-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية عصفورة تحدت صقراً بقلم فاطمة رزق - الفصل الخمسون

مرحبا بكم متابعين قصص 26 موعدنا في قسم روايات رومانسية كاملة والكاتبة فاطمة رزق والفصل الثالث والأربعون برواية عصفوره تحدت صقراً 

وَعَـىَ على مُر الحياهِ ، حين إِصطَدم بواقِعِــهِ .. فنشأَ على كُره حــواءَ ، فلم تكن يوما منزلُــهُ .. وبنفورِهِ جعلَ الجواري تَشتهى قُربَــهُ .. فعُزِزَ الغُــرور في نفسهِ ، بأنُ لا مِثل لـهُ .. فأتتْ هي قبل أن ينخدِعَ بِظَنــهِ .. لتُريهُ مدى ضآلة حجمــهِ .. فليست من الجــَواري، ولا أَمـه يروق لها منزلــُه .. هي سيـدةٌ فى قصرٍ من الحيــاءِ تزينت جُدرانُـهُ .. هي سيـدةُ حسنـاءٌ ، تملك من الكـِبْرِياءِ ما تَكبَح بـِهِ غـرورَهُ .. فقطعَ العهــودَ والمواثيــقَ على نفســهِ .. بأن أيامها القادمــةُ ستكونُ داخلَ جحيمــهِ .. ولِتـَـرى ابنه حــواء ذاك الذي قَـللتْ من شأنِــهِ .. كيف يَسوقهـا إلى هاويةِ الهـلاكِ بنفسـهِ ..! هل ستقاوم سَبيـهُ ، أَم هل ترضـخُ لــهُ ؟ هل ستعيش حبيسَــةً ، أَم سيُجّــلِي قَيــّدَهُ ؟ اللي مشفش الفصل الرابع يقدر يشوفه من هنا رواية عصفوره تحدت صقراً "الفصل الثاني والأربعون"
روايات رومانسية كاملة | رواية عصفوره تحدت صقراً "الفصل الخمسون"

عصفوره تحدت صقراً

الفصل الخمسون


كانت السيارة في أوج سرعتها، كانا عائدان إلى منزلهما.. أو اقتربا كثيرًا منه.
كان كلاهما بالرغم من الصفاء الذهني المؤقت الذي انتابهما شاردان في البعيد. كلاً منهما يفكر في المواجهة القادمة، فهي تعلم تقريبًا كل شيءٍ سيعلمه هو عما قريب، ربما أصر رحيل البارحة على اخبارها بالأمر بصورة هادئة كي يضمن أنها لن تتخلَ عنه بعد معرفة حقيقة نسبه، و ما يكمن خلفها..

لكنها لم تفكر في هذا، بل جُل ما فكرت في كيف سيكون وقع الخبر عليه؟
وللحظة وضعت نفسها محله وسألت نفسها ما الذي كانت ستفعله إن كانت محله؟ أجابت نفسها عدة مراتٍ أنها ستتألم كثيرًا ولكن رد فعلها سيكون هادءًا. لكن لم تنسَ أنها تتحدث عنه هو، لا عن نفسها.. هي اعتادت اللون الأسود في حياتها، واعتادت على مواجهة الصعاب بجموح، وبالرغم من أنها لن تنكر أنه تعذب كثيرًا في حياته هو الآخر لكن في ذات الوقت يجب أن..

-وصلنا
قالها صهيب بصوتٍ مرتفع، فانتفضت على إثرها وقد تفاجأت أنه قد فتح لها باب السارة وواقف بجانبها تقريبًا، نظرت له بانزعاج قائلة:
-طيب براحة بتجعز!
رفع حاجباه وهو يسألها مستنكرًا:
-دة على أساس إني مش بنده من ساعة!

أخذت نفسًا طويلاً لتركز، ثم نزلت من السيارة وهي تجيب بهدوء:
-مكنتش آخدة بالي

وضع يده على كتفها، وسار معها للأمام، ثم بدأ الحديث بجدية:
-بصي، مش مهم أكلم رحيل النهاردة، خليها بكرة، بجد مفياش دماغ أسمع.
هزت رأسها نافية، وردت بغموضٍ وهي تتقدمه بالخطوات:
-إنت مش هتحتاج تكلمه أصلاً!

