واقفًا، ومنحها تلك النظرة المميتة، المليئة بكل ما يستعر فيه من غضبٍ وحنق، قبل أن يدمدم بهسيسٍ ثقيل:

-النهاردة هاجيب أجله.

هتفت مذعورة تستجديه:

-لأ يا "تميم"، ماتوديش نفسك في داهية.

الكلام المسترسل دون تنفيذٍ فعلي على أرض الواقع لن يأتي بمفعوله مع أمثاله، مثله يحتاج لعقاب رادع يقضي عليه نهائيًا، وقد آن وقت حصاد رأسه الخبيث!

................................................................

أخفت الظلمة السائدة في عينيه خوفه النابع من قلبه على زوجته الراقدة أمامه، لا حول لها ولا قوة، حل "تميم" ربطة حجاب رأسها، وأرخاه عن عنقها، ثم جلس على الطرف قريبًا منها، امتدت يده لتدلك برفقٍ وجنتها الباردة، باعثًا الدفء على بشرتها، ناداها رغم اختناق صوته بغليله الثائر فيه:

-"فيروزة" ...

صمت لهنيهة ليضبط نبرته، ثم تابع في ثباتٍ عجيب، كأنما يريدها أن تتبع صوته في غياباتها:

-أنا عارف إنك سمعاني ...

أحنى جسده عليها، وأمال رأسه ناحية وجهها، ليبدو صوته قريبًا، مؤثرًا، ونافذًا إلى أعماقها، لعله يرشدها في ضلالاتها لنقطة العودة إلى إدراكها:

-إنتي أشرف واحدة عرفتها، فخر لأي حد يعرفك.

لامست شفتاه جبينها، وراح يتابع كلامه في صوتٍ خفيض:

-وعمري ما هصدق أي حاجة تتقال عنك.

تراجع عنها مسافة بسيطة لينظر إليها ملء عينيه، لدهشته! وجد العبرات تنساب من طرفيها وسط هذا الجمود المخيف المقيد لبدنها، اعتصر الألم قلبه، وأضناه، كأنما قد طعنه أحدهم فيه بوخزاتٍ قاتلة، مسح بيده ما بلل خديها، وهتف قاطعًا وعدًا لن يقبل مُطلقًا بالتراجع عنه:

-حقك هاجيبه، ولو فيها موتي!

نهض من مكانه، واستقام واقفًا ليبدو أكثر شموخًا، صلابة، وقسوة عن ذي قبل، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وعبث في قائمة الأسماء لديه، باحثًا عن اسمٍ بعينه، هاتف أولاً الطبيبة "ريم"؛ لكن تعذر عليه الوصول إليها، فرقمها كان خارج التغطية، لعن في صوتٍ خفيض عدم قدرته على التواصل معها، وأدار رأسه محدقًا في وجه "آمنة" التي كانت تبكي ابنتها في حسرة وهي جالسة عند الطرف الآخر من الفراش، تحفز في وقفته المنتصبة واشتاط مرة أخرى عندما سمعها تنوح بانكسارٍ:

-اشمعنى إنتي يا بنتي اللي بيتعمل فيكي كده؟ ليه الكل دايمًا جاي عليكي؟!!

مهما حاول ما زال عاجزًا عن تهدئة انفعالاته المستثارة، وتثبيط انفعالاته الهائجة، بالكاد كان يحاول الظهور بمظهر المتعقل المسيطر على الأمور؛ لكنه كان على المحك، يوشك على الانفجار في أي لحظة. سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، وسألها في صوتٍ جاف خالٍ من الضعف:

-هو الدوا بتاع "فيروزة" لسه عندك؟

استغرقها الأمر لحظة لتركز معه، أزاحت بظهر كفها دموعها المتدفقة، وأجابته بإيماءة مصحوبة من رأسها:

-أيوه، أنا عيناه في درج الكومدينو عندي في الأوضة.

هتف يأمرها بصوتٍ لا يُرد:

-هاتيه نديها منه على طول.

قامت واقفة على قدميها، وأطاعته قائلة:

-حاضر يا ابني.

انصرف من غرفتها وهي شبه تركض لتأتي له بما طلب، بينما ظل "تميم" باقيًا في موضعه يرمق "فيروزة" بنظراتٍ مطولة، جمعت بين اللوعة، والرغبة في الانتقام.

..................................................................

غالب مشاعره المتأثرة بوهنها، وبدأ في تحكيم صوت العقل، ليستغرق في أفكاره المتصارعة، محاولاً ترتيبها ليصل إلى الطريقة المُثلى في تحقيق انتقامه العنيف. فرك "تميم" رأسه المضغوط بكفيه، مانعًا نفسه من فقدان السيطرة على ما تبقى به من انضباط مهدد بالانهيار، من الجيد أن الصغيرة "رقية" وأبيها كانا غير متواجدين بالمنزل، وإلا لتحولت الأمور لفوضى عارمة!

طرأ بباله أحد الأسماء المحظور عليه التواصل معه بأي شكلٍ، لكون شره مستفحلاً، ووحشيًا للغاية؛ لكن لا مناص من مخالفة الاتفاق، والوصول إليه في التو، لم يفكر مرتين، وإلا لأظهر تردده وتراجع عما انتواه، نظرًا لحساسية الوضع المحيط بزوجته. اتصل بـ "ناجي" قائلاً دون تمهيدٍ:

-فضيلي نفسك حالاً.

جاءه صوته متسائلاً في اهتمامٍ:

-ليه يا ريسنا؟

أجابه بعينين غائمتين، وبنبرة ثابتة، باعثة على القلق:

-عاوزك توصل لكبير "الهجامة".

هتف "ناجي" مصدومًا:

-مين؟

قال بنفس الثبات الجاد، والممزوج بالعزم:

-اللي سمعته، رتبلي أعدة معاه، والنهاردة!

ظهر التردد على صوت "ناجي" وهو يخاطبه:

-ماشي، بس ده آ... هايبقى صعب شوية، إنت عارف الجماعة دول خطرين ...

بدا غير مبالٍ بتحذيره المتواري، ورد عليه متسائلاً بتصميم:

-هتعرف توصله ولا لأ؟

أجابه بعد سكوتٍ طفيف:

-أيوه، بس إنت عاوز كبيرهم ليه؟ لو في مصلحة نقدر نقوم بيها قولي، وآ..

دون إعطائه أي تفاصيلٍ مشبعة لفضوله المستريب، قاطعه "تميم" بصوتٍ مبتئس، يؤكد على حتمية تنفيذه:

-اللي أمرتك بيه تعمله وإنت ساكت، مفهوم؟

لم ينتظر تعليقه، أو حتى مسايرته في الحوار، أغلق الاتصال فجأة، وكل ما فيه يدعو للثأر الفوري ممن نهش في عرض زوجته بافترائه المهترئ!

.......................................................

بكت بكاء المعذب العاجز عن إظهار براءته، ومن حوله يؤكدون إدانته بلا دليلٍ، إلى أن أتت نجدة السماء، فكان اتصالها المُلح، والذي لم تتنبه إليه في البداية، لانشغالها بما يحدث مع ابنتها؛ لكن ما إن سمعت رنين الهاتف، ونظرت إلى الرقم الغريب الذي لم يتوقف عن الرنين، حتى أجابت عليه، تفاجأت بسماع صوت "سعاد"، وهتفت قائلة بلهاثٍ:

-كويس إنك اتكلمتي في وقتك.

نطقت الأخيرة تحذرها في تشددٍ، وبصوتٍ مرتفع -أقرب للصراخ- بات مسموعًا لـ "تميم" أيضًا:

-خدي بالك يا "آمنة"، "فضل" شكله ناوي على نية سودة لبنتك ...

تقدمت "آمنة" بالهاتف ناحية زوج ابنتها، ليسمع بوضوح ما تنطق به، فالتقطت أذناه كلامها القائل:

-أنا سمعاه بنفسي بيتفق مع كام حد يجوا لعندك.

طلبت منها في تلهفٍ بعد أن لامست دليل براءة ابنتها باعترافها النزق:

-عيدي الكلام ده تاني.

في صبرٍ نافذ كررت عليها:

-بقولك "فضل" ناوي يعمل في بنتك حاجة، حلفان يأذيها، ويطلع عليها القرافة، خدي بالك منها، ده بقى شيطان ماشي على الأرض.

عندئذ اختطف "تميم" الهاتف من يد حماته، ووضعه على أذنه صائحًا بانفعالٍ يحوي تهديدًا صريحًا:

-شوفي يا حاجة ابنك طالع النهاردة القرافة، ويا أنا يا هو!

لم يكترث بشهقاتها المصدومة، ولا بالهمهمات الجانبية الصادرة حولها، أعاد الهاتف إلى "آمنة"، وتراجع مبتعدًا قبل أن يخرج عن طور سكونه الزائف. أنهت معها الاتصال في عجالةٍ، وتبعته قائلة بصدرٍ متهدج:

-سمعت بنفسك؟ شوفت كان ناوي على إيه من الأول؟

لم يقم وزنًا لكلامها، ورد بصوتٍ اخشوشن على الأخير:

-كل ده مايهمنيش، هو قضى على اللي باقي من عمره لما فكر يمس مراتي!

صوته المحفوف بهذا الهدير جعلها ترتجف، ترتعب من تخيل ما يمكن أن يفعله به، وتبعات ذلك على مستقبله، أدركت أنه لن يمرر الأمر على خير أبدًا، لذا توسلته في توجسٍ مرعوب:

-بلاش تضيع نفسك عشان واحد زي ده، هي نيته من الأول وِحشة، ماتخليهوش يخسرك كل حاجة في لحظة طيش، إنت عندك بيت، وعيلة، ومراتك اللي بتحبك.

لم تشفع توسلاتها في ردعه عن الإقدام على ما ناواه، أعاقه فقط عن التحرك حالته زوجته غير المستقرة، تمهل مضطرًا إلى أن يطمئن عليها، وخلال فترة سكونها الإجبارية أجرى عدة اتصالات هامة، رتب فيها أوضاعه لمقابلة من يعرف عنه بزعيم "الهجامة"، غير مبالٍ بسماع "آمنة" لمعلومات مقتضبة عما سيفعله، فكل شيء في لحظة أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحطم والانهيار.

.....................................................

بعد وقتٍ مضى عليه بطيئًا، استفاقت "فيروزة" من إغماءتها، بتقليب رأسها يمينًا، ويسارًا، قبل أن تصدر من بين شفتيها تأويهةٍ محملة بالأنات، ليتبعها صوتها المنادي بتحشرجٍ:

-"تميم"!

كان الصوت خفيضًا بعيدًا، ازداد وضوحًا عندما كررت مرة ثانية:

-ما تصدقوش يا "تميم"!

جلس من فوره على طرف الفراش، وقد تركزت عيناه عليها، هزها برفق وهو يبادلها النداء:

-"فيروزة"!

بمجرد أن تسللت نبرته المألوفة إلى إدراكها الحسي، انتفضت مندفعة للأمام، وهي ما تزال تصرخ باسمه:

-"تميم"!

جحظت بعينيها في فزعٍ، والعرق البارد يتصبب بغزازة من جسدها، لهثت بصدرٍ ناهج، كأنما قد خرجت لتوها من سباقٍ للعدو، ارتعشت شفتاها وهي تقول بصوتٍ تحول للبكاء:

-ده كداب، مفتري، وآ...

قاطعها قبل أن تتم جملتها للنهاية مؤكدًا:

-أنا مصدقك إنتي!

اندفعت إلى حضنه المفتوح أمامها، وارتمت فيه، باحثة عن أمانها المفقود بين ذراعيه، ضمها إلى صدره، وألصقها به، تاركًا إياها تبكي على كتفه في حرقةٍ وقهر، ورغم ما يعتريه حاليًا من مشاعر متأججة مستعرة، إلا أنه تعامل مع زوجته بهدوءٍ احتوى ما يربد بها حاليًا من اضطراب وخوف. سكنت قليلاً ورأسها مسنودة على كتفه، في تلك اللحظة بالذات لم تجد من الكلمات ما تعبر به عما يجوس بداخلها من أحاسيس مختلطة، ما بين الخوف والأمان، الرهبة والاطمئنان.

اشتدت ضمته، وأحست بقوته تُعيد إليها ما ظنت أنها فقدته، كادت تستكين كليًا لولا أن همس لها بعزمٍ أرعبها:

-حقك هاجيبه.

نبرة صوته أوحت بأنه لا ينوي خيرًا على أدنى الأصعدة، حتمًا سيلقي بنفسه في التهلكة من أجل حمايتها، ويا ليته ما يفعل! أرجعت ظهرها للخلف لتنظر إليه بارتياعٍ من وسط غيمة الدموع المنتشرة في حدقتيها، سألته بقلبٍ يقصف بعنفٍ في التياعٍ:

-إنت هتعمل إيه بالظبط؟

لم يجبها، مما ضاعف المخاوف بداخلها، وجعل دبيب الخوف يتفشى أكثر في كامل وجدانها، هتفت به تستجديه:

-ما توديش نفسك في داهية يا "تميم" عشان واحد جبان زي ده، أنا ...

انقطع صوتها وتحشرج، فقاومت بكائها الوشيك قدر المستطاع لتخبره بلوعةٍ حقيقية:

-أنا عاوزاك جمبي.

النظرة القاسية في عينيه أكدت أنه لن يتراجع على الإطلاق مهما ذرفت من عبرات، استعطفته بصوتٍ تحول للهاث من بين نهنهات بكائها:

-يا "تميم" ده هيخليك باللي عمله نخسر بعض، وهو ده اللي عايزه في الأساس.

لم يبتسم، ولم تلن ملامحه، بدا وجهه كالصخر جامدًا، غير مقروء التعبيرات، امتدت يداه لتحتضن وجهها المرتجف، نظر لها مليًا، وقال بصوتٍ لا يحمل الشفقة، وبتصميمٍ قذف الرعب ليس فقط في قلبها:

-هريحك منه نهائي ..................................................... !!

بُهتت، وذُهلت، وحل برأسها كل الارتعاب، شعرت بعد تصميمه غير القابل للعودة بانقباضة قاسية تعصف بثنايا قلبها، بل كاد من إثر صدمتها المخيفة ينسحق، ينمحق، ويتمزق إلى أشلاء. هبت "فيروزة" مذعورة واضعة كلتا راحتيها على كفيه المحتضنين لوجهه تتوسله بعينين تستدعيان أنهر الدموع من شدة خوفها عليه:

-لأ يا "تميم"، أوعى تعمل كده.

برفقٍ لا يخلو من قليلٍ من القوة استل "تميم" كفيه من أسفل يديها، وهتف في إصرارٍ ضاعف من مخاوفها أضعافًا مُضاعفة:

-معدتش ينفع.

نهض من جوارها متغاضيًا عن نظراتها المرتاعة، فقامت بدورها من موضع رقدتها بعد أن أزاحت الغطاء عن جسدها، هرولت خلفه مقاومة الدوار الخفيف الذي أصابها جراء حركتها المفاجئة، وصرخت به باستجداءٍ باكٍ:

-استنى يا "تميم"، بالله عليك تسمعني.

توقف عن السير ليستدير ناحيتها، لحقت به، وتابعت في رجاءٍ أكبر:

-هو ده اللي عاوزه منك، يقضي عليك وعليا، يفرق ما بينا، يضيعنا.

بدت ملامحه أكثر صلابة، تصميمًا، وعزمًا على المضى قدمًا حتى النهاية في انتقامه الحتمي، أخبرها بغير استرخاءٍ:

-اللي يمسك بسوء مالوش الحق إنه يعيش.

جال بخاطرها تصورًا خياليًا لنهاية الوضع بشكلٍ شنيع ومأساوي، فقط إن لم تبذل كل ما في وسعها لإيقافه، لذا وضعت "فيروزة" يديها المرتجفتين على ذراعيه ترجوه بقلبٍ مذعور، وتعابيرٍ لا تنم سوى عن الهلع:

-عشان خاطري اهدى، أنا خايفة عليك، مقدرش أعيش من غيرك.

تلك الكلمات المؤثرة، النابعة من القلب، والتي نفذت إلى ما بين ضلوعه، صدَّ بإرادة من حديد تأثيرها، وخاطبها بصوتٍ جافٍ، أجش، كأنما لم يعرف الرفق أبدًا:

-حقك هاجيبه، ولو فيها موتي.

انخلع فؤادها أكثر، وظنت أنه سيقتلع من شدة ارتياعها، بكت بحرقةٍ، واستعطفته، وهي بالكاد تجثو على ركبتيها، علَّه يستجيب لتوسلاتها:

-يا "تميم"!

أمسك بها من كتفيها يجبرها على النهوض وهو يأمرها:

-اقفي على رجلك، مش اللي زي ده يخليكي تركعي.

من بين دموعها الغزيرة اعترفت له بصدقٍ، بما نفذ إلى الوجدان كالسهم المارق:

-عشانك أعمل كل حاجة، بس ماتضعش من إيدي.

جذبها إلى أحضانه، مشددًا من ضمته الأخيرة لها مؤكدًا لها:

-خليكي فاكرة إن محبتش إلا إنتي.

لم تستطع ردعه، ولا حتى إيقافه، انسل من حضنها، مودعًا إياها، ومنطلقًا خارج المنزل، وصوت صراخها يناديه باحتراقٍ يشع في كامل روحها:

-"تمــــــيم"!

.......................................................

في مكانٍ شبه مقفر، يحاوطه الخراب والركام من كل جانب، ناهيك عن أكوام القمامة ذات الرائحة العفنة، أوقف "ناجي" سيارته، عند ما تُعد مجازًا بوابة للمرور إلى الداخل، من الصعب تخيل كيف تكون الحياة في منطقة منفرة كتلك، وللدهشة هناك مئات الأشخاص من كل الأعمار يعجون بها. بنظراتٍ شمولية حذرة مسح محيطه بناظريه، وتقدم للأمام مُلقيًا التحية بثباتٍ:

-سلام عليكم.

رمقه أحد الرجال من ذوي الوجوه الإجرامية بنظرة احتقارية، قبل أن يرد مقتضبًا، كما لو كان يترفع عن الحديث معه:

-وعليكم ...

في حين سأله آخر مستفهمًا بنبرة غليظةٍ، وقد أبرز سلاحًا آليًا كان ملتصقًا بجانبه:

-إنت مين؟ وعاوز مين في حتتنا.

ابتلع "ناجي" ريقه، ووزع نظراته بينهما، قبل أن يجيب:

-كبير "الهجامة".

ضحك المتواجدون في سخرية هازئة منه، ليعلق الرجل الأول بتهكمٍ شبه مهين:

-ليه هو كوبارتنا فاضي يقابل اللي زيك؟

استجمع جأشه أمام تلك الوجوه الشيطانية، ورد في هدوءٍ:

-قوله من طرف المعلم "تميم سلطان"، وهو هيقابلني.

أمسك الرجل الثاني بياقة "ناجي"، وعبث بها بسخطٍ، فأبعد الأول يده عنه، وحدجه بنظرة قاسية، فلوى الرجل ثغره في ازدراءٍ، ثم استطرد:

-شكلك واثق أوي من نفسك.

رد عليه بجديةٍ رسمها على كل ملامحه:

-عرفه إني موجود، وبلاش تضيع وقتي ووقتك.

رغم لمحة التهديد المستترة في صوته، إلا أن ذلك الرجل تغاضى عنها مؤقتًا ريثما يتأكد من صدق أقواله، وإلا لصب عليه غضبه. بإشارة صارمة من عينيه صاح في أحد الواقفين يأمرهم:

-بلغ العصفورة.

رد عليه آخر مُظهرًا طاعته له:

-وجب يا زميل.

انتظر "ناجي" بتوترٍ جاهد لإخفائه على مقربة من البوابة، غيرُ قادرٍ حتى على تغطية أنفه، لمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى أنفه، وإلا لما سَلِم من تعليقاتهم السخيفة الهازئة به. تنبه لصوت أحدهم يسأله في نبرة تهكمية:

-والحلو من نواحينا، ولا من فين؟

ترفع وهو يجاوبه بسخافةٍ:

-من بعيد.

قبل أن يبادر بالرد عليه ظهر من يدعى بـ "العصفورة" هاتفًا بلهاثٍ:

-خليه يخش، الكوبارة مستنيه.

تنحوا الرجــال للجانب، وأزاحوا العوارض الخشبية، ليتمكن من الدخول تاركًا سيارته بالخارج، اصطحبه "العصفورة" في عربة التوكتوك عبر ممرات ضيقة، وأزقة أكثر ضيقًا بين بيوتٍ مبنية من الصفيح والطين اللبن إلى فضاءٍ فسيح، بعيدًا عن الرائحة القابضة، ليستنشق بعض الهواء النظيف، كان وسط كل هذا الخراب والبؤس يقبع بيتًا ضخمًا، وفخيمًا في هيئته، على النقيض كليًا مع مظاهر الفقر المدقع بالخارج، حينئذ أدرك أنه مجرد تغطية محكمة لتخبئة ما يحدث بالداخل.

ترجل "ناجي" من العربة، ليقابل فئة أخرى من الرجال الأشداء، العتاة، شديدي الإجرام، كل منهم يحمل في يده سلاحًا حديث الطراز، ألقى عليهم التحية، وسمحوا له بالمرور إلى باحة البيت، هناك أبصر حديقة غناء مورقة، ونافورة تنتفض بالمياه في الوسط، وعلى يساره وضعت بعض الأرائك المخصصة للحدائق. تباطأت خطواته بالتدريج حين رأى من يُلقب بكبير "الهجامة" جالسًا على الأريكة المريحة، وفي يده مبسم النارجيلة، أخفض رأسه قليلاً احترامًا له وهو يستطرد قائلاً:

-سلام عليكم.

لفظ "الهجام" سحابة كثيفة من الدخان من رئتيه، وابتسم مرحبًا به بحفاوة استغربها:

-أهلاً بطرف الحبايب، أنا مصدقتش لما جالتي المكالمة.

تشجع "ناجي" ليرفع أنظاره إليه، فرأى شابًا حسن المظهر، ضخم البنيان، على ما يبدو يتمرن يوميًا بانتظامٍ، ليبدو مفتول العضلات، غير الصورة المتوقعة في ذهنه من مقابلة رجلٍ ممتلئ بالشحم واللحم، مترهل الجسد، كبير في السن، وربما في وجهه توجد علامات الإجرام. ما كان ينقصه ليبدو كحارسٍ شخصي لواحدٍ من الشخصيات الهامة هو ارتدائه لبدلة رسمية، ورابطة عنق أنيقة. تنحنح "ناجي" معلقًا في لباقةٍ:

-احنا نتشرف بيك يا كبير.

ترك "الهجام" المبسم من يده، واستقام في جلسته المسترخية، مُسلطًا كافة أنظاره عليه وهو يسأله في اقتضابٍ متحفز:

-خير؟

ازدرد ريقه الجاف في حلقه، وأخبره في هدوءٍ:

-الريس "تميم" عاوز يقابلك .. ضروري.

شدد على كلمته الأخيرة ليؤكد على أهمية الأمر، فما كان من "الهجام" إلا أن قابل ذلك بترحيبٍ واضح وهو يبتسم في غرورٍ:

-وأنا جاهز، واعتبر اللي عاوزه حصل من قبل ما أعرف إيه هو.

أخرج "ناجي" مظروفًا أبيض اللون من جيب بنطاله، وضعه قبالته على الطاولة البلاستيكية القصيرة، وأردف موضحًا:

-وده عربون المحبة.

امتدت يد "الهجام" لتلتقط المظروف، فضَّهُ من الجانب ليرى الأوراق النقدية الضخمة، ابتسم في حبورٍ، وعلق:

-دايمًا عامر ..

ثم صاح موجهًا أمره لواحدٍ من الرجال المتواجدين خلفه:

-قوم بالواجب مع ضيفنا.

أطاعه الرجل في انصياعٍ تام وهو يومئ برأسه:

-حاضر يا كوبارتنا.

.....................................................

إن تراخت، واستكانت، ورضخت للأمر الواقع، فهذا يعني حتمًا خسارته للأبد، وهذا ما لن تتحمله مُطلقًا بعد أن ذاقت فاكهة الجنة معه، وتنعمت بفردوسها على الأرض في أحضانه. ضمت "فيروزة" طرفي حجابها المحلول معًا، عقدته دون أن تعبأ بشكل هيئته، وهرولت متابعة ركضها الهابط على الدرج لتلحق بزوجها وهي تناديه بصوتٍ بح من كثرة الصراخ:

-مش هاسيبك تضيع وتضيَّع نفسك يا "تميم".

التفت آمرًا إياها بشيءٍ من الغلظة عند مدخل البناية دون أن يتوقف عن السير:

-اطلعي فوق.

التفت ساقها بالأخرى، وكادت تنكفئ على وجهها لولا أن أمسكت بالدرابزين، فمنعت نفسها من الوقوع، متوقعة أن يأتي لمساعدتها، وعلى غير المعتاد منه، لم ينظر خلفه، وواصل مشيه السريع نحو الخارج، عادت إلى اتزانها، وأكملت ركضها خلفه إلى أن وصلت سيارته، اعترضت فتحه للباب، ودفعته بكامل انفعالها لتغلقه، ثم استدارت ملتصقة بالباب، لتمنعه من فتحه، وسألته بصوتٍ لاهث يحمل اللوم:

-هتخليني أجري وراك في الشارع كمان؟

بوجهٍ غائم، وتعابير غير مبشرة أخبرها دون أن ترتفع نبرته:

-اسمعي الكلام، واطلعي.

ردت بعنادٍ، دون أن يرف لها جفن:

-لو مشيت فأنا رجلي على رجلك.

وقبل أن يفكر في الاحتجاج على تهورها المضاهي له، تحركت من مكانها، ودارت حول السيارة لتفتح الباب الأمامي، واستقرت في مكانها قائلة بتصميم:

-مش هسيبك لوحدك.

نفخ في صبرٍ نافذ، مدركًا أن التخلص منها بات عسيرًا، أرشده تفكيره إلى اصطحابها إلى بيت عائلته، فهناك لن تستطيع المناص، ووقتها سيكمل ما بدأه .. للنهاية!

................................................

خلف البيت المتسع، في مكانٍ يبدو كغرفة احتجازٍ، جدرانها رمادية داكنة، خالية من النوافذ، إلا من واحدة علوية، يحاوطها الزجاج، وقضبان من الحديد، بها كراكيب وبقايا أثاث متناثرة بشكلٍ عشوائي عند الأركان، احتشد بعض الرجال حول واحد مقيد من يديه خلف ظهره، يجثو على ركبتيه في وضع ذليل، مهين، منكس الرأس، ويصرخ من أثر العدوان الوحشي عليه. طقطق "الهجام" أصابع يديه معًا، قبل أن يبسطهما هاتفًا في صوتٍ أرعب أشد الرجال شجاعة:

-الرحمة دي مش عندي، دور عليها عند غيري.

هتف الرجل يتوسله في ذعرٍ مسيطرٍ عليه:

-يا ريس غلطة ومش هتتكرر.

لم يرأف به، ولم يمنحه نظرة غفران، بل بدا أكثر إصرارًا على تعذيبه حتى النهاية، أقبل عليه وقد تناول سلاحًا ناريًا من أحد أتباعه:

-الغلطة عندي بفورة، ورصيدك في السماح خلص.

ارتاع الرجل في فزعٍ أكبر حين رأى ما بيده، وهدر يستعطفه ببكاءٍ وهو يرتجف كليًا من شدة ارتياعه:

-ده أنا راجلك، دراعك اليمين، طول عمري تحت طوعك.

سحب "الهجام" زر الأمان عن سلاحه المعبأ بالذخيرة الحية، وأخبره في هدوءٍ قاتل، وهذا البريق الوحشي يظهر في عينيه:

-دراعي لما يأذيني أقطعه، وإنت خونت العهد.

باتت المسافة الفاصلة بينهما خطوتين، والسلاح الناري مصوب نحو رأسه، مُدركًا الحقيقة المؤلمة، أن عمره أوشك على الانقضاء، استخدم آخر وسائله في استجداء شفقته:

-يا كبير، طب ورحمة "الهجام" الكبير ما ...

لم يتم جملته للنهاية، فقد ضغط "الهجام" على الزناد لتتحرر طلقة غادرة استقرت في رأسه، وفجرتها، لتودي بحياته وتنهيها في التو، انتشرت بركة من الدماء حول الجثة المنكبة على وجهها، بصق عليه "الهجام"، وخاطبه كتحذيرٍ مستتر لمن يقف من الرجال:

-غلطت لما حلفت بيه، راس أبويا محدش يحلف بيها وهو خاين.

من بين المتابعين وقف "ناجي" يشاهد المشهد الدموي بصدرٍ منقبض، فبالرغم من ارتكابه لبعض الأمور المتجاوزة، إلا أنه لم يصل لهذا القدر من الإجرام والوحشية. ارتد للخلف في تلقائية بعد سماع الطلقة رغم توقعها، ردد مع نفسه في شيءٍ من التوجس، ناظرًا إلى قسوته مع الخائنين:

-يا ساتر، ربنا ما يوقعني معاه.

تنبه إلى صوته وجفل عندما سمعه يأمر رجاله:

-شفوه، وادفنوه.

علق واحد منهم مُطيعًا أمره نافذ الوجوب:

-عُلم.

رجفة غادرة تسللت إلى بدن "ناجي" وقد رأه مقبلاً عليه، خاصة أن وجهه لم يظهر عليه دليلاً لندمه على قتله، استدعى شجاعته الهاربة، وتكلم في عفويةٍ:

-أجيلك وقت تاني يا كبير لو مشغول.

قال "الهجام" في هدوءٍ بارد، كأنما لم يزهق روح أحدهم قبل لحظات معدودات:

-لأ، أنا فاضي، دي شوية تسالي كده.

بدأ بالسير معه نحو الخارج، ومغادرة حجرة التعذيب تلك؛ لكن اعترض طريقهما أحد الأشخاص، حيث صاح بصوتٍ شبه مندفع، كأنما على عجلةٍ من أمره:

-يا كبير، في حد من طرف حبايبنا من عزبة العِترة عاوزك في مصلحة.

نظر إليه بتعالٍ، ثم خاطبه في كلامٍ مبطن:

-الأهم يقدرني، ساعتها هيلاقيني أنا والرجالة.

ابتسم الرجل معقبًا:

-اعتبره حاصل يا كوبارة، هافهم منه إيه الحوار وأرسيك عليه.

لوح له بذراعه مرددًا:

-ماشي الكلام.

حمحم "ناجي" معقبًا ببسمة مهزوزة:

-صيتك مسمع يا ريس.

لم يخفَ على "الهجام" رهبته منه، وقال منتصبًا بكتفيه في عنجهيةٍ:

-أهم حاجة في شغلانتنا الخِطرة دي هي السمعة، لو راحت، يبقى عليه العوض في الهيبة!

لم يستطع سوى مجاراته في رأيه، وإن كان على غير وفاقٍ معه، فتحدث بعد إيماءة خفيفة من رأسه:

-كلام موزون.

...................................................

بدت المصائر محتومة، والأقدار مكتوبة، فقط تبقى للزمن تحديد ميقاتها! تطلعت "فيروزة" بعينين متوجستين إلى زوجها تارة، وإلى الطريق تارة أخرى، لم يتخد مسارًا مغايرًا للمألوف، كان يقود السيارة في اتجاه بعينه، مما دفعها لسؤاله في فضولٍ متحفز:

-إنت رايح فين؟

أجابها في جمودٍ، وكامل نظراته القاسية على الطريق:

-هوديكي عند أهلي.

أدارت رأسها في اتجاهه، وتكلمت إليه في جديةٍ:

-ده بني آدم قذر، كل غرضه يخرب ما بينا، ما تخليهوش ينجح في ده.

نظرة خاطفة منحها لها، كانت مليئة بالعزم والتصميم، أتبعها قوله الواضح:

-إنتي مش محتاجة تبرري، هو نهايته وجبت.

مرة ثانية ارتجف قلبها وارتعش من الخوف، صرخت في صوتٍ مشروخ تستجديه:

-برضوه يا "تميم"؟ ليه مش عاوز تسمعني؟ مش إنت مصدقني، ومتأكد من براءتي؟

أكد لها عدم نيته على التراجع:

-مش هسمحله يفلت باللي عمله.

مدت يدها، ووضعتها على جانب ذراعه، ضغطت عليه قليلاً، واستمرت في توسلها المليء بعواطفها الجياشة:

-يا "تميم" أنا عاوزاك جمبي، ليه هتحرمني منك؟ وتخلي حبنا يروح.

سكت ولم ينطق بشيء، فأضافت على نفس الوتيرة المتخمة بالمشاعر:

-"تميم" إنت صبرت كتير واستحملت واستنيت عشان نكون في الآخر سوا، دلوقتي هتضيع حياتنا عشان كلب زي ده؟

بقي على صمته المؤلم لها، وكادت تستخدم نفس الوسيلة الضاغطة عليه؛ لكنه أوقف السيارة عند مدخل بيته، وترجل منها هاتفًا بصيغة آمرة:

-تعالي.

سألته في لوعةٍ:

-وإنت هتروح فين؟

حاوطها من كتفيها بذراعه ليستحثها على التحرك معه، سارت إلى جواره متسائلة مرة أخرى:

-إنت طالع معايا صح؟

ربما لم تسمع رده بشكلٍ منطوق؛ لكنه اصطحبها للأعلى، فأبقت نظراتها المرتاعة عليه تراقبه عن هذا القرب، توسلته وهو يدس المفتاح في قفل باب بيت عائلته ليفتحه:

-لو أنا غالية عندك ماتسبنيش.

كأنما وخزته بكلمتها الأخيرة، قاوم لحظة من الضعف أمام نظراتها الخائفة ليقول في هدوءٍ مريب:

-طول عمرك غالية.

دفع الباب بيده الأخرى، ثم ولج إلى الداخل، ساحبًا إياها برفقٍ، فتعلقت بذراعه مجددًا، وصرخت فيه بصوتٍ شبه باكٍ:

-حرام عليك، عاوز تضيع نفسك؟ إن مكانش عشاني، فعشان خاطر أهلك.

على إثر صياحها المفزع، الهادر في أرجاء الصالة، خرجت "ونيسة" من الداخل وهي تجرجر ساقيها، أمعنت النظر وقد ضاق ما بين حاجبيها، لتجد ابنها وزوجته ينظران إلى بعضهما البعض بشكلٍ يدعو للريبة وإثارة الشكوك، وما زاد من الهواجس بداخلها بكاء "فيروزة" الغريب، وعباراتها الباعثة على الشك، دنت منهما متسائلة في توجسٍ:

-في إيه يا ولاد؟ إيه اللي حصل؟

استدارت "فيروزة" ناظرة إليها لتجاوبها بما ضاعف من مخاوفها:

-إلحقي يا طنط، حشوه، هيودي نفسه في داهية عشان واحد مايستهلش.

امتدت يد "تميم" لتمسح على وجنة زوجته المبتلة بحنوٍ، فعادت لتنظر إليه برجاءٍ يقطع نياط القلوب، تنهد لافظًا الهواء من صدره، ثم خاطبها بهدوءٍ عجيب، كأنما يودعها بشكلٍ غامض:

-إنتي هتفضلي عندي أغلى حاجة، وعمري ما أسمح لشعراية بإنها تأذيكي.

تقدمت "ونيسة" نحو ابنها لتسأله بصدرٍ منقبض:

-رد عليا يا "تميم"، في إيه اللي حصل؟

خرج من الداخل الجد "سلطان"، فاعتقدت "فيروزة" أن في وجوده السبيل لردع حفيده، ومنعه من الإقدام على مثل تلك الأفعال الخطيرة، هرولت ناحيته، وتعلقت بذراعه هاتفة فيه بصوتها المنتحب:

-يا جدي امنعه، هيضيع بسبب كلب مايسواش.

رفع الجد أنظاره نحوها أولاً، فأبصرها تكاد تنفطر خوفًا، قبل أن يحول ناظريه، ويتطلع إلى حفيده بتفرسٍ، منحه نظرة متسائلة دون أن يكون بحاجة لسؤاله، فما كان من "تميم" إلا أن جاوب في عزمٍ غير قابل للتفاوض:

-غصب عني يا جدي، المرادي غير، وإنت عارفني.

ضم "سلطان" شفتيه معًا لهنيهة، رمقه بهذه النظرة المتفاهمة، النافذة لدواخله، حرك ثغره بعدئذ قائلاً بما بدا أشبه بالنصيحة:

-صدق قلبك يا ابني، وماتعملش إلا الصح ...................................... !!!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الخامس والستون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة