-->
U3F1ZWV6ZTMzNTg0ODE3NzI1X0FjdGl2YXRpb24zODA0Njk2NDgxODg=
recent
آخر القصص

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والخمسون

مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل التاسع والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والخمسون

إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية 

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل التاسع والخمسون

 بمسحةٍ سريعة من طرف لسانه اللزج، على تلك الورقة، تمكن من لصق طرفيها معًا، ليحصل على سيجارة يدوية الصنع؛ لكنها محشوة بمخدر الحشيش. حشر ذلك الرجل الغريب سيجارته بين شفتيه، وراح يشعل طرفها بتأنٍ، ليسحب بعدها نفسًا عميقًا يؤجج به صدره المشتعل بالمزيد من الأنفاس المُذهبة للعقل، أطلق سحبًا من الدخان في الهواء الطلق، ثم تبادل مع رفيقه السيجارة، وسأله في صوتٍ خفيض مهتم:

-جرب كده وقولي.

تناولها من الآخر، وبدأ في استنشاق دخانها باستمتاعٍ واضح، ليعقب بعدها بأنفاسٍ معبقة بالتبغ غير البريء:

-الصنف عالي المرادي.

هز الأول رأسه في استحسان، وقال بغمزة من عينه الملتهبة من أثر ما يتجرعه من مواد مخدرة:

-مش قولتلك، حتة معتبرة.

وافقه الرأي، وعلق في تلذذٍ:

-أصلي يا واد عمي.

ســار كلاهما على الطريق الزراعي شبه المعتم -والممتد على مدى البصر وسط الحقول- في تكاسلٍ وثقل؛ لكن صدحت أصوات ضحكاتهما المصحوبة ببضعة تعليقاتٍ خليعة، لتبدد السكون السائد إلا من أصوات نعيق الضفادع، وصرير الجنادب. تساءل الثاني وهو شبه مترنح في خطواته:

-مش معاك حتة زيها؟

أجابه وهو يشير إلى جيب قميصه:

-معايا، بس دي شايلها لما نوصل مطرحنا.

ألح عليه بلسانه الثقيل:

-هاتها، ده لسه الطريق طويل.

تساءل الأول في نبرة هازئة:

-إنت خستعت ولا إيه؟

نفى ادعائه مبررًا:

-لا يا عم، ده بس عشان نتنشط كده ونفوق، دي الليلة شكلها فل.

لم يبدُ ممانعًا لاستخدام القطعة الأخيرة، فوقف الاثنان عند بقعة شبه مضيئة، وقام الأول بإعداد سيجارة أخرى، بنفس القدر من الاهتمام والرعاية. أشعل طرفها، وتذوق طعمها بانتشاء كبير، ليعطيها لرفيقه فيجربها هو الآخر؛ لكنه تغاضى عن إطفاء عود الثقاب الذي استخدمه، وألقاه بإهمالٍ على كومة من المزروعات الجافة الموضوعة عند أول الحقل للتخلص منها باكر. بعد بضعة أنفاسٍ مصحوبة بلحظاتٍ من العبثية والمجون، انتبها إلى سحابة الدخان التي حاوطتهما، التفتا خلفهما، ليجدا ألسنة اللهب قد بدأت ترتفع للأعلى، وبخ الثاني زميله في عتابٍ شبه مهينٍ:

-يا دغوف مش تاخد بالك، كده هتقيد النار في الزرعة كلها!

رد بغير مبالاة:

-هي تخصنا أصلاً.

حذره في شيءٍ من الجدية:

-بس جايز حد يوعلنا.

قال بضحكاتٍ قصيرة متقطعة:

-ولا حد هيبقى دريان بينا ...

على ما يبدو بلغت عدم مبالاته أقصاها، فأخرج من جيبه زجاجة صغيرة، تحوي على مشروب مُسَّكِر، وقام بسكبه كاملاً على كومة الزرع، لتتوهج ألسنة اللهب، وتزداد حدة، ضحك مجددًا بصوتٍ غريب، ثم هتف في استمتاعٍ مريض:

-وأهوو خليها تصهرج وتصهلل.

شاركه زميله الضحك الماجن، وعقب وهو بالكاد يحاول تمالك نفسه وسط نوبة الضحك الهيسترية:

-أما إنت عليك حركات.

راح الرجل يدندن في صوتٍ مرتفع ومزعج وهو يرقص حول النيران الحمئة:

-نار .. نار .. نار، وأنا قلبي قايد نار.

تمايل زميله بجسده معه، وطاف حوله في خلاعةٍ إلى أن انتشرت النيران في معظم الحقل، توقفا عن اللهو، وتعلقا في ذراع أحدهما الآخر للحفاظ على توازنهما، سارا مرة ثانية في ترنحٍ، والأول يتكلم في لسانٍ ثقيل:

-طب بينا بقى بدل ما النفسين يطيروا.

غادر الحقل، وألسنة اللهب تتصاعد للأعلى في نشاطٍ وقوة، كأنها كانت تتحين الفرصة للتوهج والانتشــار، وها قد واتتها الفرصة لتأتي على الأخضر واليابس بلا هوادة أو رحمة!

...........................................

أصبح الهواء فيما حول المقهى الشعبي المتواجد على أطراف البلدة معبقًا بأدخنة النارجيلة المنتشرة بداخله وخارجه، واختلطت مع الدخان المنبعث من حجر المعسل، غطت الرائحة القوية للمدخنين على رائحة شوي اللحم، وأصبح مذاق ما يتناوله رواد المكان من أطعمة مصبوغًا بالتبغ والدخان. أشــار "فضل" لعامل المقهى بيده ليبدل له حجر الفحم بعد أن انطفأت جذوته، واستدار ناظرًا إلى رفيقه حين كلمه في لهجةٍ شبه جادة:

-ما تشيلها من دماغك.

التهب نظراته، وصارت أكثر شرًا وهو يعقب عليه في إنكارٍ ساخط:

-أشيلها؟ ده أنا مافيش حُرمة استعصت عليا زيها ....

استكمل باقي جملته بين جنبات نفسه متذكرًا ما تعرض له من إذلال جسيم طال رمز فحولته:

-غير ما النكبة اللي بقيت فيها بسببها.

تنبه من جديد لرفيقه وهو يسدي له النصيحة:

-يا عم شاور على أي واحدة تكون طوعك، وتحت رجلك.

قال بغليلٍ مرتفع في صدره، وبعينين تطقان بالشرر:

-مافيش إلا هي، هاخدها وأكسر رقبتها.

حك رفيقه جانب رأسه بالمبسم، قبل أن يدسه بين شفتيه وهو يضيف في مكرٍ:

-صحيح، عرفت إن أم عيالك بطنها شالت تاني؟!

زاد الكدر في عينيه وهو يعقب بقنوطٍ شديد:

-وش البومة، أل يعني المشرحة ناقصة قتلى!

تابع في خبثٍ، كأنما يقصد استفزازه:

-ده بيقولك "رشيد" عامل عمايله، ومروق على أهل بلده بسبب حبلها ده.

بدا غير مبالٍ بأمرها، ونطق هازئًا:

-يعني جاب الديب من ديله!

امتدت يده لتمسك بالكوب الزجاجي، وتجرع آخر رشفة في شايه قبل أن يغمغم قائلاً:

-الناس بتحكي وبتتحاكى، هو أنا اللي بأقول.

لوى ثغره مدمدمًا في حنقٍ محسوس في نبرته:

-تلاقيها نمرة عاملها عشان يقول بيها إنه راجل وبيعرف آ...

ثم ضحك ضحكة سخيفة مصطنعة كأنما يقصد بذلك منع نفسه من قول تلميحٍ خليع، وعاد ليتابع كلامه باستهزاءٍ:

-فاهمني، وهو خروف لا بيهش ولا بينش.

رفع رفيقه حاجبه متسائلاً في دهشةٍ مفتعلة:

-معقولة؟ قول كلام غير ده.

أكد عليه بثقةٍ عجيبة:

-أه يابا، هي كانت أول ولية تجيب عيل؟ ما أنا جايب منها كوم، وبعدين ما أنا رميتها لغيري، فَضلة .. ماتسواش!

حقده المرير تجاه "سها"، جعله يلفق الأكاذيب، ليظهرها بمظهر السوء، وإن لم يكترث لعواقب زلات لسانه. قطع لغوهما الفارغ نداء أحدهم المفزوع وهو يركض من مسافة بعيدة، تنبه جميع من في المقهى إليه، وعلى وجه الخصوص "فضل"، خاصة عندما خاطبه هذا الرجل بأنفاسه اللاهثة:

-إلحق يا سي "فضل".

نظر إليه شزرًا قبل أن يسأله بتأففٍ، وهو يحرر دفعة من دخان النارجيلة:

-في إيه يا غراب البين؟

أشار له نحو الفراغ وهو يجيبه في جزعٍ:

-النار قايدة في الأرض بتاعتكم، جابت عاليها واطيها.

انتفض واقفًا بعد سماعه لتلك الجملة الصادمة، ودفع بقدمه النارجيلة لتتبعثر محتوياتها على الكليم، وصوت صراخه المرتاع يصيح عاليًا:

-بتقول إيه يا وش الفقر؟!!!

أكد عليه من جديد وهو يحاول التقاط أنفاسه:

-النار ماسبتش شبر إلا وطالته.

لطم بيديه على صدغيه هاتفًا في تحسرٍ شديد قبل أن يهرول كالمجذوب نحو أرضه المشتعلة:

-يادي الخراب المستعجل اللي حط على دماغ الواحد.

........................................................

مر عليه وقت لا يعلمه سوى المولى عزوجل، وهو يترقب انتهاء فقرات حفل الزفاف التي ظن أنها لن تنتهي أبدًا، وصل المطاف إلى فقرة تناول قالب الحلوى، تأهبت "فيروزة" في جلستها على الكوشة، وظهر التوتر على محياها، حاولت التماسك، ومقاومة الخيالات التي راودتها بشأن ما يحدث من تجاوزات ومداعبات بين الأزواج في تلك اللحظة المرحة، أدارت رأسها في اتجاه "تميم"، واشترطت عليه بجديةٍ:

-يا ريت اللي بنشوفه وبيحصل في آ...

وصل إليه تلميحها المتواري دون الحاجة للمزيد من الإيضاح، فقاطعها مؤكدًا عدم ارتكابه لأي تصرفٍ قد يخجلها:

-اطمني .. كل اللي عاوزاه هيحصل.

أحست بالارتياح لتفهمه العقلاني، خاصة أن بعض الأزواج لا يخجلون من وضع زوجاتهم محط الأنظار باختطاف قبلة جريئة على مرمى ومسمع من الحاضرين. تركت باقة الورد موضعها، ونهضت في تهملٍ لتشاركه ذكرى أخرى جديدة، ستضاف حتمًا إلى قائمة ذكرياتهما معًا.

توقف الاثنان في منتصف القاعة تقريبًا؛ حيث تم وضع القالب الطويل، ناول أحد مشرفين التنظيم السكين للعروس، لتمسك به أولاً، قبل أن يضع "تميم" قبضته على يدها، شعرت بقوة أصابعه وهي تضم كفها، كأنما تحتويه في سطوة غير مشكوك فيها، نظرت إليه ملء عينيها بنعومة يشوبها التوتر، فرأته يمنحها كل ما تحتاج للشعور به وهي إلى جواره من أحاسيس صادقة، عاشقة، تفيض بالحب والحنان. تساءل مبتسمًا، وعيناه لا تبرحان صفحة وجهها النضرة:

-جاهزة؟

هزت رأسها مرددة ببسمة رقيقة:

-أيوه.

ارتفعت يداهما معًا للأعلى، ليبدأ تقطيع القالب، وهبطتا بالتدريج في تناغم لطيف وهادئ، دون أن تحيد النظرات الساهمة عن بعضها البعض؛ وكأنها كانت فرصتهما المتاحة لعيش لحظة حالمة وهما عند هذا القرب. تدارك "تميم" استطالته في النظر إلى عروسه الجميل عندما خاطبه المشرف:

-اتفضل يا فندم.

حول عينيه ناحيته ليجده يمد يده بشوكة موضوع بها قطعة من الحلوى، أخذها منه، وقدمها للعروس وهو يبتسم لها، أمسكت بها بيدها وتناولت ما بها، فلم يعترض على تصرفها، وفعلت المثل معه، لتنتهي الفقرة بتصفيق المدعوين، وعودتهما إلى الكوشة مصحوبين بالزغاريد وموسيقى الأفراح.

..................................................

من تلك البقعة النائية عن الزحام، أخذ يراقب شاشة العرض بتعابيرٍ شبه عابسة، يتطلع إلى ما تبصره عيناه من محبة غير قابلة للإنكار بضيقٍ، ورغم محاولاته المضنية لتقبل الأمر، إلا أن هناك غصة كانت عالقة بحلقه، استدار "هيثم" مبتعدًا عما يشاهده، وتحرك برضيعه جيئة وذهابًا في نفس المكان يهدهده في رفقٍ، إلى أن أقبلت عليه زوجته، توقف عن السير، ونظر إليها وهي تخاطبه:

-عنك يا "هيثم"، تلاقي "خالد" تعبك.

قال بتجهمٍ ما زال معكوسًا على ملامحه:

-لأ، معظم الوقت نايم.

ابتسمت وهي تأخذه في أحضانها:

-كويس.

أشاح "هيثم" بوجهه بعيدًا عنها، ليخفي ضيقه البائن عليه، وتعلل بحجةٍ واهية:

-أنا همر على الترابيذات، هاشوف إن كان حد ناقصه حاجة كده ولا كده.

هزت رأسها مرددة من خلفه:

-طيب، وأنا هاروح عند "فيروزة".

من الجيد أنها لم تكن ناظرة إليه، وإلا لرأت ضيقه المتزايد في مقلتيه، ففطنت إلى انزعاجه من حفل الزفاف المبهرج، ابتعد عنها قبل كشف أمره، وواصل السير حتى اعترض طريقه "بدير"، فاستوقفه الأخير، وأجال ناظريه عليه، استطاع بخبرته أن يلاحظ تبدل قسماته، حافظ على جمود تعابيره، وسأله في اهتمامٍ:

-عامل إيه يا ابني؟

بوجهٍ يعكس امتعاضه أجاب:

-الحمدلله يا جوز خالتي.

استحثه "بدير" على التحرك معه قائلاً:

-تعالى اقعد مع جدك شوية، بيسأل عليك من بدري.

لم يجد بدًا من الفكاك منه، وقال مستسلمًا:

-حاضر.

ســار معه إلى الطاولة الجالس عليها الجد "سلطان"؛ حيث القليل من الهدوء، بعيدًا عن صخب الموسيقى المزعج، سحب "هيثم" المقعد، وجلس إلى جواره متسائلاً في جدية:

-خير يا جدي؟

لم يمهد "سلطان" في حديثه إليه، وسأله مباشرة دون مراوغة، وهو ينظر في عمق عينه التعسة:

-مبسوط؟

جاوبه بملامح مكفهرة:

-مش عارف.

صمت الجد، ولم يعقب متوقعًا أن يبوح بمكنونات صدره، وقد كان؛ حيث استطرد مستفيضًا بألمٍ محسوس في نبرته:

-بس اللي ماتت دي كانت قبل ما تكون مراته أختي، وحازز في نفسي أشوف الحلو كله بيتعمل لغيرها.

علق عليه "سلطان" بهدوءٍ:

-محدش بياخد أكتر من نصيبه، وأختك ربنا كرمها وقتها، واتراضت، بس نصيبها انتهى معاه لحد كده، وراحت عند اللي أحسن مني ومنك، هتعترض على مشيئة ربنا؟

استبد به ضيقه، وطفا على السطح، خاصة وهو يحتج عليه:

-لأ، بس هي ملحقتش تفرح زي أي واحدة، اتاخدت غدر.

تنفس الجد بعمقٍ، وخاطبه بلين الكلام، علَّه يقتنع:

-ربنا ليه حكمة في قضائه، افتكر قوله تعالى وهو بيقول في كتابه الكريم (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ) شوف دلوقتي كلنا بندعي لأختك بالرحمة، والجنة، تخيل لو كانت فضلت على حالها، وظُلمها للغير، كانت هتلاقي اللي يدعيلها؟

أطرق رأسه كأنما يفكر في حديثه، فتابع الجد على نفس الوتيرة الهادئة:

-في يا ابني ميت بيتقال عنه ده ارتاح، وميت تاني بيتقال ده مُستراحٌ منه، يعني هتلاقي الناس فرحنا إنه مات، وتقولك كويس إن ربنا ريحنا منه.

ضغط على شفتيه لهنيهةٍ، ثم زفر قائلاً:

-معاك حق.

شدد عليه الجد مجددًا بنبرة جمعت بين اللين والحزم:

-حط ده في راسك عشان ترتاح، إنت ربنا كرمك، وعوضك بزوجة طيبة، بتحبك، وعارفة إزاي تصونك في غيابك، ومش بس كده رزقك كمان بابن صغير من صلبك، هيكبر ويشيل اسمك، اجتهد إنك تزرع جواه الخير، عشان وقت العجز تحصد خيره.

حرك رأسه بإيماءة صغيرة وهو يخبره:

-حاضر يا جدي.

مد "سلطان" يده ليربت على كتفه هاتفًا بودٍ:

-ربنا يرزقك الرضا، ويصلح حالك.

نهض "هيثم" من مكانه وهو يرد:

-يا رب ...

ثم تلفت حوله متسائلاً:

-أجيبلك حاجة يا جدي؟

أجابه مبتسمًا في حبورٍ:

-لأ، الحمدلله، أنا مرضي على الآخر.

أحنى "هيثم" رأسه على جبينه يقبله في تقدير، وقال ممتنًا:

-ربنا يخليك لينا يا جدي، ودايمًا تكون لينا العون والسند.

حافظ "سلطان" على نقاء بسمته وهو يدعو له عن طيب خاطرٍ:

-ربنا يهديك ويراضيك.

............................................................

بالكاد تمسك بآخر ذرات صبره الذي طال، واستطال، وأوشك على الانقضاء من كثرة الترقب والانتظار، مع انتهاء مراسم حفل الزفاف على خير، أما آن له بعد أن يظفر بكُلها؟ انتظر "تميم" بجوار باب سيارة رفيقه "منذر" الذي أصر على قيادة سيارة الزفاف لإيصاله إلى منزله، على أن يتبعه شقيقه، وباقي المشاركين فيما يعرف بـ (زفة السيارات).

اختلس النظرات نحو طاووسه المتباهي، كانت كالملكة المتوجة، تحاوطها ذوات الحسن؛ لكنها أكثرهن بهاءً وتأثيرًا، ويا ليت الأعين تشبع من النظرات! فما عاد يعلم حاليًا سوى أن دمائه المتدفقة في عروقه أدمنت عشقها، وباتت تحترق شوقًا على جمرات العشق لنيل ودَّها، فأنى له الإتيان بالصبر وهو أسير تعويذة جمالها؟ حاد مرغمًا ببصره عنها ليتطلع إلى "منذر" وهو يخاطبه بمزاحٍ:

-عاوزينك ترفع راسنا يا عريس.

ابتسم في ثقةٍ قبل أن يرد:

-من الناحية دي اطمن.

تدخل "دياب" في الحوار هاتفًا بعبثية:

-طبعًا، الخبرة كلها معانا.

سكت واكتفى بالابتسام، فأضاف بنفس الطريقة المازحة:

-كله بالحنية بيفك.

علق عليه "منذر" ساخرًا، وضحكة تبعت كلامه:

-ده بأمارة ما مراتك معلمة عليك.

تنحنح قائلاً في حرجٍ طفيف وهو يدعك مؤخرة عنقه:

-مش أوي .. ربنا يجعل سيرتها خفيفة علينا، ده أنا هاخد تكديرة محترمة إكمن مخدتهاش معايا.

رد عليه "تميم" بلطفٍ:

-تتعوض في مناسبات تانية.

هز رأسه مغمغمًا:

-إن شاءالله.

في تلك الأثناء، ساعدت كلاً من "هاجر" و"همسة" العروس على الاستقرار في المقعد الخلفي، وقمن معًا بضم أطراف الثواب وجمعه، لئلا يعلق بالباب حين يتم غلقه. لوحت "فيروزة" بعد ذلك لوالدتها التي كانت مشغولة بحمل الرضيع "خالد"، ثم بحثت بعينين تواقتين عن زوجها، رأته عند المقدمة يضحك وسط رفيقيه، فابتسمت لضحكاته العذبة، مستشعرة تلك الأحاسيس الشائكة اللذيذة التي لازمتها مؤخرًا، حين تكون قربه، فماذا إن انفرد بها؟ بالطبع لن يدخر وسعه في التعبير عمليًا وحسيًا عن مشاعره لها، توقفت عن الاستغراق في ضجيج أفكارها شبه الجامحة، وادعت التهائها بمتابعة ما تردده "همسة" من نصائح مرحة، لإضفاء جو من الرومانسية على العروسين، فما زادها هذا إلا ارتباكًا وتوترًا.

تجمدت حدقتاها عليه وهو يستدير عائدًا للسيارة، ليستقر إلى جوارها، شعرت بتلاحق خفقات قلبها، باندفاعه العاصف بين ضلوعها؛ كأنما يريد التحرر والذوبان بين يديه. توالت الارتجافات الخفيفة على بدنها بشكلٍ لا يوصف، عندما وجدته يلتصق بها، شعرت بأن دروعها المنيعة، على وشك الانهيار، مع لطف عباراته الرنانة، حين يتغزل بها بالبسيط من الكلمات، لم تسكن مشاعرها المضطربة إلا حينما تخللت أصابعه كف يدها، نظرت أولاً إلى يديهما المشبكة معًا قبل أن ترفع حدقتيها إليه، لتجده يطالعها بما نفذ إلى جوهر الفؤاد توًا من فرط عذوبته. تقوست شفتا "تميم" عن بسمة صافية وهو يهمس لها:

-مبروك يا أحلى طاووس!

زوت "فيروزة" ما بين حاجبيها في دهشة خفيفة، قبل أن تردد:

-طاووس؟!

مال نحو أذنها ليكرر مؤكدًا عليها، في نبرة متملكة، داعبت مشاعرها الأنثوية:

-أيوه، طاووسي الأبيض!

خفقة تبعتها أخرى أشد وطأة على قلبها، مصحوبة بتماوجات من المشاعر المرهفة، سيطرت على كامل بدنها، وبدأت في تأجيج جذوات الحب بحصونها، حاولت استعادة يدها من بين أصابعه؛ لكنه رفض، وأصر على الإمساك بها بهذا القيد شبه المحكم، ثم أخبرها بصوته الخفيض، وعيناه تنظران إليها بتصميمٍ:

-مابقاش في بُعاد تاني.

..........................................................

خيل إليه أن الجميع اتفقوا فيما بينهم، وتضافرت جهودهم -بشكل يدعو للعجب- من أجل تعطيله، ومنعه من الصعود مع عروسه لمنزل الزوجية، فعلى ما يبدو كل من تذكر مسألة ما راح يخبره بها، ليملأ رأسه ويشحنه بغير المستحسن من الأمور في تلك الليلة الخاصة. تذمر "تميم" في استياءٍ منزعج، وهو يلوح بذراعه في الهواء:

-اللي عنده حاجة يا جدعان يأجلها، أنا عريس، والنهاردة دخلتي، والله ما يصح اللي بتعملوه معايا.

لم يكبت "منذر" ضحكاته العالية، وقال في تسليةٍ:

-يا عم استمتع بآخر لحظات حريتك.

رد عليه في غيظٍ:

-أنا عاوز أتحبس.

حذره "دياب" بمرحٍ واضعًا يده على كتفه:

-وترجع بعد كده تزعل، وتقول يا ريتني، ده حتى دخول الحمام مش زي خروجه.

علق عليه في تذمرٍ وهو يزيح يده عنه:

-أدخله، وبعد كده اشتكي.

غمز له مصححًا بمكرٍ:

-ما إنت دخلته قبل كده؟ هتطمع؟

رمقه بنظرة حادة قبل أن ينهره:

-أهو الأر ده اللي جايبني ورا.

ارتفعت أصــوات الضحكات الرجولية الصاخبة، واستمروا على نفس المنوال المشاكس له، فقط من أجل اللهو معه، إلى أن أزف الوقت، وحانت لحظة صعوده، عندئذ شعر بالارتياح، وبدأ يشحذ قواه من أجل التمتع بساعاتٍ لا تعد ولا تحصى من نعيم الجنة في أحضانها.

..................................................................

كان من الأسلم لها، أن تبدل ثيابها، بمساعدة والدتها، تجنبًا لما يمكن أن يحدث من نفورٍ متوقع إن وقعت عيناه على آثار ندوبها المحفورة على جانب كتفها، فتفسد ليلتها قبل أن تبدأ، ويحدث معها مثلما حدث سابقًا، الجفاء الكامل المصحوب بازدراء مهين. أرادت التمهيد له عن ذلك مسبقًا، قبيل تعرية جسدها، فلا تصبح –في اعتقادها- مثارًا للاشمئزاز. ضمت "فيروزة" طرفي روبها الحريري الأبيض معًا، وأحكمت ربط الوثاق حول خصرها، لئلا ينحل، ويُظهر القميص الموجود أسفل منه، والكاشف لمفاتنها كأنثى شهية.

توسلت لوالدتها بعينٍ راجية:

-خليكي يا ماما معايا شوية.

رفضت "آمنة" بمنطقيةٍ، وهي تمسح على وجنة ابنتها المتوترة:

-لأ مايصحش، جوزك يقول عني إيه؟ عزول بينكم؟

أطبقت على شفتيها تكبت ترددها، فواصلت والدتها كلامها المعاتب في جديةٍ:

-وبعدين خايفة كده ليه؟ إنتي مش اتجوزتي قبل كده؟

شحبت بشرتها من المجيء على هذه النقطة الحرجة، وقالت في لعثمةٍ ظاهرة:

-أيوه، بس آ...

قاطعتها "آمنة" قبل أن تمنحها الفرصة للتبرير، لتشدد عليها:

-خلاص جمدي قلبك كده، وإياكي تجيبي سيرة المرحوم، مافيش راجل بيحب مراته تتكلم عن واحد تاني قبله.

بالجمود ذاته المسيطر الآن على تعابيرها سكتت "فيروزة"، ولم تفصح عن سرها، وشردت في أفكارها المتخبطة، خشيت "آمنة" من محاولة ابنتها إفساد ليلتها مع زوجها بالخوض في ذكريات الماضي، فكررت عليها تحذيرها:

-افردي وشك، واضحكي، بلاش عكننة.

على مضضٍ أخبرتها:

-حاضر.

تحركت "آمنة" تجاه الأريكة بعد أن حملت ثوب العرس، ثم فردته عليها بشكلٍ جمالي، ولملمت بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، لتحافظ على نظام الغرفة، أبقت "فيروزة" نظراتها القلقة عليها، وسألتها في صوتٍ مهتم:

-طب إنتي هتعملي إيه دلوقتي؟ هترجعي البيت؟

لم تلتفت ناحيتها حينما جاوبتها:

-هطلع أبات عند أختك، والصبح إن شاءالله هشأر عليكي، قبل ما أروح البيت لخالك.

اندهشت لبقائه منفردًا، وسألتها:

-هو مش هيبات معاكو؟

أجابت عليها بعد زفيرٍ متعب:

-مرضاش خالص، بس سايب "كوكي" معايا.

ردت وهي تسير نحو التسريحة لتمشط ما تمرد من خصلاتها:

-تمام.

تأكدت "آمنة" من إتمام كافة مهامها، وألقت نظرة شاملة على محتويات الغرفة، قبل أن تسير ناحية الباب. توقفت عند أعتابه، واستدارت توصي ابنتها مرة ثانية:

-خدي بالك من نفسك، وأوعي تزعلي جوزك، راضيه دايمًا عشان ربنا يباركلك ويراضيكي فيه.

شدت "فيروزة" من ياقتي روبها، لتظهر فقط مساحة صغيرة، تكاد تكون محدودة من عنقها، وقالت في إيجازٍ، بلا ابتسام:

-إن شاءالله.

لوحت لها والدتها بيدها تودعها، ودعت لها بعاطفة أمومية، قبل أن تغادر البيت، :

-ربنا يسعدك يا حبيبتي، ويرزقك بالخلف الصالح.

ذهبت عنها، وبقيت بمفردها حبيسة مخاوفها، حاوطت نفسها بذراعيها، لتبث قدرًا من الدفء إلى جسدها، بعد أن استشعرت برودة غريبة تضرب أطرافها، تنهدت داعية الله في سرها:

-يا رب عديها على خير.

............................................................

تلكأ، وتذمر، وتحامل على نفسه، إلى أن ظهرت أخيرًا أمام عينيه، وقررت الانصراف. تصنع "تميم" الابتسام وهو يبصر حماته تدنو منه حاملة في يدها حقيبتها، قال بنوعٍ من المجاملة الزائفة وهو يقف بجوار إطار باب الشقة المفتوح؛ لكنه في قرارة نفسه يريد طردها:

-ما لسه بدري يا حماتي؟

ضحكت قائلة بلطفٍ:

-بدري من عمرك يا ضنايا ...

توقفت قبالته، وربتت على كتفه عدة مرات داعية له:

-تتهنى مع عروستك يا رب.

تنحى للجانب قائلاً بابتسامةٍ عريضة:

-الله يكرمك.

خرجت من البيت، ووقفت عند مطلع الدرج تودعه من جديد:

-تصبحوا على خير.

قال في تعجلٍ وهو يحرك الباب برفقٍ استعدادًا لغلقه:

-وإنتي من أهله، عن إذنك.

لم ينتظر ردها، بل عاجل في دفعه لينغلق كليًا، حينئذ فرك كفيه معًا، وردد في نشوةً أخذت تتصاعد في بدنه:

-أخيرًا التتار رحل، يا ساتر، ده أنا قولت هاقضيها كلام لحد ما النهار يطلع.

سحب نفسًا عميقًا يثبط به المشاعر التي هاجت، واهتاجت، وأَنَّت من كثرة المماطلة. تنحنح "تميم" بصوتٍ شبه مرتفع مُخبرًا بقدومه، بعد أن عدا في اتجاه الردهة، ليصل إلى من تعذب مرارًا وتكرارًا ليبلغ معها نهاية سعيه الدؤوب. وقف عند باب حجرة النوم المقفول، طرق عليه برفقٍ، وتساءل في تحفزٍ متحمس:

-إيه الأخبار؟

أتاه صوتها مسموعًا من الداخل:

-ثواني، وطالعة.

هتف في تشوقٍ وهو يتراجع خطوتين للخلف:

-ماشي يا قمر.

انتزع سترته، وحل رباط عنقه، ثم فك زرار ياقة قميصه، وراح يتطلع إلى الباب بترقبٍ شديد، ولسانه يتمتم في خفوتٍ:

-ليلتنا فل إن شاءالله.

أولى ظهره للباب متراجعًا لخطوتين، حينما سمع المقبض يُدار إيذانًا بفتحه، أراد الترفق وهو يتودد إليها، لعلمه بمدى الارتباك الذي يسري في أوصــال العروس، في هذه الليلة تحديدًا، خاصة عندما تنفرد مع زوجها ويختلي بها .. وبالرغم من سابق خبرته في الزواج إلا أنه استشعر بقوة أنه يخوض التجربة لأول مرة، لأنها تعتمد كليًا على جوارحه، مشاعره، وما ضمره الفؤاد، لا على ما فرضه العقل والمنطق.

قصف قلبه مع صوت صرير الباب وهو يُفتح على مهلٍ، وتضاعف القصف عندما سمع صوتها الناعم يخاطبه:

-الأوضة فاضية لو حابب تغير هدومك.

ببطءٍ يتخلله كل الشوق، التلهف، الرغبة، والاشتياق، استدار "تميم" ناحيتها ليتطلع إليها بنظراتٍ شمولية، تجولت على مهلٍ مستمتع، بدءًا من تفاصيل وجهها، وانتهاءً بمسح قوامها. كانت جميلة بثوب عرسها، وصارت أجمل وأشهى بالحرير الناصع الملامس لجسدها. خجلت من نظراته التي تطوف عليها مرارًا وتكرارًا، كأنما يمنح نفسه كل الفرصة للنظر إليها بلا مقاطعة، ولا ممانعة. توردت بشرتها بحمرة دافئة تأثرًا بنظراته الشغوفة، وأخفضت رأسها في حياءٍ، استجمعت "فيروزة" جأشها لتتحرك، وسارت أمام ناظريه لتتجاوزه وهي تقول في لعثمة مرتبكة، كانت لذيذة على مسامعه:

-خد راحتك جوا.

من فوره تحرك "تميم" ليعترض طريقها، فانتقلت للجانب المعاكس لتتجاوزه، وهي تشعر بتسارع نبضاته، وجدته يستوقفها باعتراضها مرة أخرى، تشجعت لتنظر إليه بنظرة متسائلة، فجاوب على سؤالها غير المنطوق يسألها بنبرة موحية:

-رايحة فين وسَيباني؟

تهربت من تلميحه المتواري، ورمشت بعينيها قائلة:

-عشان مضايقكش.

تعقدت ملامحه متسائلاً في إنكارٍ:

-تضايقيني؟

همَّت بتجاوزه، والهروب من محيطه؛ لكنه منعها من المرور، وامتدت قبضتاه لتمسكا بكفيها الباردين، ارتجفت مع لمسته الدافئة، ورفعت عينيها إليه، لتجده يرمقها بكل ما فيهما من حنانٍ، عمق من نظراته إليها، واستطرد يكلمها بأنفاسٍ تضطرم عشقًا:

-إنتي مش عارفة أنا حلمت باللحظة دي كام مرة، وفضلت أستناها من إمتى ...

لمعت حدقتاها بدمعاتٍ خفيفة متسللة، تأثرًا بحديثه، خفق قلبها أكثر مع اعترافه الصادق:

-ده أنا مابطلتش دعاء، ولا حتى فقدت الأمل إن ربنا هيجمعنا في يوم.

أسبلت عينيها ناحيته، وسألته في غير شكٍ:

-للدرجادي؟

قال بيقينٍ كامل، ونظراته تزداد عمقًا:

-أيوه، ما أنا معرفتش أحب غيرك.

لدهشتها، شعرت بنفسها تبكي فرحةً خلال سماعها لوصلة اعترافاته، تلك التي احتلت شغاف القلب، وتربعت في ثناياه، أمــال رأسه ناحية شفتيها المرتعشتين هامسًا في هيامٍ واله:

-إنتي أول وآخر حب في حياتي.

اضطربت أنفاسها وهي تردد بصدرٍ شبه ناهج:

-وأنا ..

اقترب بشفتيه من خاصتها متسائلاً بأنفاسٍ أحرقها لهيب الحب:

-إنتي إيه؟

خفضت من صوتها وهي تفتح قلبها لأول مرة معترفة له:

-وأنا محبتش غيرك.

تلامست الشفاه في نعومةٍ مغرية، فسرت عدة رعدات قاصفة، عاصفة، مهيجة للمشاعر، لثمهما "تميم"، ومنحها قبلة صغيرة، رقيقة، ممهدة لما هو آتٍ، لتزداد رويدًا رويدًا في عمقها، مع استمراره في تذوق رحيق شفتيها الشهيتين، أحست "فيروزة" بيديه تجذباها في تمهلٍ إلى أحضانه، استسلمت وهي تحت تأثير قبلاته الطاغية، مستشعرة باقتحام قوافلٍ من البهجة إلى أعماق أعماقها، تستحث فيها كل ما هو كامن للانتفاض، والاشتعال.

حرر "تميم" كفيها؛ لكنه حاوط خصرها بذراعيه، شعرت به يضمها، ويلصقها بصدره، فأرخت راحتيها على كتفيه، دون أن تتحرر الشفاه، انسجما، وتناغما، وتناسا ما سواهما، بدا الانسحاب في تلك اللحظة أمرًا مستحيلاً، تلاحمهما المفعم بالرغبة والشوق جعلهما يتمتعان بكل ثانية، كأنها لحظة استثنائية لن تتكرر!

تراجع "تميم" لمسافة لا تقدر بعقلة إصبع ليلتقط أنفاسه، ودقات قلبه تثور كالبركان الهائج من شدتها، همس مناديًا باسمها، كما لو كان يعزف مقطوعة فريدة:

-"فيروزة"!

عادت لتتنفس بعد أن توقفت للحظات عن الشعور بأي شيء سوى تيار المشاعر الجارفة الذي اجتاحها، وأباد ما بها من دفاعاتٍ ظنت أنها ستصمد للأخير. ردت النداء بآخر تائه، مغري، يدعو للمزيد في طياته:

-"تميم"!

تكررت القبلة، ولم ينتقص الشغف، بل تنوع، وتعدد، وأصبح له صنوفًا في التعبير عنه، بالكاد جارته في عِظم عشقه، وراحت ترجع رأسها للخلف وصدرها يلهث من فرط الحماس، أخذها "تميم" في حضنه، وأسند رأسها على كتفه، ليدور بيده صعودًا وهبوطًا على ظهرها في رفقٍ، تنهد مليًا، وأخبرها بحبٍ ما زالت جمراته تتقد:

-يـــــاه، أد إيه كان نفسي أخدك في حضني.

تلقائيًا امتد ذراعاها خلف ظهره لتحاوطه، التصقت به مثلما التصق بها، حتى شعرت وكأنها ستذوب في أحضانه، أعطى "تميم" جبينها قبلة، وسألها في عتابٍ:

-وعايزاني أسيبك كده بالساهل؟

رفعت عينيها لتنظر إليه، وقبل أن تفكر في منحه الجواب، وجدته يرخي ذراعًا ليلفه حول ركبتيها، حملها في خفةٍ، فشهقت لحركته المفاجأة، وسألته في دهشة حرجة:

-إنت بتعمل إيه؟

هتف معترضًا بابتسامة بشوشة:

-لأ، أنا من حقي أشيلك.

ركلت بساقيها في الهواء، وتلوت بجسدها محاولة التحرر منه وهي تحتج في خجلٍ:

-ماينفعش، نزلني لو سمحت.

مازحها بنفس الوجه المسترخي في تعابيره:

-يا أبلة أنا شيلتك وإنتي غميانة أكتر ما إنتي فايقة.

كتمت ضحكتها المرحة، وعاتبته في دلالٍ أغراه:

-برضوه أبلة؟ مزهقتش؟

سار حاملاً إياها نحو غرفتهما قائلاً بنبرة ذات مغزى، وهذه النظرة اللعوب تتراقص في حدقتيه:

-أزهق؟ ده أنا لسه هاقول أحلى كلام ليكي.

واصل السير بها إلى أن مددها على الفراش، استلقت على ظهرها، وحاولت الاعتدال، قبل أن يغرقها بفيض مشاعره، قائلة بجديةٍ، رغم رنة التردد المحسوسة في صوتها:

-طب .. "تميم"، أنا لازم أقولك على حاجة.

على ما يبدو لم يركز مع جديتها، والتهت حواسه بالتمتع بهذا الجمال المسجي أمامه، منحها ابتسامة نقية وهو يثني على ما وهبه الله لها من سمات تسلب العقول:

-هو في كده، ماشاء الله، ده أنا قاعد مع حورية من حوريات الجنة.

ضمت ركبتيها إلى صدرها، وطالعته بنظرة جادة، وهي ترجوه:

-اسمعني بس.

استلقى إلى جوارها، وأمسك بكفها يداعب جلده بإبهامه، نظر إليها في وجدٍ متعاظم، واستطرد هامسًا:

-سيبك من أي حاجة تنكد علينا، الليلة ليلتنا.

سحبت يدها من راحته، واعتدلت جالسة لتخاطبه في جدية تامة:

-معلش، دي حاجة مهمة.

جلس مستقيمًا هو الآخر، وأبدى استعداده لسماعها، فقال:

-إيه يا حبيبة قلبي؟

أمسك التردد بلسانها وهي تستجمع كل شجاعتها لتخبره:

-أنا .. زمان لما حصلت حريقة الدكان ...

سكتت لحظيًا، فأكمل جملتها بمزيدٍ من التوضيح؛ كأنما يساعدها على تفريغ ما يجوس في صدرها:

-بتاع عم "غريب"؛ أبو "هيثم" الله يرحمه.

هزت رأسها هاتفة:

-أيوه هو.

امتدت أصابعه لتداعب بشرة وجهها الرقيقة بحنوٍ رقيق، فاقشعرت من لمساته المغرية، تلك التي تبعث إشارات خفية لتأجيج الرغبة فيها، حاولت تجنبها قدر المستطاع، والتركيز على ما تريد قوله، سحبت نفسًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، وحادثته:

-بص، أنا أصلي .. يعني مكونتش حابة افتكر اللي حصل وقتها، لأنه كان مؤذي أوي ليا.

علق عليها في هدوءٍ، وأصابعه تنخفض نحو كتفها لتمسح عليه في لينٍ:

-كانت أيام وعدت، ماتفكريش فيها.

أبعدت يده برفقٍ عن كتفها، وقالت برأس مطأطأ في توجسٍ:

-المهم النار طالت جزء من جسمي، وعملت فيه زي آ.. تشوه.

تجمد في مكانه لحظيًا ومصدومًا من الوصف الأخير لما أصاب جسدها رغمًا عنها، كانت لا تزال مخفضة لرأسها في قلقٍ مرعوب وهي تواصل كلامها إليه:

-أنا حبيت أقولك بده، عشان ما تتفاجئش، وتقرف مني.

انتفض في استهجانٍ مستاء وهو يكرر في صيغة تساؤلية:

-أنا؟ أقرف منك؟ إنتي بتقولي إيه؟!!

حاولت أن ترفع عينيها لتتطلع إليه وهي تبرر له أسبابها:

-معلش، عشان آ..

قاطعها قائلاً بصوتٍ حازم، حاسم، منهي لأي هواجس تدور في عقلها:

-إنتي أنقذتيني من الموت يا "فيروزة".

هب ناهضًا من جوارها، وخلع قميصه عنه في حركة شبه منفعلة، فحملقت فيه مدهوشة، وسألته بعضلات وجه متقلصة، اِربد بها القلق الكبير أيضًا:

-إنت بتعمل إيه؟

استدار لتنظر إلى ظهره العاري، وأشار بيده الأخرى لموضع التشوه المنتشر فيه مرددًا في صوتٍ شبه حاد:

-شايفة ده، لولاكي كان زماني مُت.

انفرجت شفتاها عن صدمة ذاهلة، وتبعته بنظراتٍ تائهة لم تفق بعد من دهشتها وهو يجثو على ركبتيه أمامها، احتضن من جديد كفيها، وأردف يخبرها بصوتٍ شبه منفعل:

-إنتي الملاك اللي ربنا بعته ليا يطلعني من وسط النار.

تاهت منها الكلمات، وارتعش قلبها وهو ما زال يأسرها باعترافاته:

-كنت متأكد إني عارفك من زمان، بس معنديش حاجة ملموسة، لحد ما لاقيتك مرتبطة برسمة الطاووس، ساعتها زاد يقيني بإنك نفس البنت اللي رمت نفسها في النار عشاني، ومن غير ما تعرفني، عشان تنجدني من الموت.

جف حلقها، ولم يكف قلبها عن الخفقان، وصوته يعاتبها في رفقٍ:

-تقومي تقولي الكلام البايخ ده؟

ارتجفت، وهي تهمس بألمٍ:

-غصب عني .. سمعته زمان، وقهرني.

نهض جالسًا إلى جوارها على الفراش، ترك كفيها، واحتضن وجهها براحتيه، قربها إليه لتشعر بحُر أنفاسه عندما استطرد مزيدًا في اعترافه بعشقها:

-إنتي غالية أوي، وغلاوتك كل يوم بتزيد في قلبي.

ارتعشت شفتاها منادية باسمه:

-"تميم".

قرب وجهها منه، وهتف مؤكدًا بصدقٍ خالص:

-أنا بحبك.

همست من بين شفتيها باسمه، بطريقة ناعمة، جاذبة، مغرية، كأنما تقدم له دعوة مفتوحة للتحليق في أفقٍ لطالما انتظره، وعاش وهمه في أحلامه المحرمة:

-"تميم"!

كادت شفتاه تلتصقان بخصتها وهو يتابع وصلة اعترافه:

-أنا عرفت يعني إيه العشق معاكي.

حركت وجهها لتلامس وجنتها صدغه، مرغتها فيه برفقٍ، وكررت نداء الإغراء الخفيض الناعم:

-"تميم"!

أغمض عينيه مستمتعًا بما يظفر به من درجات الإغراء والإغواء، ليردد في خفوتٍ:

-إنتي عطية ربنا ليا.

انبعثت منها تأويهة مشبعة بدفءٍ لا قِبل لها به، وهي ما زالت تناديه، بما دغدغ روحه، واستثارها:

-"تميم".

-واستحالة أفرط فيكي.

قال عبارته تلك وهو ينحني على شفتيها يقبلها بشراهةٍ ورغبة، في حين امتدت يده الأخرى لتزيح عن كتفيها روبها برفقٍ، فانكمشت، وتصلبت، خشية إحساسه بالنفور منها، لم يمنحها الفرصة للفكاك منه، حاصرها بقربه المهلك، ضمها إليه، فكادت تذوي في أحضانه، وأغرقها بالمزيد من القبلات الجائعة، الباعثة على موجات من النشوة، والرغبة، فأخذها الدوار، تأوهت في صوتٍ حاولت كتمه وهو يلامس بشفتيه منحنى عنقها، لينخفض نحو موضع ندوبها، نادته بتنهيدة خافتة للغاية:

-"تميم"!

لم تعرف ما الذي ادخره الزمن لها وهي بين أحضانه، فما حُرمت منه قسرًا، نالته نصرًا، غابا معًا عن الوجود، وهاما في ملكوتٍ خاصٍ بهما، مرت الدقائق عليهما كأنها أزمنة وأزمنة، هفا إليها، والتهف عشقًا، إلى أن صار كل ما بها مستسلمًا له، تحرَّقت للامتلاء، وتلهَّف للارتواء .. عند المنتهى فاضت واستفاضت، وانكشف السر عنها.

نهض "تميم" عنها، واعتدل محدقًا في صدمة غير متوقعة، متأملاً بشارة لم تأتِ في الحسبان أبدًا، بعد أن تفجرت ينابيع العشق، وأعطت دلالاتها الحيَّة، ليهتف في عدم تصديق:

-مش معقولة، إنتي كنتي آ...

أكملت الجملة عنه، بوجهٍ مشتعل من حمرة الخجل:

-بنت بنوت.

ظل على حالته المصدومة وهي تفسر له:

-دي الحاجة التانية اللي كنت عاوزة أقولهالك.

تهللت أساريره وابتهجت على الأخير، بل كاد يقفز من فرط سعادته وهو يتساءل في نفس الصوت المذهول، ويده تمر على أعلى رأسه:

-يعني أنا أول حد؟

تطلعت إليه بحياءٍ وهي تشد الغطاء على جسدها تغطيه؛ لكنه دنا منها معاودًا الجلوس ملتصقًا بها وهو يخبرها بغموضٍ:

-دلوقتي أنا فهمت.

نظرت بتحيرٍ وهي تسأله:

-فهمت إيه؟

أخذها في حضنه، وشدد من ضمه إلى جسده، ليحتويها، ثم قال مبتسمًا في نشوة عارمة:

-كلام الدكتورة، والتوصيات الغريبة.

رمقته بنظرة مطولة جمعت بين الخجل من اعترافها والثقة في تقديره، عضت على شفتها السفلى، وهمست بتحرجٍ:

-محدش يعرف بالحكاية دي غيرها، حتى ماما معندهاش خبر.

رفعها بقبضتيه في خفة ليجلسها في حجره، ولفها كليًا بذراعيه، كأنما يحميها، ثم مال على أذنها يداعب طرفه بهمسه المشتعل:

-"فيروزة"!

لم تبعد نظراتها المليئة بالحب وهي تقول:

-نعم.

أحنى رأسه عليها، يريد نيل عشرات القبلات من العسل المصفى الموجود على شفتيها، بدت أشهى وأغوى وهي بين أحضانه، وألذ وأطيب وهي تمنحه أكثر مما تمنى في أقصى أحلامه، توغَّل "تميم" بنظراته الساهمة في عمق لؤلؤتيها الساحرتين، وهو يدنو بهوادةٍ مهلكة للأعصاب منها، لفح لهيب أنفاسه بشرتها الساخنة، وهيأها للمزيد من نوبات الحب العاصف وهو ينطق هامسًا:

-إنتي قلبي، من غيرك أنا ميت ............................................. !!

*********************
إلي هنا ينتهي الفصل التاسع والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من القصص الرومانسية
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا

الاسمبريد إلكترونيرسالة