كاد أن يسألها عما تعنيه، إلا أنه قد وجد رحيل واقفًا أمامه، فتجهم، وأشاح بوجهه في اتجاهٍ آخر. حينها تقدم رحيل، وظلت جويرية تراقبه بهدوء. كان رحيل ممسكًا بنفس الدفتر الوردي، وكانت ملامحه تدل على أن الفترة السابقة لم تكن بالهينة عليه.

حين وقف رحيل أمامه تحدث بهدوءٍ وثبات:
-الحقيقة دي أخدت من عمري كتير.. أخدت وقت طويل عشان يبقى عندي القدرة أقف قدامك وأكلمك في الحقيقة دي.

صمت قليلاً وقد ترقرقت الدموع في مآقيه وتابع بجمود على الرغم من هذا:
-لو عاوز الحقيقة يا صهيب عمري يوم ما كنت هقولك على الحقيقة دي.. عشت بحبك وهموت بحبك مش عشان مجرد إنك ابني، لأ عشان إنت كنت كل حياتي اللي مكانش عندي استعداد أخسرها تحت أي ظرف.

حاول صهيب أن يحافظ على ثبات عينيه وهي تنظر للبعيد، ولكن رغمًا عنه نظر له، ورأى عيناه الحزينتين، ولم يعقب.

تابع رحيل بنبرة أكثر ثباتًا:
-أنا بعترف إن غلط أخبي عليك، بس أنا يا صهيب مش من النوع اللي بيتحمل خسارة حد بيحبه! يا صهيب إنت اللي صبرتني على فراق أمك.

احتقنت عينا صهيب، ومع ذلك ظل على موقفه صامتًا، مع أنه صدم من عبارته الأخيرة..!

أي أمٍ هذه..؟!

-طلاما عرفت الحقيقة يا ابني، يبقى لازم تعرفها كاملة.
صمت رحيل لثوانٍ يراقبه، ويراقب انفعالات وجهه، ليكمل بعدها بألم:
-أنا وأمك كنا بنحب بعض جدًا يا صهيب، كنا هنتجوز خلاص في نفس الشهر اللي هي اتجوزت فيه عمك جلال.
فرت الدموع من عينه، وبدأ صوته يتقطع، ثم أبعد ناظريه عنه قائلاً بشرود:
-إحنا كنا خلاص هنبقى سوا، لولا الظروف.

تنهد بأسى، وأخذ يمسح عبراته بعنف، ثم مد يده له بالدفتر الوردي، وأمسك يده الأخرى ليضعه بداخلها، ثم نظر له وبدأ يتحدث بجدية:
-أنا عارف إن صعب تسامحنا يا صهيب، بس الزمن كان صعب، الظروف كانت قاسية، وكل حاجة عملناها كانت بسس اللي مرينا بيه. بص يا صهيب المذكرة دي بتاعة أمك الله يرحمها، أنا كنت مفكرها خانتني لحد من كام يوم بس عرفت كل حاجة، عاوزك تقرأها وهتفهم كل حاجة.

كان صهيب ينظر له وكأنه مشوش، شارد، ضال، لا يعلم أين الحق، وأين الباطل! من يصدق، عقله أم قلبه؟
عقله يخبره أنه يكذب، وقلبه يلوم عقله فرحيل كان الوحيد الذي رعاه، واهتم به وخاف عليه كما لم يخف أحدٌ من قبل.. كان قاسيًا عليه أن تتشوه صورته أمامه بتلك الطريقة.

ربت رحيل على يده بابتسامة خفيفة، ونظر له قائلاً:
-اطمن، معدتش هتشوفني تاني إلا لما تعوز بنفسك تشوفني، دة إذا عوزت أصلاً!
ثم وبدون كلمة أخرى تركه ورحل. تعلقت عينا صهيب به لثانيتن قبل أن يعيد النظر للدفتر الوردي، ثم يرفع نظره كأنه يبحث عن شيءٍ ما، لتستقر عيناه التائهتان عليها، فاقتربت منه حينها وكأنها شعرت أنه يناديها. وحين اطمأن هو لمجيئها عاود النظر للدفتر بشيءٍ من الشرود والتخبط.

حين رأته هي بتلك الحالة أردفت بهدوء:
-إنت كنت عارف إنك لازم تعرف الحقيقة في نهاية المطاف.
أخذ نفسًا ثم أجاب باختناق:
-بس ميغيرش أفكاري ومعتقداتي، تخيلي لو اكتشفت إني كنت عايش كل دة على أوهام!
أمسكت يده ونظرت له بقوة وهي تناديه بنبرة عالية قليلاً:
-صهيب!

أغمض عيناه وهو يضم يدها بيده.. كان خائفًا، خائفًا من معرفة شيءٍ آخر، خائفًا أن صدم مجددًا
-ما كلف الله يومًا إنسيًا إلا قدر طاقته.. ما وضع الله ثقلاً إلا وله حامل، حتى الألم وإن زاد فائقه.. فصبرًا فليس الأجرُ إلا لصابرٍ لله من فضله سائل.
كانت تلك هي الكلمات التي قالتها ارتجالاً، فنظر لها بحنان، وابتسم رغم كل شيء فقد خففت عنه كثيرًا، لقد كان يكفيه أن يشعر أنها تحاول التخفيف عنه، كفاهُ أن أمره يهمها وأراحه كثيرًا...

يا إلهي كم يكون الإنسان غريبًا حين يحب!
وبهدوءٍ سارا بعدها ليدخلا إلى المنزل.
أقرا أيضا رواية الملعونة الفصل الثاني عشر
مرت ساعة، لم يفعل هو فيها أي شيء، فقد ظل جالسًا على سريره، وتاركًا الدفتر بجانبه، يطالعه من حينٍ لآخر بفتور ثم يعاود النظر للأمام.
دلفت جويرية عليه ممسكة بفنجانان من القهوة الساخنة، ثم وضعت احداهما على حاملة الأدراج، وتقدمت نحوه بالأخرى بخطى ثابتة وجيزة.

ابتسمت له، بادلها. مدت يدها بالقهوة، أخذها.. وعم الصمت من جديد.
ظلت واقفة أمامه ترنوه بنظراتٍ دافئة، كنظرة أمٍ تنظر لرضيعها. سألته بهدوء:
-مفتحتش تقرأ ليه؟

أمسك بالفنجان في يد، وبالأخرى مد يده والتقط الدفتر، ثم مد يده لها به قائلاً بجدية:
-اقرأيلي.
ضيقت عيناها بحيرة، وسألته:
-أقرألك؟ طب ما تـ..
-بس أنا عاوزك إنتي تقرأيلي!

أخذت الدفتر من يده حين قاطعها، ثم جلست إلى جانبه، وأردفت وهي تنظر له:
-يعني مش هتضايق لو أنا عرفت حاجة عن ماضـ..!

قاطعها بحدة:
-أنا قولتلك إن اللي حصل الصبح من غيو قصدي و..
-هشششش خلاص اهدى.

صمت، وأشاح بوجهه وهو يزفر بشدة. فنظر هي للدفتر وقررت أن تقرأ أخيرًا..

أخذت نفسًا عميقًا وبدأت بهدوء:
-أكتب لكِ يا أختي العزيزة، أكتب لكِ بعد أن رحلتِ عني..

مُذ بدأت حياتي وأنا أعاني الفقر أنا وأختي، كانت أكبر مشاكلنا ألا نجد قوت يومنا. ولكن بعد مرور أعوام أدركت أنني أخطأت كثيرًا حين ظننت أن هذه مشكلة كبيرة، بل هي في غاية الصغر مقارنةً بما مررت أنا وأختي به فيما بعد..

صمتت جويرية قليلاً، ثم نظرت له لتراه منتبهًا لها مصغيًا قبل أن تتابع:
-بدأ الأمر حين تزوجت أختي من شابٍ غني، حدث الأمر بسرعة شديدة، حتى أنني لم أفهم كيف تم الأمر. ثم بدأ كل شيءٍ يتبدل فمن الفقر إلى الغنى والرفاهية، ومن الا مأوى إلى القصور!

تعرفت في تلك الفترة على أخو اللعين زوجها، لكنه وللحق كان مختلفًا تمامًا ليس مثل أخويه، كان يحمل في قلبه الطيبة والرحمة. وبدأت أتعلق به.. لا بل بدأت أحبه بالفعل، ولم يمضِ أكثر من شهرين حتى أصبحنا مترابطين، يحب أحدنا الآخر، ثم تواعدنا بالزواج..

كنت مصدومة في بداية الأمر، فكيف لنوران تلك الفقيرة التي نشأت نشأة دون المستوى تتزوج من ذاك الغني رحيل. ومع كل يومٍ كان يؤكد علي الأمر كنت أزداد سعادة وفرحًا..

لم أكن أدري أن من هم مثلي أنا وأختي لا يستحقون السعادة أبدًا..

صمتت جويرية، ونظرت له، فوجدته شاخصًا لأبصاره شاردًا. وكادت تظن أنه ليس معها إلا أنه أردف بخفوت:
-كملي
أخذت نفسًا عميقًا، وتابعت بروية:
-كلما كنت أرى أختي بعد الزواج أراها مهمومة حزينة. كنت أستعحب الأمر وأستمر بسؤالها عما يؤرقها لكنها لم تعطني الجواب الشافي، لم تخبرني يومًا عن سبب الألم الذي يكسوها.. لم تخبرني سومًا عن سبب الحزن الذي غلفها.. لم تعد أختي التي أعرفها، صارت شبحًا لامرأة تأبى البوح بما تكنه بداخلها. أحيانًا كنت أرى في عينيها أنها تريد اخباري، لكنها كانت تتراجع في اللحظة الأخيرة.

آآآه يا أختاه، لو فقط كنتِ أخبرتني بالأمر، لو فقط كنتِ.
أقرا أيضا رواية آدم وحياة الفصل الثامن

١٠/٣/١٩٨٣
الساعة الخامسة صباحًا
تابعت تلك المرأة الكتابة في هذا الدفتر الوردي، وعيناها تذرفان الدموع بغزارة..
"لو كنت أعلم ما تتحملينه لما تركتِ، ما كنت لأتركهم لينهشوا لحمكِ ككلاب الأحياء القذرة.

أتعلمين كيف اكتشفت؟ لقد عينت مراقبًا لكِ في بيتكِ ومراقبًا في بيت أخيه معتز لأن ذلك اللعين كان يأخذكِ هناك كثيرًا.. ثم علمت ما يفعله بكِ. فهو لم يكتفِ بإهانتك، وتعذيبكِ بل كان يستعملكِ كسلعة لضمان الحصول على ما يريد من أخيه. أنا لم أصدق أن هناك شخصًا كريهًا إلى ذاك الحد! هذا الديوث الذي جعلكِ وسيلة لا أكثر ولا أقل.

حين وصلني اتصالٌ من الذي يراقبكِ أسرعت بالقدوم، لكن للأسف كنت قد تأخرت كثيرًا لأنني لم أكن متواجدة في نفس المدينة. وحين ذهبت أخبرني ما فعلوه بها لأنه ظل يراقبهم إلى أن انهو دفنكِ حبيبتي. كنت في منزله حين عاد، وكنت أنوي أن أواجهه وأقتله بيدي، إلا أنني توقفت فجأة وقررت أنه لا يجب لجلال أن يموت ببساطة هكذا،

 لا يجب أن يتعذب أولاً.. يجب أن يموت ألف مرة، لا مرةً واحدة، لذا تصرفت وكأن شيئًا لم يكن، بالرغم من صعوبة الأمر. لكن كله يهون من أجل أن أنتقم لكِ إنتقامًا يليق بما فعله ذاك المدنس بكِ. ثقي فيَ حتى ولو لم تعودي موجودة.. أنا هنا، أنا هنا لأعيد لكِ حقكِ.. وليس لغرضٍ آخر.

أختي، حبيبتي، فلتهنأي أنتِ في قبركِ واتركي أختكِ تريهم ما معنى العذاب. أقسم لكِ أنني سأجعلهم يندمون جميعًا. أقسم أنني سأشن حربًا ضدهم حتى لا يعودوا يدركون من العدو ومن الصديق. وقد أدركت ما عليَ فعله جيدًا.
لن أكتب حرفًا جديدًا إلا حينما آخذ حقكِ كاملاً، وداعًا"

ثم وفي أسفل الورقة دونت تاريخ اليوم "١٠/٣/١٩٨٣"

تركت بعدها القلم من يدها، وبدأت تمسح دموعها بقوة وكأنها تقطع جلدها، ثم وقفت وأمسكت ذاك الدفتر، وسارت به إلى أن وصلت إلى السرير.

بدأت ترفع المرتبة بقوة، ثم وضعت الدفتر بالأسفل


١٠/٣/١٩٩٦
نفس الفتاة، مع اختلافٍ طفيفٍ في ملامحها، ممسكة بذلك القلم، وهذا الدفتر الوردي أمامها وبدأت تكتب بملامح جامدة، قاسية، حادة.
"لقد وفيت بوعدي يا أختي، وأمامي فقط ساعة قبل أن أزج في السجن، لكن لا تقلقي فأنا سعيدة هكذا."

ارتسمترعلى وجهها ابتسامة جليدية، متشفية، وتابعت الكتابة..

"ها قد تخلصت من الجبناء الذين دمروا حياتنا، أتعلمين كيف؟ بسببهم يا أختي إضطررت للتخلي عن رحيل، وإيقاع جلال في شباكي، وصدمت حين علمت أنني حامل في ولدٍ من رحيل فأسرعت في كل شيء ولكن رغمًا عني شعرت بالسعادة، فهذا الولد ما كنت أحتاجه حتى أستطيع إعطاء جلال حبوبًا تمرضه وتجعله غير قادر على جعلي أنجب. فأنا لن أتحمل أن يكون لي ولدٌ من ذاك البغيض.

كنت أتجنب رؤية رحيل حتى لا أضعف، فلم أكن أستطيع إخباره بأي شيء، لم يكن لديه ذنب وأردته أن يحيا من بعدي بحرية. ولكن للأسف يا أختي لم يحدث هذا. لذلك أعتبر نفسي مذنبة في حقه إلى الآن..

أما عن جلال فقد زرعت بينه وبين أخيه معتز أشواكًا من العداء في تلك الفترة، فكنت ألعب على الحبلين. حتى نجحت في جعل أحدهما يقتل الآخر.. أأخبرتك أنني كنت أعطي جلال كل تلك الفترة حبوبًا تمكن الصداع من رأسه، وجعلته يزور طبيبة رشوتها ببعض المال حتى تصف له علاجًا يزيد من حدة آلامه. كنت أعلم في كل مرة يتوجع ويتألم فيها أن هذا لا يقارن بما عانيته أنتِ يا نوار، حتى حينما كان يبكي كنت أشعر أن هذا قليل جدًا بالنسبة لما فعل، لكن كنت أصبر نفسي وأخبرها أن انتقامي سيكون حادًا فيما بعد.

حينما أنجبت صهيب يا نوار رأيكِ فيه، كان لون عيناه كلون عيناكِ، ومع أنني أعلم أننا توأم أنا وأنتِ لكن كنت أنسى دائمًا أنه يشبهني أنا لا أنتِ، ولن أنكر أنه قد شبِه رحيل كثيرًا، وكأنه مزيجٌ بيننا. أحببته كثيرًا، أحببته أكثر مما أحببت رحيل ذاته. وربما هو السبب الوحيد الذي أخر انتقامي إحدى عشر سنة كاملة.

لم أنسَ معتز حبيبتي فحتى هو قد تزوجته، ولم أنفك عن إعطائه حبوبًا تفقده عقله، مع الطعام، والشراب، وكل شيء.. ما سرع انتقامي منه هو أن رحيل قد أخذ صهيب ليرعاه. في البداية خفت إن جلسا سويًا لفترة طويلة أن يعرف رحيل أنه ولده، فهو يشبهه كثيرًا، ولكن حينما حاولت إرجاعه كان ولدي الحبيب قد كرهني، فللأسف هو قد رآني أقتل من يظنه والده. لكني برغم صعوبة مفارقته وضعت انتقامي في المقدمة وعدت أنتقم لكِ منه.

حين بدأت الحبوب تصنع مفعولاً قويًا بدأت أضغط عليه بالحديث، وكرهه لأخيه، لكن للأسف لم أحسب حساب أن يحاول قتلي.
لأنني بالفعل ضغطت عليه كثيرًا، وبدأت أخبره عن سر قدومي، وتخللي حياتهما، فكرهني وحاول قتلي. وبدون تفكير للأسف إضطررت للإتصال برحيل لينقذني. وقتله هو بدون قصدٍ منه. كنت أتمنى أن أقتله أنا، لكن في النهاية عذبته، وحققت مرادي بانتقامي منه.

لازلت أعشق رحيل، وأعشق ولدي الذي كان ثمرة عشقي له. ولم أشعر بالعار يومًا أن ولدي منه. بل كنت أفخر بذلك فرحيل أهلٌ لأن يعشق.

أريد إخباركِ في النهاية أنني أصريت أن أذهب مع معتز وندفن جلال معًا. قبره بعيدٌ عن قبركِ بمسافة عشرة أمتار. ثم دفنت ذاك اللعين معتز بعد عامِ في نفس قبر أخيه ليحترقا في جهنم سويًا. ولكن صورت نفسي وأنا أطعنه وأنقل جثته للخارج، وأرسلتها إلى رجال الشرطة حتى يحكم علي بالإعدام.

قريبًا نلتقي حبيبتي..

ولن أقول وداعًا تلك المرة، بل إلى لقاءٍ قريب."

ثم عادت لتكتب تاريخ اليوم "١٠/٣/١٩٩٦"

ثم تركت القلم، وأسرعت نحو الفراش ممسكة بذاك الدفتر الوردي بعد أن أغلقته وانتزعت ما فوقه من مراتب، ثم وضعت الدفتر الوردي مسنودًا على خشبة السرير من الداخل.

وأعادت بعدها ترتيب كل شيءٍ كما كان، ثم أغلقت أضواء البيت كله، وخرجت منه..

.........

رسالة ملحقةٌ بالدفتر الوردي.

"أختي الحبيبة نوران، أراسلك باللغة التي تعشقينها، وتتمني أن يكون تصصكِ بها،
فدائمًا ما يقولون أن الخطاب الأخير يجب أن يرسل بحب، لذا قررت أن أرسله كما تحبين أنتِ أن يكون.
وأبدأ باعتذاري لكِ عما سأفعل، وعن تلك الخطوة الجادة التي ستنهي حياتي.

كنتِ تسألينني ما بي، لكن كنت أخشى عليكِ إن أجبت فقد هددني جلال بقتلكِ في حال علمتي بما يحدث لي.
سأخبركِ.. حين طلب مني جلال الزواج لم يكن يحبني، كان يحب جمالي. 

وأنا لم أكن أحبه، بل أحبكِ أنتِ وأحب أن تعيشي حياة الرفاهية، وكذلك أنا.. فقد كانت حياتنا بائسة من البداية، لذا وافقت. لكن منذ الشهر الأول علمت أنه من أشباه الرجال، لا ينتمي لكلمة رجل بأي شكلٍ كان.. كان يعود سكرانًا في المساء يفرغ رغبته بي ثم يستيقظ في الساعة الخامسة يذهب إلى.. لم أكن أدري، ولم أهتم بسؤاله يومًا..

 فقد كنت أسير على هذا الأسلوب تبادل المنافع.. أنا أفرغ رغبته، وهو يعطينا المال. لكن ما جعلني أثور حين أدركت خيانته لي أكثر من مرة، بل أحيانًا كان يخونني مع أحد الخادمات! أي قذارةٍ تلك. حينها صارحته بالأمر ووبخته، فضربني بكل بساطة ليخبرني أنني لستُ إلا وسيلة لإمتاعه فقط، وأني أتقاضى المال مقابل هذا. بكيت.. أبكاني ما قال، أبكاني شعوري بأنني لستُ إلا وسيلة أو أداة. حتى ولو كانت حقيقة كنت أريد أن نعيش أنا وأنتِ يا نوران، كنت أدخر المال، وكنت سأطلب الطلاق حين يصبح معي مبلغًا جيدًا لنحيا بكرامة بعيدًا عن كل هذا الوباء..

لكن ما حدث كان خارجًا عن إرادتي، فهو في ذات اليوم أخبرني أنني سأدفع ثمنًا أغلى مقابل ذاك المال. أخبرني أنه لا يحب إعطاء المال للعمال الكسالى. لم أفهم مقصده إلا حين وجدت نفسي في غرفة أخيه معتز، أُغلق علي الباب، لأتفاجأ بخلو الغرفة إلا من سوانا -أنا ومعتز- وإن للصباح ظللت أصرخ ما يجيرني جائر.

أتتخيلين يا أختي، اغتصبني لمدة تزيد عن الثلاث ساعات. حتى غبت عن الوعي، لم أغب إلا حين رجوت نفسي أن أغيب، وبعد استيقاذي وجدت نفسي في منزلي، فقولت ربما كان هذا كابوسًا، ليظهر جلال بعدها ويخبرني أنني أحسنت صنعًا، ويخبرني أنه خصل على جميع الأوراق التي كان يريدها..

سألته عما حدث، فضحك وأخبرني ألا داعي للإحراج نحن شركاء مهن! ثم اقترب مني مجددًا وهمس أنني أمتعته كثيرًا وستعود الفائدة على كلانا!

بعد سماعي لهذا فقدت الوعي من جديد، ولم أدرِ متى استيقظت. ظلت أبكي لدرجة أن جفون عيني باتت تتقطع.. وبعدها فكرت ألا حل لدي سوى الإنتحار.

ربما هذا ليس بالحل البديع لكنه قد قرر اصطحابي في اليوم الثاني أيضًا!

لذا كان علي أن أتحرك بسرعة، وبالفعل أرسلت في طلب السم، وسأشربه قبل أن أذهب، هذا السم بطيء المفعول، وهذا ما أردته لكي لا يعلم أحدٌ سواكِ أنني انتحرت.

أحبكِ يا أختي، وأعلم أنك ستتألمين على فراقي. لكن صدقيني رحيل مختلفٌ عنهما، ظلي معه فهو يحبكِ كثيرًا وقد رأيت هذا بعيني.
وداعًا حبيبتي..
من أختكِ نوار."
............

٢٠١٠

-من أختكِ نوار.

كانت تلك هي آخر كلمة من الورقة التي تمسك بها جويرية في يدها، ومعها كانت عيناها قد تحجرتا وكأنها بدأت تتجول في ذكرياتها من جديد.
وامتلأت عينا صهيب بالصدمة، مع الشعور بالخواء، والحزن، والهم.. والغضب والحنق، نظراتٌ جليدية متحجرة، غاضبة، نارية.. لم تكن عيناه تحمل من من المشاعر إلا وحملت نقيده. وفجأة نظرا لبعضٍ سويًا، كلٌ بألمه ووجعه، فامتزجت النظرات لتصبح كما لو كانت واحدة..

نطق هو مجتهدًا في إخراج صوته:
-يعني إيه!
أجابته جويرية بنبرة هادئة، تحمل الكثير من المعاني:
-أنا وأمك شبه بعض يا صهيب، أمك عملت زي ما أنا عملت، الفرق إنها كانت.. كانت بتعذبهم نفس العذاب. مبتقتلهمش على طول.
بدأ صهيب يتذكر بعض الذكريات القديمة، فهنا كانت والدته تضمه، وهنا تدلله، وهنا تبكي حين يُجرح أو يصاب بأذى بالرغم من أنه لم يكن يبكي! كيف نسي كل هذا! لما لم يعد يتذكر لها شيئًا طيبًا منذ اللحظة التي رآها تقتل هذا الـ.. الـ..
-ازاي!
صرخ بانفعال، فانتبهت إليه. انتصب وظل يسير جيئة وذهابًا واضعًا يده على جبهته، ويتابع صارخًا:
-ازاي كل دة يحصل ازاي؟! أنا كنت فين من كل دة! يعني أمي كانت مظلومة! كانت..!
أغمض عينيه بألمٍ وهو يتذكر حين عادت لتأخذه معها وهو قد رفض وبشدة.
هل هو سبب موتها! ربما لو كان..
أقرا أيضا رواية الملعونة الفصل الثاني عشر
وجدها تضع يدها على كتفه والأخرى على شعره فجأةً ففتح عينيه، وأبصرها بحزن، ألم، اختناق.. نظرة شخص عاش كذبة كبيرة والآن اتضح كل شيء.
سمعها تقنعه بثباتٍ برغم ما يراه من حزنٍ في عينيها:
-اهدى يا صهيب، روق، عشت بكدبة أصعب من الحقيقة الأهون، متقلقش هتعدي إن شاء الله.

نظر في عيناها وتحدث بخفوت:
-كان معاكي حق في كل اللي قولتيه.
ابتسمت له تلك الابتسامة الشاحبة، وأجابته بخفوتٍ مماثل:
-أنا بيكون معايا حق دايمًا

رفع رأسها للأعلى، وهو يتنفس بعمق.. فقد شعر فجأة أن كل شيءٍ قد صار واضحًا برغم تشوشه في البداية. لكن ما أقسى الحقيقة!
حين وجدته هي على ذاك النحو شعرت بالألم، لأول مرةٍ بالفعل يغزوها الألم لا الشفقة عليه. لأول مرةٍ تشعر برغبة عارمة في اسكانه، اراحته، جعله يبتسم..

لم تفكر مرتين قبل أن تنزل يديها من على كتفه، وشعره، وتحيطه بهما لتضمه بقوة.. نسيت ما كانت تفكر فيه من تذكرها لأختها وغير.. وسيطرت عليها فقط فكرة أن تجعله يتحسن.

حين رأى هو ما قامت به، أدرك أمرًا مهمًا.. هو ليس وحيدًا.

وبدون أن ينبس بكلمة احتضنها هو الآخر.
ظلا على ذاك النحو، فترة من الزمن، لم يقطعها أحدهما بالحديث، أو التحرك، بل سكنا سويًا. فترة مرت على كلاهما مصطحبة بعض الضجيج في المشاعر، مختلط معها الكثير من التضارب، والتصارع بداخلهما.
لم تعهد هي نفسها غريبة كما تعهدها هذه الأيام، فجويرية لم تكن تهتم بأي شيءٍ في السابق، كان الفتور عنوانًا مناسبًا لحياتها، لم تكن تهتم لرجلٍ، أو ثروةٍ، أو جمال.. جويرية تهتم بالمشاعر المكنونة، تلك المشارع التي تختفي داخل القلوب حتى يأتي الوقت المناسب لفك الحصار عنها. والآن هي تهتم.. تهتم لما يؤلمه ويسبب له أي نوعٍ من الأحزان، اشتاقت لابتسامته كما لم تشتق يومًا بالرغم من أنه منحها لها عدة مراتٍ اليوم. آخر مرةٍ رأته يضحك سيطر عليها شعور بالسلام.. وكأنها هي من تضحك،
تأثير صهيب بات قويًا علي، بات لا يحتمل، إن استمريت على هذا النحو..!

أخدت نفسًا عنيقًا تحاول فيه السيطرة على نفسها، وأفكارها، وتركيزها.. حاولت أن تتوقف عن التفكير لبعض الوقت، وتترك التفكير لوقته.

بالرغم من فاجعة الخبر الذي علمه، والألم الذي اعتراه، شعوره بوجودها إلى جانبه أفقده شطرًا من الألم.. أعطاه طاقة جديدة بعد أن خارت قواه. لم يتخيل حينما كان يتقرب منها أنها قد تساعده أو تخفف عنه عن قصدٍ أي ألمٍ يُبلى به، لكنها الآن معه، تسانده، وتخبره ببساطة أنها إلى جانبه..
ابتسم فجأة رغم كل شيء، وسكن......!!!

..................................!!!!!

يتبع ....

يارب تكون حلقة النهارده عجبتكم وأستنونا كل يوم في نفس الميعاد فصل جديد من رواية عصفورة تحدت صقرا وعلشان تجيلكم الفصول بتسلسلها تقدروا تتابعونا من خلال صفحتنا علي الفيس بوك
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة